في العدد الحالي من اللوموند ديبلوماتيك النسخة العربية، هناك الكثير من المقالات المهمة والرائعة، سأنقل منها حالياً افتتاحية رئيس التحرير، ثم مقالات جميلة غير متوفرة لغير المسجلين.
الافتتاحية متوفرة
ههنا.
سمير العيطة*
التهرّب من الحقوق الاجتماعية عبر التهييج السياسي
أكثر ما يميّز البلدان العربيّة عن كثير من مثيليها في الدول النامية هو تداخل القضايا المحليّة مع الخارجيّة (الإقليميّة خاصّةً)، في مجمل الساحة السياسيّة الداخليّة. يفسّر البعض هذا كنتيجةٍ لشغف العرب بالسياسة الدوليّة. وإذا كان لهذا التفسير شيءٌ من الصحّة، فربّما لأنّ قضية التحرّر الوطني، خاصّةً مع مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة، ما زالت غير ناجزة. ليس فقط لأنّ الدولة الفلسطينيّة المستقلّة لم تجِد النور، ولأنّ تداعيات الاحتلال الإسرائيليّ ما زالت صميميّة لكثيرٍ من البلدان العربيّة، سواء وقّعت سلاماً مع الدولة العبريّة أم لا، بلّ لأنّ بلداناً عربيّة كانت تعتبر قويّة وعبرت تجربةّ تاريخيّة بعد استقلالها، مثل العراق، قد تمّ احتلالها فعليّاً، وهي اليوم تعيش اليوم معضلة جلاء القوّات الأجنبيّة عنها، بعد أن نُخِرَ جسم دولتها.
حتماً لم تعُد النضالات تربط بهذه الشدّة بين التحرّر الوطني وبناء القوميّة العربيّة وإرساء مجتمع عادل. فقد انحسرت موجة المدّ القومي في البلاد العربية، مثلما ضعفت النضالات من أجل الحقوق الاجتماعيّة والاقتصادية. ولكن بقيت الذاكرة تحمل أنّ زمن "الناصريّة" كان هو نفسه زمن "الاشتراكيّة" وبناء الدولة الحديثة، حتّى في الدول التي كانت تناهض عبد الناصر.
تغيّر الزمان، كثيراً. وانحسر المدّ القوميّ. إلاّ أنّ القضايا الإقليميّة والخارجيّة ما تزال تلعب دوراً أساسيّاً في السياسات الداخليّة، ولكن بشكلٍ مختلف. حتماً هناك الحجّة المستمرّة التي استخدمتها معظم السلطات العربيّة لإقفال الباب أمام الحريّات العامّة ومنع أيّ نضالات اجتماعيّة مشروعة بحجّة مواجهة العدوان الخارجي. ولكن مدى هذا اللعب على الخارجيّ لإسكات الداخليّ قد وصل حدوداً غريبة. فها هو المغرب تقوم قيامته على إيران والعراق على قصّة تشيّع، مع العلم أنّه بعيدٌ كلّ البعد عنهما، وأنّه إن كان هناك شيعة أو متشيّعون في المغرب فهم قلّة قليلة؟ وها هو هذا التهييج يأتي بعد أسابيع من تهييجٍ آخر على العلاقات مع الجزائر والصحراويين، يغلق الأمل بفتح الحدود ولإعادة ربط أهل المغرب العربيّ، على الأقلّ اقتصادياً وإنسانياً. وها هي مصر تنتفِض لأنّها اكتشفت أنّ هناك من يهرّب المال وربّما السلاح إلى غزّة المحاصرة، فلسطينيّون ومصريّون ولبنانيوّن، على أنّه انتهاكٌ للسيادة المصريّة. هذا أيضاً بعد تهييجٍ على التشيّع في مصر. يُمكن أن تُفهم حساسيّة الأمر في بلدان أخرى؛ أمّا في المغرب ومصر فلماذا؟
هناك وجهات نظر حقيقيّة (وقانونيّة) وراء تصرّف حكومتي هذين البلدين. ولكنّ مجمل هذه الأمور تطرح أسئلة جوهريّة: هل هناك احترام لحريّة الاعتقاد في البلدان العربيّة، كلّ اعتقاد وكلّ البلدان العربيّة؟ وهل مساندة فلسطينيي غزّة الذين يتعرّضون لأبشع أنواع الحصار والعدوان، مدانٌ حتّى لو تخطّى شرعيّة الدولة التي تجري عبرها هذه المساندة، أيّ دولة عربيّة؟ وأما بقيت اللعبة هي ذاتها في كلّ الدول العربيّة؛ فحين تتردّى الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة، ألا يتمّ التهييج على مسائل إقليميّة وخارجيّة (أو مذهبيّة) بالذات لتحويل الرأي العام عن هذه الأوضاع ولوأد التحرّكات المطلبيّة؟
مثلما تزامن مدّ القوميّة العربيّة مع المدّ "الاشتراكيّ"، ترافق (وما زال) مدّ شعار "كذا بلد أوّلاً" واتفاقيات السلام المنفصلة مع "الانفتاح الاقتصاديّ" والانصياع لصندوق النقد الدولي والسياسات الليبراليّة وانفراط العقد الاجتماعي. التاريخ صنع هذا، وخلق معضلةً في جميع البلدان العربيّة.
فإذا كانت فترة الليبراليّة هذه، وإن خلقت بضعاً من طبقة متوسّطة استهلاكيّة، قد فشلت في تحقيق قفزة في النموّ الاقتصاديّ، لدرجة أنّ معدّلات النموّ كانت وسطيّاً أعلى في الفترة التي سبقتها. وإن كانت هذه الفترة قد فاقمت البطالة والفقر والفروق الاجتماعيّة، لدرجة أنّ هناك ناسٌ يموتون في قورابٍ أو شاحنات بحثاً عن هجرةٍ إلى الشمال. ليس فقط فلاّحون قحلت أرضهم، بل أيضاً جامعيّون. وإذا كان أهمّ إيراد للطبقات الفقيرة هو تحويلات العمّال المهاجرين. فماذا يمكن أن تقدّمه النخب الحاكمة إلى شعوبها في زمن أزمة تشتدّ استعاراً؟ وإذا كان ما خسرته الدول العربية النفطيّة في الأزمة يفوق كلّ ما كان يلزم للنهوض بالبلاد العربيّة الأخرى، حتّى ولو باسم "تضامنٍ عربيّ" بالحدّ الأدنى؟ فماذا على الشعوب العربيّة أن تطالب به؟
الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة لها الأولويّة، خاصّةً في زمن الأزمة (ومن بينها حقوق الفلسطينيين تحت الاحتلال). وهذه لا تُعطى، بل تؤخذ عبر النضالات على الأرض، من قبل من تردّت كثيراً أوضاعهم الاجتماعيّة، وأيضاً ذلك الجزء من الطبقة المتوسّطة الذي يخسر اليوم ما أكسبه أيّاه زمن الانفتاح. وهذه النضالات تتطلّب إمكانيّة، بل حريّة التظاهر والإضراب والاحتجاج. ولكن كذلك هذه الحريّات لا تمنح، بل تؤخذ.
وأولويّة التضامن العربيّ هي للتضامن مع هذه النضالات، في كلّ بلدٍ عربيّ. ولكن المعضلة التي صنعها لنا التاريخ، هي أنّ النضال من أجل اللقمة والعيش والحريّات والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في كلّ بلد، يرتبط مع ذلك من أجل حريّة الاعتقاد (الدين لله والوطن للجميع)، ومن أجل كسر البوتقة الوطنيّة الضيّقة (من أجل فلسطين، كما لكسر القطيعة بين المغرب والجزائر من الطرفين، وغير ذلك كثير).
والسيادة الحقيقيّة هي في النهاية سيادة الشعب، ولقمته وحريّاته وكرامته.
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum,
www.mafhoum.com