أبو النور
عضو مشارك
المشاركات: 36
الانضمام: Oct 2009
|
مع المفكر الصادق النيهوم
السادة الكرام
بعد التحية
إليكم الموضوع الخامس للمفكر الدكتور الصادق رجب النيهوم , و يقول فيه :
القرن التاسع عشر , كل شيء يفاجئنا من عالم لا نعرفه : البنادق السريعة , الجيوش الحديثة , الصحافة , الشركات , و سائل النقل .
كل شيء نتعرف به , قبل أن نعرف اسمه , من الجورنال , و البرلمان , و التومي جن , و الشمان دي فير, إلى الديموقراطية , و الكومباني .
من الخارج , بدت لغتنا شبه ميتة .. في الواقع , لم يكن ثمة لغة قد ماتت , قبل أن يموت أهلها .
إننا نقف على بعد ثلاثة عشر قرنا , من عصر معاوية الذي أبطل نظام الأدارة الجماعية بحجة إنقاذ دولة الأسلام , فنجد دولة الأسلام تدخل التاريخ المعاصر , في جبة سلطان تركي , يدعوه الأوربيون رسميا باسم (( الرجل المريض )) . و نجد الأسلام نفسه , قد خسر السباق على القارات , و خسر المحيط بأسره , و انزوى في عالم موبوء بالفقر و الجهل , تحت حراسة فقهاء هزل , يتعرضون للأبادة على يد نابليون .
أكثر من ذلك , نجد أن نظام الأدارة الجماعية , قد خسر لغته الأسلامية , و ظهر في لغة نابليون , بمصطلحات رأسمالية جديدة , و نظم إدارية جديدة , لا تتجاهل الأسلام فحسب , بل تقوم على محوه من ذاكرة الناس . إننا ندخل معركة صعبة ضد أنفسنا , دون أن ندري .
ظهرت في لغتنا , ثقافة جديدة , تسمي نفسها رسميا ثقافة معاصرة , و هي تسمية تورطت مقدما في غلطتين , تدلان على نقص مميت في الثقافة :
الغلطة الأولى : إن مصطلح الثقافة العصرية modren cultureيشير إلى عصر جديد فعلا في الغرب , لأنه تميز , بإنهاء عصر الأقطاع و سلطة المؤسسة الدينية معا . و هو عصر لم يدخله الوطن العربي حتى الآن .
الغلطة الثانية : إن الثقافة العصرية في الغرب , و لدت من العدم , لأنها لم تكن تملك جذورا للديموقراطية الرأسمالية في لغاتها اللاتينية و الجرمانية . أما في اللغة العربية , التي ترتبط عضويا بنص القرآن , فإن مصطلح الثقافة العصرية , لا يفصل ثقافتنا بين عصرين , بل بين جبهتين تتقاتلان في عصر واحد بلغة واحدة .
باسم هذه الثقافة العربية المعاصرة , كان علينا أن نسلم مقدما , بأننا أمة من الأميين , تحتاج إلى إعادة تأهيلها بمناهج أوربية حديثة , و هي مغالطة , قاسية , و غير ضرورية , و باهظة التكاليف .
فالمسلم - صاحب الكتاب - ليس مواطنا أميا حقا , كما اعتقد نابليون . إنه يختلف عن المواطن الأوربي الذي لم يمتلك وسيلة لقراءة الأنجيل , حتى نهاية القرن الرابع عشر على الأقل , و بعد أن امتلك نسخة مترجمة من الأنجيل , لم يجد فيه ثمة ما يتعلمه سوى الوصايا العشر , و كثير من الأساطير .
المواطن المسلم , في الجانب الآخر , مواطن يعرف القراءة , حتى إذا كان لا يعرفها , لأنه ملزم بالصلاة التي يتلو خلالها آيات القرآن , خمس مرات في اليوم , كل يوم في الأسبوع . إنه يتلقى دروسا لا تنقطع في شتى مجالات المعرفة , و يتلقاها مطمئنا , و قلبه مفتوح للعلم . و الواقع أن نزول القرآن نفسه , كان قد وضع نهاية ( الجاهلية ) منذ القرن السابع , و ختم عصر العرب الأميين , بعرب يقرأون الكتاب يوميا , و يعرفون كل ما اكتشفه الأوربيون في وقت لاحق , من مراعاة نظافة الجسد و اللسان , إلى وجوب القتال المسلح , لأنهاء سلطة الأقطاع .
لم يكن المسلم مواطنا أميا , كما افترضت ثقافتنا المعاصرة , و لم يكن من الثقافة في شيء , أن يزاح هذا المواطن جانبا , باعتباره رجلا متخلفا لا يمثل هوية العصر , و أن يورط ((المثقفون )) أنفسهم في البحث عن هوية من العدم . لقد كان ذلك , خطأ جسيما , عقابه الجسيم , أن يمتلك العرب فجأة ثقافتين بدلا من واحدة :
الأولى : ثقافة المواطن المسلم نفسه , الذي يستمد هويته من القرآن , و يرفض مقدما كل هوية مختلفة أخرى .
و الثانية : ثقافة المثقف المسلم , الذي تعلم في مدارس أوربية , أن يترك الدين لرجال الدين , و يصبح ((مفكرا )) أوربيا معربا , يقف خارج تاريخه و واقعه , عمدا , مع سبق الأصرار .
هذا المثقف (( المعاصر ))كان يتكلم في الواقع لغة عمرها أربعة عشر قرنا , و كان معلمه الأوربي يتكلم لغة عمرها أربعة قرون فقط , لكنه اختار أن يقلب الأدوار , و يتنكر في زي تلميذ , يحضر درس التاريخ لأول مرة في التاريخ .
فعصر النهضة : في ثقافتنا العربية المعاصرة , ليس هو عصر الأدارة الجماعية الذي أنهاه معاوية في القرن السابع , بل هو عصر الغارة الأوربية على قارات المحيط , الذي بدأ في القرن الخامس عشر .
و العصور المظلمة : في ثقافتنا العربية المعاصرة ليست هي العصور القاسية التي عاشها المواطن المسلم منذ إبطال الشرع الجماعي على يد معاوية حتى الآن , بل هي العصور الوسطى التي عاشها المواطن الأوربي بين سقوط الأمبراطورية الرومانية , و الغارة الناجحة على قارات المحيط .
و المذهب الأنساني في ثقافتنا العربية المعاصرة , ليس هو مذهب الجماعة في الأسلام , بل هو فلسفة رجل أوربي اسمه اسبينوزا , تطورت على يد رجل أوربي آخر اسمه كارل ماركس , إلى تفسير (جديد) للتاريخ .
و المساوات بين الأديان في ثقافتنا العربية المعاصرة , ليست هي ثورة الأسلام على رجال الدين في القرن السابع , بل هي ثورة راهب أوغسطيني اسمه مارتن لوثر في القرن السادس عشر , ضد سلطة رجل إيطالي اسمه البابا ليون العاشر .
و إنكار الشفاعة و النيابة و غفران الذنوب في ثقافتنا العربية المعاصرة ليست بنودا أساسية في شرع الأسلام منذ القرن السابع . بل أفكارا بروتستانتية معاصرة , نبعت من حاجة الأوربيين إلى وضع نهاية لفساد البابا , الذي استغل مبدأ الشفاعة , و شرع يبيع ضكوك الغفران للقتلة و قطاع الطرق .
و التاريخ المعاصر في ثقافتنا العربية المعاصرة , ليس هو تاريخ الأدارة الجماعية , الذي لم يدخله العرب حتى الآن , بل هو التاريخ الذي دخله الأوربيون , من أوسع أبوابه , باستيطان أربع قارات , و احتلال جميع الجزر , و ممرات التجارة الدولية .
إن ثقافتنا المعربة , تتكلم لغة عمرها أربعة عشر قرنا , لكن التاريخ لا يبدأ بالنسبة لها , إلا منذ أربعة قرون فقط . و في ثقافة تنكر واقعها إلى هذا الحد , يولد مثقف معرب , مهمته الصعبة أن يتجاهل واقعه إلى الأبد :
مثقف مسلم , لكنه لا يعرف شرع الأسلام الجماعي , و لا يعرف نظاما إداريا له علاقة بالدين .
مثقف تقدمي , لكنه لا يضيق بسلطة الأقطاع , في مجتمع يحكمه طاغية من طراز فرعون . إنه رجل واقعي دائما , مثل معلمه جان جاك روسو , الذي كان يعد كتابه عن ( العقد الأجتماعي ) في النهار . و يقضي السهرة في صالون امرأة إقطاعية من طراز ماري تيريزجوفران .
مثقف إنساني , لكن مذهبه مفصل سلفا على مقاس معلمه الرأسمالي , إنه لا يدين الرأسمالية المسؤولة عن إبادة سكان ثلاث قارات , و تهديد البقية بالأبادة في أي وقت , بل يدين الشيوعية عدوة الشعوب و الأسلام , دون أن يتذكر أن (( الشيوعية )) بالذات (1), مجرد ستار حديدي خانق , ضربته ملايين الفقراء حول نفسها , تحت وطأة التهديد بالأبادة (2). و قد التقى الرأي , في ثقافتنا العربية المعاصرة , على اعتبار الشيوعية (( اخطبوط )) . أما الأقطاع الذي يلف أذرعه حول عنق ثقافتنا المعاصرة , فإنه لا يزال حتى الآن وحشا مميتا دون اسم .
مثقف عالمي الهوية , لكن عالميته لا تعلمه أن يحترم تراثه , بل أن يقضي عليه , كما فعل مصطفى أتاتورك , الذي نقل تركيا إلى العصر الحديث , بمنع الأتراك من لبس العمامة , إنه رجل أوربي معرب , يفترض سلفا أن (التقدم) هو أن يصبح واقع العرب نسخة عن واقع الأوربيين , و ليس أن يكون للعرب نسخة عربية تخصهم .
إن مفكرا تقدميا , مثل طه حسين , (( ينبذ الجبة و العمامة )) و ينطلق قاصدا باريس (( التي فتنته حتى فتن بها )) و يعود مفتونا بالفعل فيورط نفسه في دراسة ((علمية )) مؤداها أن نص القرآن نفسه , قد يكون نصا مشكوكا في أصالته , دون أن يفسر هذا ((المثقف))المسلم سبب حاجته إلى تمرير مثل هذه الفكرة المستوردة , التي لا طائل من ورائها سوى هدم الجسر الوحيد القادر على ربط المسلمين بمبدأ الشرع الجماعي .
و بعد ذلك يتصدى له الرافعي , و هو مثقف لآخر, لكنه يمثل ثقافة قديمة , تعيش حية في العصر نفسه , و يتهم طه حسين بالتجني على الأسلام , و يلعنه , و يتهمه بالكفر , دون أن يتذكر -و لو لمرة واحدة ليس غير - أن الأسلام جنى عليه غياب الأدارة الجماعية , و أن الملك فؤاد , الذي يستعد الأنجليز لتنصيبه خليفة للمسلمين , هو الجاني الوحيد المميت , بين فقهاء عزل , يتبادلون الأتهامات في الشارع .
إن ثقافتنا تنقسم على نفسها بين جبهتين :
جبهة يقاتل عليها , نثقف عربي مفتون بما حققه رأس المال في غرب أوربا , و لا يهمه بعد ذلك , أن العرب أنفسهم , لا يقعون في غرب أوربا , و لم يرتادوا المحيط , و لم يشاركوا في استعمار قاراته , و ليس لديهم ما يكفي من رأس المال , لردع نظم الأقطاع البدائي الذي يشكو منه .
و جبهة أخرى , يقاتل عليها , مثقف عربي , يعيش في عصر الصليبيين , و يعتبر كل ما يصدر عن الأوربيين , عدوانا صليبيا على الأسلام . و لايهمه بعد ذلك , أن المسلمين أنفسهم , ليسوا مسلمين جدا , و أن غياب الشرع الجماعي من دستور الأسلام , يضطرهم إلى النقل حرفيا من شرع الصليبيين . إننا نملك ثقافتين بدلا من واحدة , لكن ذلك لا يجعلنا في صفوف المثقفين .
فالفكر العصري الحر , الذي نترجمه عن الغرب , لا يصبح عصريا و لا حرا , في وطننا الذي يعيش تحت إدارة إقطاعية , عمرها أقدم من عمر الأهرام . إنه لا يسمى ثقافة , بل بديلا وهميا من الثقافة .
و الفكر المقدس الحر , الذي نتعلمه من القرآن , لا تحترم الأدارة الأقطاعية قدسيته , و لا تخضع لشرعه الجماعي , إنه بدوره ليس (ثقافة إسلامية ) بل ( بديل فقهي عن الأسلام ).
و بين هاتين الجبهتين , يعيش الآن مواطن مسلم معاصر , علامته الفارقة , أنه دائما يملك كلمتين للتعبير عن فكرة واحدة , لكن ذلك لا يجعله مواطنا فصيحا على أي حال . فمثلا :
نظام الشرع الجماعي , له مصطلحان رسميان , في ثقافتنا المعاصرة , أحدهما الديموقراطية و الثاني الشورى . لكننا لا نملك الشرع الجماعي نفسه , و لا نعرف طريقا جماعيا إليه . ومثلا:
المواطن المسلم , له تعريفان في ثقافتنا الحالية , كلاهما يعني أنه حر و مسؤول , الأول عبدلله و الثاني حضرة الناخب , لكن المواطن المسلم شخصيا , ليس حرا , و ليس مسؤولا , إلا بقدر ما تطول عصاه . و مثلا :
إقرار العدل , له تعريفان في ثقافتنا المعاصرة . الأول تطبيق الشريعة و الثاني تطبيق القانون لكن العدل نفسه غائب عن واقعنا غيابا ظاهرا لا عزاء فيه . و مثلا :
الضمان الأجتماعي , له مصدران في ثقافتنا العربية المعاصرة , أحدهما حق المسلم في بيت مال المسلمين . و الثاني حق العامل في الضمان . لكن المواطن المسلم في أرض الواقع , لا يملك ثمة ما يضمن رأسه شخصيا . و مثلا :
حرية الرأي , لها تشريعان في ثقافتنا العربية المعاصرة , أحدهما فريضة الجهاد التي تشمل الجهاد باليد و اللسان , والثاني حق الأختيار الذي يقوم عليه نظام اللأنتخابات , لكن حرية الرأي نفسها لا يكفلها قانون واحد في وطننا بأسره . و مثلا :
حرية التنقل , لها ضمانتان في ثقافتنا المعاصرة , إحداهما حق السعي في أرض الله و الثانية حق الكسب الحر الذي تضمنه حرية رأس المال , لكن مواطننا لا يتحرك من مكان إلى آخر , إلا بجواز سفر و كثير من التأشيرات . و مثلا :
حق المواطن في حمل السلاح , له مصدران في ثقافتنا المعاصرة . أحدهما فريضة الجهاد في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان . و الثاني حق حماية الملكية الخاصة . لكن مواطننا لم يحمل سلاحا في يده للدفاع عن حق واحد من حقوقه منذ عصر معاوية .
إن ثقافة لها لسانان , لا تساوي في الواقع ثقافة لها لسان واحد . و لا تقول شيئا محددا يستحق القول , و لا تعيش واقع الناس . و لا تستطيع أن تغيره , و لا تتكلم حقا , و لا تكف عن الكلام . و هو الواقع الذي يخاطب العرب يوميا , في صحفهم العربية بالذات .
http://al3dm.com/vb/showthread.php?t=230&page=5
|
|
10-24-2009, 09:30 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
أبو النور
عضو مشارك
المشاركات: 36
الانضمام: Oct 2009
|
RE: مع المفكر الصادق النيهوم
هوامش المقال
(1) : المصطلح اللاتيني المرادف لكلمة شيوعي في لغتنا العربية هو Anarchistالذي يشير إلى مواطن (( رافض لجميع أشكال السلطة )) , و هو مصطلح أختار المترجمون العرب , أن يترجموه بكلمة فوضوي , من دون أن يلاحظوا أن هذه التسمية مجرد شتيمة متعمدة .لأن المرء لا يسمي نفسه فوضويا حتى إذا كان فوضويا حقا . و أن المواطن الذي سمى نفسه Anarchistلم يكن يدعو إلى الفوضى , بل كان يدعو إلى النظام في مجتمع محرر من جميع أنواع السلطة . و هي فكرة قد تكون خيالية , لكنها لا علاقة لها بكلمة فوضوي في لغتنا العربية , و لا يعني اختيار هذه الترجمة , سوى رغبة المترجم العربي , في توفير كلمة شيوعي , لتعريب مصطلح آخر , لا علاقة له بالشيوعية . إن حركة التعريب , تستطيع أن تكون وسيلة فعالة لتجهيل العرب , و ليس لتثقيفهم .
فالمترجم العربي , ليس مواطنا عربيا فقط . إنه بحكم ثقافته نفسها , مواطن أوربي معرب , لا ينظر إلى معاني المصطلحات , من وجهة نظر العرب , بل من وجهة نظر الأوربيين الرأسماليين بالذات . و هي زاوية منحرفة جدا , ترى الشيوعي في كلمة فوضوي . و ترى الماركسي في كلمة شيوعي . و ترى الرأسمالي في كلمة ديموقراطي . و ترى الفدائي في كلمة إرهابي . و تفسر مفهوم العدل نفسه , في ضوء حرية رأس المال . لأنها زاوية منحازة سلفا , ضد كل نظام آخر , غير نظامها الرأسمالي . و إذا اتيحت لنا الفرصة ذات مرة , لكي نراجع ما حدث في قاموسنا العربي , على يد المترجمين (( العرب )) , فسوف يدهشنا أن نرى , أن اسطورة حصان طروادة , لم تكن في الواقع أسطورة كلها . فمثلا :
كلمة Capitalist ترادف في لغتنا العربية , كلمة مرابي , و ليس رأسمالي . لأن رأس المال في حد ذاته , اسمه لا يعني في لغتنا , سوى مال رجل أنعم الله عليه . أما كلمة Capitalist التي اشتهرت على يد كارل ماركس , فإنها ترتبط بحق الرسمالي في تنمية أمواله , بوسائل الأستثمار الحر , و هو حق لا يمكن ضمانه دستوريا , بغير ضمان شرعية الربا . و مثلا :
كلمة Member of Parliament تترجم في لغتنا بكلمة عضو البرلمان . و هي ترجمة لا تقول , ما هو البرلمان نفسه ؛ مما يجعلها مجرد محاولة مريبة لتفسير الماء بالماء . فالواقع , أن البرلمان يدعى في لغتنا العربية باسم الديوان الملكي . و هو الجهاز الأداري الذي تطور على يد الثورة الأنكليزية , من مجلس يعاون الملك في الحكم , إلى مجلس يحكم مباشرة من دون سلطة الملك . و لو استعمل العرب كلمة الديوان الملكي بدل كلمة البرلمان لاكتشفوا مبكرا أن المشكلة تكمن كلها في مدى سلطة الملك . و أن البرلمان العاجز عن تحرير نفسه من هذه السلطة اسمه ديوان , و القوانين الصادرة عنه اسمها إرادة ملكية . و المواطنون الذين يعيشون في ظله , اسمهم رقيق الأرض . و مثلا :
كلمة Nationalism , لا تعني القومية بل تعني الشعوبية , لكن المترجم الذي تولى نقل هذه المصطلح كان يعرف تاريخ الشعوبية السيئة السمعة في تراثنا العربي . و كان يهدف عمدا , إلى أن يبيع لنا البضاعة القديمة نفسها , تحت اسم جديد آخر . و باستثناء النية المبيتة لتحقيق هذا الهدف المريب , فإن كلمة Nationalism لا تستقيم ترجمتها بكلمة قومية , طبقا لأي قياس لغوي أو تاريخي .
فمصطلح القوم , يشير إلى صيغة سياسية منقرضة قائمة على وحدة الدم . و هي صيغة انتهت على يد الأسرائيليين منذ ثلاثة آلاف سنة في نظام الشعب الذي جمع أقوام اليهود , تحت لواء دولة مؤسسة على وحدة الأرض و اللغة أيضا . إنه مصطلح أكثر قدما بآلاف السنين , من كلمة الشعب , و ليس ثمة ما يبرر اختياره لترجمة كلمة Nationalism سوى حاجة المترجم إلى اسم جديد , لمعنى الشعوبية .
فكلمة القومية مصطلح جديد حقا على لغتنا و تراثنا معا . إنها كلمة لم يستعملها القرآن , و لم يستعملها الرسول , و لم ترد مرة واحدة , ضمن نص عربي واحد , في أي عصر من العصور . و داخل كلمة مجهولة الهوية إلى هذا الحد , كان من السهل أن يدس المترجم العربي , ما تعنيه كلمة Nationalism في كلمة عربية ليس لها تاريخ .
يفضح هذا الدس أن كلمة Nationalism مصطلح له تاريخ محدد , ظهر في أوربا , خلال القرن التاسع عشر للتعبير عن انتفاضة شعوب و ليس قبائل أوربا , في بلدان صناعية متطورة مثل ألمانيا و إيطاليا . و هو مصطلح يعني شعبا و ليس قوما , لأن كل شعب من شعوب أوربا , جمعته لغة واحدة , في دولة واحدة . و لو أن كلمة Nationalism , كانت تعني القومية لتفرق الأوربيون , في دويلات قبلية إلى مالانهاية على غرار ما حدث في الوطن العربي .
و الواقع , أن هذا المصطلح , جاء بمثابة رد على الأدارة الأقطاعية في شرق أوربا , بعد أن خسرت شعوب هذه المنطقة , رابطة الدين الواحد , و الدولة الواحدة , تحت سلطة آل هابسبورغ , أصحاب الأمبراطورية النمساوية المجرية , و بات عليها ن تلتمس وحدتها في اللغة و الأرض , بدل الدين و الدولة , و تستقل بشؤونها في إدارات منفصلة , تنقسم بقدر ما تضم من اللغات . و لهذا السبب , ارتبط تاريخ هذه الكلمة في أوربا , بنجاح كل شعب , يتكلم لغة واحدة , في تأسيس دولة واحدة , دون أن يتحقق مثل هذا النجاح في الوطن العربي .
فمشكلة مصطلح القومية العربية , أنه مصطلح لا يملك شريعة إدارية في تراثنا , سوى شريعة القبائل قبل الأسلام . و هي شريعة لا تنظر إلى وحدة اللغة أو العقيدة , بل تنظر إلى اختلاف الأنسان , مما يسهل تقسيم العرب دستوريا , في وحدات قبلية , بدل جمعهم في ثقافة عربية واحدة . و إذا كان ظهور مصطلح القومية العربية , قد رافقه تقسيم الوطن العربي , رغم لغته الواحدة و ترابه الواحد , بعكس ما حدث في أوربا , فذلك أمر مرده , إلى أنه مصطلح , جاء خصيصا لأداء هذا الغرض , في وطننا العربي بالذات , بسد الطريق أمام مصطلحات الشرع الجماعي في الأسلام , و تغييب الثورة العربية , وراء كلمة وهمية ليس لها جذور في تراثنا , ولا تملك نظاما إداريا , بديلا من نظام الأحزاب , و لا تملك شريعة بديلة من شريعة رأس المال . و لعل الدليل الظاهر على هذه النية المبيتة , أن المترجم اختار كلمة القومية العربية بدل الشعوبية العربية , دون مبرر منطقي واحد سوى حاجته الملحة لدس فكرة قديمة في كلمة جديدة مختلقة من العدم .
إن اسطورة حصان طروادة , الذي فتح أبواب طروادة من داخلها , تبدو اسطورة مستحيلة - وممتعة - حتى نتذكر ما فعل المترجم العربي في لغتنا العربية , دون حرب , و لا حصان .
---- ( 2 ) : لأن اللغة الروسية , لا تملك كلمة تعني (( الحكم الجماعي )) , فقد اضطر الروس إلى نقل المصطلح اللاتيني , كما أورده كارل ماركس Communism الذي يعني - إداريا - حكم الأغلبية , و ليس حكم العمال .
بعد ثورة 1917 استعمل لينين كلمة الأغلبية Bolshevics لكنه لم يعن بها أغلبية الروس , بل أغلبية أنصاره في الحزب الديموقراطي الأشتراكي . و هم الأنصار الذين التفوا حول نظريته الداعية إلى تصعيد الثورة , بإقامة حزب عالمي من الثوار المحترفين . و أسسوا حزبا لينينيا قائما على مركزية السلطة , و سيطرة قيادة الحزب . في الصيغة التي فصلت بين الماركسيين في روسيا , و الماركسيين في بلدان الغرب , حتى الآن .
هذه الصيغة اللينينية , فرضها الروس على جميع شعوب أوربا الشرقية , بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية , ثم فرضوها على الصين , و شرق آسيا , و قاتلوا لفرضها على بلد إسلامي مثل أفغانستان , باعتبارها (( الحل الماركسي العلمي الصحيح الوحيد )) لقضية الحكم الجماعي . و هو ادعاء أمكن إثباته دائما بدبابات الروس . أما دون الدبابات , فإن أحدا لا يصدق كلمة مما يقوله الروس بالذات . فكلمة Communism لا تعني ((سلطة الحزب )) , إلا إذا كان الحزب قد اغتصب السلطة لنفسه , و في ما عدا ذلك , فإن المصطلح الذي استعمله كارل ماركس , يعني - فقط - سلطة الأغلبية , و لا يمكن تفسيره أصلا , إلا في إطار إدارة جماعية , محررة من نفوذ المؤسسات الرأسمالية و العسكرية معا . و ليس المؤسسات الرأسمالية وحدها . و لعل تاريخ الأدارة السوفياتية , شاهد في حد ذاته , على مدى الشلل الأداري الناجم, عن تجاهل هذه الحقيقة , في نظرية كارل ماركس .
فخلال سبعين سنة , من قيادة الأتحاد السوفييتي (( للدول الصديقة )) في (( مسيرة الثورة العالمية )) كان الأتحاد السوفييتي قائدا دون أصدقاء , و كان في حاجة لاستعمال دباباته , لكي يختطف حلفاءه , لأنه كان عاجزا عن كسب ولائهم دون خطف . و إذا لم يكن هذا الواقع , دليلا مخيفا على فساد التفسير اللينيني , فلا بد أن قيادة الأتحاد السوفييتي لم تكن تخاف من الأدلة .
إن رئيس الوزراء , ميخائيل غورباتشيف , الذي افتتح عهده بحملة علنية على فساد أجهزة الحزب , كان يجب أن ينظر حوله مرة أخرى , و يكتشف أيضا , أن هذه الصيغة الروسية الفاسدة , مجرد بديل عن الصيغة العالمية التي تخاطب كل الأمم , و أن دولة إسلامية مثل أفغانستان , لا تحتاج إلى غزوها بقوات عسكرية , لكي تتعلم نظام الأدارة الجماعية من لينين , لأنها تملك هذا النظام في لغتها و تراثها . و ليس من السياسة - بل من فساد السياسة - أن يرسل الروس جنودهم , لكي يعلموا الأفغان درسا , تعلمه الأفغان منذ ألف سنة على الأقل .
و كان يجب على غورباتشيف أن يرى , أن غزو افغانستان - و ليس الرشوة فقط - دليل أساسي آخر على فساد الأدارة الحزبية التي إنتقدها , و أن إصلاح أخطاء الحزب , لا يتم بتسريح الموظفين المرتشين وحدهم , بل يتطلب أيضا سحب الجنود الروس من أفغانستان , و الخروج من ورطة دموية , لا مبرر لها , سوى جهل رجال الحزب أنفسهم .
أن الأتحاد السوفياتي لم يكن يحتاج إلى دبابات في أفغانستان , بل كان يحتاج إلى أن يغير موقفه غير العلمي من الأسلام , [/size]و هو موقف ورثه عن الصليبيين و ليس عن ماركس , فالأسلام لا تمثله مؤسسة دينية مثل اليهودية و المسيحية , و لا يدخل بالتالي في تعريف ماركس للدين . إنه النظام الجماعي الذي نقل عنه ماركس دون أن يدري . و هو صيغة متطورة جدا , و دقيقة جدا , قادرة على إقرار سلطة جماعية أكثر فعالية - و عدلا - من سلطة الحزب . و لو شاءت الأدارة السوفياتية , أن تغير موقفها العقائدي الساذج من الأسلام , و تكتشف دستور الأدارة الجماعية في هذه العقيدة العالمية , لكان بوسعها أن تخاطب الأفغان بلغتهم , و تدعوهم إلى إحياء نظامهم الجماعي الذي يعرفونه في القرآن , و تكسب لنفسها صديقا حقيقيا في صراعها ضد الأقطاع و الرأسمالية . و هي مكاسب ما كانت لتكلف السوفيات جنديا واحدا , لأن (( الثورة العالمية )) التي يريد الحزب اللينيني أن يقودها , لها قيادة عالمية فعلا , تخاطب أجيال الناس , بلغة واحدة , منذ أربعة عشر قرنا . و لم يكن هناك ما يبرر تجاهل الروس لهذه الحقيقة , سوى عجز إدارتهم الحزبية عن تمثيل مصالح الروس . [size=large]
|
|
10-25-2009, 03:28 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|