حكايا الناس
يسعى الكاتب رسمي شناعة في كتابه الجديد «حكايا الناس» إلى تقديم صور من الواقع الاجتماعي في سوريا، بأسلوب بسيط، وصياغة فصيحة أقرب إلى اللغة الثالثة، ليُشعر القاريء بأنه ربما عاشها، أو سمع بمثلها في البيت، أو الشارع، أو المقهى، أو مكان العمل، فهي، باختصار، مألوفة.
يريد المؤلف أن يدفع القارئ للبحث عن دوافع هذه الحكايات وظروفها، ويقف على أسباب حدوثها، ويأخذ منها العبر والدروس الغنية.. ولا يخفى هنا أن رسمي شناعة مولع بالحديث عن الفساد الاجتماعي وقد سبق له أن ألف كتاباً بعنوان «قاموس الفساد» ولذلك نرى عدداً كبيراً من الحكايات والأقوال المأثورة مكتوبة بهاجس فضح مظاهر الفساد، وسلوك الفاسدين، والتهكم عليهم.قليلة هي الحكايات التي يرويها الكاتب بصيغة الغائب، فمعظمها مروية على لسان الراوي..
وتبدأ بصيغ متقاربة من مثل: شاءت المصادفات أن ألتقي بفلان ـ كعادتي نهضت باكراً وتوجهت إلى عملي- دعيت لسماع محاضرة في المركز الثقافي ـ عندما وضعت المفتاح بالباب وفتحت هجم على أطفالي- فوجئت بزيارته بعد انقطاع.. إلخ.
وللتوضيح فإن بعض هذه الفصول كتبت من أجل عرض أفكار ومناقشات نظرية حدثت بين الكاتب وخصومه السياسيين، أو مساجلات مع أشخاص يخالفونه الرأي حول الاشتراكية والديمقراطية والانتهازية والتسلق والفساد.. وبهذا يخسر الفصلُ حرارة الحكاية الواقعية التي تقوم على التشويق والتصوير البارع واللغة اللاذعة.
ولكن هذا لا ينفي وجود فصول حكائية جميلة، ومعبرة، منها مثلاً أن أحد أبناء عمومة الراوي قد دخل عليه ذات مرة وقال له:
هيا ابن عمي، قم وارتد ملابسك فوراً.
سنذهب معاً إلى القرية، فلقد أهينت كرامة العائلة، والشباب مجتمعون في منزلي، وأنا جئت إليك بنفسي لئلا تتهرب من المعركة، فأنا أعرفك، وأعرف أنك اشتراكي، والاشتراكيون يبتعدون عن قيم القبيلة ومثلها وأخلاقها!وبالطبع يرفض هذا العرض، ليس لأنه اشتراكي فقط، بل لأنه مثقف، ولا يمكن أن يكون بلطجياً. وفي وقت لاحق يأتي رجل آخر من العائلة ويقول له: أعفيناك من الذهاب إلى القرية، وسنجري المعركة هنا. ويبدآن الصراع.. ولكن بلعبة النرد!
امتلأت المرأة الطيبة بالحماس وهي تسمع من زوجها وإخوتها قصصاً عن قائدهم الحزبي الفذ، الخطيب المفوه الذي يُرْعِبُ الاستعمار والصهيونية والرجعية بخطاباته الرائعة، وكيف أن البرجوازيين المستغلين الطفيليين يحاولون الإيقاع به فتتكسر محاولاتهم على صخرة صموده العقائدي ويقظته الثورية.
وفي أحد الأيام حضر رفيق قيادي من العاصمة وقال أن زوجة القائد الكبير تعبت من كثافة العمل الحزبي (فهي الأخرى مناضلة)، وأنها بحاجة إلى من يساعدها في أعمال المنزل.
وعلى الفور تطوعت المرأة الطيبة للقيام بالمهمة. وما هي إلا أيام قليلة في معاونة الرفيقة حتى هربت وعادت إلى القرية، وحكت لهم كيف أنها عوملت هناك معاملة الخدم، بل الرقيق، فالقائد طلب منها منذ البداية أن تكون صماء بكماء عمياء، وأما زوجته فكانت تمارس عليها أقسى أنواع الاحتقار. وتوصلت إلى حكمة مفادها أن الحكي والخطابات شيء، والتطبيق على الأرض شيء آخر.
في فصل طريف آخر يروي الكاتب وقائع زيارة قام بها إلى صديق قديم أصبح مسؤولاً من أصحاب الحل والربط، وبمجرد دخوله إلى المكتب لاحظ أنه واسع وأنيق وذو فرش باذخ، ففيه أكثر من عشرين (كنباية) وثيرة على الجانبين، والأرض مفروشة بالسجاد العجمي، والجدران محاطة بخزائن خشبية ملأى بالكتب والمجلدات والأضابير والتحف، وعلى المكتب خمسة أجهزة هاتف، ومفكرات وأقلام ثمينة.
ثم يبدأ عنصر المفارقة بالظهور حينما يفتح الصديقان جعبة الذكريات، ويتذكر ذلك المسؤول أيام الدراسة وقد أسماها (أيام التعاسة والطفر والتقتير)، ويصف غرفته البائسة في «حي الدويلعة»، وفيها طاولة مخلعة تترقوص إذا لمسها أحد، أو وضع عليهاً شيئاً، وفيها كراس مصنوعة من القش، وكان هو يرتدي في قدميه (جاروخاً ذا إصبع)، ولديه أبريق شاي اسوَدَّ من كثرة الاستعمال وقلة التنظيف حتى صار شبيهاً ببوري المدفأة!
ويتذكر مكواة الفحم التي اشتراها من السوق العتيق وأساء استعمالها فحرق بها بنطاله الوحيد، ثم استعار بنطالاً من دكان (الكواء) لكي يذهب به إلى الامتحان في اليوم التالي. ويتطرق الصديقان لصاحبهما «أنس» الذي استعار لحافاً من بيت أخته، وفي طريق العودة ألقى الحراس القبض عليه مشتبهين به على أنه سارق!
فوضع في غرفة التوقيف، ولم يُخْلَ سبيلُه حتى صباح اليوم التالي. والمسؤول بدوره يذكر الراوي بحكايته مع والده الذي دق له وتداً وربطه في الزريبة إلى جوار الحمار.. والطريف في الأمر أن الحمار هرب وبقي هو في مكانه نتيجة لعناده وإصراره على رأيه!
الكتاب: حكايا الناس صور من الواقع
تأليف: رسمي شناعة
الناشر: إنانا للطباعة والنشر دمشق 2009
الصفحات: 144 صفحة
القطع : المتوسط
http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?c=Article&cid=1241100741735&pagename=Albayan%2FArticle%2FFullDetail
خطيب بدلة
قاموس الفساد
* تأليف: رسمي شناعة
* الناشر: دار إنانا دمشق 2007
* الصفحة : 170 صفحة
* القطع: المتوسط
مع أن كتاب «قاموس الفساد» ينتمي إلى الدراسات الفكرية النظرية إلا أننا نستطيع أن نقول بأنه كتاب طريف وممتع، فبما أن الفساد مفهوم ذو طيف واسع وغير قابل للتعريف والإحاطة به بدقة، فقد سعى مؤلفه رسمي شناعة إلى إيجاد أكبر عدد ممكن من الأمثلة والاستشهادات التي تمتد من أقدم العصور، وتكاد لا تنتهي مع وصولنا إلى العصر الحديث، بل إنها ما تنفك تتشابك وتتعقد، ويزداد فيها الطين بلة يوماً بعد يوم.
ولا شك أن النفاق هو من أهم مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي، والفاروق عمر بن الخطاب كان يخاف على أمته من منافق ذلق اللسان، كلامه لا يتجاوز حدود لسانه، كاذب إذا حدث، وخبيث إذا اقترب، إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.
ويصف مارون عبود المنافقين بأن كل واحد منهم يتظاهر بأنه الأكثر وفاء وإخلاصاً لصاحب المنصب، يتمنى أن ينام على بابه ليكون رهن إشارته ليلاً ونهاراً، يعرف متى استيقظ من نومه، ومتى تمطى، ومتى دخل الحمام ليقضي حاجته، إذا نجح ابنه في امتحان هلل له وكبر، وإذا توفي له عزيز اكفهر واسودت الدنيا في ناظره، وشرع يبكي ويندب حظه العاثر، وإذا حك مؤخرته سارع لنظم بيتين من الشعر بهذه المناسبة العظيمة كقوله:
حك العظيم اليوم أسفل ظهره
بأظافرٍ ظفرتْ بكل مُؤَمَّلِ
فالناس بين مزغرد ومرتلٍ
ومصفق ومزمر ومُطَبِّلِ
وأما الشاعر الأميركي والت ويتمان فيذهب إلى أننا نتعلم أفضل الدروس من الذين ينتقدوننا، لا من الذين يمتدحوننا، فالمديح برأيه نفاق يؤدي إلى توريط وتضليل. ويبدو أن الفساد من الظواهر القديمة التي ترافقت مع ظهور المجتمعات الإنسانية، فحمورابي كان يعتبره آفة المجتمع.
وقد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة الرشوة وشدد على إحضار المتهم إليه ليقاضيه بنفسه، وكونفوشيوس رد أسباب الحروب إلى فساد الحكم، وقال بأن الحكم لا يصلح إلا بالأشخاص الصالحين.
وتطرق أفلاطون في كتابه «الجمهورية» إلى ظاهرة الفساد مشيراً إلى أن العدالة تستبعد كل منفعة شخصية ويقول: إن حب الثروة وحب الجاه هي من أسباب الفساد، فصاحب الثروة هو السيد المطاع، والفقير- في نظر أهل الفساد- هو الحقير المرتذل.
ومن أنماط الفساد الشائعة: الرشوة المباشرة من أجل الحصول على مزايا أو التخلص من التزام مستحق أو إبعاد ضرر. تقاضي عمولة مقابل توقيع صفقة لدى مؤسسة أو دائرة. الغش والتدليس من أجل تسيير معاملة على حساب المصلحة العامة. التستر على المخالفات التي تضر بالمجتمع إكراماً لعين مسؤول متنفذ. ابتزاز أصحاب المعاملات وتخويفهم بقصد دفع إكرامية للموظف. ممارسة المحاباة من منطق طائفي أو قبلي أو عنصري، وهذا بدوره يذكي روح الحقد والعداء في نفوس الناس ويشق الروح الوطنية، ويؤدي إلى هجرة العلماء والخبراء والمثقفين خارج الوطن بعد أن يكفروا بأوطانهم.
من تجليات الفساد الساطعة الواسطة، وتهريب المواد الغذائية إلى الدول المجاورة، وكذلك التهرب الضريبي، عدا عن عشرات المعامل والورش غير المصرح بها أمام الدوائر المالية. من هذا كله يبدو القضاء على الفساد ومحاصرته شبه مستحيل، وبالأخص في الأنظمة التي تقمع الرأي المخالف، وإن كانت هذه الأنظمة قد سمحت بنشر بعض أخبار الفساد في صحفها في السنوات الأخيرة فقد بدا ذلك، مع استمرار ظواهر الفساد وحماية الفاسدين، نوعاً من التنفيث لا أكثر.
ولكن الأمر يأخذ منحى مغايراً لمفهوم التنفيس حينما يقف رئيس الجمهورية نفسه خطيباً في الناس ويحدثهم عن الفساد بصريح العبارة، كما فعل عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999 إذ قال: إن دولتنا مريضة بالفساد بإدارتها، وإن المحاباة والمحسوبية والتعسف والتسلط والامتيازات منتشرة في كل مكان، دولتنا مريضة بتبذير الأموال والموارد العامة التي يتم نهبها بلا رادع.
لقد فكك الفساد وألغى القيم الأخلاقية وأزال من الوجود مفاهيم النزاهة، مما ولد عندنا ظاهرة الإرهاب البشعة كنتيجة طبيعية للتراكمات المختزنة في أوساط الجماهير.يقول عالم الاجتماع روزيندايا: لا يمكن للفساد أن ينمو ويتوسع من دون تسامح القيادة السياسية.
ويضرب مثالاً حياً عن حكومة ماركوس في الفيليبين قائلاً: على الرغم من الفساد المتفشي في قمة حكومة ماركوس فعندما شعر بالخطر الشديد تحرك ليخفف من حدة الفساد فعين قاضياً معروفاً بنزاهته ومناهضته للفساد، وعندما بدأ هذا القاضي بمعاقبة كبار المسؤولين الفاسدين في الدولة أيده ماركوس لأنه وازن بين الخطر على سلطته بسبب الفساد وبين السكوت عن معاونيه، ففضل النجاة، وضحى بأقرب المقربين إليه.
التدمير المنظم للأخلاق
ينطوي الفساد في العصور الحديثة على تدمير منظم لأخلاق الشعب وإنهاك لقدرات المجتمع الاقتصادية وإعاقة لتطوره، وفي ظل الفساد يزول مبدأ تكافؤ الفرص وينتشر الهدر، واختلاس المال العام، والمحسوبية، والمحاباة، والتزوير، والكذب، وإخفاء الوثائق، وتهريب الثروات الوطنية، وحينما يتعرض الفاسد لمساءلة قانونية أو يجد نفسه أمام دعوى قضائية فإنه يجد دائماً من يحميه و(يلفلف) قضيته ويخرجه منها كما تخرج الشعرة من العجين.
نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية
عرض/ خطيب بدلة