{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
أوراق العمر
Leftism oriented غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 3
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #1
أوراق العمر
السبت 9/1/2009..

نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ
وبسَنَا عِزَّتِكَ نستضيء
لِتُبْدِي لَنا مَا شئتَ مِنْ شَأْنِكَ

وأنْتَ الذِي في السَّماءِ عَرْشُكَ
وأَنْتَ الذِي في السَّمَاءِ إلَه
وفِي الأرضِ إلَه..

تَجَلَّى كَمَا تَشَاء
مِثْلَ تَجَلِّيكَ فيِ مَشِيئتكَ كأَحْسنِ صُورةٍ

والصُّورَةُ
هيَ الرُّوحُ النَّاطِقَةُ
الذِي أفْردْتَهُ بالعلمِ (والبيانِ) والقُدرَةِ

وهَؤلاءِ عِبَادُكَ
قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِي تَعَصُّباً لدينِكَ
وتَقَرُّباً إليكَ

فاغْفرْ لَهُمْ !

فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِي
لما فَعَلُوا ما فَعلُوا

ولَوْ سَتَرْتَ عَنّي مَا سَترتَ عَنْهُمْ
لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ

فَلَكَ التَّقْديِرُ فيما تَفْعَلُ
ولَكَ التَّقْدِيرُ فيما تُريدُ

---

رحت، بصوت خفيض، أردد الأبيات مغمض العينين بجوار سائق التاكسي في طريقي إلى حفل توقيع كتاب "اللاهوت العربي" للدكتور يوسف زيدان. كنت قد سمعتها لأول مرة أثناء متابعة تسجيل مرئي على YouTube لندوة "آفاق التصوف" بمكتبة الإسكندرية. ساعتها تألق صاحب "عزازيل" كعادته واستشهد بكثير كان أجمله ما ناجى به الحلاج ربه قبل الصلب وملاقاة المصير، وبحثت عنها وعن ديوان الحلاج على الإنترنت ووجدت أشياء كثيرة جميلة إلا أني لم أجدها، وأنقذني زيدان نفسه حين استشهد بها ثانية في القول الأخير من سباعيته الأحدث بجريدة "المصري اليوم"..

حين دخلت المكتبة اكتشفت أنه لا حفل أصلاً وأن من أخبرني عبر موقع Facebook علم بإقامته يوم الأربعاء 23/12/2009 ولم يعلم أنه ألغي وسيطرح الكتاب مع معرض القاهرة الدولي في يناير (كانون ثان). لم أندم كثيراً وتحت تأثير قرار لطيف بصرف الراتب قبل ميعاده بيومين بمناسبة نهاية العام اقتنيت مجموعة قصصية وروايتين وكتاب يقول غلافه أنه مقتبس عن مخطوطة لمؤلف مجهول !

خرجت إلى الشارع، متعباً جوعاناً لم أنم منذ يومين إلا ساعتين، وتذكرت أنني علمت، عن طريق Facebook أيضاً، أن زملاء تعلم الموسيقى سيشاركون البوم بحفل مخصص لهم لتحفيزهم ومراقبة تطور عزفهم، ولم أستطع مقاومة أن أكون بين الحضور..

كثير من السعادة ومسحة حزن.. كان هذا حالي وأنا أتابع عزفهم، وقد أبدع البعض منهم كثيراً وحاول البقية وسينجحون ويبدعون ذات يوم. نسيت أن أقول أن تلك المشاعر اقتصرت على لحظات الاستيقاظ لأنني ما أن جلست حتى هاجمني النوم بضراوة ورحت أصارع أمواجه فأطفو على السطح لثوان تمتعني فيها نغمة وأصدر آهة إعجاب ثم أعود إلى أحضانه !

***

تلك حياة لا تطاق ! الخيار المنطقي الوحيد أمامي أن تقتصر أنشطتي على العمل والمذاكرة.. حاجة تقرف فعلاً ونمط معيشي فاكس آخر حاجة !

....................
....................

فاكس: فكس يفكس فكساً فهو فاكس. الفكس لغة هو التراجع عن الفعل، وهو كذلك الخلو من المضمون والإفراغ من المعنى. تقول "فكسَ وصيف" في سياق حديثك عن رحلة كان من المخطط له المشاركة فيها فأنت تعني بهذا أنه لم يأت أصلاً أو أنه أتى وبتصرفاته أفسدها وأفرغها من معناها ففكسها، أو أن يكون تعبيرك أكثر تركيبية وجمالاً فتقصد أنه بعدم حضوره وفكسه لم يعد للرحلة من معنى فأضحت فاكسة !

والفاكس اسم فاعل يقال لمرتكب فعل الفكس، وصفة تقال لمن تراه سخيفاً وبلا معنى ووجوده كعدمه أو عدمه أفضل، تقول مثلاً: "عزبة آدم" فيلم فاكس !

أما "آخر حاجة" فتعني "للغاية" وتساوي كلمة "جداً" وهي دليل على تأثير التكنولوجيا سريعة التقدم على اللغة، فالمستقر عليه، في عالم الإلكترونيات خاصة، أن الحديث أفضل وأقوى من سابقه المتأخر الذي لم يعرف في السوق إلا قبل سنتين مثلاً، ومن ثم حين تقول لفتاتك: بحبك آخر حاجة (وهو عنوان ألبوم غنائي بالمناسبة) فأنت تخبرها أن مشاعر الوجد وحرقة اللوعة تصلي فؤادك نار العذاب وأن المقارنة بين حبك لتفيدة وحب قيس للعامرية كالمقارنة بين Flash Memory و Floppy Disk !

....................
....................

بعد عودتي إلى العمل، نهاية أغسطس (آب) الماضي، وضعت خطة طموحة لتنظيم الوقت بين الأنشطة التالية: العمل - المذاكرة - تعلم الموسيقى لإتقان عزف العود (البزق لاحقاً) - الانتظام في التمرينات الرياضية - القراءة.. وأن أتم ما سبق خلال أيام خمسة من الأسبوع، من الأحد إلى الخميس، وأستمتع يومي الأجازة بشعور التحرر من كل التزام أفعل فيهما ما أشاء !

انسحبت التمرينات الرياضية بسرعة، واكتفت القراءة بجلسة تاكسي الصباح إن كان سائقه لا يستمع إلى القرآن أو خطبة دينية، فساعتها أستمع أنا إلى الموسيقى (إلا إذا كان القارئ جميل الصوت - عبد الباسط عبد الصمد مثلاً)، وأصبح العود ذو الرقبة الطويلة مطلباً عسير المنال فتوصلت إلى أداء التمرينات فقط خلال الأسبوع والتواصل المباشر مع معلمي مرة واحدة عوضاً عن ثلاث، ثم تعذر توفير وقت التمرين وشيئاً فشيئاً وضعته جانباً حتى إشعار آخر..

---

اهتديت إلى خطة بديلة.. المنطق المحرك لها هو الاستغناء عن الأنشطة المتطلبة لتخصيص وقت محدد بصفة منتظمة، أعجز عن توفيره عادة فأتراجع عنها كلية، واستبدالها بحضور الفعاليات الثقافية حسب وقت الفراغ. الحاصل أن تلك الفعاليات، كالندوات الأدبية والمعارض الفنية وغيرها، تبدأ في السابعة أو الثامنة مساء، وهو ميعاد نومي حيث أستيقظ في الثالثة فجراً للمذاكرة، فحين أذهب أظل أقاوم النوم، كما وصفت قبل قليل، وينتابني شعور بأنني عجوز في الثمانين وأن جاري الذي سقط رأسي على كتفه سيسألني بحنان أن أتناول دواء الروماتيزم وأعود إلى دار المسنين متجنباً السهر إلى وقت متأخر كهذا !

وحين أعود إلى المنزل بعد منتصف الليل، في إنهاك شديد، أفشل في الاستيقاظ في الميعاد وتضيع الليلة فأضطر في الصباح إلى إعادة تنظيم جدول الإعداد للامتحان !

***

لم يبق إلا العمل والمذاكرة.. أفني فيهما وقتي وأعصابي ولا أشعر أن الوقت يكفي..

الإخلاص للعمل شيء جيد، وخطة الدراسات التي أنوي استكمالها تبدو ممكنة التحقق وسيكون رائعاً أن أبلغ الثلاثين وأنا محاسب إداري ومحلل مالي معتمد عالمياً من جهتين مرموقتين وأن أبلغ الأربعين وقد حصلت على الماجستير والدكتوراه مع خبرة تجاوزت ستة عشر عاماً في المجال المصرفي.. إلا أن السنوات كما تضيف إلى خبرتي تسحب من رصيدي في الحياة. لا يعقل أن يمر عقد ونصف إضافيين من حياتي على هذا النحو البائس..!

المضحك هو تأمل ما يستغرق كل هذا الوقت ؟!

أنا لا أعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي، ولا أقوم بأعمال المونتاج لأفلام سينمائية هامة أو أعكف على كتابة دراسة في علم النفس أو تحقيق مخطوطات نادرة من التراث كما يفعل الدكتور يوسف زيدان.. هناك أشياء حين تنهيها وتتأمل ما صنعته يداك يهون تعبك وتتغلب متعتك على أي تضحية قمت بها.. ماذا أفعل إذاً ؟!

الدراسات متخصصة تهدف إلى رفع جودة العمل المؤدى بزيادة علم مؤديها، والأداء هنا هو إعداد دراسة لأوضاع طالب التمويل للوقوف على قدرة النشاط على توليد تدفقات نقدية داخلة كفيلة بسداد المبلغ الممنوح، وعوائده، وجدوى الموافقة بالنسبة للمؤسسة من زاوية الربحية، ومتابعة التسهيلات الممنوحة للنظر إلى النتائج هل ذهبت بالتوقعات الإيجابية أم توافقت معها، والتعامل مع الحقائق الجديدة حسب اتجاهها..

هل هذا شيء جيد.. وهل يستحق تدمير الحياة الخاصة ؟!

---

مصنع سيراميك مثلاً: حصل على تسهيل ائتماني لتمويل تحديث خطوط إنتاجه بما ضاعف طاقته الإنتاجية وجودة سيراميكه الفاخر، فزادت مبيعاته وحصته السوقية ونجح في التحكم في تكاليفه وحقق أرباحاً جيدة كفلت له السداد فحققت مؤسستي ربحاً هي الأخرى وساهم جهدي في بلوغها لأهدافها..

دوري أنا يتضمن، بين أشياء أخرى، دراسة هذا النشاط كيف تبدأ دورته وإلى أين تنتهي والتفاصيل المحيطة به والظروف التي يعمل من خلالها وما تشكله من تهديد لاستمراره ونجاحه وكذلك ما تمنحه من فرص، وعوامل القوة والضعف الداخلية لدى مؤسسة إنتاج السيراميك، تلك التي ستحسم أثر الفرص والتهديدات على أعمالها وما ستسفر عنه من نتائج..

أنا لا أسأل الآن عن درجة خدمتي للمجتمع حين أساهم في توجيه موارده (ومنها رأس المال المتراكم عن طريق الادخار والذي أقرضته كوسيط مالي) لصنع السيراميك في بلد أوضاعه مفجعة كمصر. لا أسأل عن مدى أخلاقيتي وأنا أتغاضى عن كيفية تحقيق الربح الذي أتمناه، والمتضمن استغلال عمال صناعة السيراميك، حتى أحصل على أموالي وعوائدها. لا أسأل عن الضرر الذي يلحقه هذا المصنع الكارثي بالبيئة..

تلك أسئلة لا جدوى من طرحها في سياق حديثي هذا.. عموماً إجابتها كلها سلبية:

- أنا أساهم في عمل ضار بالمجتمع وغير أخلاقي.
- المسئول عن الضرر وانتفاء الأخلاقية هو النظام الرأسمالي.
- الحل يكمن في استبدال هذا النظام الغير أخلاقي بنظام اشتراكي يعلي قيمة الإنسان ويوجه الموارد لمصلحة الجماعة في ديمقراطية متحققة من أسفل تكفل الرقابة والمحاسبة وعدم السماح لأي فئة جديدة أن تحل محل الفئات القديمة وتستأثر بالامتيازات.
- كل هذا لن يحدث في مصر أبداً على ما أعتقد !

---

من المهم أن تسأل عن قيمة ما تفعله بالنسبة للمجتمع، إلا أن الحال لن يتغير في الوقت الحالي أو في أي وقت قادم مادمت أعمل في هذا المجال؛ فسواء كنت مصرفياً أو مديراً مالياً لشركة، أو أي وظيفة أخرى في هذا السلك، مهما ارتقت، فأنا ترس في ماكينة هذا النظام الوحشي، والذي من أهم خصائصه الامتصاص، لآخر قطرة، لدم من يعمل لمصلحة من لا يعمل باستخدام وسيلتين: أن يضفي على العمل حتى الموت بعداً أخلاقياً، بينما هو محض توحش وإفساد لمعنى الحياة نفسه، وأن يضطرك إلى الاستجابة لمطالبه تحت سيف حرمانك من الوظيفة، ومن ثم التشرد وانتفاء القدرة على شراء موسي حلاقة !

[ ربما خطر المثال على ذهني الآن لأن ذقني نابتة وتحتاج حلاقة ولا توجد في البيت ماكينات وقد نسيت سحب نقدية من ماكينة الصراف الآلي ATM ! ]

الآن أسأل، بشكل عملي جداً لا شبهة للرومانسية ولا ظلال لأحلام الماضي فيه: هل هو عمل ممتع بدرجة تسوغ الانقطاع له ؟

الإجابة: لا طبعاً !

لا أنكر أن إنجاز دراسة جيدة، وتلقي الإشادة.. أشياء لطيفة تشعرني بسعادة ما، وأنني شخص واعد في مهنتي يبشر الخط البياني لمسيرتي المهنية بمستقبل جيد (كلما داعبني "عزازيل" ليقول لي استرح فأنت أفضل فعلاً من الزملاء أسكت وسوسة الرجيم وأفهمته أن الوضع الذي يصفه يفرض أن أبذل جهداً مضاعفاً).. ولكن ما لا أنكره أيضاً أن عملية الإنجاز تلك تأتي على الرغم من إرادتي وأفعلها مدفوعاً فقط بإيماني أن الوصيف خالد إن هو يوماً أتم العمل فلابد أن يتيه القدر.. إعجاباً !

***

بتأمل الصورة أجدها تحمل أبعاداً محددة: أنا مضطر للاستمرار في توجيه أكبر جهد ممكن للعمل لأسباب:

- الدافع الذاتي ومرده إلى الاعتداد بالنفس فضلاً عن جانب أخلاقي.
- المؤسسة التي أعمل بها لم أر منها، منذ التحقت بها وحتى الآن، إلا خيراً.
- إثقال معارفي وخبراتي هو السبيل إلى تحسين أوضاعي الوظيفية، ومن ثم المعيشية.
- لا أملك أي شيء يقيني في هذه الحياة إلا هذا الجانب والتفريط فيه سيسلمني إلى إحساس العاري في ميدان عام !

في الوقت نفسه تمثل السنوات اللازمة لتحقيق ذلك عين ما بقي مما يسمى شبابي، وفي حين أعرف إلى حد كبير ما يتعين علي إتمامه في العمل لا أفهم تحديداً كيف تصلح حياتي الخاصة..

---

اكتشفت قبل فترة أن محاولاتي، الحديثة النشأة، لنقل تذوق الأدب والفن، والفلسفة والسياسة، من عمل فردي، أقوم به منذ الطفولة، إلى شيء يستقى من خلال نشاط مجموعات أو مؤسسات، هي في حقيقتها عملية بحث عن أصدقاء..

المجموعة القصصية التي أقرأها الآن للأستاذ بهاء طاهر، والتي اشتريتها من راتبي، أجمل بكثير من تلك التي حضرت مناقشتها بورشة إبداعية ولم أدفع فيها مليماً واحداً، وهي لكاتبة شابة تحمل هماً اجتماعياً وموهبتها مبشرة.. لكن جو المناقشة والأخذ والرد حمل شيئاً لا تستطيع توفيره قراءة العمل الجميل بجوار سائق تاكسي أو في غرفتي الكئيبة. ورغم هذا فإن الغرض الخفي، أو الذي كان خفياً قبل اكتشافه، هو خوض لعبة الروليت على موائد مختلفة عل الحظ يخلصني من صقيع حياتي الاجتماعية !

---

أقضي أغلب وقتي إذاً بمبنى العمل، وهو محفوف بتعقيدات إنسانية يمكن فهمها، وتفهمها، ولكن منها ما يفوق قدرتي على التعايش مع ما لا أحب..

أزعم أنني ناجح في الجمع بين أشياء ثلاثة: أداء العمل على نحو جيد وبشكل احترافي قدر ما أستطيع، واكتساب احترام غالبية من حولي ومحبة معظمهم نظراً لحرصي على مراعاة نقاط ضعفهم وتعاملي مع مفاتيح شخصياتهم، وأخيراً تحقيق ما سبق دون أن أخالف ضميري وأخلاقي أبداً.. سواء في العمل، كأن أخفي حقيقة معينة عن حالة طالب التمويل قد تؤثر على قرار سلطة المنح مثلاً، أو على المستوى الإنساني فأكون طرفاً في حالة التحزب والاستقطاب والنفاق وتناقل الكلام، مع تحريفه، واستغلال الشعارات الوظيفية والأخلاقية والدينية ستاراً لصراعات بغيضة.. إلى آخر ما يحف المبنى كما أشرت..

إلا أن هذا النجاح، يتطلب جهداً أضحى، مع التغلغل أكثر في فهم التعقيدات، شاقاً للغاية فضلاً عن جعل الاحتمال شيئاً شديد الصعوبة. أنا أتفهم أن يكره أحد الأشخاص زميلاً له، صحيح أنني لا أكره أحداً أبداً، ربما لصوفية أو رومانسية أو أخلاق زائدة أو بلاهة.. لا يهم، إلا أنني أتفهم وقد أعذر الكاره.. ولكن ما لا أتفهمه أن يصب على عدوه أبشع اللعنات في غيابه وفي حضوره يبتسم له ويضحك ويمزح وقد يمدح !

أحد الزملاء الأعزاء - جاري القديم في الإدارة قبل حركة التنقلات - سألني قبل أيام عن الناس كيف تغيروا ولماذا، وأخبرته أن أحداً لم يتغير ولكنه الاقتراب يوضح الصورة وأن المجهر يظهر ما كان تحت قوة الإبصار العادية خفياً، وأننا لم نعد كما كنا قبل سنة موظفين جدد حديثي التعيين نعتقد أن الزملاء لابد أنقياء (لم أشأ هنا استثناء نفسي وتقرير عدم اعتقادي في وجود شيء كهذا.. ففي مخاطبة الغير أحاول اجتناب ما قد يبدو تزيداً) وإنما صرنا "قدامى" على نحو أو آخر وصرنا نعرف أكثر مما ينبغي !

تلك الفلسفة لا تغير حقيقة ما صارت إليه بيئة العمل.. فلا القلب يهوى ما آتيه من عمل، ولا المحيط به يأتيني بسلوان !

---

زميل جديد آخر لازلت أتعرف على شخصيته قال شيئاً أعجبني، إذ رأيت فيه نظرة مستقبلية بها بعض التعمق على خلاف تعامل سطحي منتشر بين كثيرين ممن هم في سنه وعينوا معه في نفس التوقيت (أنا عجوز على نحو ما: 25 سنة.. من أتحدث عنهم بين الحادية والعشرين والثالثة والعشرين !)، وما قاله يتعلق بمراحل الحياة العملية للإنسان المجتهد: الأولى عمل كثير بلا مردود مادي مناسب، والثانية يستمر فيها عملك بلا انقطاع، وقد يزداد، ولكن مع تلقي أموال جيدة، والأخيرة تجتمع فيها الراحة والأموال، وهي قبل تقاعدك مباشرة وبعده تستمع بالعيش الرغيد.. في المستشفى !

[ الأخيرة من عندي أنا في الحقيقة ! ]

كلامه هذا يبدو صحيحاً إلى حد كبير لكنه لا يبدو ملهماً لمشاعري؛ فراحة المستشفيات ودور المسنين شيئاً لا أتمناه، بل أتمنى أن توافيني المنية وأنا أعمل وفي صحة جيدة بمنتصف العمر على أقصى تقدير، وإن كنت أعد لشيخوختي بوثيقة التأمين فلا أود الاضطرار إلى استعمالها يوماً، والأموال لا تمثل لي شيئاً في ذاتها..

***

طالت تلك السطور.. بأكثر مما قدرت لها، وأشعر أن تلخيصاً للأمر يجلي حقيقته ويساعد على فهم الأزمة التي تمر بها حياتي الآن:

علاقة العمل بالحياة الخاصة أقرب ما تكون لعلاقة الجيش بالحياة المدنية، الأساس والهدف هو تحقيق السعادة والرفاهية والتقدم للشعب، للمدنيين، وما التسلح وصون الحدود إلا أدوات لحماية حياتهم وأمنهم من أي عدوان أو تهديد لتوفير بيئة صالحة لمزيد من التطور..

أنا، حالياً، أشبه ما أكون بالاتحاد السوفيتي في حقبة الثمانينات: محكوم علي بالدخول في سباق تسلح شديد الصعوبة أفني فيه مواردي المحدودة، بينما الواحد من شعبي يقايض الزائر فيسأله قبول أخذ معطفه القيم جداً مقابل علبة كوكاكولا !

لدي برنامج تسليح رائع، مدمر ومهيب، والناس تصطف في طوابير الطعام..

الشعب يشبهني من بين أفراده مواطن سوفيتي يسكن إحدى ضواحي موسكو. يسخر مما تبثه الإذاعات من أنباء قوة الجيش، وبيانات قيادة الحزب. ورغم عدم تهالكه على الفتات المتاح واعتقاده أن الحياة بكل تفاصيلها، سواء هنا أو على الجانب الآخر من الجدار، لا تثير إلا الغثيان.. رغم ذلك يأمل أن تهبط عليه الأقدار بما يغير حياته رأساً على عقب، فتراه كلما تجمع في يده بعض المال انطلق إلى مائدة قمار جديدة يجرب حظه..

ولكنه لا يؤمن بالأقدار، ولا بالحظ، ويسخر من نفسه ومن أمله بمصادفة تغير معنى حياته ولا يستطيع التوقف رغم ذلك عما يفعل؛ ما هو بساذج ليرى نهاية سعيدة للأوضاع القائمة، ولا هو بقادر على معارضة القابضين على الحزب والنضال من أجل الاشتراكية التي أضاعها لصوص جدد حلوا محل اللصوص القدامى، ولا يرضى لنفسه، رغم التزامه مقاييس أجهزة الأمن للمواطن الصالح، أن ينخرط في تفاهة الحياة اليومية ويقضي حياته يفكر كيف يحصل على نصيب من سلع رديئة..

وعلى المائدة حين يلعب لا يستمتع، ولا تخامره حماسة المقامر البلهاء ولا آماله، فتراه يخسر ويعود داره غير مكترث، غير ثمل على ما تجرعه من شراب، ينام وما في حلقه إلا طعم المرارة ولا ترتسم في مخيلته إلا معاني الضياع..
06-19-2010, 07:34 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Leftism oriented غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 3
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #2
4/4/2014
الأحد 4/4/2014..

السابعة إلا الربع صباحاً..

استيقظت على وقع قبلتها. بادلتها إياها مستمتعاً وما أن حاولت العودة إلى النوم حتى انهالت علي بعضاتها الخفيفة ودغدغتها الخبيرة بأماكن التأثير فما كان مني إلا الاستسلام والاستيقاظ. كافأتني بقبلة طويلة !

الاستحمام بعد ليلة حب لذيذ ويحلو معه الغناء. أتاني صوتها من الغرفة تتلو بعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتؤكد لي مخالفة صوتي لها جميعاً وأن جيراني يتعرضون للاضطهاد والتعذيب واستحقاقي للعقاب العادل. ارتفعت عقيرتي أكثر ورحت أنتقل بين القرار والجواب إغاظة لها وحين خرجت وجدت إفطاراً رائعاً. أعشق طريقة تقديمها للطعام وقدرتها على إحالة بعض البقايا البسيطة طبقاً فاخراً مشهياً..

الكارثة الحقيقية حين تحاول الطبخ.. تقول عنه أنه مزيج من العلم والفن، على القائم به أن يتحلى بدقة الكيميائي وروح الرسام، نكون ساعتها في بيتها فمنزلي ليس فيه أي مكان لإعداد الطعام، ولا حتى لأكله. تسألني عن رأيي فأقول لها بجدية تامة وتأمل صادق أن ما نتناوله كلوحة فنية كانت فكرتها عظيمة ولكن الرسام، المشتغل بالكيمياء، شرع في إتمامها بالمعمل ومن فرط انشغاله بها نسى التفاعل قائماً دون متابعة فانفجر المكان ولطخت اللوحة بالهباب !

تفهمني أني واحد "بلدي" ومعدتي غير معتادة على تلك الألوان الفاخرة من الطعام، ولأدفع اتهام البلدية أدخل معها المطبخ لمساعدتها في غسل الأطباق وكالعادة أتسبب في فوضى شاملة وينتهي بنا الحال نتقاذف الصابون كالأطفال !

***

اليوم تتم علاقتنا عامها الثالث..

ذات مساء كنت واقفاً وسط حديقة صغرى أتطلع إلى القمر على ضوء نغمات الكمان، خفيضة وبها بعض من أثر ثرثرة المدعوين إلى الحفل الذي انسللت من قاعته بالفندق الفخم قبل قليل. رحت أتأمله ووجدته لم يتغير. تغير قماش ردائي، وقصة شعري، ونوع العطر الذي أستخدمه، وهو لم يتغير.. تماماً كوحشة نفسي وشوقي إلى دفء الحياة، المتقد داخلي مذ جرت على لساني الحروف..

انتبهت على طرقات أصابعها لكتفي، وحين التفت استقبلتني بابتسامة ساحرة وقالت: خمسون دقيقة مضت وأنت على هذا الوضع ! ماذا يجذبك في القمر إلى هذا الحد ؟!

ارتبكت قليلاً ولكن بساطتها الآسرة ساعدتني على تمالك نفسي: القمر يمثل لي الأمل؛ يلوح في الأفق بين حين وحين ثم تحرمني منه أسباب الغياب، وفي كل الأحوال أعرفه أملاً لا يطال.. ثم ابتسمت مستكملاً: كما أن جو الحفلات لا يروقني !

ولا يروقني أنا أيضاً - قالت ملوحة بيدها ثم استطردت: ولكن ظني قد صدق بشأنك فخلف نظرتك الحزينة تلك دراما مثيرة بالتأكيد.. قل لي: أين تركت سيارتك ؟

- لا أملك واحدة.. (ثم انتقلت روحها المرحة إلي) لي موقف مبدأي من المسألة. لا أرى أي معنى لتجميد الأموال في سيارة خاصة طالما توفرت البدائل..
- الأدق أن تلك الأموال ليست بحوزتك الآن ولذا لا تجمدها !
- ربما كنتِ على حق !
- كيف ستعود إلى بيتك من هذا المكان المقطوع في وقت كهذا يا مسكين ؟!
- سأركب مع مديري سيارته..
- مديرك انطلق هارباً على ما يبدو.. ربما اتصل بك حين أعياه البحث عنك ثم يأس منك ومضى إلى حال سبيله !
- هل أبيت هنا ليلتي ؟
- ها ! الفندق لا توجد به أي غرفة خالية.. يا لبؤسك يا صديقي !
- والحل ؟!
- سأصطحبك معي وأمري إلى الله.. قدر أمثالي انتشال الضائعين ! أين تسكن يا بني.. لا تخف سأذهب بك إلى ماما !
- بالسيدة زينب، ولكنني هناك وحدي. تستطيعين اعتبارها ماما !
- شيء لله يا أم هاشم.. هتفت بها وهي تسحبني من يدي !

---

في الطريق أدارت ألبوم Deb لسعاد ماسي بصوت هامس، وراحت تتحدث وأنا موزع بين تأملها مبهوراً والابتسام الدائم والضحك أحياناً حتى تدمع عيناي. عرفت منها أنها تعمل مترجمة للغة الفرنسية وأن هذا هو ما جمعني بها في تلك الليلة؛ أنا من قام بتمويل المشروع المحتفى ببدئه، من موقعي الوظيفي، وهي من قامت بنقل كلمات التهنئة إلى إدارته الأجنبية !

أخبرتني عن أبيها وحياتها المتجددة الحافلة، بالوحدة أيضاً.. هي مترجمة حرة، ووظيفتها تؤمن لها دخلاً معقولاً إلا أن أحب ما تقوم به إلى نفسها تطوعها بترجمة القصص والمقالات الفرنسية للأدباء الوجوديين والشيوعيين لصالح مجلة أدبية غير دورية يصدرها بعض المثقفين الهواة..

رحنا نذكر ما شهدنا من رياء ونقلد بعض الحاضرين ونغرق في الضحك، وما أن شرعنا في غناء "بقرة حاحا" حتى لاح الشارع أمامنا واضطررنا إلى التوقف مرغمين..

خفت أن ينقضي هذا الحلم فهمست بإغراء عظيم: ما رأيك بفنجان قهوة أعده بيدي على "السبرتاية"؟ لم ننه بعد حديثنا.. ألسنا؟

[ رأيت تلك الماكينة العتيقة لتحضير القهوة في الأفلام وسمعت عن جودة إنتاجها فضلاً عما توحي به من أجواء حميمة فكانت ثاني ما اشتريت.. مباشرة بعد السرير ! ]

أومأت برأسها وصافحتني بطريقة رسمية مازحة ثم سبقتني إلى خارج السيارة فاستدركت أن مهلاً.. لابد من مغافلة عم سيد البقال !

وعم سيد هذا رجل ذو شأن وذو بأس شديد في الحارة والمنطقة. له زبيبة صلاة ككرة تنس الطاولة ولحية مخضبة بالحناء يبيع الجبن الأبيض والرومي والحلاوة الطحينية ويؤم الناس في الصلوات الخمس ويلجأ الجيران إليه في مسائل الإفتاء.. له جسد قصير مدملك، ولولا طيبته البادية رغم تجهمه لكان ضربه بلا سبب فعلاً محبباً بشدة إلى النفس !

تركنا السيارة في الخارج ورحت أستطلع إن كان أغلق دكانه الضيق فإذا به مفتوح وإذا به يصلي.. لم يكن الوقت مناسباً لأي صلاة ولكن المقادير تواطأت معي ساعتها.. ربما للمرة الأولى في حياتي !

---

ما أن دخلت حتى ألقت بشالٍ كان يغطي كتفيها شاكية من سخافة ملابس السهرة معلية لشأن العملي من الملابس، كالـ T-Shirt والبنطلون، وسألت بإلحاح لذيذ عن "السبرتاية" أين هي لتشاهدها وكيف تنتظر تنفيذي لوعدي..

رحت أعد القهوة وهي تتأمل الغرفة (البيت في حقيقته غرفة) مبدية إعجابها ببعض اللمسات التي، وإن لم تخف رقة الحال، تشي بساكنها وتكشف ما يعتمل بصدره من أحاسيس، وراحت تسألني عن حياتي كوني استمعت إليها كثيراً ومن حقها علي أن تسمعني..

إشارة كنت أنتظرها. رحت أحكي موازناً بين رغبتي في قص كل ما مر بعمري ومشفقاً عليها أن تمل، ومدفوعاً بما يشبه الإلهام لخصت الحكاية كلها بخمس دقائق معتمداً على الصور والتشبيهات وجعلت لقائي بها، بالتلميح، نهاية سعيدة لفصل مضى وبداية أتمناها لفصل جديد. قبلتني على خدي !

---

لم أحس شيئاً كهذا من قبل.. لم تكن تجربتي الأولى. عرفت الجنس قبل لقائها، بشهور بسيطة، وكان الاضطرار عنواناً للمرات كلها؛ فمن ثلاثينية مطلقة التقت حاجاتنا لأيام وكانت من الحنكة بحيث امتصت رهبة المبتدئ، إلى فتاة مارست معها دون مساس بعذريتها، إلى متزوجة رددت نفسي في اللحظات الأخيرة أن أنزلق معها إلى مخالفة مبادئي، ولمرات محدودة استقدمت ساقطات لفض التوتر مع شعور بعدها بالضيق الشديد من النفس..

بين أولى خجلة وجلة، وثانية شراستها المتبادلة تعكس ظفراً متبادل، وثالثة هادئة بها لذة التأمل والاستكشاف البطيء؛ قضيت ليلتي الأولى معها، ونمت في أحضانها وتمنيت لو امتدت تلك اللحظة إلى الأبد..

***

توالت الأحداث بسرعة. استيقظت وتأكدت أنني لم أكن أحلم حين رأيت رقم هاتفها المحمول، المكتوب بأحمر شفاهها على مرآة الحمام، وتحته عبارة واحدة:

Passé une soirée merveilleuse
"كانت أمسية رائعة"

كلمتها، ودعتني إلى التعرف بأصدقاء لها بحديقة جميلة تطل على دار الأوبرا - وهو تقليد اتبعوه لتباين قدراتهم المادية بحيث يستمتع الجميع بالصحبة وجمال المنظر دون تحميل أي منهم فوق طاقته. ذهبت وقدمتني إليهم بصفتي صديق جديد مهتم بالأدب رغم سخافة مجال عمله، وربما بسببها !

رحنا نتحدث في أشياء كثيرة واندمجت معهم بسرعة - وبمرور الوقت توطدت بيننا أواصر الصداقة - ورغم أنها لم توليني أي اهتمام خاص أثناء جلستنا، كان أول ما فعلته حين انفردت بي في سيارتها أن ذابت معي في قبلة طويلة، وقضينا ليلتنا كسابقتها، ببيتها هذه المرة..

---

شهر مضى وأنا أحاول تمالك مشاعري؛ فخلاياي تسبح بحمدها صباح مساء والكون أضحى ترنيمة حب بفضلها، إلا أنني قررت الاستفادة بتجاربي، وتجارب آخرين، فلا يدفعني طول الحرمان إلى التعلق بصورة الظلال فيها والأضواء تخبرني أني أخيراً وجدت الأمل بعد طول الغياب واكتسبت حياتي المعنى الذي افتقدته دوماً وأن استمرارها رهن باستمرار الحب، فمثل هذا التعلق يعني أن أحملها ما لا ذنب لها فيه وأن أعطي العلاقة أبعاداً قد لا تكون متضمنة فيها فعلاً وأفسر الواقع بما يتناسب مع ما في مخيلتي وحين تبعد المسافة وتكشف الحقائق أفيق على انهيار داخلي يصعب تجاوزه..

لم تكن قد أخبرتني بحبها لي منذ التقينا. كل منا له عمله وبيته وحياته ونلتقي أسبوعياً مع الأصدقاء في الميعاد الثابت وبصفة شبه يومية لنتحدث ونمرح ونشهد أشياء نحبها ونختلس القبلات واللمسات في الأماكن العامة حتى نغلق علينا بابنا ونتحرر من المتطفلين..

ذات يوم كنا في الحديقة كالمعتاد ولمحتْ في نظرة إحدى الصديقات وفي تصرفاتها ميلاً تجاهي. أنا كذلك لاحظت ولم أتجاوب.. لكن فتاتي راحت تتصرف بطريقة تقليدية جداً لم أتصور أن تصدر عنها (وأذكرها بذلك، لإغاظتها، حتى الآن!) فبدأت تعامل الأخرى بجفاء وتتجاوز في حركاتها معي حدود المعلن وهمست لي أن ألحق بها وفعلت فارتمت في أحضاني غير مبالية بانكشافنا وهمست لي ليلاً أنها تحبني.. للمرة الأولى !

---

أتت والدتها لقضاء الإجازة السنوية بمصر فأصبح اللقاء ببيتها، الأكثر أماناً، غير ممكن واستقر بنا المقام ببيتي، ورغم الحرص دب الشك في قلوب الجيران فمن غير اللائق عندهم أن أجلب نساء وأعربد وسط العائلات المحترمة !

لم نتراجع، وبعدها بأيام وجدت الباب يطرق بعد منتصف الليل، ومن العين السحرية لاح صاحب البيت، فدخلت الحمام ووضعت ملابسها التي خلعتها داخل الغسالة وأحكمت غلقها ثم عدت إليها وطلبت منها أن تدخل الدولاب ولا تحدث أي صوت وأعطيتها جهاز الحاسب المحمول وسماعة وزجاجة مياه وطبق عنب وطلبت منها أن تشاهد أحد الأفلام حتى أعود إليها..!

فتحت الباب بعد ارتداء جلبابي، ورأيته مبتسماً يعتذر لي على إزعاجي في هذا الوقت لكنه يعلم أني لا أنام مبكراً ويود أخذ رأيي في بعض الشئون. عيونه كانت تفحص المكان كله وهو يفتح مواضيع فارغة للحديث منتقلاً بين مشاكله مع ابنه الفاشل دراسياً متمنياً على أن أساعده في توجيهه، ومشاكله مع السكان غير المتعاونين معه في إصلاح شئون العمارة، على خلاف أمثالي من المحترمين الذين لا يتأخرون عن أي مساهمة مادية !

اصطنع حججاً مختلفة ليدخل الحمام والغرفة والشرفة وبعد ساعتين كاملتين استأذن في الانصراف لا أدري أعن يأس أم طمأنينة أم نية تفتيش آخر في قادم الأيام، وعدت إليها داخل الدولاب لأجدها تتناول حبات العنب وتشاهد فيلم The Reader عارية تماماً ومغطاة بالغبار !

عزمنا ساعتها على الزواج !

---

قبل تلك الليلة لم نكن نتحدث عن علاقتنا أو نضع لها الأطر. كنا نفهم أنها علاقة ميل وانجذاب متبادل، تطور بعدها إلى حب.. وأصبحنا الآن مطالبين أن نجيب سؤال الارتباط..

أراحني اتفاقنا حول استغناء الحب عن أي التزام رسمي وأن الشكل التقليدي للزواج، فضلاً عن عدم قدرتنا على تنفيذه ساعتها، سخيف جداً وبلا معنى وإجراءاته كلها لا لزوم لها.. عقدنا عزمنا على استمرار ما بيننا كما هو دون تغيير تحدثه تلك "الورقة الأمنية" وألا نتعجل فالأيام كفيلة بتوجيه مسار العلاقة..

قصدنا مأذون المنطقة، واصطحبنا صديقين للشهادة، أحدهما كان ثملاً، وما أن بدأ الرجل في المراسم حتى انفجرنا في الضحك ولم نستطع التماسك حتى أنه طردنا مرتين وبصعوبة بالغة عقدنا القران !

لشهر تقريباً كانت مادة تندرنا ملابسات هذا الزواج ونصائح الجارات للزوجة الشابة وإصرارهم أن يحتفلوا بنا على طريقتهم: تجمع في البيت وتصفيق وزغاريد وغناء. رفضوا تصديق القصة الملفقة التي اخترعناها لتبرير هذا الزواج السريع وقناعتهم أن شكوكهم كانت في محلها وأنها هي التي كانت تزورني وأننا دارينا الأمر شرعياً، وصرنا قرة أعينهم كعروسين وكنا قبل محض فاسقين !

كم أحب جيراني الطيبين.. حتى عم سيد أحبه !

***

ثلاث سنوات مضت.. لم أطلب منها شيئاً ولم تطلب، لم أفترض لي حقوقاً ولم تفترض، بل كان كل منا يبحث طواعية عن رغبات الآخر لتلبيتها، ولم أعد قادراً على تصور حياة لا تشاركني إياها ولم تعد..

رغم هذا، خلت حياتنا من التطفل ومحاولات السيطرة وإلغاء شخصية الآخر، فلكل منا طموحاته ونظرته المستقلة للحياة. نظرتنا لها متقاربة، وهو من أسباب ارتباطنا وضروراته، لكن التقاطع غير التطابق وكلانا يفهم أن بقاء الآخر بجانبه ناتج عن اقتناعه واحتياجه، فقط الاقتناع والاحتياج، وأن الضرورة لا تنشأ إلا عن هذين العاملين الناشئين كذلك عن الطموحات والنظرة المستقلة.. ولذا تفهمنا أن رعايتهما رعاية للحب نفسه..

---

في الماضي كان زملائي في العمل يستغربون دوماً طاقة الإنتاج عندي ويربطونها بشكل مباشر بحالة الوحدة والفراغ العاطفي مع تنبؤ بانتهاء هذا كله ما أن أتورط بحب أو زواج. والحق أن ما جرى على العكس مما توقعوه فلم أكن يوماً أكثر إبداعاً في العمل من تلك السنوات الأخيرة..

طرأت على حياتي الحياة أخيراً فاكتسبت بعداً كان مفتقداً بحيث أضحت كل أنشطتي مرتبطة به..

خلال تلك السنوات أنهيت ما خططت له من دراسات، واكتسبت خبرة جيدة، وتغير وضعي الوظيفي والمادي للأحسن كثيراً جداً، وحبيبتي كذلك أنهت الماجستير وتولت منصباً ملائماً لتخصصها والأجمل توافقه مع رغباتها..

أيقظتني اليوم مبكراً رغم عطلة عيد القيامة لننجز مهام كثيرة على اليوم أن يتسع لها: سنذهب إلى بيتنا الجديد لنسدد لصاحبه الإيجار الشهري، ونشرف على إنهاء العمال لطلاء الحوائط، ونكمل إجراءات العضوية العائلية للنادي الرياضي والاجتماعي المجاور للمنزل، وسنقابل صديقنا الموظف بشركة التأمين ليفهمنا أفضل الخيارات لشراء وثيقتي تأمين وادخار، واحدة تؤمن رعاية صحية مستمرة للمولود والأخرى تتكفل بمتطلبات التعليم اللائق..

بعدها سنذهب إلى الطبيب للمتابعة الدورية. اليوم سنعرف هل ستأتينا مريم، أم سنستقبل يوسف، وعلى أساس تحديده سنشتري ملابسه الملائمة، أو ملابسها، ثم نحتفل، بغرفة السيدة زينب، بعيد لقاءنا الأول الذي احتضنته جدرانها..

كان العام الجديد قد أتى ليشهد قناعة تمكنت منا باستحقاق ارتباطنا أن يستمر ما سرت بقلوبنا الحياة، ومع تحسن الأحوال، وطمأنة الأطباء لي أن مخاوفي حول الإنجاب لا أساس لها من الصحة، سعينا لتتويج حبنا بثمرة نرعاها معاً (على أن تشبه والدتها ولداً أو بنتاً – هكذا اشترطت!) وعرفنا قبل أسبوعين أن روحنا الجديدة بدأت رحلتها أملاً ينبض..

(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 06-19-2010, 08:12 PM بواسطة Leftism oriented.)
06-19-2010, 07:54 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Leftism oriented غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 3
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #3
10/6/2010
الخميس 10/6/2010..

الشارع في سكون.. ظلامه دامس، وأنا أسرع بخطواتي ربما استطعت اللحاق ببرنامجي المفضل من بدايته..

ليس هذا طريقي المعتاد، وإنما قادني إليه زحام حفل زفاف أغلق الشوارع المؤدية إلى شارعنا فاضطررت إلى الالتفاف.. ولا هو توقيت عودتي، يوم الخميس بالذات، وإنما أخرني ذهابي مجاملة بصحبة زملاء أصروا على دعوتي على ما أسموه طعاماً جميلاً ورحت إكراماً لواحد منهم يعاني ظرفاً اجتماعياً قاسياً وقد فرحت لأنه سيخرج قليلاً من دائرة وحدته..

هناك، بحي شعبي جداً، أكلنا عند أحد المشهورين. تناولت شيئاً قليلاً لأنني أعرف أن ما نتناوله ضار حتماً وإذا كانت مطابخ فنادق الخمس نجوم غير آمنة فهنا كارثة محققة. رحت أطعم قطة بائسة مع الحرص ألا تلمسني، وبذلك حققت أهدافي جميعاً بضربة واحدة: فقد أشبعت إشفاقي الحقيقي على تلك القطة التي لا تشبه القطط من فرط بؤسها، وقللت من حجم ما تناولته من هذا الصنف الخطر، وهربت من مشاركتهم أحاديثهم دون أن أتعرض لإحراج كبير بل ومنحتهم بعض التسلية بمشاهدة ما أفعل !

دخلت الشارع ولم أكن منتبهاً تماماً لما تهمس به نجاة الصغيرة في أذني لأن عقلي كان شارداً أفكر في موقف سخيف، على بساطته، تعرضت له أثناء يوم العمل أصابني ببعض الإحباط..

[ وفق قوانين العمل بمصر كفاءتك وحدها لا تكفي.. تحتاج بجانبها إلى مقومات أخرى لتحقق مكانة لائقة وهي مقومات غير أخلاقية من عينة النفاق والمداهنة والعمل جاسوساً متخصصاً في ضرب الأسافين وغير ذلك من حقير السلوكيات. أنا أحاول أن أتفانى في عملي وأحتفظ بعلاقة طيبة مع الجميع لا تتعارض مع امتناعي عن المسلك الجماعي المشين وتحميني من غدر المتربصين.. هي مسألة صعبة جداً ولكنني قادر عليها رغم عدم تكافؤ المعركة، ولذا من الطبيعي أن يصيبك سهم حقود بخدش أو جرح ابتغاء لسقوط درعك ليكن صدرك خالياً مهيأ لاستقبال قاضية.. وأنا حريص على اجتناب شيء كهذا ]

قبل خروجي إلى النور دهمتني دراجة بخارية وكادت أن تصدمني، وحاول قائدها النزول ووضح من تألمه أن أذى قد أصابه..

---

- مالك.. انتا كويس.
- آه.. مش قادر.
- معلش.. على مهلك هات إيدك..

خلق شاب من العدم، وراح يتحدث ويتحرك بما يدل على تعاطيه مخدراً ما، حريص على الوقوف خلفي ويطالبني بأن أعالج هذا المصاب – الذي كاد يصدمني برعونته – وأنا مشغول بحالة هذا المصاب، رغم عدم منطقية وجود إصابة، بدافع من طيبة القلب التي سيتبين لي بعد ثوان أنها تنتمي إلى البلاهة أكثر من أي شيء آخر..

هجم شاب ضخم الجثة ومعه بعض التابعين وتفوهوا بألفاظ بشعة وأمسكوا بالمصاب وأشبعوه ضرباً هو والمتشرد المدمن الذي تحدثت عنه منذ قليل. كنت مذهولاً لا أفهم شيئاً ولم أدرك من سيل السباب البذيء إلا أن الشابين المتشردين من اللصوص وقام الشاب الزعيم بإعطائي هاتفي المحمول الذي تبين أنه سرق مني أثناء انشغالي بالمريض المتألم !

على الضجة أتى عم سيد، وهو شخص طيب يقطن حينا منذ سنوات طويلة ويعرفني ويعرف أهلي، واستغرب تورطي في مشاجرة بين هؤلاء العاطلين فأتى مستفسراً مني فأخبرته ما حدث فإذا به يذهب للزعيم ويخبره أنني ابن ناس طيبين ومحترم فيوجه الزعيم حديثه إلي سائلاً:

- خد منك الموبايل ولا لأ؟ هتيجي تعمل محضر.
- أنا مش متأكد بالظبط هو أخده من جيبي ولا وقع مني في اللخمة دي.
- أنا بقولك ده حرامي.. يا هتقول كدة يا إما مش هديك الموبايل.

حتى اللحظة التي سبقت تلك العبارة لم أكن أدركت إلا أنني تعرضت لحادث سرقة وأن بعض "جيراني" قد تدخلوا شهامة منهم في إنقاذ الموقف وأنني أغلب احتمال أن يكون المدمن قد سرق الهاتف من جيبي إلا أن شكاً ينتابني حيال ذلك وهو ما يمنعني من التأكيد على ذلك بدافع أخلاقي أولاً وإشفاقاً على هذين البائسين مما يمكن أن يحدث لهما في قسم الشرطة..

حتى تلك اللحظة كنت أتوهم أني صاحب القرار؛ قد أصر على العقاب كما نصحني أحد الشباب المحترمين ممن جذبتهم الحادثة وحذرني من الإشفاق على تلك النوعية كي لا يتكرر الأمر مع ضحايا آخرين، أو أن أقرر العفو فيكتفي الشباب الطيب بما فعلوه ويخلوا سبيل اللصين. وعرفت أن الأمر مختلف عما توهمت..

استمر الضرب وكأنه لا وجود لي، وفهمت أن المشكلة أن اللصين يعملان في منطقة لا يفترض الاقتراب منها وأن في هذا تعد وعدم احترام وأن هذا هو أصل المشكل، وقد قرروا العقاب ونفذوه وهو جلد هذين اللصين على الظهر مع الاستيلاء على الدراجة البخارية لحين حضور زعيم منطقة اللصوص لاستلامها، عقاباً له على عدم الاحترام !

كان عم سيد واقفاً بجانبي كي يكون حماية إن تطورت الأمور في غير صالحي، عن طريق استغلال رصيده كرجل مسن يملك محلاً خدمياً يحتاج إليه أغلب سكان المنطقة، مطالباً ألا أتدخل في مسار ما يحدث: "لا ليك في سكة دول ولا سكة دول".. وهو حريص في نفس الوقت ألا يبدو على مظهره التعاطف الشديد معي أو أنه طرف مباشر فهو غير متأكد أن رصيده هذا سيمنع عنه اعتداء أي من الطرفين..

أتى الزعيم ليحسم أمر الدراجة البخارية فقال له عم سيد: "دلوقتي الأستاذ وصيف ممكن يطلع بيته ولو انتا عاوزه في حاجة مش هيتأخر.. ده بعد إذنك يعني"، فرد الزعيم مخاطباً إياي: "اتفضل يا باشا.. موضوعك خلص.. مع السلامة"..

لم أدر كيف حملتني أقدامي إلى البيت وكيف أصبحت داخل غرفتي.. لحسن حظي ساعتها أن انقطعت الكهرباء كي لا يرى أحدهم وجهي بصورته التي كانت. قضيت زمناً لا أدري له قياساً حتى نمت. الظلام يلف المكان ويلف روحي والعدم يجتاح رأسي وانتابني شعور بأنني أعيش فعلياً في عالم آخر لا صلة له بالواقع، وأن غياب المعنى وتفاهة العالم التي طالما تلفظت بها غاضباً حقيقة يقينية كالموت وشروق الشمس وأن يدي لمست دليلاً حقيقياً للمرة الأولى على تفاهة ما في رأسي كله وتفاهة رأسي نفسها وأن الخيار الوحيد لأي عاقل هو ترك لعنة الحياة واختيار الموت والسعي إليه..

استيقظت فشاهدت البرنامج في إعادته لأن الميعاد الأصلي كنت فيه ضيفاً على برنامج آخر، ووجدت الأستاذ يحكي كيف اختلف مع الخالد جمال عبد الناصر حين عينه وزيراً لأنه يرى ألا يحق لأحد، ولو كان رئيس الجمهورية، أن يتحكم بمصيره ومستقبله.. فأصابتني الحلقة على جمالها بكآبة إضافية، لأسباب واضحة..

[ من أجمل ما أنتظره في حلقات الأستاذ الجانب الشخصي الذي قلما يتطرق إليه ]

---

صنعت كوب شاي وفتحت موقع Facebook لأجد جريمة قتل الشاب خالد سعيد على يد مجرمين من الشرطة، تلك الجهة التي كان يفترض أن تجلب لي حقي لو كان الزعيم أصر بالأمس على الذهاب للقسم !

تراكم ما سبق كله وترك أثراً ثقيلاً في نفسي..

بخلاف ترسخ قناعتي أن تلك البلد مقبرة ضخمة وأن الهرب منها لا سبيل سواه رغم صعوبته الجمة.. رأيتها في وضع جسد سليمان الحكيم.. ميت تحافظ عصاه لجسده على بعض مظاهر الحياة، وأنها هشة وتتآكل وستسقط لتبين الحقيقة ذات يوم، وعندها سيتحكم في حياتي المتشردين بالقوة العارية أو المستترة خلف الذقون والإرهاب الديني !

ورغم انقطاع الصلة المباشرة بما حدث رأيت حياتي كلها بغير قيمة يمكن تلخيصها في عبارات معدودة: صبي اكتشف أن حياته الخاصة خربة لانعدام التواصل بينه وبين المحيط كله وأن لديه شيئاً يميزه، فرأى المنطقي أن يستغل ما بين يديه ليجني ما ليس فيها واعتبر ذلك حقاً له تسانده السماء وتباركه وستحققه له إن اجتهد هو وعمل ما عليه. تعرضت خطته تلك لضربات تبدو في ظاهرها من فعل السماء نفسها وتكاثفت حتى أجهضتها فأدار ظهره للسماء حانقاً وعلم أن جهده لا يزال ضرورياً ولكن لهدف لا يمت للسمو بصلة هو شراء الطعام، فغمره إحساس الضياع، ولا يزال ضحيته، يهرب منه ملتمساً أوهام الأرض بعد أن ضاق حيز رأسه بأوهام السماء..

قضيت يومين بائسين، وما وجدت من عزاء في النهاية إلا كتابة تلك السطور ونشرها قبل فجر يوم عمل جديد أخطو إليه على الرغم مني وقد أصاب عمل عقلي الكثير من غموض الرؤية..
06-19-2010, 08:13 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS