تدمريات.. ما فوق سوريالية
فرج بيرقدار
-1-
أسوار عالية من الإسمنت العنيد البارد..
أبراج للمراقبة..
حقول ألغام..
حواجز ونقاط تفتيش..
تحصينات ووحدات عسكرية عالية التدريب..
وأخيراً.. محيط من أمثولات الرعب الوطني الخالص.
يا أسماء اللّه!
حتى لو سقطت سوريا بكاملها
فإن هذا السجن.. يستحيل أن يسقط.
-2-
هل خطر في بال أي فنان
أن يرسم سماء زرقاء مغرورقة
ترتدي برقعاً من الأسلاك الشائكة؟
من أتيح له أن يقف في واحدة من باحات سجن تدمر
ويختلس نظرة خاطفة إلى أعلى
سيرى هذه اللوحة الفادحة
وسيدرك عندها أي عبقرية، ترعى واقعنا وأحلامنا!
-3-
عسكري ذو ملامح موقوتة، يأمر سجيناً عجوزاً، أن ينحني ويلحس له بلسانه جزمته العزيزة.. ثم ينهره، ليمسحها بكم سترته المهترئة..
وبعد ذلك، يصفعه بالجزمة على وجهه، وهو يشتمه، مستنكراً تجهّمه، الذي يدل على عدم رضا داخلي أثناء تنفيذ المهمة. معنويات العسكري،
وهو يرى ذلك العجوزالوقور، ينظِّف له جزمته ، توحي بأنه قادر على إغلاق جبهة بمفرده!
-4-
سياط تتخطّف ظلالَها، وتعيد اشتقاق الألوان.
قامات محنيّة وربما عارية تماماً، تنسدل فوقها حرامات عسكرية بلون الجرَب.
عربدة السياط مرسومة بحركية بارعة، تبدو وكأنها ستخرج من اللوحة، وقامات السجناء تتلوى تحت لسعها وتستجير،
فتخفق الحرامات، وتنفث غباراً كثيفاً.
كأنك أمام كائنات خرافية عمياء..
كائنات على هيئة خفافيش ضخمة، تتخبَّط في وهدة من الجمر.
من يصدّق أن بإمكان اللوحة تصوير مشهد سوق السجناء إلى الحمّام
بكل هذه الحمحمة المجنونة والواقعية إلى درجة الفوران؟!
-5-
في يسار هذه اللوحة:
أشباح متراهصة، أقرب ما تكون إلى جذوع أشجار، ضربتها عاصفة من خارج علم اللّه..
هكذا يبدو السجناء، وهم جالسون في الباحة للتنفس.
إلى اليمين قليلاً:
سجينان.. أحدهما في وضعية سجود، والآخر يجلس في مواجهته، آخذاً وضعية الركوع.
الساجد مكشوف الظهر، وقد كمّمت الثياب رأسه المدفون بين فخذي زميله.
أما الراكع، فيمسك به من تحت إبطيه، محاولاً تثبيته.
عسكريان متقابلان تهوي سياطهما بالتناوب على ظهر السجين الساجد، فتتفطّر أنحاء اللوحة بصرخات بهيميّة مشروخة.
مع كل صرخة تتقصّف حروف كلمة واحدة، تتكرر بإيقاعية متلاهثة: يا ألله.. يا ألله..
مرةً قراراً، ومرة جواباً.
ملامح الراكع تتمعّج وترتجّ، وكأنها ترسم خطاً بيانياً لانتفاضات جسد زميله.
الآن.. ظهْر السجين الساجد يأخذ لوناً خمرياً متوهجاً..
والجلد المكشوط، مرسوم بمهارة بنت حرام..
مهارة فائقة إلى حد يثير القشعريرة حتى في ظهرك.
-6-
اللوحة السادسة ذات خطوط متوتِّرة، وضربات ريشة قاسية ومتمكنة إلى حد الاستهتار.
إنها ترسم رأس سجين حليق الشعر والشاربين.. بعينين مغمضتين على ذروة من الألم، الذي تحفره خطوط التظليل بطريقة
تبدو فيها، كما لو انها آثار سكاكين متقاطعة.
عسكري يضغط رأس السجين بيد، مما يجعل العنق مائلة إلى اليمين، وفي اليد الأخرى "بانسه" مطبِقة على أذن السجين.
من الواضح أن اللوحة ترصد مشهد اقتلاع أذن السجين، أو ربما لحظة نتر الأذن بالبانسه، وما يرافق ذلك من طقطقة وتشقُّق.
يمكنك أن ترى ذلك بأكثر من عينيك، بل يمكنك أن تسمع ما يحدثه التمزق والاقتلاع من أصوات، تشبه أصوات انتزاع جذور النجيل القاسي
من أرض غير محروثة.
كل ذلك يبدو مرسوماً على نحو برقي خاطف، وبطريقة تؤكد أن الألوان، ليست مسألة بصرية فقط، وإنما هي قابلة وقادرة على اختزان الرائحة
والحركة وحتى الصوت.
-7-
في أول الباحة عسكريان يمسكان سجيناً من يديه ورجليه.. يؤرجحانه بحركة بندولية متصاعدة، ثم يطوّحان به في الهواء.. وما يلبث أن يرتطم
جسده بالأرض، حتى يمسكا به ثانية من يديه ورجليه، ويعيدان اللعبة من جديد..مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ثم تستريح الجثة على أقل من مهلها.
في مكان آخر من هذه اللوحة.. في آخرها تقريباً:
عُدّة متناثرة لورشة لحام بالأوكسجين، بينها مطرقة كبيرة "مهدّة" يتناولها العسكري.. يرفعها عالياً بمشقة وتصميم، وينـزل بها على منتصف العمود
الفقري لذلك السجين أو لغيره.
صرخة السجين تجعل ألوان الجزء العلوي من اللوحة كامدة بحَّاء، مع مسحة ضبابية تتموج بارتعاشات صغيرة متناهية.
في المنتصف.. بمحاذاة الجانب الشرقي للَّوحة:
عسكري يمدّد سجيناً على الأرض، وهو يشير إليه، أن يتوسَّد برأسه رصيف الباحة.
بعناية شديدة يشير إليه العسكري، ليرتفع قليلاً، ثم لينخفض قليلاً، حتى أصبح عنق السجين على الحافة.. على الحافة تماماً.
يتلفَّت العسكري حوله بعصبية، ثم بإيماءة حازمة من رأسه ويده، يدعو أقرب عسكري إليه.
يتقدم العسكري الآخر، وعيناه تتلامحان بما يشبه الخوف، وربما الحزن أو العجز.
لا يبدو أي تشابه بين هذا العسكري المضطرب وبين زملائه، الذين تظنهم للوهلة الأولى مسوخاً أو تماثيل، مأخوذة عن قالب واحد.
يقف العسكري الأول على ظهر السجين، ثم يستند بذراعيه على كتفي زميله.
يقفز في الهواء عدة قفزات رشيقة نابضية، وفي القفزة الأخيرة يسدّد بقدميه، ويهوي بقوة، مرتطماً بعنق السجين، ثم..
أصداء صمت ثقيل مخنوق، لا تعرف من أين بدأت، ولا أين ستنتهي.
تريدون الحق؟
لوحة بانورامية مذهلة..
لا (جيرنيكا)، ولا الآلهة، ولا الأساطير..