الموت هو إنتهاء الشكل الوحيد للحياة .. الحياة المادية.
لم يكن أي إنسان حيا قبل أن يتكون في رحم أمه و هو أيضا لن يكون حيا بعد أن يموت. أزلية من العدم تعقبها حياة يعقبها أبدية من العدم, ولا شيء يحول دون إستمرار هذا النظام. حتى قدرات الإنسان المتزايدة و كل علومه الطبية تستطيع فقط أن تمد في عمر الإنسان آجالا أخرى و لكنها لن تستطيع ان تجعل الموت حياة. ربما يستطيع الإنسان أن يقهر حتمية الموت يوما و ان يحصل على الخلود و لكنه لن يستطيع أن يغير من طبيعة الموت نفسه وقت ان يحدث و الذي هو إنتهاء الحياة.
و لكن الناس تنكر ذلك ..
غالبية الناس ترفض الإعتراف بالموت و تؤكد أن هناك حياة بعد الموت و أن هناك جنات و قصور و أنهار و حوريات و ملكوت و ملائكة و تسبيح و جهنم و تعذيب و شياطين و ..ألخ. قصص كثيرة تقال عما بعد الموت منذ أن نما وعي الإنسان الجمعي في العصور الغابرة. لكن لماذا ينكر الناس الموت و يصورونه و كانه مرحلة إنتقال أو ما شابه ؟
بسبب الحزن الذي ينشأ بمعرفة الموت ..
و مراحل الحزن خمسة :
المرحلة الأولى هي الإنكار و هي التي يعيشها معظمنا الآن فنلفق القصص و الخيالات عن حياة أخرى بعد الموت و ننكر تماما وجود نهاية للحياة لا الآن و لا في أي وقت, فنتخيل حياة مستمرة إلي أبد الآبدين.
المرحلة الثانية هي الغضب و هي المرحلة التي يعيشها بعضنا الآن و الغضب في تلك الحالة سيكون من الآلهة الإفتراضية التي جعلتنا ننخدع بقصص الحياة بعد الموت و سيصب هؤلاء الناس معظم غضبهم على كل رجال الدين الكاذبين المخادعين الذين يحكون دائما عن قصص ما بعد الموت.
المرحلة الثالثة هي المساومة و هي ربما كانت المرحلة التي يعيشها البعض منا الآن و يتم فيها التفاوض مع فكرة الحياة بعد الموت و محاولة إسترجاعها بسبب الحنين و الشوق الكبير لأيام الإنخداع و الإيمان بالفكرة.
المرحلة الرابعة هي الإحباط أو الإكتئاب و هذا راجع لليأس من إسترجاع الفكرة و الحزن على فسادها و كذبها بحيث يرثى الإنسان على الأيام التي كان فيها مخدوعا و سعيدا بحكايات ما بعد الموت.
المرحلة الخامسة و الأخيرة هي التقبل و ذلك لأن الإنسان كائن حي متكيف مع ظروف بيئته فهو في النهاية يتكيف و يتقبل نفسيا فكرة أنه كائن حي منتهي و أنه آت من العدم و ذاهب إلي العدم.
المشكلة هي أن الوعي الجمعي للإنسانية لا يزال طفلا من وجوه كثيرة لأن الكثير من الناس لا يزال يعيش مرحلة الإنكار و الهروب من الفكرة و تعزية النفس بأفكار غير حقيقية عن عدالة سماوية و حياة أخروية تعوض عن مآسي الحياة الحقيقية التي نحياها. الغالبية تتعامل مع الحقائق السيئة بطريقة النفي و الإنكار و كأن هذا يغير من أن الحقائق هي حقائق. لا يقبل المرء عادة أن أحباؤه الذين ماتوا لن يراهم مرة ثانية و أنهم قد فنوا و لن يرجعوا ثانية ..
يضطر المرء لان يكذب على نفسه و ان يكذب على الناس لكي يواجه الحقيقة, و كأن المرء مضطر أن يكذب الواقع لكي يتكيف مع الحياة و يتعايش مع نفسه. في الواقع نستطيع أن نغير نظرتنا للامور و طريقة تعاطينا مع الحقائق للتكيف و حتى لنحب الحياة ..
فمثلا بدلا من أن نفكر أن الموتى لا يحيون من الناحية البيولوجية نستطيع أن نفكر في ذكراهم الخالدة في قلوبنا و في الإرث الذين تركوه و في الأعمال الرائعة التي أثروا بها في حياتنا. و بدلا من أن نلعن الحياة لأنها قصيرة فنحيا حياة قصيرة و ملعونة نستطيع أن نبارك الحياة و ان نكون شاكرين لتلك الفرصة العظيمة التي أتيحت لكل منا لكي يكون سعيدا و أن يسعد آخرين., و بالتالي نحيا حياة طويلة و سعيدة.
ربما صحيح أن كلنا سنموت و لكن ما أجمل أن يموت المرء سعيدا و راضيا عن أعماله و إنجازاته و ميراثه للأجيال القادمة, ما أجمل أن يتذكر المرء شريط حياته ممتنا لكل لحظة سعيدة لا تقدر بثمن قضاها في رفقة من يحب. ما الذي يريده المرء من الحياة أكثر من ذلك ؟!!
الحياة قصيرة بالفعل و لكن هذا يجعلها لا تقدر بثمن لأن أي بضاعة كلما كانت نادرة كلما كانت ثمينة و كلما كانت متوافرة كلما رخص ثمنها و بالتالي فكل ما بضاعة مستمرة بلا حدود لا ثمن لها. بل إن الخلود ليس رائعا كما يبدو لأن العيش إلي الأبد سيجعل كل أنشطة الحياة مملة و مكررة و سيجعل المرء متخاذلا يؤجل كل شيء إلي غد لا ياتي أبدا و بالتالي سيجعل حياته بلا معنى. إن الحياة القصيرة ستكون بالفعل لها قيمة و أهمية أكثر من حياة بلا حدود لأن من يحيا حياة لا نهاية لها بالتأكيد سيصيبه التبلد و الجمود مع الزمن و ستمضي به الأيام و كانه قطعة صخر أو كرسي من الخشب.
تلك طريقة للتعاطي مع الحياة بحرص و عمق و فرح بدلا من العيش على الحزن و إنكار واقع الأمور ثم إدمان قصص ما بعد الموت و كان فيها العزاء و السلوان. في الحقيقة الموت ليس لعنة لعنها الله لآدم بسبب أكله من شجرة غبية بل هو نعمة كبيرة جدا لأنه يعلمنا قيمة الحياة و بالضد نعرف قيمة الضد. لذلك فالأفكار القديمة عن الحياة الأبدية بعد الموت تجعلنا نتخاذل و نهمل الحياة الحقيقية التي نحياها و نترك الفرصة الوحيدة للسعادة و الإنجاز. و بدلا من أن نستغل تلك الفرصة أحسن إستغلال بالتخطيط السليم و عدم تضييع الوقت في التفاهات نجدنا نضيع وقتا ثمينا في الرثاء على قصر الحياة او محاولة إرضاء إله وهمي لكي يكثر لنا النعم بعد الموت .. الموت الذي هو أبدية من العدم, و نقيض الحياة الحلوة التي لا تقدر بثمن.