جاءتني هذا الأسبوع رسالة من شاب مسلم باح لي بصراحة بما يؤرقه ويقضّ مضجعه. هو يعلم أني قد آمنت بالمسيحية عن اختيارٍ وصلابة إرادة وأنني لم أرثها عن الأهل أو سلّمت بما اختاروه لي. أقتبس هذا الجزء من رسالته مع التحفظ عن ذكر اسمه:
الأخ الفاضل الأستاذ ابراهيم عرفات: الأيام تمر - والعمر يمضى سريعا ولا أستطيع أن أقرر. صحيح أن الاسلام ملىء بالتناقضات والعيوب - لكنه يمسكنى من رقبتى بشىء واحد هو مسألة تنزيه الله وتوحيده . إنها المسألة الجوهرية فى الاسلام يا أخ عرفات - ولشدة جوهريتها جعلها شعاره الأساسى وهو - لا إله الا الله. ليست المشكلة أننى ورثت الاسلام عن أبوى - فأنا أحمل أعلى شهادة علمية وعقلى فى منتهى التحرر لكن القضية الآن صراعا يدور فى نفسى بين دين يصلى أتباعه ويركعون ليسوع ودين آخر يصلى أتباعه ويركعون لله . أ.هـ.
تأثرت كثيرًا من صراحة وأدب ولطف في خطاب وتفكير هذا الأخ المسلم. إنّ لديه تساؤلات وهو راغب كل الرغبة في أن يخضعها للنقاش والمُسائلة. إنه يريد بإخلاص أن يقبل المسيحية ولكنه يرتطم بما فيها من عقائد في الوقت الذي يُقر فيه بتحفظاته على الإسلام دين آبائه وأجداده، وما أدراك ما هذا الدين وما يشغله في وجدان العابدين! كل ما يشغل هذا الصديق تنزيه الله وتوحيده، وهذا من حقه ولا ينبغي أن نستكثره عليه. أردت أن أضع نفسي بداخله وأن أغوص في قلبه وأشعر بما يشعر وأفكر بما يفكر لا أن أقول له إن هذا لهو ما توحي به العقيدة المسيحية وإذ لم يعجبك الأمر فعليك باختيار طريق آخر كما يحلو لك؛ فمثل هذا الرد هو سبيل العجزة. رفعت بصري إلى أبي السماوي وطلبت منه المعونة كي أقول كلامًا يكون مملحًا بنعمته لا من وحي أفكاري وفلسفتي، فقلت بعونه تعالى:
الأخ العزيز: أشكرك لكتابتك لي وأؤكد لك أن تنزيه الله وتوحيده هي مسألة تشغلني تمامًا مثلما هي تشغلك. إن المقصود بالتنزيه ليس الحديث عن الله وكأننا قد قبضنا على ماهيته وجنسه ونوعه فنقول إنه واحدٌ أحد فردٌ صمد؛ فهذا الوصف وأمثاله يليق بنا نحن البشر حينما نتكلم عن إنسان نعرفه (بشحمه ولحمه) وأما الله فهو القدرة اللامتناهية التي لا نقدر أن نصفها وكل ما نملكه عنه فإنما يتم التحدث فيه من قبيل الوصف والتشبيه إنْ جاز لنا. إنَّ المسيح ليس إلهًا آخرًا مع الله وإنما هو كلمة الله الذي يعلن لنا كل ما هو خافٍ ومحجوب عن عقولنا عن الله فإن قال الله قولاً كان المسيح هو قوله تعالى، وإنْ أراد الله فعلاً كان المسيح هو إرادته الفاعلة وهلم جرًا، وكل ذلك بحق أنه كلمة الله.
أخلو إلى ربي وأسأل نفسي: ألست أنت إبراهيم عرفات وكنت تصلي بالمسجد كسائر المسلمين؟ ماذا جرى لك؟ وكيف انتقلت من عقيدة التنزيه المطلق إلى القبول بما تقوله المسيحية ولا شيء يستهويك الآن سوى ما يوافق المسيحية وإيمانياتها وروحانياتها؟ كيف تم العبور، إذن؟ ضع نفسك مكان المسلم واشعر بمعاناته فما يعتمل في النفس يفوق الأفكار ومطارحاتها.
تجربتي، باختصار شديد، تبدأ في البحث عن الحق واتباعه، فإذا ظهر أن الحق في الإسلام فسوف أنادي بالإسلام في أقصى أرجاء المعمورة وإذا اتضح لي أن المسيحية هي الحق فسوف أنذر حياتي لإعلانها برغم ما سوف أواجهه من اضطهاد وفقر ومتاعب إلخ. بدأ سؤالي بالبحث عن المسيح ومن هو المسيح. كان هذا وقتئذ شغلي الشاغل ويبقى الآن كل ما يشغل فكري ويستولي على قلبي. للمسيح صفات يحدثنا عنها القرآن ولكننا لا نعرف تمام المعرفة معناها ولكن لو عدنا للانجيل لوجدنا المعنى واضحًا جليًا فيه ولنضرب مثلاً لذلك عقيدة "كلمة الله" التي يتصف بها المسيح في كلٍّ من القرآن والإنجيل.
باديء ذي بدء، يجب الحذر كل الحذر ونحن نتحدث في الغيبيات الإيمانية وعلى رأسها مسألة "الله" لأن كل ما نقوله عن الله فلسوف نقوله بمفرداتنا وألفاظنا البشرية المحدودة القاصرة واللفظ لا يتجاوز هنا كونه "وسيلة" وليس "غاية" إطلاقًا. ربنا الخالق غير محدود وهو الغاية وليس الألفاظ "المحدودة" التي نستخدمها كوسائل للحديث عنه. أجل، اللغة مهما سمت تظل قاصرة في الحديث عن الله. ونحن بكل ضعفنا وقصور لغاتنا نتكلم على سر الأسرار في الكون؛ الخالق العظيم والذي يعلو أي مفردة أو عبارة ينطق بها أي إنسان كائنًا من كان. تصوروا معي: الإنسان الضعيف الغير معصوم يتكلم عن الله المعصوم كليّ العصمة! نحن نجتهد في تقريب "المعنى" المراد للأفهام، وأداتنا هنا هي اللفظ البشري. لذلك في الصلاة المسيحية، لا تكون العبرة بما نقوله لله في الصلاة ولكن بالقلب وأين يستريح في حضرة إلهٍ محب يقول للإنسان برقة: يا بنيّ، اعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي (أمثال 23: 26.(
ربنا الخالق له كلمة وهذه الكلمة هي نطقه تعالى. كلمتي أنا إبراهيم هي ما أنطق به أنا. كلمة الله هي تعبير وهي أيضًا إعلان عن ذاته وجوهره تعالى. إلى الآن نحن نتحدث عن الله بتنزيه يليق به جلّ اسمه القدوس. وما ينطبق على الله من وصف ينطبق أيضًا على كلمته كذلك على أساس أن الكلمة تخرج من صاحبها وتنبثق منه. وعليه، بما أن الله سبحانه وتعالى معصوم، فكلمته كذلك معصومة. وبما أن الله أزلي فكلمته كذلك أزلية إذ لا يصح أن أقول أن الله أزلي وكلمته فانية. بما أن الله غير فانٍ فإن كلمته كذلك غير فانية. المسيح هو "كلمة الله" ولا نقولها اعتباطًا بل إنّ لها معنى يكمن في سرٍ عميقٍ من الأسرار الإلهية التي تتجاوز كل فهمٍ لنا. ولأن كلمة الله سبحانه وتعالى غير فانية فإننا متعودون أن نقبل بطمأنينة حقيقة "المسيح الحي". يقولون: "والمسيح الحيّ". ماذا يعني هذا؟ كل الأنبياء قد توفاهم الله إليه وقبورهم لا تزال موجودة، وأما المسيح فهو الوحيد من بين الأنبياء والذي قبره فارغ. جميع الأنبياء قد وافتهم المنية وأما المسيح عليه السلام فهو الحي الباقي الأبدي الأزلي.
وإذا قارنا بين صفات المسيح وتعاليمه وبين غيره لوجدنا بهدوء أن المسيح أقرب في صفاته و أفعاله لما هو إلهي أكثر منه لما هو بشري أو فطري. فطري؟ هل أنا قلت "فطري"؟ أستغفر الله! المسيح ليس نبي الفطرة بل هو يتجاوز الفطرة الإنسانية ويعلو بنا إلى المستوى الإلهي الذي هو فيه؛ فليس أبدع جمالاً هنا سوى أن نقف معه على الجبل لنستمع إلى موعظته الشهيرة (إنجيل متى الفصل الخامس إلى السابع) الفطرة تقول: تقفأ لي عيناً وأقفأ لك عيناً! لكن المسيح يقول لنا كلا: لا تنساقوا وراء فطرتكم فهي خادعة فإن فقأت عين أخيك لأنه فقأ عينك فهذا سيخلق لنا مجتمعاً مشوهاً من العميان لأنه انساق وراء فطرته. نحن بحاجة لمسيح إلهي يتسامى بنا في إلهيته على الفطرة وندائها الأرضي الترابي الفاني. المسيحية تدعوك إلى التسامي. نعم، أخلاق المسيح ليست أخلاقاً بشرية عادية وإنما هي أخلاق إلهية. إن أردت أن تكون لك أخلاق الله فلتكن لك أخلاق المسيح. جميع الأنبياء استغفروا الله على خطاياهم وأما المسيح فهو الوحيد الذي لا نجد له لا في القرآن ولا في الإنجيل المقدس استغفارًا على خطيئة. الذي لا نجد ذكر لاستغفاره الله على خطايا معينة. لا بل نجده يتحدى خصومه قائلا: من منكم يبكتني على خطية؟ ولم يأت رد جسور يورد عليه إثمًا أو يسجل عليه خطيئة. إذن، كلمة الله ليس مجرد نبي من الأنبياء بل هو أكبر بكثير من مجرد نبي عادي من الأنبياء. إنه كلمة الله المعصوم من الخطيئة، وما أسعدي بك أيها المسيح المنفرد في كل شيء!
الله مقتدر فعّال لما يريد، وكلمته مقتدرة فاعلة أيضًا وتحمل سلطانًا هو سلطان "كلمة الله". الله يخلق ولكن كيف يخلق؟ يخلق بكلمته الأزلية الحاضرة معه منذ البدء. الكلمة هي عامل الخلق والاقتدار عند الله الآب وهي صلاحيات قد أوكلها كذلك إلى كلمته "المسيح" إذ أعطاهُ كل سلطان على السماء والأرض لكي تجثو باسم المسيح كل ركبة على الأرض. هذه هي صلاحيات كلمة الله الكائنة من قبل الأزل.
يقول كتاب الله إنَّ "كلمة الله قد صارت إلى هوشع". لاحظ معي تعبير "صارت إلى" وهو تعبير عبراني دقيق היה. إذا صارت كلمة الله إلى نبي من الأنبياء فالإشارة هنا إلى حدث يحدث إذ هو فعلٌ مفعمٌ بالحركة لا مجرد كلمة تُقال والسلام. وهي أيضًا ليست مجرد نصوص تجترها أذهان الحفاظ بل هنا هي "حدث" ديناميكي يحدث كله طاقة وله فعله الفاعل. في الأحوال العادية الكلمة "تقال" ولكن في التوراة الكلمة لا تُقال فحسب وإنما هي "تحدث" و"تصير" وبسببها تؤول الأمور من حالٍ إلى حال. إنها في حالة صيرورة. ومن هنا يستقبل الأنبياء والبشر كلمة الله التي تحصل معهم فإذ بها فعل مقتدر يقلب حياتهم رأسًا على عقب. ينتج عن تلك الكلمة الحادثة بل والصائرة حدوث تغيير جذري في حياة الناس الذين يستقبلونها فيمس هذا صميم حياتهم للأفضل. والمسيح كلمة الله له تأثير فاعل بفعله في حياتنا اليوم.
هل صارت إليك كلمة الرب اليوم؟ هل أتتك أنت كلمة الرب اليوم؟
هل "حدثت" معك كلمة الرب اليوم؟ صارت إليك أم أنك قد استظهرتها في ذهنك بالحفظ كأحد النصوص المقررة عليك في المدرسة؟ تكرار واجترار معلومات أم قوة فاعلة تغيرك وتقلب حياتك رأسًا على عقب؟
هل جاءك المسيح، بعبارة أخرى؟
الكلمة تصير، أي تحصل، أي تأتي إتيانا وتتحرك بطاقة جبارة لتفعل فعلها الجبار في حياة من يستقبلها وتستقر في أعماقه/ أعماقها. لذلك قال القرآن بعبارة: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية). إذن، كلمة ربنا ليست كلمة تلقى جزافًا أو مجرد (كلام طاير في الهوا) بل هي نافذة وتفعل باقتدار العمل الإلهي حسب قصد الآب الذي أرسل مسيحه الكلمة إلى عالمنا في ملء الزمان بهدف أن يهبه ملء الحياة الإلهية أو "الخلاص" بعبارة أخرى فيخلصه من عبودية الأنا وأسقام النفس. أسقام نفسي لا تشفيها أعمالي الصالحة، يا ربُ؛ ومهما تجملت بأي عملٍ من الأعمال الصالحة وعلى كثرتها، وإنما ما يشفي سقم نفسي هو أن يرسل الله فيلقيها في قلبي، وهذا بحق هو النور الذي يلقيه الله في القلب الطالب وجهه الكريم والباحث عنه دون كلل؛ فيروي عطش المرأة السامرية عند البئر، وينظر للمرأة التي أمسكت في ذات الفعل متلبسة بخطيئتها ويقول لها إن خطاياها مغفورة لأن العين هنا قد وقعت على العين أي عين المسيح الثاقبة على عين القلب الخاطيء التائب.
أسمع البعض منكم يتساءل في حيرة: ألا تقودني أفكار كهذه إلى الشرك بالله؟ وجوابي هو أني إبراهيم عرفات أشرك بالله في المحبة، وبدون هذه الشراكة أموت. إما العزلة عن الله ويبقى الله قابعًا في سماءه أو أن أأنس بحياة الشراكة الإلهية فأنعم باتحادي به. الشِرك هنا شركة وشراكة محبة. لا خوف في المحبة إن كانت محبة مؤصلة في المسيح لأن الخوف والمحبة لا يجتمعان في قلبٍ واحد. ربي لي وأنا له. بطلان الشركة مع الله سيفضي بنا إلى الانعزال ويبقى الله وكأنه دكتاتور قابع في سمائه جالس على الكرسي ينزل المطر من علياء كبريائه؛ وله عن اليمين حدائق وعن اليسار حرائق ويتلذذ بالنرجسية وما هذا أبدًا الإله الذي يعرضه علينا المسيح في الإنجيل. الله بعظمته وقدرته يدخل في حياة المؤمن ويسكن في قلبه بروحه القدوس ويتحد بهذا المؤمن ويشركه فيما له بما أنه سبق وقد أخذ من الإنسان إنسانيته لكي يخاطب بها الإنسان ويقيم جسر الحوار. الشرك في المحبة توحيد بل وقمة التوحيد إذ هو توحيد يقتضي الاتحاد لا أن ينعزل الله عن الإنسان.
المصدر:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=238665