18 يناير

رأيناه معا والمطر يتساقط قطرات صغيرة , كان جالسا القرفصاء في ( حرم الترام) بلحيته الكثاء وجلبابه الرث المشقوق الصدر , يولي ظهره للسلك الذي يفصله عن طريق السيارات , في جلسته القرفصاء كان جلبابه يرتفع عن ساقيه , رأينا معا عورته المخففة والمغلظة , بين يديه ورقة يفرك فيها أعقاب السجائر التي جمعها في كومة صغيرة بجواره , التفتتْ عن الشباك وأغضت إلي الأرض وهي تضرب جبهتها بيدها وتكتم ضحكتها , أما أنا فظلت عيني عليه والترام يبتعد , تلك كانت هي المرة الثانية التي أري فيها عورته , محطتنا كانت هي المحطة التالية , نزلنا , سبقتني إلي آخر الرصيف حيث استندت علي الحاجز الحديدي برأسها الملفوفة بين ذراعيها , ظللت واقفا بجوارها حتي رفعت رأسها , رأيت في عينيها بقايا دموع, لم أعرف أن كانت دموع ضحك أم دموع حزن .

تدون بيدها اليمني المحاضرة وأنا أدون بيدي اليسري الشعارات , أخذت أداعب بيدي اليمني أصابع يدها اليسري - التي تركتها لي - تحت طاولة المدرج الأخيرة ولا أحد بجانبنا أخلع الخاتم من أصبعها البنصر وأضعه في الخنصر ثم أعيد خلعه وأضعه في الوسطي فلا يدخل إلا الأنملة , أحاول دفعه فتزوم متألمة وتدق الأرض بقدمها دقا خفيفا , أخلعه وأضعه في السبابة فينزلق , تميل علي الطاولة مبتسمة وتغمز لي بعينها , سمعنا اللغط بالخارج ودقا عنيفا علي باب المدرج خلفنا , رأينا الأستاذ يشير بيده لنا تحديدا طالبا ألا نفتح الباب , استمر في المحاضرة والطلبة يلتفتون للخلف ومنهم من يحاول القيام والأستاذ يشير لهم بالجلوس : أنتم في السنة النهائية وتحتاجون لكل درجة , استمر اللغط بالخارج مدة ثم هدأ , قالت في بطء : يبدو أنهم تحركوا , لن أشترك معهم , سأستقل قطار الواحدة , خلعتُ الخاتم من أصبعها ووضعته بأصبعي السبابة فضحت ضحكة خفيفة وقالت هامسة : حتي لو أخذت القرط أيضا , ثم ألصقت خدها بالطاولة ورنت إلي هامسة : عذري الشرعي هاجمني في الصباح , ثم غمزت بعينها مرة أخري فضربت خدي بيدي , رن جرس الاستراحة , لم يتحرك الأستاذ وظل يكمل المحاضرة أخذنا نتململ وهو يشير لنا بالجلوس , بدأ الدق علي باب المدرج والضجة يتزايدان , عندما دخل أستاذ المحاضرة الأخيرة قام الأول وسلم عليه وخرج , ظل واقفا وقال : لن أمنع أحدا من الخروج , هرعنا جميعا للخارج من باب الأساتذة .

معا , وجدناهم متجمعين أمام المدرج من الخارج , عرفنا سبب تمسكهم بخروجنا , كان عددهم قليلا , أخذوا في لومنا لعدم الخروج فورا , همست لصِدّيق الذي ينظر في ساعته في قلق وأنا أمد يدي بورقة الشعارات : سوف نروح , إنها متعبة , صاح : جبناء جبناء , وأخذ الورقة ومزقها : أنت شاعر أنت ؟! , إياك أن أسمعك تلقي شعرا أمامي , نظرتُ إليها ضاحكا , فأومأت إلي باب الكلية , رأيته يقف هناك علي مبعدة ينظر إلي جمعنا في دهشة وهو يدور برأسه يمنة ويسرة , عندما خرجنا من الباب وجدته يتباعد هناك كما لو كان يفسح الطريق لنا حتي وصل إلي الجانب الأيسر من طريق ( الترام ) , حاذينا طريق ( الترام ) الأيمن و سرنا في صمت , كنا متناثرين قدر ما يمكننا لكي يبدو عددنا أكبر , عند محطة ( الترام ) التالية رأينا كلية الطب تكاد تكون مقفرة , بدأنا نهتف لعل أحدا يخرج لنا , أطل البعض من الموظفين من الشبابيك , ورأيته علي الجانب الآخر ينظر في اتجاه باب الكلية ويلوح بيديه في غضب , تحركنا وقد سخن الجمع من الهتاف حتي وصلنا إلي مسجد القائد إبراهيم , رأيتهم يخرجون من الحديقة المجاورة بعدد كبير وينضمون لنا بينما هو في الجانب الآخر يلوح بذراعيه مهتاجا , ظللنا نردد الهتاف وقد سخنت المظاهرة , ضغطتُ علي يدها وقلت لها : يمكنك الانسلال من شارع مستشفي الجامعة الجانبي , أومأت لي بوجهها فرأيته ملتصقا بالجدار في أول الشارع يخفي نصفه به , قلت لها : لا عليك , أنا أعرفه إنه مسالم , قالت : لست خائفة منه , أريد أن أكمل , بدأ الهتاف يختلف عن ذي قبل عندما اعتلي الأعناق من كانوا عند الحديقة وأمام ساحة المسجد ( يا حكامنا من عابدين , فين الحق وفين الدين ) , عندما تجاوزنا ساحة المسجد في طريق ( الترام ) , هبت ريح باردة خفيفة من البحر فالتصقت بي وجسدها يرتعش , رأيت شظايا الزجاج علي الرصيف , قالت : ربما من آثار الصباح , سمعنا هتافا عاليا علي البعد مددنا قاماتنا ننظر , رأينا جمعا كثيفا عند ساحة محطة الرمل وكأنه ينتظرنا ( إحنا الطلبة مع العمال ضد تحالف رأس المال , إحنا الطلبة مع العمال ضد الظلم والاستغلال ) , اختلط الهتاف بالهتاف حتي وصلنا , كان شارع سعد زغلول مغلقا من عند تقاطع شارع النبي دانيال أمام البن البرازيلي بالجنود و وبقايا الطلقات الدخانية في الأرض , آثار النهب واضحة علي الأرض , شظايا الزجاج , بقايا الطعام الفاخر , لعبة مكسورة , رائحة الدخان مازالت تشبع الفضاء ولم تفلح الريح الآتية من البحر في كشفها , رأيته في المساحة الخالية من شارع سعد زغلول يدور حول نفسه في جنون ويرفع جلبابه الرث فتبدو ساقاه الرفيعتان ثم يقع علي الأرض ويتمرغ ثم يقوم ويعاود الدوران حول نفسه , لا أحد يراقبه سوي الجنود الواقفين علي البعد .

تذكرته مرة في المساء في شارع سعد زغلول , عند مكان الجنود ,كنت خارجا من مركز الكتاب , رأيته يعبر الشارع قادما من عند البن البرازيلي في اتجاه ( كوان دور) , كان عاريا كما ولدته أمه , يعبر الطريق في تمهل ولا يهتم للسيارات التي توقفت بغتة وتركت له الطريق , كل الشارع رجالا ونساء وأطفالا , توقفوا عن كل شئ وراحوا ينظرون , وقف في منتصف الشارع أمام السيارات ورفع وجهه و ذراعيه إلي السماء وكأنه يشتكي لخالقه , أسرعوا إليه و كل يحاول أن يستر عريه وهو يتملص منهم غاضبا حتي تمكنوا منه وأوقعوه أرضا و وستروا عريه وحملوه ووضعوه علي الرصيف بجوار شرطي المرور .

انعطفنا في شارع صفية زغلول الذي صار ملكنا تماما اعتلت رؤوس أخري الأعناق ( يا حرية فينك فينك , حزب الوِسط ما بيني وبينك ) , عند تقاطع السلطان حسين مع سعد زغلول رأيت الجنود يسدون الشارع عند تقاطع النبي دانيال علي البعد , قالت: لا يهمهم سوي البنوك وليذهب الباقي إلي الجحيم , قلت لها : المعبد اليهودي والجوزات أيضا هناك , قالت : بكلمات قليلة يستطيعون فك الأزمة , عندما وصلنا إلي (سينما مترو) أمسكت بيدي المثلوجة فسري دفء يديها إلي جسدي , كانت آثار الزجاج تتلألأ علي الرصيف علي الجانبين أمام (سانتا لوتشيا) و( إيليت) والبقايا متناثرة , (يا أمريكا لمي فلوسك بكره الشعب العربي يدوسك ) , موظفو المقر الفرعي لأخبار اليوم ومراسلوه كانوا ينظرون من أعلي عبر الزجاج وفجأة انطلق الهتاف , ( يسقط السادات , يسقط السادات ) , حاول بعضهم حصبهم ولكن أيديا أمسكت بالأيدي الصاعدة بينما كان واحد فوق الأعناق يمزق رغيفا من الخبز ويلوك جزءا منه ( عايزين حكومة حرة , العيشة بقت مرة ) وعلا التصفيق مع الهتاف , همي المطر فجأة في شدة , رفعت حقيبتها أعلي رأسها وأسندتها علي كعكتها الغليظة , لم تتأثر المظاهرة بمن هرعوا إلي الرصيف علي الجانبين وظل الهتاف مشتعلا , كانت الساعة قد قاربت السادسة وعرفنا أن الأحكام العرفية قد فرضت من الهمس الدائر , قلت لها : فرصتك الأخيرة عندما ننحدر في طريق الحرية , غمغمت : للنهاية , أريد أن أعرف النهاية , انعطفنا في طريق الحرية إلي المحافظة .

عندما لاح الطريق الجانبي الصاعد إلي كوم الدكة تذكرته مرة وأنا هابط منه في الصباح كان مقعيا أمام القمامة ينبش فيها ويزدرد ما تطاله أصابعه في سرعة وكأنه يخاف أن يضبطه أحد فينهره ,استغربت منه هذا الفعل فقد كنت كثيرا ما أراه يمد يده أمام أي مطعم فيمدون اليد له برغيف الخبز, عبثت بجيبي وأخرجت قطعة العشرة قروش الوحيدة ومددت يدي له بها , فهالني أنه قام ونظر إليّ في توجس وتراجع للخلف واحتمي بيديه مني كأنه خائف أن أضربه , ظلت يدي ممدودة بالقطعة دون جدوي , عندما يئست منه أخرجت علبة السجائر ومددت له يدي بواحدة , نظر لي بعينيه الواسعتين فابتسمت له وهززت له يدي بها , نظر جانبا متحيرا ثم مد يده الملوثة وأخذها وهو مازال يشيح بوجهه .

كان الجنود في الأعلي أمام أبواب المحافظة والبرد يفترسهم , أضواء قليلة تلوح بأعلي ولا أحد هناك , ( عايزين حكومة حرة , العيشة بقت مرة ) ظل الهتاف يدوي لنصف ساعة , بدأ المطر ينهمر بعنف , بدأنا نتفرق وكل يحتمي بالجدران , التصق جسدانا ونحن عائدان أدراجنا , قالت : كان يجب أن أحضر الشمسية , قلت : هانت , خطوتان ونكون في المحطة , دخلنا في طريق جانبي صاعد إلي كوم الدكة , الشارع مظلم في معظمه إلا من أضواء خفيفة , وفجأة توقفت وهي تشهق في عنف , نظرت حيث تسمرت عيناها , رأيته واقفا ملتصقا بالجدار بظهره ممسكا جبينه بيده , أمسكت أسفل بطنها في ألم , اقتربتُ منه , رأيت الدم يسيل من جبينه , مددت يدي أزيح يده عن موضع الجرح فاستكان لي كطفل وهو ينظر في حيرة ليده المخضبة بالدم , أخرجت المنديل من حقيبتها وناولته لي فمسحت الدم عن جبينه , قلت لها : لا شئ , يبدو أنه اصطدم بالجدار , قالت : هل أنت متأكد ؟ قلت : تعالي بنفسك وانظري , قلت لك أنه مسالم , اقتربت منه , رنا لها بعينيه السوداوين الواسعتين وأفتر فمه عن أسنانه وهو يبتسم لها , لمست جبينه تعاين الجرح فارتعد جسده لثانية , ظلت تنظر إليه تتأمل ملامحه من هذا القرب وهو ينظر إلي طريق الحرية حيث الجموع عائدة تحتمي من المطر , وجدتها تنتحي جانبا وتجهش بالبكاء .

Revolutionary Etude

أحمد عبد الهادي

كوكو