كيف أسهم نظام البنوك في الأزمة الاقتصادية العالمية؟!
وتبدأ أزمة السّيولة عندما يكون اللاّعبين الأساسيّين في الاقتصاد في تفعيل وجود الدّين عن طريق الائتمان, فأزمة الاقتصاد بشكل عامّ هيَ أزمة في السّيولة تؤثّر على اللاّعبين الأساسيّين، فإذا تأخّر المدين لدفع الدّين للدّائن فإنّ الدّائن يصدر مؤمّنات على أخذ الدّين، والخطر هو استمراريّة التّجارة مع وجود أزمة في السّيولة, فإنّ ذلك يؤدّي إلى تأخير الإفلاس المحقّق، وذلك بدوره يزيد الخسائر أضعاف مضاعفة
تعصف بالعالم هذه الأيام أزمة لعلّ العالم لم يشهد لها مثيلاً حتّى إنّ كثيراً من المنظرين والمبهورين والمدافعين وحتّى المعادين للنّظام الرّأسماليّ مذهولون أمام هذه الأرقام الخياليّة والحدث العالميّ الّذي سوف يعتبر تأريخاً في سجلّ الرّأسماليّة المليء بالمساوئ والأزمات. والواضح أنّ هذه المشكلة لم تكن وليدة سنة أو سنتين وإنّما هي آتية من تراكم آت من عجز المبدأ عن حلّ المشكلة الأصليّة ولجوئه إلى حلول مرحليّة وآليّات ملتوية زادت الطّين بلّة. فنظام البنوك على سبيل المثال أسهم بشكل فعّال في هذه الأزمة؟ فمن أين جاءت البنوك؟ وكيف أخذت شكلها الحالي؟
لقد نشأت فكرة البنوك بعد أن كانت هناك مخازن تودع النّاس النّقود (الذّهب) فيها، وبموجبها يمنح المودع شهادات إيداع باسمه يكون ختم المخزن عليها, فعندما يريد المودع أن يشتري شيئاً ما (على سبيل المثال طعاماً من السمان) فإنّه يذهب إلى المخزن ثمّ يعطي صاحب المخزن شهادة الإيداع فيستردّ دينه من صاحب المخزن ثم يرجع ليشتري طعاماً. لكن كان هناك من النّاس من يصعب عليه أن يذهب كلّ مرّة إلى صاحب المخزن ليستردّ منه الذّهب إذا أراد أن يشتري شيئاً, ففكّر أصحاب المخازن بإعطاء شهادات تدفع لحامل الشّهادة لتسهيل البيع والشّراء لكي لا يذهب صاحب الشهادة الأصلي إلى المخازن في كل مرة. وعندما يسحب حامل الشّهادة كمّاً من المال (وهو في هذه الحالة ليس المالك الأصليّ) فإنّه يخصم هذا الكمّ من حساب صاحب الشّهادة الأصليّ.
وبعد فترة من استخدام هذا الأسلوب لاحظ أصحاب المخازن أمراً مهماً وهو وجود مال كثير وسحب مال قليل, إلاّ أنّ ذلك كان من صالح المودعين الّذين فضّلوا حمل شهادات لانشغالهم بدلاً من الذّهاب للمخازن كلّ مرّة وطلب جزء من المال لصرفه, فكانت هذه الشّهادات بمثابة القيمة للاحتياطيّ المصرفيّ. فأصبح الكثير من الذّهب في أيدي أصحاب هذه المخازن, فمن أجل الحفاظ على هذه الثّروة الّتي لم تكلّفهم أيّ عناء, قام أصحاب المخازن بالاتصال بالساسة لأجل إقناعهم بأن وجود مثل هذه المعاملة أفضل؛ لأن المال يكون بأيدي جماعة متخصصة تحافظ على الذهب في حال حصول كوارث بدل أن يكون في أيدي العامّة؛ ومن هنا نشأت فكرة البنك المركزيّ سنة 1913م في عهد ولسون, فصار من الممكن أخذ هذه الأوراق والمطالبة بما تتضمنه هذه الورقة من ذهب. ابتداء كانت الحكومة الفدراليّة هي المسؤولة عن هذا الأمر, وكلّما احتاجت الدّولة سداد الدّيون اضطرّت إلى إصدار (الآي أو يوز) بدون أن يكون هناك غطاء من الذّهب. إلاّ أنّه لوجود مديونيّة عند الدّولة من النّاس ومن الدّول الأخرى احتاج السّاسة إلى جهة لاقتراض المال فلجؤوا إلى إيجاد نظام الاحتياط الفدراليّ،
والّذي أنشئ أصلاً لتأجيل إخبار النّاس بأنّ الحكومة مفلسة, ولأنّ القانون يسمح للحكومة بأن تأخذ قروضاً من القطاع الخاصّ، فإنّ الاحتياطيّ الفدراليّ يحقّق هذا الغرض, وبناء على هذا المنوال قامت فكرة البنوك. وأصبحت البنوك تلعب دوراً مهماً في أسواق الأسهم والرّهن العقاريّ وتبادل الائتمان الافتراضي.
دور البنوك في أزمة الرّهن العقاريّ:
تعتبر البنوك غالباً الطّرف الأساسيّ في عقود الرّهن العقاريّ؛ لأنّ البنك يكون هو الدّائن، ويقدّم تسهيلات لأجل تشجيع النّاس على هذه العقود ومنها شراء البيوت.
ومفهوم الرّهن العقاريّ آت من كلمة (مورت كيج) والّتي تعني بالفرنسيّة العهد الميّت، أي العهد ينتهي إمّا بسداد الدّين كاملاً بالوقت المحدّد أو بانتقال العقار للدّائن.
ولتعريف الرّهن العقاريّ فإنّه قرض مؤمّن بعقار حقيقيّ عن طريق استخدام قرض الرّهن العقاريّ، وغالباً ما يكون البنك هو المقرض.
وهو وعد إعطاء عقار للمقرض كأمان مقابل قرض, والرّهن العقاريّ ليس ديْناً وإنّما دليل على وجوده, وينتهي التّعهّد إمّا بدفع المال بالكامل أو بأخذ العقار.
على سبيل المثال:
إذا أراد أحد أن يشتري بيتاً وكان سعره مائة ألف دولار فإنّ المقترض يقترض مبلغ مائة ألف ويدفع فائدة بنسبة 5%، وعليه أن يدفع دفعة أولى في البنك ثمّ يدفع مبلغاً مخصّصاً مع الفائدة، وقد تتغيّر هذه الفائدة بحسب قوانين البنك، فالفائدة غير ثابتة, ونظراً للتسهيلات التي قدّمت قام الكثير من النّاس بشراء عقارات. وعندما كان يصعب على البعض التّسديد بالوقت المحدّد كانت تقدّم هناك تسهيلات من بنوك أخرى مع زيادة الفائدة، أمّا إن لم يستطع المقترض الدّفع بالوقت المحدّد فإنّ البنك ينقل ملكيّة العقار إليه بحسب القانون. والظّاهر أنّ تفادي المشكلة أصبح غير ممكن, فأصبح الفرد غير قادر على دفع الدّيون.
وهناك عوامل أخرى هزّت ثقة المستثمرين بهذه البنوك ممّا أدّى إلى سحب الأموال و قلّة السّيولة فظهرت الأزمة.
ومن العوامل الأخرى تبادل الائتمان الافتراضي والتي تعتبر من الأسباب الرّئيسة في الاضطراب في الأسواق الماليّة، والّتي تؤمّن المدينين في حال حصول مشاكل في الدّفع أو إعلان الإفلاس، حيث تتدخّل خلالها المحكمة وتتمّ مفاوضات حول المال الّذي يستطيع أن يدفعه والفترة الزّمنيّة للدّفع، وقد كان يقدّم للمستثمرين أماناً بمثل هذه المعاملات، فيجد المستثمر أنّه يخسر بمثل هذه المعاملات، فبدأت الثّقة تهتزّ، فأصبح المستثمر يسحب ماله. وعلى سبيل المثال: إذا استدانت شركة من البنك لأجل إنشاء شركة تجارة نقّال، فإنّها تحاول أن تقنع البنك بأنّ الاستثمار مربح، فيدرس البنك هذه الحالة ويوافق عليها إن اقتنع بأرباحها، فتأخذ الشّركة القرض, عندما تأتي الشّركة لتبيع موادّها قد تنافسها شركات أخرى، وقد يكون هناك ديون على عملائها وتريد أن تدفع لمستخدميها فتحتاج إلى السيولة, فتضطرّ الشّركة إلى بيع نقّالاتها بسعر خسارة على أن يكون نقداً لسدّ حاجة السّيولة، فتشتري النّقّالات من الشّركات الكبرى بسعر عال وتبيعه إلى المستهلك بسعر رخيص لأنّها تريد السّيولة. فلو أنّ الشّركة من البداية وجدت أنّ تجارتها غير مربحة وأعلنت إفلاسها لكان حجم الخسائر أقلّ, وبعد وجود هذه الخسائر الكبيرة على الشّركة الّتي استدانت من البنك القرض فإنّها تعلن إفلاسها.
إن حصول الكثير من هذه العقود يجعل المستثمرين يشكّون في جدوى إيداع المال في البنوك. فاستدعى ذلك أن تتدخّل الدّولة لحلّ تلك المشاكل، فوجدت الدّولة أن هناك عاملاً آخر أصبح يعقّد المشكلة، وهو أنّ البنوك توقّفت عن إقراض بعضها البعض، لأنّ البنوك تعتمد على استدانة المال بدل إقراض المال للتّجارة.
فوجدنا أنّ بريطانيا وأميركا قد تصرّفتا بالأموال العامّة لزيادة السّيولة لتضغط على البنوك من أجل أن تقرض البنوك بعضها البعض، نتيجة لذلك قامت المركزيّة بتبديل (الآي أو يوز) والّتي تعتبر 100% ضماناً في عيون الشّركات المقرضة بالدّيون السّيّئة الّتي كانت تحملها هذه البنوك، لكنّ ذلك لم يكن ناجعاً. البنوك أخذت (الآي أو يوز) ممّا جعل المشكلة ليست بالسّيولة وإنّما بالتّعسّر؛ وبذلك فشل هذا الأسلوب فلم ينفع، ممّا أدّى أنّ بنك نورذرن روك وبيرسترنز أنقذوا من قبل حكوماتهم. فالحكومة أعطت ملايين (الآي أو يوز). فبإنقاذ البنكين أعطي مؤشّر أنّ البنوك ستنقذ من قبل الدّولة.
والواقع أنّ هذا الأمر يسبّب مشاكل للحكومة في المال العامّ وبالتّالي فإنّه يؤدّي إلى الخطر, وهذا جعل الولايات المتّحدة تترك لمانز ينهار. فأوجدت بلبلة أخرى بعد أن كان التّصوّر عند البنوك والنّاس أنّ الدّولة ستتدخّل لإنقاذ البنوك المهدّدة بالانهيار. هذه البلبلة جعلت الأمر غير واضح، وما إذا كان هناك خطّة واضحة عند الدّولة أم لا, وأيّ البنوك ستنقذها الدّولة وأيّها ستتركه ينهار, هذا بدوره هزّ الثّقة بالبنوك وجعل الأسهم تنهار. وبنزول الأسهم قلّت السّيولة وتعسّرت بعض البنوك, هذه البنوك كانت تعتمد على الأسهم والسّندات، والبنوك تحتاج لذلك لتنقذ ولأجل إعادة رأسملتها.
باختصار أوراق الميزانيّة تحتاج إلى جرعة جديدة لرأسمال حقيقيّ لترى أنّها تجارة حيّة، وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على السّيولة.
وتبدأ أزمة السّيولة عندما يكون اللاّعبين الأساسيّين في الاقتصاد في تفعيل وجود الدّين عن طريق الائتمان, فأزمة الاقتصاد بشكل عامّ هيَ أزمة في السّيولة تؤثّر على اللاّعبين الأساسيّين، فإذا تأخّر المدين لدفع الدّين للدّائن فإنّ الدّائن يصدر مؤمّنات على أخذ الدّين، والخطر هو استمراريّة التّجارة مع وجود أزمة في السّيولة, فإنّ ذلك يؤدّي إلى تأخير الإفلاس المحقّق، وذلك بدوره يزيد الخسائر أضعاف مضاعفة. وفي حال وجود أزمة السّيولة فإنّ المستثمرين ينظرون هل يجب ضخّ السّيولة أم لا، وفي هذه الحالة يكون البنك عادة هو الّذي يدرس وضع المدين سواء شركة أم فرداً.
فبعد هذه الدّراسة عن قرب لما يحصل في البنوك والتّعاملات مع النّاس, فإننا لو نظرنا إلى الصّورة بمنظار أبعد لنرى الصّورة كاملة؛ لوجدنا أنّ دولة مثل أميركا ليس غريباً أن تغرق في بحر من الدّيون, فالتّعاملات فيها قائمة على أساس الاقتراض، وأموال المستثمرين، والاتّكال على ربط العملات الأخرى بالدّولار، واستبدال النّفط كاحتياطيّ, فتقدّر صادرات أميركا 14 تريليون في2007م,
ولقد بلغ الدّين القوميّ وهو عبارة عن المال الّذي استدانته الحكومة الفيدراليّة والحكومة المركزيّة من النّاس والعالم حتّى وصل 10 تريليون، وبما أنّ طبيعة الشّعب الأميركيّ أنّه مستورد وشره وصلت ديون الاستهلاك إلى 11 تريليون، ووصلت ديون الشّركات الأميركيّة إلى 18,5 تريليون, الأمر الذي جعل الولايات المتّحدة مدينة بـ40 تريليون أي ما يعادل 34% ما ينتجه العالم.
فإذا وصلت ديون الحكومة الأميركيّة إلى هذا الحدّ،
فإنّ ثقة النّاس بأنّ الحكومة الأميركيّة ستدفع الدّيون لن يكون وارداً، بل إنّ هذه الشّعوب سوف تطالب بإرجاع ديونها وصبّ جام غضبها على الحكومة الأميركيّة ونظامها. إن مفاهيم الاستهلاك والجشع عمّقت هذا النّقص، والسّياسة الاقتصاديّة الأميركيّة أضعفت الصّناعة والقاعدة الصّناعيّة، وهذا أدّى إلى عجز أميركا، وقد يجعل أميركا معتمدة على الصّين والهند وروسيا لأجل تحصيل بضائع رخيصة لحفظ التّضخّم المحلّي تحت السّيطرة.
فحرب أميركا على العراق وأفغانستان تكلّفها تريليون كلّ سنة, وهذا يجعل 1700 مليار لإنقاذ الاقتصاد الأميركيّ غير ناجع. وأميركا أصلاً لم تنتصر في العراق وأفغانستان, فهل هذا يجعل التّكهّنات الأميركيّة بالتعافي من الأزمة خلال ما لا يزيد عن ثلاثين سنة أمراً منطقيّاً؟
وللعلم فإن 44% من ديون أميركا هي لليابان والصّين، بينما 66% لكيانات أجنبيّة.