دلتني العزيزة / هالة
علي هذا الشاعر الذي لم أقرأه قبلا
سأضع هنا ما أجده من قصائده , لعل الوقت يسمح بدراسة هذه الأعمال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعدد الأصوات في القصيدة
قصيدة النهر
قالني النهر
أم قلتُهُ..
ليتني كنت أدري.
فرج
نهنهتُ هذا الدمع ما يكفي
دماً
وحضنتُ سنبلتي
وكانت لي يدايْ.
نهنهتُهُ..
وملأتُ صمت النهرأسماءً
بغير مسمَّياتْ.
فلمن سأوصي بي
إذا اتسعت خطايْ
وتلهلهتْ سُبلي
وكنت أنا الجهات؟!
* * *
سرَّحتُ أسئلتي
وكان النهرُ فاتحةَ القصائدِ
صافياً كالحزن في الأعراس.
علَّمني البلاغة والغموض
وظلَّ جرحاً ذاهل الإيقاع
منتشياً بما يمضي إليه
من المعاني
واشتقاق الصمت
والجريان.
من ليس نهراً
أين تذهب ضفتاهْ ؟!
من ليس نهراً
كيف يَشْرَحُني:
صغيراً
حافيَ القدمين
منجرِد الطفولةِ
عارياً حتى سريرتهِ
ويسهر مرة ليلين متَّصلين
لكنْ حين يضبطه المعلم
نائماً في الصف
يخجلُ
ثم يشهقُ
ثم يبكي..
هل يقول لهُ:
سهرتُ
لكي أرى إن كان حقاً
لا ينام الله!!
لو أحدٌ يردُّ عليه فَضْلَ بكائهِ
أحدٌ يردُّ عليَّ جرحاً
لا أراهْ.
من ليس نهراً
أين تذهب ضفتاه؟!
ما من قتيلٍ قال لي شيئاً
ولو بالرمز والإيحاء.
فَرْداً..
رحتُ أجترح الوصايا والحقول
ركَزْتُ روحي
فوق رمحٍ
علَّقت أمي عليه لواء وَحدتها:
ستكتب أجملَ الخطوات يا ولدي
وتخطو أبعدَ الكلماتْ.
ما من قتيل ردَّني عن يأسهِ
والنّهرُ..
حتى النّهر غرَّر بي
فولَّهني
وألَّهني
وأشهَدَني على دمهِ
وماتْ.
ـ لا يا صغيري لا يموت النهر..
ـ لكني رأيتُ جنازة الأسماك يا أماه!!
بلى..
ورأيت أشجاراً
وأطفالاً
وآلهةً
تشيِّعها القرى والريح..
ما معنى:
"إله الكيمياء الكلب" يا أستاذ؟!
تنشطر المآذن عن مساجدها
و تشطرني..
نساءٌ ينتهبن الروح
يالعيونهنَّ!!
أما يراها الله؟!
ليس الدمعُ آخرَ ما تقول..
كأنني يا نهر
أجهشَ بي هزيمُ سفوحهنَّ
وقالني جسداً فصيحاً
من أقاصي الشعر والقرآن.
تنشطر الحكايةُ
والظلالُ
وقامتي قوسٌ وقنطرةٌ
وجرحٌ فاغرٌ غدُهُ
وفضَّاح هواهْ.
يا لا إلهَ يردُّ هذا الطفل عن دمهِ
ويمنحه الأمانْ.
يا لا سبيلَ
ولا دليلَ
ولا شهودَ
ولا قضاةْ.
* * *
كنا نرى الأشجار طافحة الأنوثةِ
في سرير النهر..
كان الماءُ ماءً
كانت الأسماك
والبجع الأميرُ
بشاشةُ الرمَّان والتين المشاعييَّن
أحلامُ الصبا
والمرج
والصفصاف.
ـ ما معنى:
"إله الكيمياء الكلب" يا أستاذ؟!
من سرقَ البشارة من فراشتنا
وحمَّلنا مراثي اللون؟!
من جرحَ الغناء
ورشَّ في ناياته البحَّاء ملح
الروح؟!
من فتحَ الطريقَ إلى السماء
بكل هذا اليأس؟!
من جعلَ القتيلَ عقابَ قاتلهِ؟!
لماذا لا يجيب النهر يا أبتي
لماذا لا يجيبْ؟!
* * *
النهرُ غيرُ النهرِ يا ولدي..
يقول أبي
وينهرُ دمعةً في الحلق تفضحُهُ
ويشطؤه الحنينُ.
* * *
كان الرماد
سليلَ حكمته النبيَّةِ..
أيها النهر الذي سينام
مِلءَ الغيب والنسيان
ملء عيوننا
تبكي على البحر الطويل..
كأنه ليل بلا رئتين
هذا الليل
يشهقُ
ثم يشهقُ
ثم تسحبه على النصلِ
الظنونُ.
* * *
أيكون أنَّ خُطايَ تومئ لي
فأتبعها
وأسبقها
وأتركني ورائي؟!
هي ولولاتٌ توقظ الشبق الأخير
وأشتهيها
أشتهي امرأة تخضِّبني
بأقصى الصمت
أقصى الموت
يا أبتي
فليس هناك من لغةٍ تقولُ
ولا تخونُ
* * *
حطَّتْ على كتفي
يدان حمامتان
سمعتُ واحدةً تقول لأختها عني:
حماه اللهْ.
ورأيتُ أني ذاهبٌ أبداً
ولي ظلٌّ كمجرى النهر
يتبعني..
من النبع البعيد
إلى المصبِّ
فلا يؤوب
ولا تدقُّ الأمهاتُ سوى الغياب
ألم تزل أمي
تواصل بالصلاة حصارَ خالقها
وتلهج بانتظاري؟!
قولوا لها
إني يحرِّكني دمي.
وأجرُّ خلفي جثةً
إن لم تكذِّبْني ظنوني
فَهْيَ تشبهني
إلى حدٍّ رهيف الصوت
تشبهني
كمعنى السيف
تشبهني
صدىً فصدىً
لتقرأ ما تيسَّر من ظنون النهر
والوديانْ.
يا ليت يا أماه تأخذني يداكِ
إلى الطفولة مرَّةً أخرى
إذن لعرفتُ
كيف أعيد ترتيب المواعيد الأهمِّ
على مفكِّرة انتحاري.
يا ليت يا أماه يُرجِعني دعاكِ
إلى حليب طفولتي
لتبصِّري لي فيه خاتمتي
ولا يتحطَّم الفنجانْ.
يا ليت يا أماه
يا أماه.
* * *
عشرون زوبعةً
فكيف أخيط روحي؟!
أيُّهذا الزيزفونْ..
كن سياجاً
لغد يأتي على ستِّ رياحٍ
تَردحُ الأرضَ عويلاً
ثم تطويها عواءً جارحاً
ستِّ رياحٍ..
قصفها يهزف حتى الغيب.
لو عمري فلاةٌ هَوْجَلٌ
ما استوحشَتْ نفسي
ولكنَّ الذي يُلْهِد بي
أني طليل اثنين:
أعدائي وأهلي.
* * *
مَنْ غريبانِ ؟
فأُصْفي لهما ودِّي وصمتي
وأسايْ.
مَنْ.. فلا أحفِلُ
إن كنت أنا الشعر الذي
يشهد ضد الموت
أم كان سوايْ.
ليست الأسبابُ شيئاً غيرها.
ليس الطريد سوى الطريد
وليست الشبهاتْ.
ليس البعيدُ
ولا القريبُ
ولا الخليعُ
ولا الجميعُ
وليس قلبي
ليس لي..
وتقودني رؤياي نحو غدٍ
حرائقه تشقُّ جيوبَها
ما بين معرفتي وجهلي.
* * *
عشرون زوبعةً
حنيناً إثرَ حين تستشيط
وتخفق الفلواتُ واللججُ الرجيمةُ
تحت نعلي.
* * *
ليس اليقينُ هو اليقينُ
ولا الطريقُ هو الطريق إذن
ولا هي ما هي الأيامْ.
ليس البكاءُ
ولا الغناءُ
ولا الوجودُ
ولا الفناءُ
وليس شأني.
الرملُ يعصمه السرابُ
فمن سيعصمني؟!
والله يعصمه الغيابُ
وليس لي أماه
ليس الله لي..
فخذي يديَّ ولوِّحي بهما إليَّ
وهادليني.
لم يبقَ من جسر سوى جسدي
وأعرف أنني ماضٍ
وأنك بعدُ لن تستمهليني نجمةً أخرى
ولن تستعجليني.
بلغ السؤالُ سؤالَهُ الأقصى
و أدركني
فما معنى الجوابْ؟!
* * *
لو طعنةٌ تشفي المسافةَ
بين دمعتها وبيني.
طعنةٌ..
أبلغ مما تشتهيه الكلماتْ
علّني أدخل أو أخرج منها
فأرى ما كنتُهُ قبلي
أرى ما بعد موتي.
لا تميلي باتجاه الصمت يا أماه
يكفيني جناحٌ واحدٌ كي لا أطيرْ.
وجناحٌ واحد ينسِلُ منه الريش
يكفيني
ليبقى الشعر مبتلاً بلا معناه
مفتوحاً على أقصى البياضْ.
لم تقلْ غيرَ سحابٍ عاجلٍ
إذ وحدها كانت وكنت أنا جميعي
والقصيدةُ بيننا غيمٌ بعيدْ:
سأراك تمطر يا صغيري ما يشاء الله
تمطر ما يغيب الله عن عيني
وتمطر ما انكشفتَ على الغيابْ.
* * *
أغمدتُ مئذنةً فما.
وسللتُ مئذنةً فما.
وتركتُ مئذنةً يضيء هلالها
كإشارة استفهام.
شرقاً إذن
شرقاً إلى أقصايْ.
غرباً إذن
غرباً إلى أقصايْ.
شرقاً وغرباً والمحالُ إلى محالْ.
حفرَ الصغارُ على جذوع الحور
أسماءً بغير مسمَّياتْ.
فلمن سأوصي بي
إذا اتسعت خطايْ؟!
وتلهلهتْ سُبلي
وكنت أنا الجهاتْ؟!
* * *
جهةٌ.. وحدها
جهةٌ لغةٌ بعدها.
جهةٌ جرَّدتني ثلاثين سيفاً
ثلاثين لي أو عليّْ.
جهةٌ غير مفضيةٍ
كلما زفزفتْ
فوَّضتني إلى جهة غير مفضيةٍ
والجهاتُ الأخيرةُ
لا تفصِحُ امرأتي عن كواكبها
أيَّ شيّْ.
* * *
السلام
على كل ما أضمرتْه عصافيرُ ضحكتها
ذاتَ نهرٍ مضى.
والسلام على ليلكٍ ذاهلٍ
بين عينين حزنهما فوق ما يستطيع
البكاءْ.
كيف لي
أن أبدِّل هذا الغموضَ
بأغمضَ منه؟!
فلا شيء يوضِحُ شيئاً
إذا لم يكنْهُ..
وما من كلامٍ سواءْ.
كيف لي
أيُّهذا الإلهُ الفضيحةُ
هذا الإلهُ الفجيعةُ
هذا المهيضُ
المقوَّضُ
يا شهوةَ الكلمات ولعنتها.
كيف لي والجهاتُ الأخيرةُ
لا تفصِحُ امرأتي عن كواكبها
غير أن قتيلاً وشيكاً
يشابهني
فأنام قليلاً على دمهِ
ريثما أستريح
ولكنه بغتةً سوف يوقظني
وهو يسقط بين يديّْ.
ليتني أستطيع
قراءةَ هذا القتيل الذي
أتوهَّمُهُ..
ليته يتوهَّمُني..
ليتنا (نبكيان) طويلاً طويلاً
على غيرنا
ونردُّ علينا الغطاءْ.
* * *
واهِ يا نخلة البال
يا مُرَّ قهوتنا
يا صباح الصبايا اللواتي انتظرن
على ساحل اليأس
عودتنا.
مَنْ سيقطف هذا الهديل
عن الشرفات
ويرسله معها
إذ تسافر كلَّ مساءٍ
وتتركنا خلف قضبانها
نحسد الميتين على موتهم هكذا..
هكذا في العراءْ.
* * *
ليس من طائرٍ واحدٍ
عاد لي..
يا صباح الصبايا اللواتي انتشرنَ
ظلالاً ظلالاً
على شجر المستحيلْ
وسماء سماءً
على مجد أنقاضنا
من سيوقظ هذي القصيدة
من نومها؟
من يحلُّ ضفائرها
ويمشِّطها يابنات..؟
فقد نتأخرُ
بعضاً من الحزن والأنبياء
ولكننا سنعود
وأكفاننا أشرعةْ.
ونعود
وأشواقنا أجنحةْ.
ونعود..
نعود إليكنَّ ذاتَ قيودٍ
تسيل.
* * *
أمس
فاجأني النهرُ.
هل قال لي:
أطولُ الإنتحارات أعمارنا؟!
ربما..
لم أعد أتذكَّر بالضبط ما قالهُ.
كان مستعجلاً
فتحَ البابَ
أيقظني
ردَّ مرثيتي كي أضيف إليها
قليلاً من الجمرِ
ثم قليلاً من الكفرِ
ثم قليلاً من الحب
والملح
والذكريات
وأختمها بقتيلٍ تأخَّرَ
أكثر مما يريد.
* * *
ـ كأنكَ يا نهرُ لستَ تراني؟!
(تهدَّجَ ماءٌ عميقُ الصدى)
ـ بل أراك.
ـ ولكنني لا أرى
و "الكَلَبْشَاتُ" تنهش حتى المعاني
البعيدة للروح..
غيري أنا الآن
غيري تماماً.
ـ تظنُّ وتهذي.
ـ لعلَّك لم تنتبه لثيابي
وقد شلشلتْها دماءُ كثيرين من
أصدقائي.
ـ أضفْ كلَّ هذا غداً
ـ دُلَّني كيف؟!
ـ أنتَ الدليل الذي
سوف يرسم مجراي من بعدُ
لا تتردَّدْ .. ولا تلتفتْ
( كاد يجهش بي
وهو يُردِف منسحباً ):
تستحقُّ العيونُ الكحيلةُ
أغنيتين..
نحبُّ بواحدةٍ موتَنا
وبأخرى نحبُّ الحياة.
* * *
واهِ يا وردة الحلم
يا لغتي الداميةْ.
من يرتِّب لي جسدي
من يوسِّدني نهرَهُ
من يرتِّلهُ
مرةً ثانيةْ؟!
* * *
ـ أتضيف شيئاً؟
ـ لا
ـ إذن خذ ما تبقَّى منك
للذكرى
فإن المرء ينسى.
* * *
ما في يدي وَدَعٌ لأضرب ما وراء
الغيب.
ما في يدي غيري
فما معنى اعتذاري؟
ليس الجنون سوى الوقوف
على شفا الصحو النهائيِّ
الجسور.
وتلك خطوتُنا الحريقُ
ألم أكن كفءاً لهاويتي
وملءَ غيابها؟
فعلام لاتصلُ القيودُ
إلى المدى الأقصى
وتتركني
لأقفز باختياري؟!
* * *
النجمُ
يقرأ في كتاب الليلْ
والليلُ
يحفظ درسه وينامْ.
مذ خضَّبوا بدمي
صهيلَ الخيلْ
دقَّتْ بجرني حزنها الأيامْ.
* * *
ماذا أخبِّئ في ثيابي بعدُ يا أماه؟!
شقَّتني القصيدةُ
فاشتعلتُ لها
كما لا تستطيع الريحُ في القصب البعيد
ولا نشيجُ البرق
والظلمات
والأمطار
شقَّتني القصيدةُ ضِفَّتين
فما اتكأتُ عليهما
إلا لنهرٍ عابرٍ بجنازتيه
ولا وصلتُ إليهما
إلا مقامَ صبا
على درج الحمامْ.
* * *
ـ أتضيف شيئاً
ـ لا.
ـ إذن خذ ما تبقى منك
للذكرى
فإن المرء ينسى.
* * *
يأسي..
فما يصِفون؟!
ودمي وأسئلتي
ومن ذهبوا
وخلُّوا عندنا أسماءهم
لنكون ما سنكونْ.
يا سائق الأظعان
لو سألوا
قل: إنها السبلُ.
غدنا على مرمى ضحاياهُ
و إنَّا ضالعون به
إلى الشفق الأخير
وضالعون بهِ
إلى المطر الأخير.
مازال يتَّسع الزمان
لما سيأتي
فالرؤى زرقاء
و الشطآنُ بِكرٌ
و السُرى ميمونْ.
يا سائق الأظعان لو سألوا:
حتَّامَ نرتحلُ؟!
قل: ما تنوح على
أقدامنا السبلُ.
* * *
كأسي..
وقد شرقِتْ بها حتى النبوَّةُ
واستقال الله
من أسمائه الحسنى
وأولمت الطغاةُ على خرابْ.
ما هَمَّ يا أماه أني
مزَّقتْ جلدي سياطهمو
وأني وهوهتْ روحي
إلى أن لم تعدْ أرضٌ تطيق
ولا سماءْ.
كانت يداكِ تلوِّحان
وكنت منحنياً
بأغلالي على الأطياف
أحميها
وتخذلني يداي.
حاولت يا أماه
لكني عجزت عن الهزيمة والسقوط
ولم أصِلْ موتي
يئستُ من الذهاب إليه
وهو يروغ
كانت رخوةً تحتي خطوط
الأفْق
كنت أميلُ متكئاً عليَّ
فلا أراني
لا أرى بيني وبين دمي
سوايْ.
هل تستطيع الأرض
أن تعوي؟
أيتَّسع الفضاءُ لصرخةٍ أخرى؟
أكانت صرختي
تلك التي حفرت أخاديداً
على الجدرانْ؟!
مازلت أسألُ
غير أني لست أطمع في الجوابْ.
* * *
أماه
لو مطرٌ إلى مطرٍ
لأبكي
أماه
لو نايٌ إلى نايٍ
لنبكي
ما همَّني أنْ مزَّقت جلدي سياطهمو
ولكنَّ الهوى قتَّالْ.
والنهر يتبعني
ويأخذني
والنهر يأخذني
ويسبقني
والنهر يتركني
ويمعن في الذهابْ.
* * *
سجن صيدنايا 1995
عن موقع الحوار المتمدن
كوكو