وجدت القصيدة في العدد ١٣ من مجلة الكرمل عام ١٩٨٤ ص١٢٨-١٣٦. وإليكم النص الذي نسخته بنفسي.
مأساة هوديني المدهش
سأبدأ بالرعب ( من سُرَّتي ) . . إنَّ لغمًا يسدُّ الطريقَ على الخاصره
ولا علمَ لي بفنون القتالِ . اشتبكتُ قليلًا مع الحسرةِ . استبقتْني الحوادثُ . أنكَرني
الأصفياءُ . وأدركتُ أنّي اُُمارسُ لعبتيَ الخاسرهْ .
وأبدأ بالسحرِ (من جثَّتي ) . آن لي أن أناوشَ ضَعفي قليلُا . وأوقدَ نارًا على
جَبَلي . آن لي أن أصالحَ بينَ الزنازين والوردةِ الساحرهْ .
فلا مكةٌ مكَّتي
ولا جِلَّقٌ قِبْلَتي
ولا فَرَسي القاهرهْ
سأبدأُ قبلَ البدايهْ
لأنَّ الختامَ كنايهْ
وأبدأُ من صرخةٍ في الترابْ
وأبدأُ من سَعْفَةٍ طوَّحتْها الزوابعُ خلفَ السراب السراب السرابْ
وأبدأُ من طفلةٍ ضامرهْ
أهْوَتْ على العتبهْ
زرقاءَ مُقْتَضَبَهْ
في كفِّفها حجرُ
وَدَمٌ على الرقبهْ
وَدَمٌ على دَمِها
وفراشةٌ في الصدرِ مُلْتَهِبهْ
أهوتْ على العتبهْ
من آخرِ الزمنِ
أهوتْ بلا أهلٍ ولا وطنِ
عزلاءَ باسمِ اللهِ مغتَصَبهْ
والبابُ - لا مفتاح
والليلُ - لا مصباح
يا واهبَ الخجلِ
أسرَفْتَ في أَجلَيِ
فاخجلْ
ألا تخجلْ
من سِحركَ الأوّل
يا قاتلي جهرًا
أتُحييني
سرًا
لتبعثَ فيَّ «هوديني» ؟
أَنْ تحذقَ الإفلات من المآزق ؟ أيّةَ مهنةٍ هي هذه ؟ فيا اَّيّها السادةُ أعضاءَ السلك الدبلوماسي ورجالَ الإعلام ! يقينًا أنّكم تجدون في المستر هوديني رجلاً مسلّيا بألعابه السحريّة المدهشة . هو مخلوق فذ حقا . يجيد الفكاك من المآزق الحرجة ، بشكل غير قابل للتصديق . بيد أن المستر هوديني كلّفني شخصيا بأن أنقل إليكم امتعاضَهُ الشديد من اضطرارِهِ لتَكرار هذه اللعبة السخيفة القاتلة . وأود أن أُطلعكم أخيرًا على أسرار حزنه المميت.
آها ! فهمتُ الآن
لا مَنجًىمن الركضِ المثابرِ
إنها تلتفٌّ من حولي وتطبقُ
بالفروع وبالجذوعْ
«يا غابةَ الشيطان !»
أشتُمُها وأركضُ
أينَ أركضُ ؟
لا دليلَ إلى الأمام
ولا سبيلَ إلى الرجوعْ
سبحانَ من أسرى
على بعد المزارْ
هي ورطةٌ أُخرى
إسارٌ فُكََّ
يقُبُه إسار
سبحان من .. ..
وحدي ولا جدوى ببسملةٍ
ولا سلوى بحوقلةٍ
أأضحكُ ؟
تلك مُعضلتي
أأبكي ؟
هل يشقُُّ الضحكُ سردابًا
وهل تُفضي إلى الدرب الدموعْ ؟
سبحانَ من زادَ القيودَ
وأنقصَ الأسرى
وأومأ بالبروجْ
هي ورطة كبرى !
دخول ؟
أمْ خُروجْ ؟
آها .. فهمتُ الآنَ
بطن الحوت
يوناتان
سرّ الموت والميلاد
آ .. ها ..
لا كثيرَ ولا قليلْ
غير الذي تركتْه طائرةُ على جَسَدِ القتيلْ
O.K . أنا أدري ولا أدري
سبيل - لا سبيلْ
مُتُنٌ تُباعِدُ بينَ أطلالِ المخيَّمِ والمخيّّمْ
( لُطفًاأيعنيكِ الذي يجري ؟ )
تمطٌّ شفاهَها
واللهُ أعلمْ
مدنٌ تمطُّ الليلَ فوقَ موائِد الويسكي
وتبكي مثلما أبكي
وتضحكْ مثلما أبكي وتغضب ثن تندمْ
ثمَّ تغضبُ .. ثمَّ تندمْ
( لطفًا . أيعنيكِ الذي يجري ؟ )
تعودُ لحُلمها
واللهُ أعلمْ
« يا مقصفَ الديدان ! »
أشتمُها وأضربُ
كيفَ أضربُ ؟
جثّتي قوسي وقنبلتي
أناديها
امنحيني لحظةً للحزنِ
تولدُ مثل موتي
ويحزُّ في عنقي
وفي رسغي
وزندي
حبلُ صوتي
آ . ها . فهمتُ الآن
بين القلب والشفتين
يأتيني الذي يمضي
ويتركني ويأتي
قفْلٌ على زَرَدٍ
على قفلٍ على زردٍ
وصندوقٌ من الفولاذ
أُودَعُ فيهِ
يعدَ هٌنيهة يٌلقون بي في البحر ( والصحراء )
يهلع حوليَ النظَّارةُ العُميان
تهتفُ لي الجموعُ - ولا جموعْ
صَخَبٌ
وموسيقى
وأعلامٌ وزيناتٌ
أَيُبصر واحدٌ منكم
على أّهدابِ عينيَّ الدموعْ ؟
« يا لعنةَ القطعان ! »
أشتمكم وأغرقُ
أين أغرقُ ؟
كيف أغرقُ ؟
لا مفرَّ من النزول
ولا مفرَّ من الطلوعْ ..
الطفل اليهودي أنريخ (ابن الرابي صموئيل فايس ) . من مواليد آذار ١٨٧٤ . والمعروف لاحقا بالساحر هاري هوديني . صانع المعجزات في التملّص من المآزق المميتة - الكلبشات . معسكرات الاعتقال . أفران الغاز . التشرّد . المذابح . خبّأت أمه كعكتها في خزانة محكمة الأقفال . وحين عادت إلى البيت اكتشفت أنه التهم الكعكة بينما الأقفال ما زالت محكمة تماما .
الطفل الفلسطيني سميح ( ابن محمد قاسم الحسين ) من مواليد أيار ١٩٣٩ والمعروف لاحقًا بالشاعر سميح القاسم . صانع المعجزات في التملّص من المآزق المميتة - الكلبشات . معسكرات الاعتقال . أفران الغاز . التشرّد . المذابح . خبّأت هيئة الأمم المتحدة وطنه في زنزانة محكمة الأقفال وحين عادت إلى البيت اكتشفت أنه أخرج جثّته من الزنزانة بينما الأقفال ما زالت محكمة تمامًا .
ما هذه الضجَّهْ ؟
كل الذي صارا
أنّي ثقبتُ بأدمعي تفاحةً فجّّهْ
وَتَخِذْتُها دارا !
سُدّوا شوارعَكُمْ
وتنفّسوا الصعداء
لن تجدوه يا أحبابه مَعَكُمْ
وتنفّسوا الصعداء
لن تجدوه يا أعداءَه معَكُمْ
هو ذاك هوديني
هو ذاك في حانِ الرَّدى يَسْكَرْ
هو ذاكَ هوديني الفلسطيني
مَلِكًا .. بلا عسكرْ
الكأسُ والسكينُ والوردهْ
والبردُ والوحدهْ
سُمّارُ هوديني
من أينَ جاءَتْ هذه الدمعهْ
من جفنِهِ
أم منكِ يا شَمْعَهْ
يَمْشي على الماءِ
في الليلِ .. عُريانا
كم موجةٍ صاحتْ :
من كانَ ؟ من كانَ ؟
كم موجةٍ باحَتْ :
أبصرتُ سيمائي
يمشي على الماءِ
في الليلِ
عُريانا ..
غَطُّوهُ بالجُلْنَارْ
إن ماتَ بين سنابلِ الأّغوارْ
غطُّوهُ بالسُّحُبِ
إن ماتَ بين أيَائِلِ النَّقَبِ
غطُّوهُ بالبَيْرقْ
إن ماتَ بين حشائش الجرمقْ
غطُّوهُ بالشمسِ
إن ماتَ في القدسِ ..
خلوهُ عريانًا يُوزّعْ بينَكَمْ رُعْبَهْ
إن ماتَ في الغُربهْ !
مرّةً أُخرى دلف الشاعر - الساحر إلى الزنزانة عاريًا مكبّلا بالأغلال . والجماهير المحتشدة ترقبه بدهشة لا هلع فيها . ثم عاد مستدركًا . وبحركة مسرحيّة أنيقة ، انحنى للجماهير محييًا فدوَّت بالهتاف والتصفيق وقد نفد صبرُها بانتظار لعبةِ الموت الممتعة .
أما هو فراح يجيل بينها نظرته الرصاصيّة الواثقة بقدرةِ خارقةِ على اجتراحِ المُعجِزات ولم يلحَظْ أحدٌ ستارةَ الدمع الشفَّافة التي انزلقت من جديد على المشهد المتكرّر بقسوةٍ نادرة ..
آخر الكونِ جبيني
أُرصُدوا أعماقَكُم .. تكتشفوني
بُحْتُ للصحراءِ والشمسِ
وللفُسطاطِ والقٌدسِ
وكم بُحْتُ
فمي زنبقةُ الفولاذ للنار أغانيَّ
وللنُّورِ مراثيَّ
وللحكمةِ سحري وجنوني
ودمي غرغرة الأموات بين الأضرحهْ
وصريرٌ البابِ في اليلِ
صفيرُ الريحِ في جُمجمةٍ
تهربُ من مذبحةٍ في مذبحهْ
فتعالوا شاهدوني
شاهدوا سحري وضجوا
حيرةً مني ودهشهْ
وتعالو
أَحكِموا فَكَّ الكلبشهْ
لمسة صغرى
وتنهارُ أَحاجيكم
يكون المنتهى في العالم السحريّ
مثقالٌ من الحزنِ
وتمضي قَدَمي في العالمِ الأَرقى
مداراتٌ جديده
حالة الطقسِ جديده
التقاويمُ جديده
لمسة أخرى جديده
لمسة أخرى
تكون الجاذبيّة
شارةً في مُعجمِ السحرِ
وقلبُ الرجل الآليِّ
مفتاح الفلسطينيَِ
والأَغلالُ
إيقاعَ قصيدهْ ..
أنذا الساحر هوديني
أن السرُّ الفلسطينيّ
والسحرُ الفلسطينيّ
أدعوكم من المعلومِ
أدعوكم من المجهولِ
قوموا واشهدوني
حاولوا أن تبصروني
حاولوا أن تعرفوني
أُرصُدوا أَعماقَكُم .. تكتشفوني !
الرامة ١١\٥\١٩٨٤