محمد خضير أحد كتاب القصة الذين أعشق أسلوبهم، أردت نشر قصة الأرجوحة التي سببت شهرته في العالم العربي لكنني لم أجدها. بدلا منها هذه قصة منزل النساء التي لطشتها من صفحته على فيسبوك.
منزل النساء
صفوف الآجر المتآكل تنقطع بدعامات النوافذ الكبيرة القريبة من الأرض، وهنا ينتشر الضوء من مخرمات ضلف نوافذ الطوابق الأرضية المغلقة ومن نوافذ وشرفات الطوابق العلوية، كما تلتمع أسلاك الكهرباء بهذا الضوء الداخلي وبأضواء المصابيح الخالية من المظلات، المثبتة بدعائم شرفات الخشب وأضلاعها السفلى أو لفسحات الجدران الخالية من النوافذ. غير أن هناك نوافذ مستطيلة عالية مخرمة أو مقطوعة بأعمدة حديدية تشغل واجهات غرف الطوابق العلوية الخشبية. وتبرز زوايا الغرف العلوية خارج جدارى الزقاق الشاهقين، في شكل نتوءات هرمية متتالية، وتتقارب من الجانبين بما يشبه أسنان منشارين ضخمين.
ومن بين الأسنان المتقابلة تظهر فيما يبدو أنها سماء. تحت سقوف الزوايا المنشارية يغذ رجل السير في قبو الزقاق، فلما ينعطف به يقل الضوء ويزداد تقارب الزوايا الركنية المتعامدة للغرف الناتئة، وتبدأ بالظهور بين صفوف الآجر، بمستوى رأسه كوي مستديرة مظلمة تتجمع أعمدتها الحديدية في مراكز صغيرة فتبدو كالعجلات، وتتوزع الكوي على مسافات ثابتة. وتجاوز الرجل كوة تهدمت واقتُلع حديدها وتُرك معوجاً للخارج، كما أخذت في الظهور على مسافات ثابتة أعمدة الكهرباء تتوجها مصابيح تنير رقعاً محدودة في الجدران أو خشب النوافذ العلوية. غير أن الضوء كان يقل خلف مشبكات الطوابق العلوية، وتتباعد المصابيح، فيما كانت أرض الزقاق الضيق تأخذ في الانحدار الشديد نحو منعطف قادم، توازيها في الانحدار قطع الآجر الصغيرة المتآكلة الحافات في تسلسل رتيب انقطع في تجويف بوابة تهبط بسلم إلى داخل الجدار، ثم تستمر الصفوف المرصوصة وفواصلها الملتحمة الفارغة المحشوة بالظلمة في الانحدار بعد البوابة، تؤلف جداراً عالياً خالياً من أية نافذة أو كوة، يرتفع سطحه المتفتت المنقر حتى تختفي قمته في شحوب ظلام السماء، هناك قرب أوتاد المزاريب البارزة للخارج أسفل الأسيجة الواطئة للسطوح.
أفضى نفق الزقاق إلى رحبة مربعة مكشوفة محددة من جهاتها الثلاث بالشرفات والنوافذ الخشبية في الطوابق العلوية وقد حجبت أعاليها أبراج المظلات المخرمة، أما الجهة الرابعة فيستمر ممر الزقاق في اختراقها. وهنا تلاحظ النقاوة الداكنة للسماء المنجمة، وانتبه الرجل لكلاب نحيفة طويلة الأجساد والأرجل تخوض في مياه محجوزة وسط الرحبة ثم تتسكع ببطء شديد وتقترب أحياناً من الزوايا المظلمة في أركان الرحبة حيث بالإمكان تمييز صفائح القمامة. بقعة الضوء الوحيدة كانت معلقة عبر نافذة علوية ترتفع بمستوى نصف طابق عن نوافذ الطابق الأعلى المستطيلة المتجاورة المستقرة في فواصلها باتساقات متشابهة تشكل قممها خطاً منحنياً بارزاً في الخشب قرب حافة كورنيش السطح المقرنصة. تشغل النوافذ المطفأة تلك واجهات ثلاثة بروزات مستطيلة متجاورة تبدو أنها تخص ثلاث غرف علوية. كذلك أطفئت نوافذ الطابق الأرضي المطلة على الرحبة. يضىء مصباح في طرف قضيب مقوس أعلى الباب الذي يتراجع داخل عقد من الآجر كنعل الفرس يتدرج من مستوى الجدار ويتحدد بإفريز متعارض الآجرات ويرتكز على ضلعين من المداميك الملساء المستديرة الحافات يوضح الضوء فيها مسامات داكنة. وفي منخفض العقد تبرز زهرة منتظمة من الآجر الدائري وسط زخرفة من النجوم الصغيرة المتماسكة في حشوات بارزة. كان اختلاف ريازة واجهة البوابة ينوع مستويات السطوح ويوزع الظلال أسفل حافات العقد والزهرة المتفتحة بين النجمات الآجرية والمسامير الحديدية الكبيرة التي ترصع الباب ومطرقتي الباب اللتين تمثلان طائرين مضمومي الأجنحة من البرونز الأخضر. ولم يحاول الرجل تحريك أحد هذين الطائرين من مكمنة، فقد كان الباب موارياً يأتي من خلاله نور داخل المنزل، كما يأتي هذا النور من كوة تنفتح في قمة العقد.
فى الركن، خلف الباب، كانت الحنفية تصب خيطاً رفيعاً في صفيحة طافحة بالماء، فأوقف الرجل تدفق الماء، ومشى في الدهليز المستطيل على أرض ذات عثرات يخلقها وهم الظلام، وكان نور داخل المنزل يلامس جداري المدخل والسقف المعقود ويتغلغل في الجص المتقشر الذي كان يتهيأ للتفتت بالرطوبة. كان المدخل خالياً من النوافذ والكوى عدا حنية كبيرة غائرة في الحائط بمواجهة المنعطف الذي سيؤدي بالمدخل إلى الحوش نحو اليسار، لذا فإن الضوء ينجرف داخلها ويظهر الحفر بين صفوف الآجر فيها.
اكتشف الرجل كلاباً دقيقة وطويلة تتجول في حوش المنزل المستطيل المكشوف بنفس البطء الذي يجبر أبوازها على تحسس الآجر المربع المرصوف من دون صوت ينقض السكون الذي حل (خشب أخرس)، وبعضها كان ينتقل في شحوب الأروقة المفتوحة بأكملها على الحوش المسندة بأعمدة خشبية ذات تيجان ناقوسية مقلوبة تختفي في ظل السقف. ومثل هذه الأعمدة تحمل سقوف إيوان وأروقة الطابق العلوي في ثلاث جهات، وتثبت إليها حاجزاً مشغولاً بالحديد في تنويعات هندسية متكررة حلزونياً لصق محاور عمودية. بينما تطل على الحوش في الجهة الشمالية للطابق العلوي نوافذ طولية منزلقة عمودياً على فواصلها الجانبية.
أظلمت الأروقة وأوصدت فيها الأبواب والنوافذ أو تركت دون غلق مما يشير إلى هجرة الحياة إلى مكان آخر في المنزل، وكان ضوء مصباح الحوش لا يمس إلا حافات الحاجز السفلي المسننة الناتئة قليلاً ويعبر جزء قليل منه أشكال الحديد من دون أن يكشف في الرواق العلوي شيئاً من المجهولات المظلمة فيه.
كان حذاءا الرجل يتحركان في الرواق الغربى المتعامد على الضلع الشمالى المضاء وقارباً نوافذ مفتوحة في أرض الحوش بجوار حد الظل في نهاية الرواق، صغيرة متجاورة على أبعاد قصيرة مشبكة بحدائد في اتجاه متواز واحد، هي للسرداب الذي يقع بابه، غير المرتج، بين عدة أبواب مرتجة بأقفال كبيرة.
انتهى الرواق بدهليز قصير معتم، وعثر الرجل فيه على أول درجة من سلم غير متسع بين حائطين تبقع طلاؤهما الجصى الهش بقباب خشبة السطح تأخذ بالتفتت والانهيار كلما استندت يد الرجل الصاعد فضغطت عليها، وتتسع إحدى الدرجات فيما يشبه رحبة مستطيلة ينتهي عندها النصف الأول من السلم.
واصطدمت قدم الرجل وهو يستدير فيها بجسم خفيف أفلت من حافة الرحبة وتدحرج هابطاً الحافات المتوازية وغاب في الظلمة. ونبهت القفزة المفاجئة الرجل لدمية في ركن الرحبة، ولمسبحة دقيقة الخرز معلقة بمسمار داخل طاقة مرتفعة، منها ينحرف السلم لليسار. كانت الدرجات الباقية قليلة الارتفاع، وكان الرجل يقيس ارتفاع نقلات قدمية دون أن ينظر للحافات التي تعترض قدميه، إذ أنه يتطلع للفتحة العليا حيث سيجتاز عقادة آخر السلم. وهنا أصبح واضحاً صدور أصوات مكتومة لا تنسق في تتابعها، كتثاؤب طويل مخنوف أو صفير صدور مضغوطة. وشاهد الرجل كرة صغيرة (الجسم الذي انقذف من رحبة السلم) تستقر على بلاطات الحوش، قرب فتحة البالوعة. ومع أن الطابق العلوي لا يرتفع إلا خمسة أو ستة أمتار، لكنه ليس بالإمكان التأكد من صدور الصفير المخنوق عن قطيع الحيوانات المتنقلة في الأسفل، وهي تقيس بخطوات أرجلها المغمدة الطويلة المتمهلة المساحات المتدرجة بالنور، وتسحب خلفها ظلالاً طويلة.
يقع الإيوان إلى جانب عقادة فتحة السلم، وعلى جانبيه غرفتان تنفتح نوافذهما المتشابكة داخله، ويصل إليه جزء من ضوء شحيح يرسله مصباح الحوش، سرعان ما طغى عليه النور الذي تفجر من مصباح الإيوان. يقف الرجل في الإيوان المحاصر بالصفير. الغرفة على اليمين: مرآة في خزانة ثياب عالية، وسرير عريض، سقف خشبي، وأشياء أخرى لا ترى بمعونة الضوء القادم من الإيوان. الغرفة المقابلة: أجساد صغيرة تستلقى على الأرض بلا نظام، يسيطر عليها سلطان الغياب ويشل حركتها في وضع مستقر على الظهر، يجعل الوجوه باتجاه السقف مباشرة أو بانحراف قليل للجانب. شرع الرجل الباب بأكمله فزحف النور على خطاف ذي ثلاثة رؤوس حادة معقوفة يرتكز في جسر من جسور السقف الخشبية المتعارضة. استمر هذا الوضع المختلط قليلاً، في الفترة التي كان الرجل يفتح فيها الباب ولا يظهر أية رغبة في إدارة زر الكهرباء أو التجول بين السيقان الدقيقة المكشوفة والأجساد المستقرة المرقشة بأشكال ضوئية تسربها ثقوب النافذة من الإيوان، في ذلك الوضع الذي يجعل أعينها (نصف المفتوحة) تسارق التواء الخطاف وظله الطويل الذي يعبر عوارض السقف، أما الرؤوس المنحرفة فهي تميل عن محور الخطاف (وتتنفس بصعوبة في صفير حاد بطيء وطويل). وغير الأطفال فالغرفة المتسعة كانت خالية من الأثاث، لذا اتضح في الضوء الخارجي القليل عرى الجدران وعوارض السقف والنوافذ المقسمة بإطارات والمزججة في أقسامها العليا. وفيما كان الباب يستقر مغلقاً لاحظ الرجل قشوراً جافة تنتشر في رقعة كبيرة أمام باب الغرفة، انحنى فالتقطها (قشور خشخاش).
سار الرجل باتجاه الضلع الجنوبي، واجتاز ممراً ضيقاً بين حجرتين مغلقتين، وكان يرتطم بكرات مطاطية صغيرة يفلت بعضها من حديد السياج ويسقط في الحوش الأسفل. وبدلاً من أن يواصل الرجل اتجاهه فيصعد سلماً في نهاية الرواق، أخذ يفتح الغرف في الرواق الجنوبي بضغط خفيف من يده. غرف خالية واسعة وسقوف خشبية شاهقة وبلاطات منقرة وجدران ذات طاقات وتنويعات هندسية مختلفة، وغرف مفروشة بأبسطة وتحتوي على مرايا كثيرة وأسرة حديدية عريضة فرشت بعناية وأرائك وسلال وملابس معلقة وصور مؤطرة.
عندما كان الرجل يهم بالعودة، ظهر في نهاية الرواق جسد أسود لامرأة غليظة أسفل السلم في الركن، ونادت على الرجل: - لماذا تضئ المصابيح وتفتح غرف الناس?
توجه إليها مسرعاً، وقال:
- لقد نسيت. نسيت تلك الغرفة فوق. هل أنتم فيها? ثم وهو يتقدم، قال: - نسيت الغرفة تلك تماماً. ثم أردف: - أمي عوفه.. كيف حالك? هل ترانى عيناك بوضوح? أنا ابن عواشه.
صفنت برهة، ثم تساءلت: - ابن عواشه..
أنت ابن عواشه?
قالت الرجل: - نعم.. ابن عواشه.
صاحت المرأة السوداء: - يا ابن عواشه الناكر.. تعال هنا لأراك يا كافر!
قبلته بشفتيها الضخمتين، اللامعتين ببلل اللعاب، وهي تقول بإنهاك: - ابن عواشه.. أين كنت كل هذا الوقت?. تعال هنا فوق عن البرد.
كانت تعلق في وسطها كومة من المفاتيح المختلفة الأحجام.
- ليس الوقت بارداً.
- أين كنت?
- في الجيش. جندي.
- آه. وفررت. عدت فاراً.
- دعك من أوهامك السوداء. تسرحت.
استمرت في الكلام وهي تقوده من يده، وبينما يستمر السلم في العروج الضيق للسطح، نقلتهما في منتصفه رحبة إلى غرفة مضاءة، غاصة بالنساء. تطلعت النساء للرجل بحركات احتماء خفيفة، وقالت عوفه لهن:
- هذا ابن عواشه. رفيقتي عواشه من زمان راح. تخلت امرأة عن كرسيها للرجل وجلست على بساط على الأرض. كن عشر نسوة يتفرقن حول منضدة واطئة اقتعدها طفل مدفوع الثياب حتى منتصف ظهره. قالت امرأة: لقد أحسست بدخول أحد.. كما قلت لكم. قال الرجل: الكلاب في الأسفل. باب الحوش مفتوح. قالت عوفه: دعها. دعها. فقط لا تصعد فوق. قالت امرأة: أبواب غرفنا مشرعة.
قالت عوفة: ستجدونها ليلة على أفرشتكن. ضحكت النسوة. كانت الغرفة خالية من النوافذ، ما عدا طاقات قريبة من السقف الخشبي مغلقة. ومن السقف يتدلى خطاف ذو ثلاث شعب فوق رأس الطفل الجالس على المنضدة مباشرة، يفترق عنه ظل طويل. كانت الغرفة مشغولة بصورة كاملة بالنساء والكراسي والمنضدة وبسرير عريض وبطباخ عليه أواني الشاي، فبدت أكثر ضيقاً مما هي عليه فعلاً.
?قالت عوفه: - ألا ينام
? قالت امرأة: - لا أعرف كيف لا يؤثر الدواء في هذا الطفل
قال الرجل: - نسيت هذه الغرفة الصغيرة.
قالت امرأة: - غرفة بعيدة عن الرطوبة، نجتمع فيها كل ليلة.
قال الرجل: - مضت سنتان لم أدخل فيهما هذا المنزل. تتجول عوفه في المساحة القليلة بين كراسي النسوة، تمسح يديها الجافتين باستمرار بجانبي فخذيها أو تمسك وركيها الضائعتين داخل طيات الثوب الأزرق الطويل، وتناولت أوراقاً من رف بجانب باب الغرفة ثم رمتها على المنضدة: - اقرأ عناوين الرسائل هذه، وقل لنا من تخص كل رسالة.
قالت امرأة تشغل كرسياً ذا مسند مرتفع، وتجلس على حافته: - مضى عليها وقت طويل. إنها متربة. لم تكن الرسائل تخص واحدة من النسوة الموجودات في المنزل. وقالت امرأة: - لم جلب ساعي البريد هذه الرسائل إلى هنا? إنها ليست لواحدة منا. قالت عوفه: - كن هنا ثم انتقلن. يحللن أياماً ثم يمضين.
تناهت إليهم موجة من الصفير، خافته ثم واضحة، قالت امرأة: - إنها صفارة الإنذار.
فيما كان الصفير يتردد في البيت، انقطع التيار الكهربائي، واختفت الغرفة في سواد تام اتصل بأنطقة الظلام في الخارج وألغي الأوضاع الواضحة للنساء، وبقية أشياء الغرفة.
ارتفع صوت امرأة: - غارة وهمية.
ثم توالت الأشكال السابقة في الظهور بنور شمعة في يد عوفه يضىء لهبها وجهها الداكن. كانت تقول: - أعرف دائماً أين أضع حاجياتي.
كان الخطاف يخترق حافة دائرة النور بشعبه المعقوفة الجادة، وترتعش الشمعة التي استقرت على المنضدة بظل أسود إلى جانب ظل الطفل. وعلى مسافة أخرى، اختلاط غائم وضخم لبقع النساء المرتسمة على الجدران. وكات نيران الطباخ تتسرب من الزاوية في توهجات متذبذبة.
أطلت عوفه تحت المنضدة، فقالت امرأة: - أسقط شيء يا أمي عوفه?
قالت عوفه من الأسفل: - لا، ظننت أن أحداً يختبىء تحتها.
ضحكت النسوة، وقالت عوفه: - هل نحن بحاجة إلى نار?
قالت امرأة: - الوقت دافئ.
قالت عوفه: - إني أرتدي ثلاثة أثواب وثلاثة سراويل. ضحكت النسوة، وهي تستمر في الكلام: - دفئن أجسادكن وسنشرب الشاي.
قالت امرأة: - نحن بحاجة إلى كراسي نشتريها من المزاد. اقتربت عوفه من الشمعة، وأحرقت أطراف عيدان من البخور. وقالت: - الليلة جمعة، بخور للغائبين وللغائبات.
قالت امرأة تجلس على الأرض: - أسكب أحدكم شيئاً? ولم يكن أحد يملك ما يسكبه بعد، إنما تلك بولة الطفل وقد تعرجت حول الشمعة من دون أن يلحظها أحد، ونفذت من شقوق المنضدة.
صاحت امرأة بالطفل: - فعلتها يا جرو?
قالت عوفه بصوت واطىء: - كان يجب أن نحضر أقداحنا.
ضحكوا. وانحنت عوفه فقبلت الطفل بين فخذيه: - إنه زوجي الصغير.
ضحكوا بصخب. وقال الرجل: - لم تتغيري. ما زلت بذلك الحجم والفطنة.
قالت عوفه: - ولوني، ألم يفتح لوني?
ضحكت النسوة. وأخذت عوفه تتكلم:
- أتصدقوني? كان لي زوج كالحليب.
قال الرجل: - لا نصدق.
ولكنها تدفقت بالكلام: - كنا اثنين. لم يترك لي غير هذا البيت الكبير. قال إني أتركه لك ملجأ وقبراً يا عوفه. قال لو أن الأموات يدفنون في البيوت التي كانوا يسكنونها. قال إنه ربح البيت في لعبة قمار واحدة. ثم غاب كالنجمة.
ثم أخذت تتكلم أيضاً: - ما زلت أذكر أننا معاً كعصفورين سكنّا عشر دور أو عشرين قبل أن يكسب هذا البيت. كنت أغسل الملابس وأجمع الفضلات مقابل ليلة ننام ونأكل فيها.
لا تسألوني كيف عرفته. ما زلت أذكر أنه كان يملك خمسة أسنان ذهبية في مقدمة فكه الأعلى ومثلها في فكه الأسفل.
وفتحت عوفه فمها، لتريهم أسنانها الساقطة، ثم استمرت في الكلام: - فم من الذهب. كان بلون اللبن. كان يدخل في معارك لا أعرف عنها شيئاً، ولا أراه بعدها عدة أيام. ثم غاب كالنجمة. كان يعرف كل شتائم الدنيا وكل الحلاوة في كلام الدنيا. وكل مفاسدها وكل صالحاتها. دعوني من تفسير ذلك.. كنا أحياناً نبيت في العراء. فوقك النجوم وتحت الأرص ليس لديك ما تخاف فقدانه أو ستره. أذكر أننا في ليلة صيف نمنا على الرصيف ولم نكن وحدنا، كان هناك آخرون. لم أعرف حتى ذلك الوقت كم هي الحياة طيبة في العراء. كان ينام نصف عريان وأنا مستورة.
ضحكوا بلا حماس، وكانت عوفه تتكلم: - أرصفة وجسور وسطوح. كنا نتنقل باستمرار، ولم نكن نفعل شيئاً قبيحاً. الأعمال القبيحة تحدث خلف الجدران. كنا نعرف بعضنا بعضاً.
توارت الغرفة وبقية الأشخاص وعوفه، دفعة واحدة، حين انطفأت الشمعة فجأة. وكان الطباخ قد انطفأ قبل ذلك في الزاوية. تضحك النساء من أمكنة مجهولة، ويستمر صوت مظلم صعب النفاذ في التدفق: - عرفت غيركن رجالاً ونساء. اسألن ابن عواشه هذا. تركوا متاعهم ورائحتهم من دون أن أعرف أين سيجدون راحتهم هذه الأيام. كانوا يسكنون الغرف السفلى والعليا في هذا البيت، وفي الصيف كنت أفرش ثلاثين سريراً أو أربعين على السطح.
ثم أخذ الصوت الخفي يقطع مسافات شاسعة كي تصل: - تمتعن بليلكن ونهاركن. كل شيء زائل بناتى. زائل كالثلج. ولا يبقي أثر. لن ترحلن. أريد أن أتمتع برائحتكن طويلاً. كن قرب قلبى التالف. قلب عوفه. أنتن فتوتي الذابلة.. أنا الهرمة القبيحة.. أنا الواهمة القبيحة...
فيما يتأصل الظلام، كان الصوت يبتعد في غور لا يُرى ويفقد نبرته الإنسانية... كل شيء يتلاشى في العتمة .............................. ظلام ....................
تسلل الرجل من الغرفة، وكانت الأروقة في ظلام، إلا أن أنوار السماء الرحيمة كانت تهبط على حوش المنزل فتعينه على تلمس سبيله. يتسرب حبل ضوء رفيع من الزاوية المقابلة البعيدة للحوش. وكانت الكلاب تحت نظره تخترق الظلمة بأجسامها الدقيقة الطويلة المقوسة. وكما يحدث خطأ أن يفتح شخص باباً، فقد فتح الرجل أحد أبواب الغرف فلمح على ضوء فانوس ثلاث نساء يتحلقن مدفأة، التفتن جميعهن إليه، ثم أغلق الباب. وهكذا كان أن فتح الرجل أبواباً أخرى، فالتقى خلفها بنساء شابات يافعات، يجلسن في شبه ظلمة، لم يبدين أية إشارة من تحرج أو خوف. ومر ثانية بغرفة الأطفال النائمين، وهبط السلم مستنداً إلى الجدران، ثم قصد الزاوية التي يخرج منها الضوء الرفيع.
كان ذاك مطبخ المنزل، الذي يشبه اسطبلاً مهجوراً، استعملت معالفه كمواقد، واسودت جدرانه. كان يوجد ما لا يقل عن عشرة مواقد في كل جانب، وتقف امرأتان سوداوان في قعر المطبخ أمام قدرين كبيرين، وشم الرجل رائحة هريس. كانت إحداهن تمسك بخشبة كبيرة تديرها في قدر الهريس الذي تصاعد منه البخار، بينها تنحني الثانية على القدر الآخر وتغطس فيه أشياء كأنها قطع من الثياب، فأضاء الموقد وجهها وذراعيها القاتمتين. ارتطم الرجل في خروجه بكلب مرابط في باب المطبخ. وكانت الغرفة التالية مخزناً ألقيت فيه الأثاث والأمتعة المستهلكة. توقع أن يجد شيئاً في السرداب. أشعل عود ثقاب، وأسفل خمس درجات كانت البرودة أقسى من أن تبقى على أحد حتى الصباح. كان فارغاً، رطباً، ثم سمع صوتاً:
- أيها الكلب. سأحبسك هنا حتى الصباح.
كانت عوفه تقف أعلى سلم السرداب. قال:
- أين هي. في أية غرفة?
- ذهبت. تزوجت. ماتت. أكلتها الكلاب يا بني. ارتقى السلم واحتضن جسدها الغليظ:
- يا أمي الصادقة، إن جوفك الضخم ملىء بالأكاذيب. سحبته للخارج، وأشارت إلى المخزن، وناولته مفتاحاً. كان المخزن دافئاً، واتضحت أكوام الأشياء المخزونة في ضوء عود الثقاب. خطا بين الحطام، ونادى: دلال. أزاح عدة قطع من الخشب. وكرر النداء مرات. سمعها تقول: - إني جائعة. هات لي صحناً من الهريس. منذ الغروب وأنا أشمّ الهريس. كانت تتمدد في حوض سباحة مثلوم في أكثر من موضع، كسا بياضه الغبار. قالت: - مكان مريح، ولكني جائعة.
خرج إلى المطبخ، وطلب من الطباخة صحن هريس. أخبرته الطباخة بأن موعد العشاء لم يحن بعد، وأن جميع النساء يتعشين في وقت واحد. قال لها: - أيتها الحنونة، يا من تتساقط دموعك في القدر.. امرأتي لم تتعش منذ البارحة.
عاد بصحن الهريس، وبشمعة، وجلس على حافة الحوض. ينظر إليها تأكل. كانت تغطي قدميها بدثار، قالت: - إن قدمي ثقيلتان. روماتزم. صدقت العجائز وسأبيت في الحوض خمس ليال.
وضعت الصحن على حافة الحوض، وقبضت على معصمه: - هل تري? إن عظامي تطبق عليك، ولا تستطيع أن تفكها إلا بعد تحطيمها.
تمدد إلى جانبها في الحوض. قالت: - إنهم يطاردون الكلاب السائبة منذ ليال، بعد ساعة ستسمع البنادق في المنزل.
أحس بها تعانقه بقوة، وتزيد من ضغط ذراعها حول عنقه. قال لها": - لم أصدق أني سأجدك هنا. لا أصدق.
تمتمة عوفه السوداء تأتي من الحوش، خافتة ثم مدغمة ثم أشبه بالعواء.. .
اسمي (علي) من مواليد 1945، أعزب، تسلمت قبل يومين عملاً في مصلحة نقل الركاب بصفة محصل تذاكر. تسرحت من الخدمة العسكرية قبل أسبوعين. إني ذاهب الآن، تحت غطاء هذا الليل الشامخ، إلى بيت أهملت زيارته طيلة الأسبوعين الماضيين، ولكني غير قادر على تجاهل جدرانه وصمته وساكنيه أكثر من ذلك. أول الليل، ولكن الليل يهرم بسرعة، يظلم سريعاً، وها أني أخطو في زقاق، تحت سماء تبين من شرق الزقاق كمملحة ملح أسود، على أرض غير واضحة متغيرة بتلك الأشكال المهشمة المبهمة اللون: مياه وعلب فارغة وكومات من طين أو بقايا طعام وأوراق، نفايات، حياة مجهولة غنية بظلال دخانية متحركة وثابتة في الفجوات وعلى الجدران وتحت الأرائك والصناديق والعربات وفي أركان درجات أبواب البيوت وعتباتها وفي الأقفال ومطارق الأبواب، وأشق طريقي بين أنفاس الساكنين الأسلاف وقد تخلفت في ثقوب الجدران وممراتها وبين جسور السقوف وفي شقوق النوافذ والأعمدة وفي العلب والقوارير وقطن الأفرشة والصناديق والطاقات والكوى، ومختلطة مع صدأ المزاريب والمسامير والخوازيق، وحول المصابيح المختنقة بدخان السيجاير والمواقد. في النهار تفتح الأبواب وتغلق دونما سبب، يتسرب منها الصراخ وأصوات الماء المنهمر من صفائح مبعوجة وروائح الطعام الشهي وأفرشة السرر المنقطة بدم البراغيث وصفرة البول، وتلوح خلف هذه الأبواب مدة انفتاحها الملابس المنشورة على الحبال والصور والكتب والسكاكين والأطسات وأدوات الطبخ والفوانيس والحدائق الصغيرة، أبواب مشرعة للجيران وللضيوف البعيدين والقريبين ولعدادى مقاييس الماء والكهرباء ولبائعي النفط ولنازحي الفضلات وللمتسولين، كما تنسدل ستائر بيضاء وملونة خلف أبواب واطئة أو مرتفعة، تركت في جوانبها صفائح القمامة والحيوانات والبائعات العجائز والأطفال العراة. سطوح عالية، سطح أسفل سطح، وسطح بجوار سطح، بمستوى الهواء الصباحي المنعش والشمس المبكرة. سماء شتوية أليفة أكثر قرباً بتلك الكتل الضوئية التي يتبدد نورها الأصيل الوديع في مجار لا مرئية تترشح في الرحبة المكشوفة أمام المنزل.
ليل بديل لنهار أبدي، ليل متسع ومتصل يحل دون أن ينتبه إليه أحد، فاجر وغير علني، تؤدي إليه الزخارف والأقواس أسفل القباب والشرفات، تسيب كلابه في الشوارع والساحات والخرائب. حل هذا الليل في رأسي وطرد الليل الآخر الملىء بالوساوس الذي رافق نشأتي الأولى في الضواحي. سنوات الإغفاء الجنوبي، على سقيفة مطلقة تحت النجوم الغامزة، كنت أستمع لحكاية أحد الملوك من امرأة ما لعلها أمي وقد ختمت الحكاية بأن كفنته بحرير أصفر ونثرت جسده بالأزهار ثم دفنته في قاع نهر أخضر ساكن، وأنهت المرأة حكايتها حين بدأ الطل يسقط آخر الليل ونهض الآخرون يتثاءبون لأفرشتهم فوق أسرة من جريد النخيل وقد بردتها أبخرة الأنهار والسعف، وبقيت في استلقائي اليافع العذب في إغماضة مغتصبة وسط جدث من أزهار الرازقي والأشرفي وقد أحاطتني كستارة لا تنتهي عندما مر طائر (الشقرق) ناعقاً وداعياً للأسرة بالفناء. ثم كنت أغيب في مسيرات مشعة بين كومات تراب عبر الأنهر حتى أتلاشى تماماً ولا أتعرف على روحي التي اندمجت مع الأبخرة المتصاعدة من الشقوق المظلمة في أجراف الأنهر المظللة بأوراق الاشجار الكثيفة التي يرافق حفيفها روحي في تجوالها خلال الليل في غابات النخيل المظلمة، وهي تلتقي بالضفادع المتناسلة، بطبول النساء الراقصات، بأشباح ساحرات المقابر، باللصوص، حتى إذا عبرت روحي درباً ضيقاً بين حائطين خربين سمعت الهمس المبهم المخنوق للأرواح المدفونة سراً في الأسس العريضة وهي تغادر أمكنتها فتهز أجراس السعف وتتجول حول ناموسيات الآباء والأجداد وتحرس أمهاد الأطفال وأفرشة الأمهات الصغيرات، فإذا نهضت الأخيرات عند الفجر لإيقاد التنانير وخبز الخبز أسرعت الأرواح لمستقراتها في الخرائب وتجاويف الجذوع الخاوية وفي كيزان الحبوب وفي قواقع الأنهار وزيران الخل وقوارير ماء الورد. يلتف ذلك الليل بثيابي، ويضيع مني وجه أمي وأبي وأخوتي في مفترق سن الحادية عشرة والسنوات اليافعة التي تلت حين خطوت إلى داخل الأزقة والغرف المستطيلة الواطئة كاسطبلات، عندما هيأت نفسي للدراسة المتوسطة في مدارس المدينة.
آخر وجه لأمي كان وجهاً غير واضح أتت على ملامحه أشعة الشمس النافذة من خلال أوراق العنب في بريق خاطف يؤجج الحمرة القاتمة في شفتيها المطليتين بصبغة (الديرم)، وخضرة سلسلة صلبان الوشم المنحدرة من عنقها إلى ثـدييها الضخمين المضخمين بعبير صابون (الرقى) الذي طالما عببته مع الحليب ومع العجب المبكر ومع الذعر من التوهج المباغت لفصوص الخواتم في أصابع يدها التي ترفع الثدي.
انمحى ذلك الوجه المتألق كشيء يضيع في سورة الماء، كسقوط ثمرة (نبق) من شجرة سدر تبقر سطح النهر الهادئ، وهي في ارتطامها تترك ذلك الوقع الكئيب القصير وتلك القطرات التي تقفز حول موقع الارتطام وتنهار عاجزة عن التعلق في الفراغ. كان لا بد للحبال العديدة التي تربطني بأمي أن ترتخي وتنقطع، بعد أن جفت فيها دماء الشباب. ولم يكن باستطاعتي منع غطسها المستمر في حوض الشيخوخة. كان شعورها المبكر بدفعات الحياة الخفيفة ثم القوية على ظهرها قد حول عادات الأمومة الرقيقة الثابتة لديها إلى مقاومة يائسة متقلبة نحو الخارج، نحو الحوادث الطارئة التافهة، نحو حرارة المطبخ وبرود الطقس ودقات ساعة الحائظ المفزعة. ثم بدت أخيراً كحيوان عجوز متورم الأطراف، مسترخ في وقت الظهيرة دونما نوم، تلتمع عيناه بنداوة ذليلة. ما أرهق أن يكون الإنسان ابناً لأم طيبة لا يستطيع أن يستبدل شفقتها بحب امرأة أخرى. واجهتني وجوه نسوة أخرى، هادئة ومغشاة بالذعر، ضاحكة وغاضبة، متورمة وصافية، وجوه تندمج ملامحها وتضيع، كما تضيع المشاهد من نافذة قطاع سريع، ففقدت فيها ثانية المعنَى الأخير للأمومة الذي حاولت هؤلاء النسوة أن يفرضنه على قلبي ويفرغنه في جسدي القاصر الضعيف. أمومة قاسية رهيبة، تجعلني أرتعش. كما فقدت كذلك الهدوء العميق الذي جلبته معي في دمي، وحل محله في دمي هدير متلاطم. ها هو هدوء مخيف في هذا المنزل. هدوء من يستلقى بين ذراعين على فراش واسع تحيطه رمانات سرير نحاسية، ويشم رائحة ثياب نظيفة وقطن لحاف جديد ووسادة محشوة بأشلاء أصوات بعيدة مألوفة، هدوء موضوع على مواعين خزفية وفي آنية فخارية، يغمرني تحت أغصان شجرة رمان مطلة على نهر أخضر، تحلق حولي مواعين هواء ساخنة ساكنة تلمع كأنصال سكاكين، مستلقياً في الفىء المطبوع على تراب خصب متماسك، تحت زهيرات حمراء كشفاة تزداد حمرتها في الشمس المتسربة من خلال السعف، يرفرف حولي جلال وفتور ورهبة مرجفة للمناطق الحساسة في جسدي، خيط من الرجفة الغريبة اللذيذة يقطعني نصفين ويحشوني بالغفو...
وفي داخل قبر استرجعت يوماً ساعة ولادتي. ففي ليلة ما (أية ليلة) ولدت في غرفة واسعة لا تتوفر فيها التدفئة، لكن هناك ضوء فانوس وكلب ينبح عند الباب وريح تناوش نخلات فارعات في حوش الدار، وسلة مفروشة مهيئة، وساحرات عجائز لا تنقطع تمتمتهن. بعد سنوات، وكنت طفلاً، تلمست في قبر التراب الناعم منتظراً ما توقعته العائلة من قدوم الأرواح التي ستمنحني ما اكتسبته من حياة طويلة قوية، وتصب في عظامي عصارات الأجناس المختلفة، وتضخ فيها النضارة المفقودة لجميع الموتى، فكبرت وجسدي يمتلك تجارب الحيوات العديدة، تمردها وتطلعها المجنون وعدم استقرارها، وحتى لو دمر جسدي تدميراً كاملاً فإن الحياة المصبوبة فيه لن تكف عن الانبثاق والتجدد والاستمرار والتطواف في طرق شديدة التعرج كطوق الفجر الأقدام، أجدنى فيها جالساً على صخرة أو تل تراب، بين النخيل تتلامع فيها ليلاً فوانيس تبحث عن حلقات الرقص، في سوق مكتظ تكون جميع الأشياء فيه واقفة للأعلى، محشوراً في مقهى مطلى بدهان لامع وبرسوم الأزهار داخل مزهريات ذات عرى وبصور النساء المرتديات كوفيات وعقلاً وقد وشمن أحناكهن بوشم الحلاوة المغتلم، قابعاً في الأرائك على حصر متينة العيدان، منطلقاً في سيارة على التراب المتحجر تخض الطعام في بطني عند كل هزة مفاجئة من هزاتها، متذبذباً في عربة قطار ليلي يجري في صحراء، متوسداً حذائي وحقيبتي في بنايات المحطات النائية، أجدني على السفن والإبلام، في الخانات الطويلة الواطئة السقوف لا تفصل حواجز بين أسرتها المرصوفة في صفوف يسمع منها الغطيط وأصوات البطون، في الفنادق المنزوية، الحدائق العامة، الساحات وتقاطعات الطرق، سراديب الدور، مغاسل الموتى، المقابر، المساجد، ملاعب كرة القدم، العربات والاسطبلات، الثكنات والخنادق والمخيمات... خرز ملون، حياتي تلك التي أنظمها في خيط رفيع، فللخرز لون الحياة المتغير كل صباح. كما كان للماء الموضوع في أغلفه الطلع الغضة المبردة في الظل رائحة الحياة. ثم كانت رائحة الحياة تنبعث من أواني الفخار المقبعة بطاقيات خوصية، من سلال الخيزران المنقوشة التي تحتوي على الملابس المتوارثة يرتديها الصغير بعد الكبير. ثم اتضحت الحياة في تمازج الرجال والنساء، في انبثاق الجديد من رماد القديم، في عمليات الوضع، موسيقى أبواق الأعراس والختان، الدماء الساخنة، عرق الأعضاء المشعرة، في بخار خلوات الحمامات، في بريق الذهب حول المعاصم والكعوب والأعناق.. هكذا أجبرت على التعرض لروائح الحياة الجديدة، لا غفو في الفىء بل محض ضجيج وصراخ ولعنات وهلاهل وأنات وضحكات رنانة وغصات... (ابحث عن مكانك). الويل لمن لا مكان له، فستكون ملاذه القحوف والجحور والقواقع.. (أين مكانك?). كانت تتولاني عند كل غروب شمس حيرة الشريد فأبحث في خوف عن مكاني. (ابحث عن مكانك)، بذلك كانت تناديني الأوراق الجافة وضفادع الأنهار وصراصر الحيطان، ونادتني بهذا النداء النيران المشتعلة في جبهات المدينة حين دخلتها أول مرة أحمل صرة ثيابي، وكان آخر ما رأيته في بيتي السابق في الضواحي خنجراً معلقاً ومسابح سوداء ولهباً مشتعلاً في رأس قنينة ملئت بالنفط... أصبحت متلائماً مع الرجات الحية، ومتداخلاً بتبدلات الليل والنهار، مجوفاً للصدى وعاكساً للنور والرغبات، خاضعاً للنظر والمكاشفة، متهماً بوطأة المواريث، دائراً عبر ممرات معتمة ذات نوافذ موصدة متكررة في وحدات هندسية تلتقى وتتداخل كمتاهة خشبية عزلت فيها تماماً عن أصوات المدنية، وسأدع حواسى تستطيل وتأخذ كل الاتجاهات، تتفرع وتنفرز، زيادات طائشة تتوالد وتتشاطر. أنا لا أعرف ما هو مدى حواسى التي أطلقتها ككلاب بوليسية مدربة، حواس همجية فطرية جائعة حالمة. أمسك الآن في وضوح بذلك الشعور المبهم الذي يتملكني كلما ارتفعت بي السلالم.
ونظرت من الأسيجة إلى الأسفل، يهولني ورم الأرض تحت أنفي وينتفخ القرار الأعمق للرغبة، الرغبة في الاكتشاف والحركة. امسك بعفونة الممرات الرطبة المظلمة المؤدية إلى دورات المياه، وأقبية الحمامات الضيقة ذات الجدران المتحجرة الخضراء الخالية من النوافذ المنحدرة السقوف، تنحشر فيها الطسوت النحاسية والدكات والأمشاط الخشبية ذات الأسنان الطويلة وليف التدليك ومنقوع الطين وعلب إزالة الشعر والأحواض الأسمنتية، أمسك بآثار الصراصر على الخشب وبتقشر دهان الأبواب، امسك برائحة الثياب المخزونة، وبالأجساد البشرية الحبيسة. ها أنا امسك بوجه أسود ملفوف بفوطة سوداء تنسدل على الكتفين، تكنس أذيال ثوبها أزبال الدرجات وطين الأحذية المتخلف على حافاتها، ولا تُحدث رجلاها المدسوستان في جوربين أسودين مثقبين أي خفق. في الصيف تمشي عوفه حافية، تترنح كبطة ملطخة بدخان زيتي. كانت عوفه أول امرأة عرفتها في المدينة، وبقيت في المسكن الذي تملكه حتى سنة استدعائي للخدمة العسكرية. أول مرة قالت: ألست ابن عواشه? ولم أكن أعرف من هي عواشه. قلت: نعم. وبعدئذ صرت أعرف بين سكان المنزل الكبير بابن عواشه. كانت تثرثر عن امرأة بهذا الاسم، وظلت تتكلم باستمرار، حتى ظننت أن عوفه هي الامرأة الوحيدة التي سأستمع إليها. لا يبدو أنها تهرم، وأنا أراها الآن كما رأيتها أول مرة، بعين صبي مندهش: امرأة عتيقة من مئات السنين، قطرة سوداء مشبعة بروائح حادة - روائح الأدوية المحلية وعتق الأقبية والتبغ الذي تمضغه أسنانها. حين أقترب منها يسد وجهها على المنافذ كخرقة يابسة أو كفلينة ذات مسامات مسدودة فلا يعرق أو يتنفس، ويبكي بلا دموع. كانت عوفه تبكي في بطنها. ولطالما كنت لصق جسدها، فلم يكن لي أول قدومي فراش لوحدي، فأرى ذلك الوجه القريب جداً من عيني تتموج طياته الرخوة باستمرار وتشكل ظلالاً قاتمة، ويتجه نحوي منخراه الواسعان وعيناه الغائرتان. حينذاك أتخيل جلدها تعبره الهوام والصراصر الحمراء فتترك آثار أرجلها وشواربها، وبقيت أرى تلك الآثار الدقيقة كلما خرجت عوفه من ممر دورة المياه، وكانت تخبرني: (لا شيء يخرج من بطني). لم يكن غيري يعرف محتويات غرفتها، صناديق عديدة مقفلة، حين فتحت أحدها بحضوري رأيت التعاويذ والمسبحات والأعشاب الطبية، وحينما التفت رأيت القناني الصغيرة التي لم تحركها يوماً من أمكنتها، مليئة بالأزرار المختلفة الحجوم والألوان وبالدبابيس والمسامير والخرز والوريقات المطوية والتبغ والرماد والخيوط، وبأشياء أخرى مجهولة، وعبر رأسينا المتقاربين كان ينتقل شلال من الأصوات الموخزة المكتومة، على وسادة محشوة بالنواح واحتضارات الكائنات التائهة: شخير أبي وتنهدات أمي وصرير الأبواب وأذان الفجر وصياح الديكة ونباح الكلاب وشكايات العجائز وتكسر العيدان في التنانير وارتطام العجين بالراحات الماهرة وبحة الأمهات المزكومات المتخمات بالكراث والفجل وماء الأنهار المسدودة وأهازيج جامعي التمر وصفعات الأجسام العارية لماء الأنهار والهلاهل والدرابك والولائم العشائرية وطلقات البنادق وانبجاس الدم وانسحاق الحنطة والرز في الجواوين ونخل الطحين بالمناخل ودوران أحجار الرحى الصخرية المنقرة ورنين الخلاخل ولطم الصدور ووقع القباقيب الخشبية وصرير المهود وتلاوات الأدعية والآيات وأناشيد الاطفال..
كان فمانا القريبان يتكلمان معاً باستمرار، فمها الضخم كلمني عن سم الفئران والقرمز ولبخات السدر وأسرار النساء، وكنت أندفع بالكلام عن بولي الدموي ودروسي الجديدة والطلاب القرويين وسراويلهم الواسعة وأحذيتهم المرقعة... في الأصبحة الشتوية كنا نبحث عن البقع المشمسة في حوش المنزل ، وتقعي النسوة شبه ناعسات قبل أن تبدأ أعمال النهار، الطبخ والكنس وترتيق الثياب وغسلها ثم تجفيفها والاستحمام، وجلسات الليل في الغرفة العلوية، والعشاء المشترك. ثم تستلقي النساء في أسرتهن تمسدهن أنامل النوم الجريئة. وبين كل هاتيك النساء كانت تقطن في المنزل امرأة غير أليفة، تكبرني بسنوات عشر، لم تتح لها الفرصة كي تبتسم بدلال، لكنها تتغلب على وحدتها بالخيال الطفولي الساذج، والتيه الفطري الحر. عرفتها أمام مرآتها وأنا أتجول بين الغرف. كانت تحدث مرآتها ذات الإطار الخشبي، وتبتسم لها كامرأة لا تعرف الابتسام، وهي تنمو على سطحها كبرعم أو ريشة، كما لو كانت تشهد آخر حياتها أو تشهد فجر البشرية الاول: الضوء والحب، وهي سيدة للخلائق، تسري بها مرآتها نحو الضفاف البعيدة المغطاة بالسلاحف والسراطين، كما تجوب بها السهوب ثم تدلف في نفق يفضي إلى غرفتها.
دخلت خلسة، وكانت المرآة تعكس ملاءات السرير المطرزة بفراشات، فرأيت الوجه ذا البشرة المشرطة بالشعر يتموج في عروق المرآة ويمتصه المصباح المنعكس. ثم رأيت وجهها ووجهي على صفحة نهر جنوبي صاف يجرفهما، ونادتني عيناها: (اقترب. اقترب). يدان من الذهب، يدان ناضجتان من العذاب طوقتاني وأطلقتا من داخلي الحياة التي طال احتباسها كنبع ساخن. كانت المرآة توقظ في أوعيتها لذة الانفراد، وتحرر صمامات التذكر: غرفة العرس، ومدفأة موقدة مسرة في الحمام، الحنة الحمراء الداكنة في راحات يديها وقدميها، تستلقى كحية دافئة وتحدثها النسوة الماشطات حديث الدفء والبكارة، وليمة من البخار والعسل والضحك والغمزات خلف ظهرها، متوجة وممهورة بالعفة، ثقيلة بالثياب والذهب، محاطة بنساء محمرات ومعطرات وزاهيات في جيوبهن الجانبية محفظات نقودهن الملئة بنفايات عزيزة وفي أصابعهن خواتم بفصوص كبيرة، تحت رجليها ترتمي حكايتها وثيابها وكلابها وقططها وسنينها القصيرة، عروسة ذات أسنان بيضاء وأضلاع غضة وأظفار رقيقة، ذات أقدام لم تطأ عتبة الدار ولا الأماكن الساخنة ولا الرطبة، ولم تدخل الظلمة بلا فانوس، ولم تسمع غير ما قيل لها بصوت عال، تخطو باحتراس وتملك الشجاعة والصبر، شعرها المنسرح لم تعبث به أمشاط الشياطين ولا مناقير الغربان، تحفظ عن ظهر قلب الصلاة والدعاء، تعقد ببطء وتقوم ببطء، لجلدها ملمس الحرير، أذناها بوقا الرحمة لم تسمع بهما إلا حفيف الاشجار وخفق أجنحة الطيور، فمها مسدود على جمر بارد وكلامها ساخن ذو رنين، أنفاسها تسيل كالشمع، راحتا يديها بلا تقاطيع غائرة، عيناها قطعتا ماس، عروس تسقط النجوم على ناموسيتها كل مساء صيفى وتفيض أشعتها فتعيد لقلبها نضارته وتوقده، هناك نجمة بعيدة تحمل ماضيها ونجمة تحوى أيامها القادمة ونجمة تخلد لذتها الرقيقة ونجمة ستحبسها للأبد. حملتها عربة أفراس تدرج بأجراس جانبية تشق أمواج الليل، تسوطها سياط تفتض الأغشية وتفتح الجراح، جراح بأجراس. في مقتبل العمر خرجت من البوابة الرعوية، لتدخل المتاهة الخشبية ذات المرايا. تقعد كل ليلة أمام مرآتها وتوجه إليها الأسئلة:
- أين أمكنتك?
- لا مكان لي.
- ما هو حلمك هذا المساء?
- لا شيء.. لا شيء.
- ما هي رغبتك?
- نسيان ولادتي وعرسي، فرحي وتعاستي، إقامتي وتنقلي، حبي وتبعيتي.
- أتحب الجارية?
- تحب وتفني في الحب، ولا تعرف للحب حداً لأنها لا تكتفي بحدود الطاعة والإخلاص.
- ما الذي يفرق بين الصدق والكذب?
- الموت واللذة.
- ما شكل رعبك?
- كأني أمشط شعرى بأمشاط من حديد منصهر، كأني متقيحة الأسنان ومتعفنة الأصابع.
- ماذا ترين?
- وجهي الضائع، وجهي الغريب عني.
- ماذا تتذكرين?
- الأشجار والعشب الندي والأفرشة النظيفة.
- ماذا تقول المرأة لزوجها?
- إني لك.. لك بثيابي وطراوتي وجهلي ودمي، حين تمرض وحين ترغب وحين تحضر وحين تغيب.
- إني لك.. لك بثيابي وطراوتي وجهلي ودمي، حين تمرض وحين ترغب وحين تحضر وحين تغيب.
- وماذا يقول الزوج?
- كل الخدع الجميلة.
- ما هي أمنيتك القادمة?
- ما يسندني. ما يغريني بالبقاء.
- ماذا في قلبك?
- سكون، خوف، لا قلب لي.
- من أنت?
- امرأة من طين.
- لمن تتكلمين?
- لا أعلم. لمن يحضر ولمن يرى ويسمع، لمن يعلم ولا يعلم.
- أين أنت?
- لا أدري. في غرفة خالية، في قزان فارغ. ولم تكن هنا، بين النساء، لكنها في مكان آخر من المنزل، في حجرة من حجراته الخمسين، المئة، في غرفته منزوية. في صندوق من صناديق عوفه. في سلة، في السرداب، في قبضة الظلام والرطوبة. أفتح الحجرات، نساء وحيدات، ساكنات تحت سحر الليل الأسود. حجرات مرتجة (أين نساؤها)، أي ساحر أقفل عليهن، ومضى في سفر طويل (هل من عودة?).
- من يملكك يا فتاتي?
- السادة وسدنة الأضرخة.
- من سيكسر أقفال وحدتك ويحررك? أين حريتك?
- الحرية? ما أغرب هذه الكلمة! علمني قبل أن تحررني. جرني من يدي، يا صقري الأليف.
أهبط السلم، الخشب يرشح صمتاً، ويراوغني خيط ضوء رفيع، وأشم رائحة طعام، رائحة بشرية لا تخطئها حواسي الكلبية. وفي ضوء عود ثقاب، يبقي في يدى طويلاً، دلتني أسماء النساء على غرفهن. هذه حجرة كريمة، سلومة، سامية، دلال، أفراح، سلام، وحيدة، شريفة، كمولة، فهيمة... (هذه الأسماء كتبها أطفال البيت بالطباشير على أبواب الغرف). أسماء نسوة نزيلات في المنزل، أو هجرن غرفهن إلى أماكن أخرى، مطلقات وأرامل وزوجات بحارة وسجناء وحراس ورجال غائبين دائماً، عاملات وبائعات وقابلات وغسالات وفراشات وخادمات ونادبات ومستشارات حكيمات، كما كانت عوفه تستقبل في غرف المنزل العليلات اللواتي يقدمن بحثاً عن علاج خاص لدي نسوة احترفن التطبيب والجراحة وتحضير الأدوية من الأعشاب.
فتاتي الضائعة، أصغر نساء المنزل، وغرفتها لها اسم كالباقيات.. (ما هي مهنتها?). أنا أجهل تماماً ماذا تعمل. لعلها عاملة في معمل خياطة، أو كاتبة طابعة. والمهنة الأخيرة تناسبها أكثر. 80 كلمة في الدقيقة، ولا كلمة واحدة لنفسها.
لم يخطر ببالي أني سأعثر عليها في مخزن الأمتعة. ما اختارت هذا المكان إلا لأنها تمر بواحدة من حالاتها الصعبة، تكون فيها كنملة في قزان فارغ كبير، وحيدة ونائية، تحت ناقوس زجاجي كبير، غير قابلة للمس أو الإسماع. ومن أجل تسميتها لا بد من إحضار كل نساء البيت، كل الأجداد والاسلاف، زميلات الطفولة، المربيات الرحيمات، سادات القري، كل الأيتام واليتيمات. إنها بعيدة هناك، ويقطع اسمها بحاراً وبريات قبل أن يصلها.
-ما اسمك يا بنيتي?
- سحالي (أم سليمان) وحدها تعرف.
- هل يدعونك سلومه، مظلومة، كرومة? حرية، جرية، جمرية، حمرية?
- عبيد الدواسر وحدهم يعرفون.
- حلاهن، سماهن، شامه، سلامه? هيله، جيله، غزاله، جماله، فاله، كاله?
- حيات النخيل وحدها تعرف.
- ?أيدعونك فخرية، فوزية، دلال، مثقال
- الحمامات المطوقات تعرف اسمي.
ومع أنها لا تحير جواباً، ولا ترد على هذه الأسماء، فإن اسمها نطق مرة بين الأسماء. كم كنت مخطئاً، إن فتاتي في متناول اليد دائماً..
(1970 - 1977)
عن كتاب في درجة 45 مئوي..