لأنّ الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها، تبدو فكرة الشيطانية (الشرّ المطلق) هي الفكرة الملاصقة والمقابلة لفكرة الألوهة (الخير المطلق) على مرّ تاريخ الأديان، منذ أن كان لكلّ إله إله آخر مقابل له، حيث ربّة الخصب والحياة مثلاً، قابلتها ربّة العالم السفليّ، وآلهة الحرب قابلتها آلهة السلام وهكذا. رغم ذلك، وبناء على تلك الفكرة، كان من الممكن أن تجتمع الألوهة والشيطانية في قوّة واحدة، أو إله واحد، وذلك حسب الحالة والمزاج والواقعة، فالآلهة متبدّلة متغيّرة في صفاتهم البشرية. لكنّ التوحيد الإلهيّ قابله فكرة التوحيد المقابل، أي إنّ توحيد الآلهة (الخيّرة)، إن صحّ التعبير، وحّدت الآلهة (الشريرة) أيضاً، وذلك عقب تعميم اليهود لثقافتهم الجديدة في التوراة: ثقافة توحيد يهوه. ولأنّهم اعتبروا أن ديانتهم سماوية فقد حاكموا العبادات والديانات القائمة باعتبارها ديانات وضعية، وغدت عبادة (بعل أو مردوك مثلاً) ديانة من صنع البشر ولا يعتدّ بألوهتها! بناء على ذلك عمل التوحيد على تجميع (الشرور) كلّها في بؤرة واحدة سمّيت: الشيطان أو إبليس (في النسخة العربية)، في ثنائية حادّة للظلام والنور والخير والشرّ. ووضع الشيطان مقابل الله كموسوس ومهدّم ونقيض للأفكار (الألوهية). وربما كانت معلومة دالّة أنّ كلمة الشيطان عبريّة الأصل ومعناهـا:(الضدّ والعدوّ). رغم ذلك يمكننا قراءة فكرة الشيطانية بأشكال متبدّلة عبر التاريخ من كونها فكرة ضدية للألوهة، تحمل معنى العدو ومعنى المختلف أيضاً، إلى فكرة ندّية لها، إلى فكرة تكاملية تجعل الألوهة والشيطانية وجهين لعملة واحدة، إلى استخدام فكرة لفكرة أي استخدام الإله للشيطان كتابع أو مستخدم... إلخ.
قبل الحديث عن الشيطان كقوة مفكّكة موسوسة، كما درج على معرفته، يمكن قراءة غواية الشيطان في بعض التأويلات باعتبارها خدمة لله، أي إنّ الشيطان هنا هو خادم لله في محاولة تضليل الإنسان، أو اختبار إيمانه بخالقه. فيبدو إبليس في فكر الحلاج الصوفيّ المخلوق الأكثر إيماناً بفردانية الحقّ الأحد. ويفرد الحلاج طاسينه السادس من كتابه: الطواسين، وهو بعنوان: طس الأزل والالتباس للحديث عنه كما يراه. فيفصّل في طلب الله من إبليس أن يسجد لآدم حين خلقه، ورفض إبليس لذلك مخاطباً الله: (وكيف أذلّ له وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟!) وحين اتهمه الله بالاستكبار قال إبليس: (لو كانت لي معك لحظة لكان يليق بي التكبّر والتجبّر! فكيف وقد قطعت معك الأدهار؟ فمن أعزّ منّي وأجلّ؟ وأنا الذي عرفتك في الأزل! أنا خير منه. لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك). نصّ الحلاج هذا، العميق والمشوق، يلعب على فكرة أساسية وهي التصاق ماهية الألوهة بالشيطانية منذ الأزل، فإبليس الذي رفض السجود للطارئ/ آدم كان الأكثر إيماناً بالله وتنزيهاً له من كافّة سكّان السّماء، لأنّه لا يسجد إلا لله وليس لمخلوقه الطينيّ التافه. ربما بدت الألوهية والشيطانية هنا نقيضين، لكنهما نقيضان متجاذبان بقدر تباينهما، ملتصقان بقدر ابتعادهما.
تمثلت فكرة الشيطانية بداية في القوّة المفكّكة التي حاولت منح المعرفة لحوّاء، وبدورها مرّرتها إلى آدم، فيما المعرفة لله وحده. أي إنّ الشيطان، المتمثّل وقتها في الأفعى، خالف رأي الأوحد في احتكار المعرفة والقرار، وراح يهبها لغير الله: أي لمخلوقه الطينيّ، والأصحّ لمخلوق مخلوق من ضلع الطيني. لكنّ تلك الفكرة البدئيّة للشيطان راحت تتحوّر وتتبدّل كمفهوم ودلالة وتمظهرات. ففي مسرحية غوته الشعرية الشهيرة مثلاً: فاوست 1771- 1831، والتي تعود فكرتها إلى وقت أسبق من ذلك، يبيع الدكتور (وربما كانت مهنته/ علمه دلالة على امتلاكه سرّ الجسد البشري) روحه إلى الشيطان مقابل المعرفة، أي حين سمح لنفسه بطرح الأسئلة الخالدة عن معنى الحياة والوجود والله، وبالتالي يضع فاوست نفسه في منطقة هي حكر على الخالق وحده وليس المخلوق، فيمشي كالمنوّم وراء رغباته، أو لنقل يتبع فردانيته دون أن تكون للمبادئ العامّة (أو الأخلاق الاجتماعية الدينية) قيمة لديه. تأتي هذه الفكرة كتكملة أكثر إنسانية للفكرة الأساسية التي ألصقها حكم الدين ورجالاته في عقول البشر بأنّ كل من يخالف إرادة الله، التي هي هنا إرادة رجال الدين، فقد باع روحه للشيطان. وهي فكرة مطّاطة متبدّلة وصلت عقوبتها في القرون الوسطى إلى الموت حرقاً أو شنقاً أو إغراقاً بناء على هذا الاتهام الخطير! إذاً فالشيطان هنا هو كل حركة ذهنية أو عملية تخالف حكم رجال الدين. ورغم مجيء ماني لينظّف المسيحية من تأثيراتها اليهودية الشرسة، كما ادّعى مراراً، إلا أنّه عمل على تعميق ذلك التناقض بين الله والشيطان/ الأبيض والأسود في فلسفته، أو ديانته إن صحّ التعبير، المانوية.
يحاول دان براون أن يتحدّث عن الأمر في روايته الشهيرة: شيفرة دافنشي، حيث يتحدث عن تزييف رجال الفاتيكان لتاريخ المسيح، ومحو كل الشواهد حول بشريته. ويحاول أن يؤكّد على إهدار الدين، كسلطة بطريركية، لدور المرأة حين حوّلت العالم من الوثنية المؤنّثة إلى المسيحية الذكرية بإطلاق حملة تشهير حوّلت الأنثى/ المقدّسة إلى شيطان، ومحت تماماً أي أثر للآلهة الأنثى، لتحوّل التوحد الجنسيّ بين الأنثى والذكر من فعل مقدّس إلى فعلة شائنة. تحويل المرأة إلى ممثّل للشيطان، وفي رواية أخرى إلى تجلٍّ له، يرتبط بفكرة شيطنة أيّ فكرة أو إنسان أو جهة لا تتطابق، أو لا تخضع، مع حكم رجال الدين والسلطات الثيوقراطية التي عمّت الكون. كما يقول سفر يشوع بن سيراخ، وهو نصّ عبرانيّ من القرن الثاني قبل الميلاد: "ومن المرأة بدأت الخطيئة، وبسببها نموت جميعاً".
الفكرة ذاتها طبّقت قبل ذلك بكثير حين راحت الأساطير الذكورية، ويقال إنّّها بدأت بأوّل نص ذكوريّ هو أسطورة الخلق البابلية: لإينوماإيليش، تشوّه سمعة الربات الإناث اللواتي خلقن، ومن ثم حكمن، الكون قبلاً. ذلك أنّ الخوف من الطاقة المؤنّثة، ومن الفاعلية الأنثوية بشكل أدقّ، عمل على جعل السلطات الجديدة تحارب تلك الطاقة بتشويهها لإبعادها. فتحولت ليليت مثلاً من ربة فاتنة، ملهمة للأمّهات وحبيبة للأطفال، إلى شيطانة تقتل الرضّع وتخنق الرجال وتصيب الأمهات بالعين الحاسدة. ويبدو ذلك واضحاً في تمظهراتها اللاحقة كميدوزا القاتلة والغورغونات المخيفات.
وتحوّلت باوبو أيضاً من فاتنة تثير الطاقات الجنسية الأنثوية، الأساسية في عملية الخلق، إلى شيطان داعر ليس له همّ سوى المجون وتفكيك الروابط الأسرية. فضمن الموجة ذاتها ستتحوّل ساحرات العصور القديمة: ميديا الماهرة بالسموم وسيرسيه الغورغونة، التي حولت رفاق أوليس إلى خنازير، إلى ساحرات العصور الوسطى، وهذا ما جعل قناع ميدوزا يتحول في الأوابد الأريكولوجية إلى شدق فاغر كبوابة للجحيم، أو صورة عرفت باسم أنياب الفرج أو الفرج المسنّن. وفرجها الذي انفصل عن وظيفته التناسلية الرمزية ألصق بالشيطان وبذرة الشيطان، حيث يصفها سفر الرؤيا بأنها عاهرة الشيطان فيقول: "... والمرأة كانت متسربلة بأرجوان وقرمز، ومعها كأس من ذهب في يدها، مملوءة رجاسات ونجاسات زناها، وعلى جبهتها اسم مكتوب. سر، بابل العظيمة أم الزواني ورجاسات الأرض". ارتباط عبادة الشيطان بالمرأة يتكثف في وثيقة الماليفيكاروم، وهي وثيقة كتبت في العام 1484، حين تقول: "كلّ السّحر يأتي من المتعة الجسدية، الموجودة في شهوانية المرأة.. ذلك أنها أكثر شهوانية من الرجل، كما هو واضح في كثير من رجاساتها الجسدية.. فمن أجل أن تحقق النساء شهواتهن فإنهن يتزوجن حتى من الشياطين".
إحدى ممثلات الشيطان أولئك كانت حنه ماري جورجيل، التي حرقت في مدينة تولوز حوالي سنة 1330، وهي تقول، كابنة حقيقية للشيطان، حين سؤالها عن رمز الأحبار والعقيدة الواجبة على كل مؤمن في الدين المقدس: (إن المساواة تامة بين الله والشيطان، الأول ملك السموات والثاني ملك الأرض، وكلّ الأرواح التي توصل هذا الأخير لإغوائها كانت ضائعة بالنسبة للعليّ الأعلى، وكانت تعيش أزلياً على الأرض أو في الأجواء، وتمضي كل الليالي لتزور محل إقامتها القديم لتوصي على أبنائها أو أقاربها الرغبة بخدمة الشيطان بدلاً من الله) ثم تعقب حنة ماري حديثها بأن المعركة بين الله والشيطان توجد منذ الأبد ولن تكون لها نهاية، فالنصر كان تارة حليف هذا وتارة حليف ذاك، أما في الوقت الحالي فتبدو الأشياء وكأنها انتصار مؤكد للشيطان. تعود فكرة الضدية بين الألوهة والشيطانية من جديد لكنها هذه المرة ضدية ندية، ليس لأي طرف من الأطراف امتلاك كلية الشر أو كلية الخير، إنهما ندان، لكل منهما منطقته الخاصة وأتباعه الخاصون المؤمنون به والأوفياء له وستستمرّ المعركة المقدرة طالما استمرت هاتان القوتان الأساسيتان.
وكان رجالات روبير التقي قد أحرقوا قبل ذلك، وفي سنة 1002، مجموعة سميت باسم: مذهب مانويي أورليان، وقد ألصقت بهم تهمة عبادة الشيطان لأنهم تجمعوا ليلاً (كي يترنّموا بأسماء الشياطين)، حتى يظهر لهم الشيطان بشكل حيوان مّا، وغالباً بشكل قطّ أسود. ويبدو واضحاً، كما قلت آنفاً، أن رجالات الدين، باسم الدفاع عن حكم الألوهة في الأرض، خلقوا أعداء لله كي يحاربونهم في الأرض بتهمة الشيطانية (المتبدلة المطاطة)، فماري دي ناغلوسكا، مؤسسة كنيسة الحد الثالث للثالوث (وفي رواية أخرى للتثليث)، لقبها راسبوتين بالشيطانة رغم أنها كانت تبشر بعهد جديد سوف تأتي فيه ديانة الأم لمصالحة قوة الظلمات مع روح الأنوار. إذاً كانت ماري تتحدث في فكرة تكامل الألوهة مع الشيطانية، حيث لن يكون المرء مناصراً لديانة الحدّ الثالث للتثليث إذا لم يقبل الفكرة التي تضع يهودا إلى جانب يسوع، والاعتراف بعمل الأول مكملاً للأخير بالطريقة ذاتها التي يكون فيها جهد الجانب الأيسر مكملاً لجهد الجانب الايمن في تكوين خطوة إلى الأمام. هذا ما يصبّ مباشرة في كون الشيطان مكملاً لله، أي أن الشر مكمل للخير، وربما جزء منه، وليس مضاداً له أبداً.
تبدو ماهية الفكرة الشيطانية، سواء أكانت قوة مناقضة للألوهة أم عدوة لها أم مكملة أم خادمة أو حتى مجرد فكرة معارضة لأجل المعارضة، فكرة جديرة بالتفكير والتحليل والتمحيص، وهذا ما عمل عليه الفكر والفلسفة والأدب على مرّ التاريخ البشري: صراع القوى في الطبيعة وفي داخل الإنسان (باعتبار الإنسان بؤرة مصغرة عن الكون الفسيح)، ومدى القدرة على تفكيك ماهية كل منهما وفهمه والتصالح معه، وحتى حين تصل الشيطانية اليوم إلى درجة من التفاهة بتحولها إلى علاج جنسي فقد يبدو الأمر شكلاً من أشكال دفع الفكرة إلى الأمام لديمومتها.
http://www.alawan.org/?page=articles&o...article_id=2151