يمكنكم التحميل من:
http://www.4shared.com/file/RQ_-MrGy/___.html
للمزيد من المعلومات (نقلا عن
هنا)
حياة ديك الجن
في مدينة حمص، وفي واحد من أحيائها القديمة([1])، ولد عبد السلام بن رغبان وعاش في هذه المدينة حياته الحافلة التي امتدت قرابة خمسة وسبعين عاماً([2]). ونستطيع أن نميز في حياته مراحل ثلاثاً، مع الانتباه إلى أن الحياة الإنسانية كلٌّ متكامل متداخل لا يقبل الفصل .
المرحلة الأولى : الطفولة والشباب
عاش ديك الجن في طفولته حياة عادية، لم يأبه بها أحد، وليس هناك ما يميزه من أترابه، كما أن كتب التراث لا تذكر شيئاً عن طفولته. لقد أصاب هذه الطفولة من النسيان والتجاهل ما يصيب طفولة معظم المبدعين الذين لا يُلتفت إليهم إلا بعد ظهور مواهبهم وتأكُّدها.
وما نستطيع الجزم به أن ديك الجن دُفع في طفولته إلى المساجد حيث المعلمون والعلماء، وحيث حلقات الدرس والبحث. ولقد انسحبت هذه الفترة على طفولته ومراهقته وصدر شبابه، لأن آراءه وشعره ينطقان بتحصيل كم وافر من مختلف علوم عصره.
ولقد سارت حياة عبد السلام، في مرحلة شبابه، على صورة واحدة لا تتخطاها ولا تحيد عنها، وكانت اللذة المادية في شتى أشكالها وألوانها هي المكوّن الأساسي لهذه الصورة. لقد انكب على اللذات انكباباً مطلقاً فأدمن معاقرة الخمرة ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جرياً وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة. إنه لا يفرّق بين ذكر أو أنثى، فتاة أو امرأة، جميلة أو قبيحة. وهو القائل
[3])
حَدُّ ما يُنكَحُ عنـدي / حَيـوانٌ فيه روحُ
أنا من قولـي مَليحٌ / أو قبيحٌ مسـتريحُ
كلُّ مَنْ يمشي على / وجهِ الثَّرى عندي مَليحُ
لقد عاش شبابه مغامرات متصلة، ولعل من أبرز هذه المغامرات غرامه ببَكْر بن دَهْمَرْد([4]) .
وبكر هذا غلام من أهل حمص تعشّقه ديكُ الجن واشتهر به، وكان جميلاً فاتناً. ومن أشهر ما قاله فيه، وكان يجالسه في ليلة قمراء([5]) :
دَعِ البدرَ فَلْيَغْرُبْ فأنتَ لنا بدرُ / إذا ما تجلّى من مَحاسِنِكَ الفجرُ
وإمّا انقضى سحرُ الذين ببابلٍ / فطَرْفُكَ لي سِحْرٌ وريقُكَ لي خَمْرُ
ولو قيلَ لي:قُـمْ فادْعُ أحسنَ مَنْ تَرى / لصحتُ بأعلى الصوتِ يا بَكْرُ يا بكـرُ
ولكن بكراً لا يستجيب لديك الجن فينقلب عليه ويجد الفرصة مواتية ليناله بهجائه اللاذع، حين علم أن جماعـة من المُجّان، احتالوا عليه فذهبوا به إلى متنـزه ( الميماس ) على نهر العاصي([6]) فأسـكروه، وفسقوا به جميعاً. ومما قاله فيه([7]) :
وثقتَ بالكأسِ وشُـرَّابها / وحَتْفُ أمثالـكَ في الكاسِ
ودَيْرِ مِيمـاسٍ ويا بُعْدَمـا / بينَ مُغيثيـكَ ومِيماسِ
تقطيعُ أنفاسـكَ في أَثْرهِمْ / ومَلْكِهِمْ قَطّعَ أنفاسـي
لقد بدد ديك الجن في هذه المرحلة كل ما ورثه من مال عن آبائه([8]) وتعرض لمضايقة مجتمعه، بل الصدام معه، بسبب مجونه المكشوف الذي لم يكن يهتم كثيراً بإخفائه عن عيون الناس. وكان ابن عمه أبو الطيب من أشد الناس عليه، ولقد هجاه ديك الجن بقصيدة مطولة، ومطلعها
39)
مَوْلاتُنـا يا غُلامُ مُبْتَكِـرَهْ / فباكِـرِ الكأسَ لي بلا نَظِرَهْ
كما هجا أهل مدينته جميعاً لمضايقتهم لـه وإنكارهم إفراطه في الخلاعة والمجون، ومما قاله فيهم
[9])
سمعوا الصلاةَ على النّبِيِّ تَوالى / فتفرَّقوا شِيَعاً وقالوا : لا لا
يا أهلَ حِمْصَ تَوَقّعوا مِنْ عارها / خِزْياً يحلُّ عليكُمُ وَوَبـالا
لقد دفعه الصدام مع مجتمعه إلى الفرار إلى الطبيعة والانزواء في بساتين حمص وغياضها، بعيداً عن أعين المترّصدين وعَذل اللائمين وتقريعهم .
المرحلة الثانية : وَرْدٌ .
كان لقاء ديك الجن بورد حادثة معترضة في مسيرة حياته اللاهية العابثة، ولكن هذه الحادثة لم تنقض بسلام، بل مرت في حياته مرور العاصفة العنيفة التي انقشعت بعد حين مخلّفة وراءها خراباً لا يُعَمَّر، وكسراً لم تجبره يد الأُساة. لقد أحدثت شرخاً عميقاً في قلب ديك الجن، واستمر هذا الشرخ المتفجّع ينـزف مرارة وفجيعة، صابغاً أيامه بلون الدم المُراق، فكان لا يرى إلا الحُمرة، وكان لا يحسّ إلا بالوجع المرّ، ولا ندري كم امتدّت آثار هذه العاصفة في حياة الشاعر، وإلى أيّ مدى بقيت طريّة مُعْوِلَةً في ذاكرته، ولكن من المؤكّد أنه لم ينسها بقية أيامه. ولئن بَهَتَ لون الدم قليلاً، وتعب العويل فخَفَتَ، فإن هذا لا يعني التئام الجرح أو برءه، ذلك لأن البقع الحمراء بقيت تطفو في ذاكرة ديك الجن بين الحين والحين، والعويل المجهد يعاود أذنيه، حتى تخطّفته يد الموت. لقد بقيت نظرات الرعب الزائغة في عيني ( ورد ) لعنة تطارد الشاعر، وتحيل حياته فجيعة، بل جرحاً ناغراً لا يعرف السكينة، فمن هي ( ورد ) هذه ؟
لقد اختلفت كتب التراث اختلافاً كبيراً حولها، وانصبّ الخلاف على اسمها فالبعض يجعله ( ورداً )،([10]) والبعض الآخر يجعله ( دُنيا )([11])، كما يهمل البعض اسمها فلا يذكره([12]). وكان الخلاف الثاني حول أصلها. فالأغاني يجعلها فتاة نصرانية، بينما يجعلها بعض المتأخرين جارية لديك الجن. أما الخلاف الثالث فحول مسكنها. فكتب المتقدمين تجعله مدينة حمص، بينما يجعله نسيب عريضة، الشاعر الحمصيّ المهاجر، قرية من قرى حمص تدعى (الدُّوَيْر)([13]).
وانفرد عمر رضا كحالة برواية تجعل من ورد " مغنية نصرانية من حمص كانت تجيد الغناء مع فصاحة وبراعة "([14]). وهو وَهْمٌ وقع فيه المؤلف حيث خلط بين ورد، معشوقة ديك الجن، وورد، جارية ( الماهاني ). وقد نقل صفة الغناء من جارية الماهاني وألصقها بورد معشوقة ديك الجن([15]) .
وأرجح الظن، في رأيي، أن ورداً واحدةٌ من جاراته النصرانيات أحبها ديك الجن، وأحبته، فأسلمت على يديه، وتزوجها. ولا غرابة في ذلك، ومثل هذه الحادثة يقع كثيراً في مجتمعاتنا المتسامحة، ولكن الغرابة تنبع من النهاية المأساوية الفاجعة لهذا الزواج. لقد انتهى بمصرع ( ورد ) بسيف زوجها، العاشق الغيور، فكان هذا الزواج وما رافقه من قصة حب فوّارة بالعواطف الإنسانية، ثم ما استتبعه من قتل مأساويّ، حدثاً فريداً في تاريخنا الأدبي .
المرحلة الثالثة : الكهولة فالشيخوخة.
ليس لدينا الكثير لنقوله عن هذه المرحلة من حياة ديك الجن. فقد هدأت العاصفة، وانقشعت غيوم الحادثة المعترضة في مسيرة حياته، بمصرع ورد، زوجته ومعشوقته التي كانت حُبَّه الصادق اليتيم؛ وعاود الديكَ الحنينُ إلى متابعة السير في دروب اللهو والمجون .
وفي ظنّي أنه لم يعد مندفعاً عنيفاً كأيام شبابه، فذكرى ورد، بجرحها الناغر، ونظراتها الزائغة، لا تفارقه. وما غرقه في اللهو والخمر إلا ضرب من التناسي أو النسيان. وأنّى له أن ينسى ؟
وهذه صورة من شريط حياته ينقلها لنا سعيدُ بنُ يزيدَ الحِمصيّ، الذي كان يتردد على ديك الجن، يكتب عنه شعره. لقد دخل عليه في أخريات أيامه وقد شابت لحيته وحاجباه وشعر يديه، وصبغ لحيته وحاجبيه، وبين يديه صينية الشراب، وهو يضرب بطنبوره، ويتغنى بشعر نفسه([16]) :
أقصيتموني مِنْ بعد فرقتكم / فَخَبِّروني عَلامَ إقصائي
عَذَّبني الله بالصُّدودِ ولا / فَـرَّجَ عنّـي همـومَ بَلْوائي
إنْ كنتُ أحببتُ حُبَّكُمْ أحداً / أو كان هذا الكلامُ مِنْ رائي
فلا تصدُّوا فليسَ ذا حسناً / أنْ تُشْمِتوا بالصُّدودِ أَعْدائي
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
([1]) يدور على ألسنة الناس في حمص أن ديك الجن عاش في حَيّ ( باب الدُّرَيْب ) وهو من أقدم أحياء المدينة، يقع قرب أسوارها الشرقية، وما يزال هذا الحيّ قائماً. ويتعايش فيه المسلمون والنصارى. وقد سمي أحد الشوارع المؤدية إليه باسم ( شارع ديك الجن الحمصي ). وانظر كتاب أعلام الأدب والفن : ج 1 / 19. ( أعلام الأدب والفن: أدهم الجندي. دمشق، ، لانا، 1373 هـ / 1954 م ).
([2]) بعض المصادر تجعل وفاته سنة 235 هـ / 849م، وانظر وفيات الأعيان : ج 3 / 185 والأعلام : ج 4 / 128.
([3]) انظر هذا الديوان : المقطوعة 46 ص105.
([4]) الأغاني : ج 14 / 60 .
([5]) انظر هذا الديوان : المقطوعة 73 ص 130.
([6]) الميماس :متنـزه لأهل حمص على نهر العاصي ،يقوم فيه الآن عدد من المقاهي ويحمل أحدها اسم " ديك الجن ". وكان فيه زمن الشاعر دير للنصارى، وكانوا يعتقدون أن في الدير شاهداً من حواريّي السيد المسيح، يشفي المرضى. انظر : جولة أثرية في بعض البلاد الشامية : ص 353. ( جولة أثرية في بعض البلاد الشامية : أحمد وصفي زكريا. دمشق، دار الفكر، ط2، 1984 م ).
([7]) انظر هذا الديوان : المقطوعة 96 ص 159.
([8]) الأغاني : ج 14 / 52 .
([9]) الأغاني : ج 14 / 67. وكان أهل حمص في معظمهم من اليمن، ولأن خطيبهم كان يصلي في خطبته ثلاث مرات على النبيّ ( ص ) العدنانيّ، فقد تعصّبوا عليه وعزلوه، فهجاهم ديك الجن لهذا السبب. وإذا صحّ هذا الخبر فإنه يكون دليلاً على ما بلغه القوم من تعصّب قَبَليّ.
([10]) الأغاني : ج 14 / 55.
([11]) وفيات الأعيان : ج 3 / 186.
([12]) تاريخ دمشق : ج 42 / 241 .
([13]) الدُّوَيْر : قرية للنصارى على نهر العاصي شمالي حمص. وفي ظني أن نسيب عريضة ربط بين ( الدوير )، وبين خروج ديك الجن الدائم إلى بساتين العاصي التي تشكل هذه القرية امتداداً طبيعياً قريباً لها. وانظر مجموعة الرابطة القلمية لسنة 1921 : ص 128. ( أعمال الرابطة القلمية لسنة 1921 : قصة ديك الجن الحمصي. لنسيب عريضة. بيروت، دار صادر، دار بيروت، 1964 م ).
([14]) أعلام النساء : ج 5 / 277. ( أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام : عمر رضا كحّالة. بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1397 هـ / 1977 م ).
([15]) انظر العقد الفريد : ج 8 / 116. حيث نقل كحالة العبارة بنصها عنه. ولم أعثر على ترجمة للماهاني، ويبدو من السياق، أنه واحد من رجالات العصر العباسي .
(العقد الفريد : ابن عبد ربه ( أحمد بن محمد ) : تح محمد سعيد العريان. دار الفكر، لا. تا ).
([16]) تاريخ دمشق : ج 42 / 239.