المراهقة الثورية .
"متلازمة " ميدان التحرير الذي أصبح ظاهرة جديرة بالدراسة ، كذلك الحوارات التي جرت بيني و بين بعض الزملاء الذين تحولوا بدورهم إلى قادة لثورة 25 يتاير كغيرهم من 85 مليون مصري دفعتني للتفكير مجددا في "أطروحة" كانت مثارة بقوة في زمن التحول الإشتراكي في مصر الناصرية ، هي أطروحة " المراهقة الثورية " ، تلك الأداة التحليلة التي أراها كاشفة و ذات قدرة تفسيرية عالية لما يستغلق على فهمنا من تعثر ملحوظ للثورة المصرية ، الثورة التي قفزت في زمن قياسي من نضارة الربيع إلى جهامة الخريف ،و التي أخشى أنها في سبيلها للتحول في نظر الأغلبية الشعبية من المصريين من حلم إلى كابوس ، و من فرصة تاريخية إلى أزمة تاريخية أيضا .
نعلم أن الماركسية هي أهم المدارس الفلسفية و السياسية التي اهتمت بالثورة و ناظرت لها ، فالثورة هي أداة طبقة البروليتاريا للوصول إلى الحكم ، أي هي الآلية الأساسية التي يعمل بها التاريخ الماركسي . أطلق المفكرون الماركسيون سيالا من المصطلحات الثورية التي أثرت القاموس السياسي ، أحد هذه المصطلحات التي شاعت في عالمنا العربي في فترة المد الإشتراكي تعبير " المراهقة الثورية " و هو تعبير ينسب إلى " فلاديمير إيليتش لينين " الذي أطلق هذا التعبير على مرض معروف في كل الثورات ، هذا المرض الثوري يقوم على رفع شعارات طوباوية براقة و لكنها بالغة التطرف لا تعبر عن المرحلة التاريخية والاجتماعية للتطور ، و يمثل موضوع " المراهقة الثورية " مبحثاً مهماً في الفكر السياسي المتعلق بفلسفة الثورة . وهو يعبر عن عدم فهم الواقع المعاش من قبل الثوريين ، ومن ثم التقليد الأعمى لأحداث في مجتمعات وثورات مختلفة ، لا يتماشي واقعها مع واقع المجتمع التي يعيش فيها هؤلاء "المراهقون الثوريون" .
ومن الجدير بالملاحظة أن جميع القادة الثوريين من لينين مرورا بستالين و ماوتس تونج و جيفارا و جمال عبد الناصر اشتكوا من هذا المرض و خطورته . و يبدوا أن هذا المرض سريع التحور ، فنجد أن الزعيم الصيني الثوري ماوتسي تونج انزلق هو أيضا فيما حذر منه ، في فخ المراهقة الثورية عندما أطلق " الثورة الثقافية " التي امتدت لحوالي عشر سنوات ، خلال تلك السنوات انهارت الدولة الصينية أو كادت ، بينما أوشكت إنجازات الثورة أن تتبخر هباءا على يد نفس الزعيم الذي قاد الثورة .
لهذه المراهقة متلازمات محددة يمكن اكتشافها بوضوح في الحالات المشابهة من أهمها :
1- المبالغة في المطالب الثورية بما يتجاوز الواقع و الفرص المتاحة .
2- حرق المراحل التاريخية للثورة وعدم الواقعية .
3- الهدم الكامل لبنى المجتمع السياسية والإقتصادية و الإدارية ،و تفكيك مؤسسات الدولة و ضرب كوادرها ، دون أن يكون هناك بناء مقابل .
4- إقصاء الآخر و تخوينه .
5- تبني الدعوة للثورة المستمرة أو الثورة الدائمة ، القائمة على التظاهرات و الإعتصامات و الإضرابات و العصيان المدني ، دون تحديد نقطة يتوقف عندها الهدم ليبدأ البناء ،و نودع فيها شرعية القطيع لتبدأ الشرعية الدستورية .
6- العجز عن تقدير التكلفة الإقتصادية للثورة و إمكانية توفيرها دون الوصول إلى الخراب الإقتصادي .
7- فكرة تصدير الثورة للمجتمعات الأخرى .
كل النشطاء السياسيين العرب و المصريين بوجه خاص - في الغالب الأعم - من الهواة غير الدارسين أو الفاهمين للسياسة و علومها ، و معظمهم من الدوجمائيين المعلبين في أطر دينية أو سياسية و مذهبية ضيقة ، الذين يمارسون الأفكار كعقائد دينية ، و بالتالي فمن الصعب عليهم التفكير الحر العقلاني ، لهذا فمن المستبعد أن يكون أحد أولئك الذين يثرثرون بلا توقف في منتديات التواصل الإجتماعي أو في أجهزة الإعلام أو من الذين يصيغون مطالب الثوار قد قرأ كتابا واحدا في السياسة أو التاريخ و الإقتصاد ، هؤلاء النشطاء السياسيون لا يجيدون غالبا سوى الإدعاء و الثرثرة الشعبية . لهذا من الضروري أن يدرك كل من يعمل في المجال السياسي هذه الحقيقة ، و بالتالي عليه ألا يسلم نفسه للدعايات الدوجمائية المبتذلة حتى لا يرتكب أخطاء ومن ثم يعرض نفسه ومجتمعه لكوارث ونكبات بحسن نية وسوء تقدير على السواء ، علينا أن ندرك أيضا أن المراهقة الثورية ليست بالضرورة محصورة في مرحلة عمرية بذاتها ، فالمراهق هو كل إنسان حاد المشاعر محدود الخبرة ، صغير العقل ، ضيق الأفق ، شديد الحماس لأفكاره لا يرى غيرها حتى يكتشف أنها كانت مجرد دخان في الهواء أو أثار اقدام على رمال الشاطئ !. و المراهقة الثورية أيضا ليست شيئا مختلفا كثيرا .
لسوء الحظ و بؤس الطالع تمر مصر الآن بحالة من المراهقة الثورية ، فمصيبة الثورة المصرية أنها لا رأس لها ولا قائد ولا محرك، فكانت مطمعاً لكل من أراد أن يقفز عليها ليوجهها كيفما شاء، فنجد أن الإنتفاضة الشعبية التي غيرت نظام الحكم كانت تفتقد كلية إلى القيادة التي تعبر عنها ، هذا الفراغ أدى إلى أن يقفز على الثورة مجموعة من المراهقين السياسيين بعضهم من المشاهير المخضرمين ! ، غالبية هؤلاء القادة لا خبرة لهم ولا تبصر بخطورة التطرف الثوري . منذ 11 فبراير و تنحي الرئيس السابق ، بدأت ظاهرة المراهقة الثورية جلية ،و يمكن تحديد مجموعة من الأعراض الخطيرة التي لا تخطئها عين .
1- ما نشاهده الآن في مصر من دعوات أسبوعية لاعتصامات يشارك فيها المئات أو الآلاف لاسباب مختلفة ، وهناك فرق كبير بين ثورة خرج فيها الملايين للمطالبة بحقوق مشروعة متفق عليها بين جميع أطياف الشعب وبين بضعة آلاف لهم مطالب قد يتفق على بعضها عموم الشعب ولكن لا يرى ضرورة من تكرار الخروج من أجلها وتعطيل مصالح الناس ووقف الإنتاج وخلق حالة من انعدام الاستقرار.
2- الضغط من أجل إدارة البلد خلال التظاهر و إبتزاز السلطة الحاكمة ، و السعي الهزلي لإدارة الدولة بواسطة عدة آلاف يجلسون في ميدان التحرير ، مصرين أن تنصاع الدولة لرغباتهم مهما كانت, مدعين أن دورهم هو إصدار الأوامر ، بينما واجب الحكومة – الضعيفة – أن تطيعهم .
3- ما نلمسه من فوضى عارمة أصبح ميدان التحرير رمزا له ، هذه الفوضى تسمح بتسلل البلطجية والمنتفعين من النظام السابق إلى العمل من جديد ، هذا كله يؤدي إلى إرسال رسائل سلبية للعالم مفادها "أن هذه الشعوب لا يصلح معها إلا اليد الحديدية فإذا شعرت بالحرية تمردت ولم تنقد حتى لما فيه مصلحتها".
4- هؤلاء المراهقون الثوريون يكونون عادة منساقين بالشعارات ، يقودهم بعض النشطاء الذين يجلسون في مكاتبهم المكيفة أو في فيلاتهم المكيفة أيضا في في دبي ، هؤلاء النشطاء المغامرون يشعرون أن المجد الذي صنعوه بضربة حظ نادرة يبتعد عنهم ، و بالتالي يحاولون بضراوة استعادته ولو على حساب مستقبل البلد .
5- الدعوات المتطرفة بهدف فرض الإرادة على السلطات السياسية ، رغم خطورة هذه الدعوات على الأمن القومي ، مثل إغلاق مجمع التحرير، والدعوة إلى إغلاق قناة السويس و ميناء الأدبية ، ومحاصرة مؤسسات الدولة ، هؤلاء المراهقون السياسيون يعملون بحسن نية ضد أهداف الثورة ومبادئها دون أن يدركوا الموقف. كذلك الإستخفاف بالقانون والتسبب في التسيب السياسي و الأمني و الخروج على القانون ، و أن يتحول كل ناشط إلى قائد، فواحد يعتصم وآخر يتظاهر وثالث يوجه الاتهامات للآخرين و الجميع لا يعملون ، ومن ثم تحل بمصر كارثة عظمى أكبر مما يمكن تصوره .
6- الدعوة إلى إلغاء معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، و تدمير كل إنجازات الدبلوماسية المصرية بحجة أنها تمت تحت حكم الرئيس السابق .
7- الدعوة إلى إعدام مبارك و كل أركان حكمه بدون محاكمة قانونية سليمة ، بحجة أن هناك محاكمة شعبية تمت في الشارع و أصدر أحد المستشارين السابقين حكمه بالإعدام بناء على إرادة الشعب !.
8- الدعوة إلى إعادة العلاقات مع إيران بشكل فوري ، بينما تحجم إيران عن ذلك !، ودون الأخذ في الإعتبار الموقف العربي خاصة دول الخليج .
9- الدعوة المتهورة إلى المواجهة مع القوات المسلحة . وغاب عن هؤلاء أن الغالبية العظمى من شعب مصر لن يكونوا فى يوم فى مواجهة مع الجيش الذى حماهم عبر السنين، ولن يستجيب عاقل يخاف على مستقبل البلاد لدعاوى الغوغائية والقلة ذات الصوت العالى التى توجه الأمور نحو المواجهة.
في 11 فبراير حققت الإنتفاضة الشعبية أهدافها و سقط النظام ،و لكن المراهقة تحول دون اتجاه الشعب إلى بناء المستقبل ، بل تسعى لإسقاط النظام الذي سقط بالفعل ، فهي لا تجيد سوى الهدم .