كان علم الاجتماع المتخصص بالدين مهتماً - في معظمه- بإدراك طريقة تفكير المتدينين حول الإيمان والروحانية، إلا أنّ إيلين هوارد إكلاند، عالمة الاجتماع في جامعة رايس، قد وجّهت اهتمامها في الأعوام الأخيرة إلى العلماء في أفضل جامعات البحث في أمريكا : مجموعة تضمّ نسبة عالية من الملحدين واللاأدريين، وقد فاجأها اكتشاف محدّد بوجه خاصّ، فوفقاً لمعاينتها 1700 عالماً طبيعياً واجتماعياً فإنّ 22% ممّن يقولون إنّهم ملحدون يعتبرون أنفسهم روحانيين.
وعندما فاز عالم الفلك في جامعة كامبردج "لورد مارتين ريس" بجائزة تمبلتون للعام 2011، عبّر البعض عن دهشتهم لفوز عالم بارز معروف بإلحاده بجائزة مرتبطة بالارتقاء الديني، ومع ذلك فقد وضّح الدكتور "جون م. تمبلتون الإبن" رئيس مؤسسة جون تمبلتون في إعلان رسميّ أنّ اللورد ريس قد ساهم بعمق- مع أنّه رسميّا غير متديّن- في الإدراك الروحيّ والأخلاقيّ للبشرية من خلال عمله العلميّ.
ويقول د.تمبلتون: "بأنّ مارتين ريس، بدراسته لأبعد النقاط في المجرّات، قد فتح نافذة على أعماق إنسانيتنا، مشجّعاً كلّ فرد منّا على أن يواجه أكثر الأسئلة جوهرية في طبيعتنا ووجودنا".
تضيء قضية اللورد ريس شيئاً خاصاً حول ما يمكن للمرء تسميته "الروحانية الإلحادية"، وكما أشارت عالمة الاجتماع إكلاند في بحثها الجديد، والذي ألّفته بمساعدة عالمة الاجتماع إليزابيث لونغ والذي نشرته في مجلة (sociology of religion)، فإنّ الروحانية عند عامة الناس "غالباً ما تكون متأصّلة في فكرة الله"، ما يعني أنه لا بدّ أن يكون للعلماء الملحدين مفهومٌ عن الروحانية مختلف عن غالبية الأمريكيين.
تعمّقت إكلاند، في مقابلاتها مع 275 عالماً، في معتقداتهم الروحانية والكيفية التي يجدون فيها معانيَ وغاياتٍ وجّهت اهتمامها بعيداً عن الإيمان، وقد تحدّثتُ مع (big question online) حول ما عرفته عن هذا الموضوع:
لقد وجدت بأن حوالي 67% من العلماء روحانيّون و22% من العلماء الملحدين يعتبرون أنفسهم روحانيين، ما الذي يقصدونه "بالروحانية"، هذه الكلمة التي تُعرّف بوجه مختلف من قبل أناس مختلفين؟
لقد عنوا أشياء مختلفة، ولذلك فإنّ ما حاولت القيام به هو اكتشاف ما يمكن أن يكون أكثر التعاريف تطابقاً فيما بينهم، فالروحانية عندهم هي شيء خارج عنهم، وليست فقط إثباتا للذات، بل رغبة في رؤية شيء أكبر من ذواتهم يوجّه ما يفعلونه في الواقع، والعديد منهم تحدّث عن اهتمامهم الكبير بطلبتهم كشيء نابع من روحانيتهم، وكان شيئاً متطابقاً مع العمل الذي يقومون به كعلماء.
هم حقاً صادقون في ذلك، واقتنعت بذلك عندما أجريت معهم مقابلات معمّقة حيث جلست معهم في مكاتبهم وتحدثت إليهم لساعات حول ذلك، لقد كانوا صادقين جداً ولديهم طريقة منظمة في مناقشة الموضوع. لديهم أشياء محدّدة يؤمنون بها، فالذين قالوا: "حسناً، إذا كنت حقاً تدفعينني إلى الحائط، أظنّ بأنني سأقول بأنّي روحانيّ"، أنا لم أعتبرهم "روحانيين" ولم أفكّر بالذي يعنيه ذلك حقاً لهم.
يبدو من بحثك أنّ العلماء الملحدين لا يستخدمون التفسير الذي يستخدمه أغلبنا عن الروحانية، فروحانيتهم علمانية بامتياز، وهي غير مرتبطة بالألوهية، ولا يستخدمون لغة دينية تقليدية في وصفها، وفي الواقع هم ينظرون للروحانية والدين كشيئين مختلفين تماماً، فعلى أيّ أسس بُنيت روحانيتهم؟
سعيهم الشخصي نحو الحقيقة والذي هو راسخ في علمهم وخارجه، وشيء من أخلاق الحياة.. فالعلماء الروحانيون، وبوجه خاص الملحدون منهم، يعتبرون أنفسهم مختلفين عن العلماء الملحدين غير الروحانيين، لقد أنشؤوا حدّاً فاصلاً وواضحاً بينهم وبين العلماء الملحدين غير الروحانيين، وقد تحدثوا بصورة رئيسية عن الاختلاف في طريقة التعليم، حيث أنهم يميلون أكثر إلى الاهتمام بحاجات الطلاب، وأيضاً التأكد من أن الطلاب يحصلون على أعمال مناسبة لهم أكثر مما هي مناسبة لأوصيائهم، إنهم يحاولون حقاً مساعدة طلابهم أن يصبحوا أفراداً كاملين، حتى لو لم يصبحوا علماء جيّدين… أشياء من هذا النوع.
ويبدو أيضا أنّ العلماء الروحانيين يضعون حداً فاصلاً بينهم وبين الروحانيين من غير العلماء؟
يوجد فرق كبير بينهم وبين إدراك الناس الشائع عن الروحانية. هناك شخصان ممّن اقتبست منهما (في بحثي) مميّزان جدّاً عن الآخرين، وقد قالا أشياء مثل: "أدرك كون الروحانية العامّة تتمحور كلها حول الله والإيمان بالله ولكني لا أراها بهذه الصورة"، وهذا صحيح، وذلك من معلومات الدراسة الذي أعددتها وكلّ أنواع المعلومات التي لدينا عن الحياة الدينية عند العامة، فالناس حتى لو لم يكونوا منتظمين في دين معين، ينظرون إلى الروحانية كمرادف للإيمان بالله.
أنا لست مندهشة لأنّ العلماء يعتقدون بوجود غموض في العالم وأن العلم يجلب نوعاً من الجمال، ولكني مندهشة لأنّ العلماء الملحدين يفكّرون في ذلك، لأنّ الملحدين يقدّرون أنفسهم لامتلاكهم نظرة عصرية للعالم، فالعلم هو كل ما كان وما هو كائن وما سيكون، والعلم يشرح كل شيء، فلا وجود لشيء خارجه، يبدو لي هذا مختلفاً عن نظرة العلماء الملحدين الذين يعتقدون بوجود شيء بصورة كامنة خارج العلم، شيء أكبر منهم وله سطوة عليهم، طبعاً من الممكن أن يكون الله إلا أنهم ببساطة لا يدركون ذلك، وليس من واجباتي كباحثة أن أحكم على الموضوع، وعلى أية حال هم لا يرونه كإله، هم يجدونه كهذا النوع من الروحانية الذي هو مختلف عن الرأي الشائع وأيضاً عن رأي العلماء الملحدين اللاروحانيين.
ما الشيء الجذّاب الذي يجدونه في الروحانية كما يفسرونها؟
إنّ الأمر ذاتيّ، فهناك رغبة عارمة بين هؤلاء العلماء للسعي نحو الحقيقة بصورة شخصية، الحقيقة التي لم تظفر بها حياة المجتمع غير المفكر، فهم لا يريدون الإيمان بشيء فقط لأن أحد شخصيات السلطة الدينية يطلب منهم الإيمان به، هم يريدون أن يعرفوا أنها الحقيقة بأنفسهم، هم حقاً يريدون أن يعرفوا عن يقين وبطريقة شخصية أكثر من أن تُغسل أدمغتهم من قبل السلطة الدينية، وهم يشعرون بأن ذلك مختلف عن الإدراك الشائع. وطبعاً لدى البعض منهم مفهوم متسرع وازدرائيّ للدين، فهم لم يطلعوا كثيراً على الأنماط المختلفة من التقاليد الدينية، إلا أنهم يريدون ذاك السعي الفردي نحو الحقيقة ويرون ذلك مختلفاً عما يفعله عامة الناس.
ويرون هذا النوع من الارتباط مع العلم كنظرة مختلفة عن نظرة العامة، وأنا أيضاً أعتقد بصحة ذلك، فعندما ندرس الروحانية عند عامة الناس لا نجد أي بلاغة في الحديث عن ارتباطها بالعلم، وفي الواقع فهي تقريباً العكس حيث أن الصفة المميزة في الروحانية عند العامة هي أن بإمكانها أن تصنع نفسها، أي أنها لا تحتاج لأن ترتبط بأي شيء، وأن فيها نوعا من الانتقائية، ولكن ذلك غير مريح بالنسبة للعلماء، فهم يريدون ترابطاً وخاصة ترابطاً مع العلم، حيث ثمة من يُقدّر العقلانية، ولذلك هم لا يريدون أن يفعلوا شيئاً يبدو غير عقلاني، ومع هذا فهم لا يستطيعون التوقف عن الرؤية في عقولهم وفي تجاربهم الخاصة أنه يوجد شيء خارج ذواتهم.
ويقدّر العلماء حقاً هذا النوع من الترابط، فهم لا يريدون القيام بشيء غير مرتبط مع هويتهم كعلماء، ولذلك هم لا يريدون أن يكونوا علماء في جزء من حياتهم ثمّ يكون لديهم هذا النوع من الروحانية المهلهلة في الجزء الآخر من حياتهم.
هم ينظرون إلى الروحانية باعتبارها مطابقة للعلم، ولكنهم مع ذلك يرون تعارضاً بين العلم والدين؟
نعم، هذا صحيح، هذا صحيح، وهم يرون الروحانية مخرجا من هذا التعارض.
ما الذي تقصدينه "بمخرج"؟
هم يرونها كطريقة لإدراك الغموض والدهشة التي يحصلون عليها من علمهم، أو يحصلون عليها من كونهم آباءً وأمّهات، أو من مجرّد العيش في الحياة، في حين توجد مجموعة كبيرة من العلماء الملحدين الذين يرون أنفسهم كحداثويين صارمين، وقد يكون هذا جواباً نموذجياً من العلماء الملحدين غير الروحانيين عندما أسألهم: "كيف تجيب على الأسئلة المرتبطة بمعنى الحياة، أسئلة كبيرة مثل لماذا نحن هنا، وما مغزى حياتي؟" سيردّون : "لا أعتقد أنّ هذه الأسئلة مهمّة كي تُطرح". وببساطة فإنّ هذه التساؤلات غير مهمّة، وليس الأمر أنهم يملكون جواباً مغايراً عن عامة الناس، هم فقط لا يهتمون بهذه التساؤلات، ولكن سيجيب العلماء الملحدون الروحانيون عن هذه الأسئلة، وسيقدّمون ردودهم بطريقة تمثّل روحانيتهم، سيتحدثون عن دهشتهم واكتشافهم الجمال في الطبيعة، ودهشتهم بولادة أطفالهم، وأيضاً دهشتهم في العمل نفسه الذي يقومون به كعلماء. هم لا يرون ذلك فقط من خلال التفسير الذي يقدمه العلم، لا بدّ من وجود شيء ما خارج ذواتهم، ولكن طبعاً هم لا يرون هذا الشيء كإله ولا يجدون سبباً يدعوهم إلى تصوير مشاعرهم كإيمان من أيّ نوع.
إذاً ما الذي ينبغي للناس استخلاصه من دراستك هذه؟
العديد من هؤلاء العلماء الملحدين ليسوا عدائيين تجاه الأسئلة الكبيرة عن معنى الحياة، كنت أعتقد مسبقاً بأنّي سأجد علماء متدينين، وأنّ عددهم سيكون أقلّ من المتدينين من العامة، ولم تفاجئني هذه الاكتشافات، ولكنّ من أدهشني شخصياً هم هؤلاء العلماء الروحانيون، وهذا جيّد لدراسة من هذا النوع: لأنه يمكن له أن يبدد عدداً من الأفكار النمطية، وأظنّ من المهم جداً إزالتها، وأرى أن هذا النوع من الأبحاث له تأثير في المجتمع من حيث الكيفية التي يمكن لنا أن نناقش فيها هذه القضايا.
بالنسبة لبعض الجماعات، فإنّ هذا يصنع أرضية مشتركة، ولكنّ بعض الناس ينظرون إلى هذا كورقة بحث، وأعتقد بأنّ هذا جيّد لأني أعالج الموضوع كباحثة، وإذا كنت مهتماً بالحوار، فأعتقد بأن هذا النوع من الاكتشافات- عن وجود الروحانية في الجماعات الأقل توقعاً- يمثل طريقاً لتغذية هذه الحوارات، فيمكن للناس المتدينين الروحانيين أن يقولوا للعلماء الملحدين الروحانيين: "دعونا نتحدّث عن الخصائص المتمايزة والمشتركة في طريقة رؤيتنا للروحانية"، وهذا يعطي أرضية مشتركة تمهيدية أكثر ممّا يقدمه بدء الحوار بالتركيز على الفروقات.
المصدر :
http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%83%D8%AA...D9%8A.html