هي الدنيا
.......


هذه القصة القصيرة ، قرأتها قبل ما يزيد عن ربع قرن، بقيت تفاصيلها ومعانيها متشبثة في زوايا الذاكرة ، وأبت السقوط من غربال النسيان ، من مجموعة قصصية لكاتبة مصرية اسمها احسان كمال....فقدت هذه المجموعة ايضاً منذ ربع قرن ..لتؤكد مقولتنا البدوية أن الفرس والمرأة والبندقية لا تعار....وأضيف والكتاب فقد فقدتها ذات إعارة

ورغم البعد والمعاني الدينية في هذه القصة ، الا أنني رايت فيها جمالاً ادبياً ، مضافاً لنبل الهدف...


احاول قدر المستطاع ان استمطر الذاكرة بما علق منها

هي الدنيا .....

يعود كعادته اليومية لبيته، وكعادته يبقى متأففاً ، مخنوقاً ، لايدري سبباً لهذا الحال رغم أنه ميسور الحال بل ربما أكثر من ميسور....

عاد يوماً لبيته مقطباً صارخاً في وجه زوجته ، أين الغداء؟
لم أطبخ بعد فأنت عدت قبل موعدك...

يتأفف ....يطلب منها أن تقلي له سمكاً ، بيمنا هو مستمر في ضيقه وإختناقه ....يستلقي على السرير وبيده حقيبته التي تحتوي على امواله ومستندات املاكه ....

يجد نفسه فجأةً على ضفة النهر ، حاملا حقيبته ، وهناك شيخ ينظر اليه ...يقول له الشيخ ، تخفف من حملك فحملك ثقيل ، يجيبه لكنني لا أكاد احمل شيئاً يذكر ، ينظر الشيخ الي الحقيبة ، ففهم ما قصده الشيخ ، رمى الحقيبة في النهر ، رأها تبتعد عنه ، تندم ، القى بنفسه الي النهر محاولاً إستعادتها...ووجد نفسه على الضفة الأخرى من النهر

أرض لم يرى مثلها من قبل ، خضرة وجمالاً ، ومدينة نظيفة جميلة ، تجوّل في المدينة حتى الغروب ، شعر بالجوع ورأى عند زاوية مطعم ، تذكّر أنه لايحمل نقوداً فقد ألقاها في النهر ، ظل واقفاً أمام المطعم الي أن سأله أحدهم عن طلبه ، فقال أريد طعاماً ولكنني لا احمل نقوداً ، أجابه الأخر ماذا تعني بنقود ؟؟ قال نقود ..فلوس ...موني ...قال له الاخر نحن هنا لا نعرفها ، إذا اردت الأكل فما عليك الا أن تقرا آية وتأخذ الأكل

قرأ آية وأخذ سندويشة طعمية ، لم تكفيه ، قرأ أخرى وأخذ الثانية ...الي أن شبع

تكرر الموقف يومياً ، وهو يرتداد هذا المطعم ، سأل احدهم هل يمكنه أن يتناول غير هذه السندويشات ..أجابه الاخر أنه حر في تناول أي طعام عليك أن تذهب الي أي مطعم وتقرا أية وتأخذ ما تريد ...أنتقم من جميع أنواع الأكل

تحرك نصفه الأسفل ، وسأل أحدهم كيف يستطيع الزواج ؟ أجابه عليه أن يذهب الي ساحة المدينة وهناك يرى الفتيات وإذا ما أعجبتك واحدة ، فأطلب منها الزواج ومهرها آية ...وذهب الي الساحة وأختار فتاة جميلة عرض عليها الزواج فقبلت ، وقرأ الاية ...وتزوج ..إشترطت عليه شرطاً واحداً وهو أن لا يتدخل فيما لايعنيه ووافق واعطته ثلاثة فرص لتنفيذ هذا الشرط

عاش سعيداً بهذه الحياة الجديدة ، هانئاً بزوجته ، وراحته ، الي أن جاء يوماً بعد أن قرر أن يتنزه في الحقول ....

لم يستطع السكوت ، فهذا الفلاح غبي فكيف له أن يسقي هذا الزرع بواسطة هذا الشادوف (الدلو) المنزوع القاع ، فهو في كل مرة ينزله الي الترعة ولا يحمل شئياً من الماء ، ومع ذلك لا يكف عن العمل ...لم يطلب منه أن يكون مثل جاره الذي على اليمين الذي يستخدم المضخة الكهربائية وهو جالس مرتاح بل لو إقتدى بجاره الذي على الشمال الذي يستعمل الثور في نشل الماء هكذا قال للفلاح ، لكن الفلاح لم يصغ له وظل مستمراً في عمله ، في المساء عاد الي بيته ، فوجد إمرأته غاضبة ، سألها عن سبب غضبها قالت له ألم أشترط عليك أن لا تتدخل فيما لا يعنيك ؟؟ بقي لك فرصتان

التزم البيت وقتاً طويلاً خشية أن يرتكب خطأ اخر...بعد فترة طويلة خرج متنزهاً ...هذه المرة معه حق فهذا الفلاح يحصد سنابل القمح قبل نضجها ، صرخ به لا تكن مثل جارك هذا الذي يحصد القمح وهو حشيش فهو يستفيد منها في إطعام حيواناته بل كن مثل جارك الأخر الذي يحصد السنابل وهي ناضجة ، إنتظر عدة أيام وهي ستنضج ،لم يلتفت له الفلاح بل واصل الحصد..أدرك أنه أخطأ فعاد مسرعاً الي بيته ووجد زوجته غاضبة ....بقي له فرصة واحدة

لم يتنزه ...فترة طويلة وهو ملتزم البيت ، في الشارع أمام البيت هناك صخرة كبيرة سدّت الشارع ، سارع الرجال لزحزحتها عن وسط الشارع ، إسطفوا من كل الجهات حول الصخرة والكل يدفع بها بإتجاهه....لم يستطع الصبر ، يا عالم لو تبقوا هكذا طول العمر بهذه الطريقة لن تزيحوها شبراً واحداً ..تعالوا من جهة واحدة وأدفعوا سوياً بإتجاةِ واحد......لكنهم لم يأخذوا بنصيحته وأستمروا على حالهم...أدرك حجم خطأه سارع الي زوجته ، قالت له ...هذه النهاية لم تعد زوجاً لي فأرحل

تجول في الشوارع ، جاع ...لم يطعمه أحد ولم يلتفت لطلباته أحد

وصل ضفة النهر ، فرأى الشيخ ، ورأى حقيبته بيده ، أسرع الي الشيخ وهو يعد نفسه لأقناع الشيخ أن هذه الحقيبة هي له وأن فيها كذا وكذا ...وإن الشيخ لن ينكر ذلك

ناوله الشيخ الحقيبة، وقال له ، ليس هكذا تتخلص من حملك ...سرد له ما حدث معه في هذه الرحلة الغربية وسأله إن كان يملك تفسيراً للأمور الغريبة التي حدثت معه....

قال له الشيخ ...اما حكاية الفلاح والشادوف ...فهي الارزاق بعضهم رزقه يأتيه دون تعب والبعض يتعب دون رزق

والحصاد ....هي الاعمار ...بعضهم يفنى في شبابه وبعضهم طفلاً ...وبعضهم يشيخ

والصخرة....هي الدنيا ..الكل يدفعها بإتجاهه ...ولكنها لا تتغير

حمل حقيبته وعاد الي بيته ....جائعاً ..صرخ في وجه زوجته جائع أريد أن أكل ....أجابته بالله عليك كيف تطلب مني أن أنظف السمك وأقليه بعشر دقائق

اقتباس:قال له الشيخ ...اما حكاية الفلاح والشادوف ...فهي الارزاق بعضهم رزقه يأتيه دون تعب والبعض يتعب دون رزق

والحصاد ....هي الاعمار ...بعضهم يفنى في شبابه وبعضهم طفلاً ...وبعضهم يشيخ

والصخرة....هي الدنيا ..الكل يدفعها بإتجاهه ...ولكنها لا تتغير

رائعة يا "أبا جعفر".

ذكرتني بقصيدة "خمّسها" "صفي الدين الحلي" يقول مطلعها:

دع الدنيا الدنية مع بنيها
وطلقّها الثلاث وكن نبيها
ألم يدريك ما قد قيل فيها
هي الدنيا تقول لساكنيها
حذار حذار من بطشي وفتكي


فلم يسمع لها فيهم كلام
وتاهوا في محبتها وهاموا
وكم نصحت وقالت يا نيام
فلا يغرركم مني ابتسام
فقولي مضحك والفعل مبكِ


واسلم لي
العلماني