واحد افتراضي هو برأي أحد أفضل المدونين العرب، في السنوات الأخيرة هو مقل جدا بكتاباته لكن قبل سنوات كتب العديد من النصوص التي لا تمل من قراءتها. اليوم وجدت بالصدفة أنه كتب
تدوينة جديدة بعد انقطاع. أنقلها إليكم (دون استئذانه). النص يحكي عن ذكرات طفل كبر في بداية الثمانينات وكان يافعا في زمن الانتفاضة، قمت بتغيير عنوان الموضوع عن عنوان النص الأصلي جلبا للاهتمام.
على دلعونا
هنالك مكان لا أعرف مكانه على الخريطة الآن.. لعله موجود في الذاكرة لا غير ، أعرف أنه يقع قرب كنيسة،على "جبل الزيتون" وهو الجبل المقابل للقدس.. "روضة أطفال جبل الزيتون".... هنا قضيت أياما لا أعرف عددها.. أياما غائمة، وتبدو لي الآن غير حقيقية ومنتزعة من شريط حلم مفقود.
في روضة جبل الزيتون بقيت من سن الثالثة حتى السادسة على الأغلب.. لعل أكثر ما أذكره من هذه "الروضة" ساحتها المظللة بالأشجار.. إم محمود التي تبيع العصير و"الدرة" (هذا كان إسم البوب كورن أيامها). عصا "مس عدلة" الأسطورية والتي كثيرا ما كانت وشيكة الوقوع والزلزلة أثناء التفتيش على الأظافر والمحرمة الورقية في الطابور الصباحي، و "غرفة الفيران" التي طالما هُددنا بالحبس فيها.
المعلمة في الحضانة إسمها "مس" وجمعها "مسّات" وكان هنالك الكثير من المسّات.. مس عدلة المرعبة.. التي كانت تلزمنا بالوقوف مرفوعي الأيدي كل صباح وهي تحمل عصا رفيعة ومؤلمة.. مس إلهام، شديدة التدين.. مس خيرية (مس خيريّة؟؟ ).. وإلى جانبهم جميعا، في كاتيغوريا منفصلة.. كانت هنالك مس صفاء
::
مس صفاء ، السمراء، وهي فتاة أحلامي حتى اليوم، جمّعتنا ذات مرة في صف واحد.. وشغّلت مسجّلة عليها أغنية "أجمل الأمهات".. كانت الأغنية مهرّبة،طلبت منّا جميعا أن نحفظ الأغنية.. أعطت لكل منّا ورقة مطوية مكتوب عليها "مارسيل خليفة" و "أجمل الأمهات".. وطلبت أن يبلغ كل منا أهله بضرورة نسخ الكاسيت. (غالبا سيتم النسخ في محل "عالم الفن" في المنطقة الواقعة بين باب خان الزيت و سوق العطارين)..
هذه الأغنية، حلّت، إلى جانب أغان ك "يا معلمتي"، و "توت توت" و "نامي نامي يا زغيرة"، محل رسوم التلفزيون الأردني المتحركة.. وهي الأغاني التي أغنيها اليوم لصديقي "غسان"، الذي لم يكبر بعد ليرددها وحده (هل سيغنيها عندما يكبر؟؟)
::
كان هنالك ولد كبير، أخرس يعيش قرب الروضة، يغافل أهله كل صباح ويتسلق سور الحضانة، ويبدأ في الثغاء.. نتحلق حول السور ونسخر منه، يهتاج، ينزل ويحاول ضربنا، فتداهمه "مس عدلة" مسلحة بعصا الصنوبر الرفيعة، وتقوده من أذنه المشلوعة خلال الساحة، عبر البوابة، حول الحضانة، إلى بيته، وتدق الباب، وعندها تبدأ حلقة أخرى من الصراخ المحموم، لعل أمه الشقية كانت "تؤدبه"..
كل هذا، ونحن ملتصقون بالسور، نضحك ونقلّد صراخ الولد – المسخ..
ذات مرّة.. دعت المس صفاء الولد إلى النزول عن السور.. رافقته حتى صفّنا.. أجلسته معنا.. كنا نلعب بالصلصال آنذاك، وكان مرعوبا، جلست قربه ومسّدت شعره الأسود. وانهمك باللعب.. بأظافره الطويلة القذرة، لم يكن يدري ما الذي يفعله بكومة اللدائن الملونة.. فجلس مثلنا جميعا يفتل الكتلة كي يصنع ثعبانا.. وهو الأمر الوحيد الذي أتقنّا فعله.
لازلت أذكر شعورا بالغيرة..والأسئلة التي أشعلت رأسي آنذاك..
تكرر حضور الولد إلى صفنا، في الأيام اللاحقة.. ولم يعد أحد يطارده بالصراخ..
في حصّة ما، لاحقة، غنّينا، ولم يكن الولد معنا.. لعل أهله قد أرسلوه إلى "دير المجانين" .. اختفى الولد
لكنني على ثقة، بأن هذا الولد الأخرس الذي يسكن أهله في جبل الزيتون، بجانب حضانة الأطفال، قرب الدير، لا يزال يذكر يد مس صفاء على شعره، ذات صبيحة ..
::
هذه مقاطع من ذاكرة مبتورة.. ذاكرة تشبه الحلم.. لكنها عن أمور حقيقية أيها الأصدقاء.. أنا أريد أن أحكي لكم: كيف صرتُ فدائيا، تقريبا.
::
في ساعة التشمّس تحت شبّاك الإدارة، ذات يوم، اكتشفت اكتشافا مبهرا: فإضافة إلى قدرتي على الحديث العادي، اكتشفت قدرتي على التحدث بصوت لا يسمعني فيه أحد سواي.. أتذكر فرحة الاكتشاف.. كنت أستطيع التحدث إلى نفسي وشتم رب "ست عدلة" وعصاها.. وعلى مقربة منها .. هالني هذا الاكتشاف الفريد.. ظننت أنني أملك قوى خارقة.. ولاحقا لاحظت أن الآخرين يملكون هذه القدرة.. يسمونها التفكير...
عفوا يا أصدقاء: عندما أكون جالسا معكم وأصمت، فأنا أستعمل قوتي الخارقة التي اكتشفتها آنذاك.. وآنذاك، لم أكن أعلم أن هذا الصوت قادر على استحضار أغان كالمرفقة هنا، في ظروف ، لنقل، ليست لطيفة بالمرة.. لكن هذا سيأتي لاحقا.
::
كان سؤال "شو بدك تصير بس تكبر"، سؤالا يشبه اللعبة.. وكانت "مس صفاء" تبتسم لدى سماع إجاباتنا
شو بدك تصير بس تكبر؟
فدائي
بياع شوكلاطة وفدائي
فدائية
شرطي وفدائي (هذا على الأغلب ولد صار في الأمن الوقائي)
"نرس" مع الفدائية
بدي أصير "مس"، وفدائي (هذا كان جواب عبد القادر الجعبري، ولا أدري إن صار كوكسينيلا فدائيا أم أنه تخلى عن حلمه اليوم)
::
كبرنا
(سأستعمل هذه الكلمة كلازمة، كثيرا في الأسطر القادمة، فعذرا)
::
1988.. الانتفاضة وصلت القدس متأخرة.. باستثناء إضراب شامل هنا، وشعارات جدارية هناك، لم تكن في القدس مظاهر انتفاضة شعبية كالتي كنا نشاهدها على التلفاز.. إلى أن قرر أحمد عميرة (وهو الأسير الذي تحرر في صفقة شاليط منذ شهر) وخالد الخربثاوي، ونادر الجعبة، وآخرون في الجبهة الديمقراطية نقل الإنتفاضة إلى شارع صلاح الدين.. شارع القدس المركزي.. ووقتها أسهب وزير الشرطة في الحديث ، عبر برنامج "الأسبوع في ساعة" التلفزيوني، عن "العناصر المدسوسة" الآتية من الضفة الغربية والتي تستهدف خلخلة استقرار القدس.
::
..
اندلعت الانتفاضة في القدس على يد مجموعة من الملثمين بكوفيات حمراء (هذا هو انتصار نايف حواتمة الوحيد ربما) ، وفيما بعد، سقط شهيد القدس الأول في الإنتفاضة الرفيق في الجبهة الشعبية، "نضال الربضي". وصارت الانتفاضة شغل أولاد المدينة الشاغل.. صرنا ،نحن الأولاد،.. (غالبا الأولاد الذين في الجيل الذي تربى على يد "مسّات" بداية الثمانينات. غالبا أولاد سئلوا لأكثر من مرة في حياتهم عما يريدون أن يصبحوا حين يكبرون ) ننشغل بالانتماء لأحزاب وميليشيات ميدانية .. كنا جميعا قريبين من تحقيق هذه الأمنية الصغيرة بأن نصبح "فدائية" .. كان الجيل الرسمي للاستشهاد يتراوح ما بين السادسة عشرة حتى الثامنة عشرة.. وكنا نقترب من هذا الخط العمري بفرح واندفاع.. أعتقد أن أغلب من في جيلي لم ينم لليال طويلة وهو يتخيل جنازته وفيها علم فلسطين وملثمون.. أعرف جازما أن كثيرين من أصدقائي، قد صمموا "بوستراتهم" (وهي الملصقات التي "تنعى الشهيد البطل") بأيديهم.. وأعرف جيدا أن الكثيرين منّا قد حوّشوا من مصروفهم ليذهبوا إلى ستوديو "غارو" لالتقاط صور شخصية تليق بملصق آت حتما.. الحمساويون ارتدوا تي شيرتات سوداء ولفحات بيضاء مكتوب عليها بالأخضر "لا إله إلا الله" وذهبوا هناك. الفتحاويون ارتدوا بزهو أحزمتهم الجلدية المكللة بجمجمة نحاسية ثقيلة ووضعوا أحذيتهم المغبرّة على الكرسي ووقفوا وقفة تشبه الصورة الشهيرة لهرتسل وهو يفكر.. الرفاق ارتدوا كوفياتهم، أو قمصانا مكوية... كنّا جميعا، نكبر ، مزهوين بالاسم الذي أطلقته إذاعات العرب علينا " أطفال الحجارة"... نتقدم بخطى واسعة نحو العمر النهائي الذي يشبه شريط نهاية الماراثون .. ويبدو على الغلاف الخارجي لمجلة البيادر السياسي.. غلاف ينشر في مربعات صغيرة متلاصقة حصيلة شهداء الشهر.. صور شخصية.. إسم القرية\المدينة.. العمر.. (غالبا 16-17-18)
::
كنّا، جميعا، قد اكتشفنا صوتا آخر، غير الصوت الداخلي، هو الهتاف.. الهتاف منزوع الخوف.. أمام الإطار ذي الدخان الأسود... "
عبّي القنينة بنزين، ولا يهمّك لاند ولاندين.. هاي في الحزب قوانين، من شروط العضوية" أمام جيبات حرس الحدود المرتبكة.,.. أمام لعبة قنابل الغاز المسيل للدموع.. أمام انتصارات تتمثل برشق سيارات مستوطني "معاليه أدوميم" بقطع الحديد المسروقة من مشغل "الأدوات الحادة" على طريق القدس- العيزرية... بإمطار مقر الشرطة اللوائي بالأحجار أثناء العودة من المدرسة... بكسر لوح زجاجي في "فورد الشرطة"..
كنّا جميعا نكبر، ونفرض بالقوّة إضرابات شاملة وسط سوق المدينة القديمة.. نكبر ونتجاوز حواجز الخوف الكثيرة.. الخوف من المعلّمين حاملي العصي الذين أرعبهم أولاد ملثمون ومضروبون يكتبون على الحيطان بعلب الدهان "إحذروا العميل الأستاذ حمد".. نكبر وتتحطم أمام أعيننا صورة الأب الحامي الذي لا يستطيع أن يحمينا من الاعتقال، نخرج من السجون إلى مصير لم نتدرب جيدا عليه: نحن منذ الآن مسؤولين عن مصائرنا، وعن مصائر الناس في مدينتنا.. نكبر من مظاهرة إلى مظاهرة، ومن اعتقال إلى اعتقال.. ننتقل من تنظيم إلى آخر.. (بعضنا لم يكبر أبدا، وظل في سن السادسة عشرة حتى الأبد، وضعوا صورته على الغلاف الأخير للبيادر السياسي، وتقاتلت الفصائل عليه)
أعتقد أن جميعنا قد استعمل ذلك الصوت الداخلي الذي اكتشفته أنا في ساحة روضة أطفال جبل الزيتون، لكي يغني أثناء التحقيق في ساحة سجن المسكوبية ... أظن أن جميعنا غنّينا أيضا "أجمل الأمهات" آنذاك ...
::
كبرنا فجأة، على غفلة.. تجاوزنا خط السادسة عشرة العمري، دون أن نستشهد، ولم يكن لدينا ما نفعله بحياتنا بعد السادسة عشرة.. جاء أوسلو وكنت في السابعة عشرة.. ومن بعده جاء اتفاق القاهرة، واتفاق أوسلو "ب"، وواي ريفر، وواي بلانتيشن.. ولم يكن لدي ما أفعله بعمري... لكن، في غمرة هذا السؤال الكبير والمفتوح والمليء بالخيبات : هنالك حادثة لن أنساها ما حييت..
كانت الدنيا تمطر... وعلى باب مسرح الحكواتي في القدس، في المساء، كنت أعلّق يافطة أنا وبهاء جمجوم ضد اتفاق القاهرة.. كانت مكتوبة بدهان أحمر على قماش أبيض ابتل بالمطر وصار ينقّط دهانا.. أثناء مهرجان ضد المفاوضات.. كنّا ملثمين... وبعد ان انتهينا من تعليق اليافطة، ذهبنا إلى زاوية معتمة كي نخلع كوفياتنا وننضم إلى المهرجان..
كان هنالك طفل يركض خلفنا، وينادي عليه أبوه وأمه: تعال.. تعال..
والولد يركض خلفنا، لم ندر وجوهنا كي ننظر، كنا مشغولين بضرورة الاختفاء قبل أن يتعرف أحد علينا
ركضت الأم وأمسكت بالطفل الذي قال لها باكيا: ماما.. بدي أشوف الفدائية