حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $jumpsel - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Trying to access array offset on value of type null - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$forumjump_select - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Undefined variable $avatar_width_height - Line: 2 - File: inc/functions_post.php(344) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions_post.php(344) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/inc/functions_post.php 344 eval
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumrcvtyls" - Line: 601 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 601 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumptyls" - Line: 601 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 601 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumtyls" - Line: 602 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 602 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "posttime" - Line: 33 - File: inc/functions_post.php(947) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions_post.php(947) : eval()'d code 33 errorHandler->error_callback
/inc/functions_post.php 947 eval
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval





{myadvertisements[zone_1]}
دين الضمير لا دين الدولة : نحو تجديد الإصلاح الدينى
الحوت الأبيض غير متصل
Party Pooper
*****

المشاركات: 2,292
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #1
دين الضمير لا دين الدولة : نحو تجديد الإصلاح الدينى
المقالة التالية نشرت في العدد الرابع من مجلة بوصلة رحمها الله.

دين الضمير لا دين الدولة : نحو تجديد الإصلاح الدينى

شريف يونس


لم يستطع الداعية المصرى الأصل فى أستراليا أن يفهم أن تصويره للنساء فى شوارع استراليا "كلحم" مكشوف، وبالتالى معرض لما أسماه "الذباب"، البرئ هنا بالطبع، كاعتداء على هؤلاء النساء، وكتبرير لاغتصابهن، أو بالمقابل، ضربهن، أو ما شاء له الخيال من وسائل "تقويمهن". وأظن أن جمهورا غفيرا فى المدن المصرية لا يختلف كثيرا عن هذا الداعية. كيف تكون ممارسة الآخرين لحياتهم كما اقتنعوا بها، وفق قيم وأخلاق مختلفة، اعتداءً يدفع إلى هذا العدوان المضاد القولى الفج؟ كيف تعجبنا الحضارة الحديثة (راجع تدفقات الهجرة الناجحة والفاشلة إلى الغرب) وفى نفس الوقت يؤذينا بشدة أنهم ليسوا "مثلنا"؟ هل صحيح أن هذا راجع إلى أن هذا الإسلام القمعى متأخر عن الحداثة والعصر؟ وإجمالا.. إلى أين يسير الإسلام الحديث؟

أعتقد أن هذه الأسئلة، وعشرات غيرها، أصبح طرحها ملحا. أصبح من الضرورى مساءلة ما يسمى "الصحوة" الإسلامية (والدينية) عموما عن مساراتها وآفاقها. ولكن الأهم هو محاولة فهم منطق حركتها نفسه لكى يتسنى اتخاذ موقف عقلانى واستراتيجية تجاهها، بدلا من مجرد إدانتها أو تقديم حجج ضدها، أو "المزايدة عليها" بتعبيرات مثل "المتأسلمين". بالمقابل يحاول هذا المقال أن يستكشف أبعاد الأزمة وإمكان تبلور رؤية دينية (إسلامية بالذات) ديمقراطية. غير أنه لن يسعى لذلك بالدخول فى جدل فقهى، وإنما بالتنقيب عن أسس سيادة الرؤية الفقهية للدين فى حد ذاتها واستكشاف السياقات التاريخية التى جعلتها سائدة، وبالتالى السياقات التى تسمح باستشراف آفاق أفولها، كعلامة على انتقال تاريخى جديد إلى مجتمع ديمقراطى، يجدد رؤية الدين، فيما يجدد.

يطرح هذا المنظور بطبيعته أسئلة معينة: هل يوجد إسلام وحيد هو "الإسلام الحق"؟ وهل هذا الإسلام هو مجموعة من الأحكام الفقهية والعبادات كما يقول الإسلام السياسى؟ هل الإسلام الفقهى عموما والسياسى خصوصا "قديم" أو إحياء لما هو قديم، كما يدعى؟ لماذا يسود الآن بين شرائح واسعة من الطبقة الوسطى ويمتد إلى أسفل؟ هل هو حقا يحفظ تراثا مضى، أو يحترمه؟ هل هو بطل الهوية والمدافع عنها؟ وأخيرا.. وهو مربط الفرس.. هل ثمة أمل فى إصلاح عقائدى للدين، لا مجرد إصلاح فقهى، يتجاوز اختزال الإسلام فى فقه ودولة (غامضة مع ذلك) ويتسع لمجتمع ديمقراطى كما اتسع من قبل لمجتمعات متباينة فى بنائها السياسى والاقتصادى والفكرى؟ وعلى أى أساس يمكن أن يقوم هذا الإصلاح؟

يفترض هذا المدخل بالطبع أن الدين هو بالأساس ظاهرة بشرية، ليس بمعنى إنكار الوحى، ولكن بمعنى أن الدين، برغم ثبات نصوصه عبر القرون، كائن حى متفاعل مع الظروف الإنسانية المعقدة، وبالتالى تتغير تصورات الناس عنه باختلاف الزمان والمكان والمكانة الاجتماعية وعشرات الظروف الإنسانية الأخرى. هذا لا يعنى أيضا أن الأديان صفحات بيضاء يخط عليها التاريخ ما يشاء، وإنما يعنى أنه قوة متفاعلة من بين قوى العالم البشرية. من أين تأتى هذه القوة؟ ولماذا تستمر الأديان مئات وآلاف السنوات؟ إنها تأتى بالضبط من أن الدين ليس مجرد عقيدة وشريعة (أو عقيدة تُختزل فعليا فى شريعة)، بل هو أصلا رؤية للكون والإنسان وموضعه فيه، أى كتفسير وتحديد للغيب، وللضمير الإنسانى وما يجب أن يكون عليه وكوعاء للقيم، بل وكشكل من أشكال الفن والفكر، وكرابط اجتماعى وكاحتفال جماعى (الأعياد)، وغير ذلك كثير. بعد ذلك قد يكون دين ما شريعة أو دولة فى ظروف تاريخية ما.


هل الإسلام السياسى عتيق حقا؟

يبدو أن الدين السياسى الحديث هو ابن الدولة الحديثة، مهما ادعى أنصاره أنهم يستلهمون التراث بحذافيره (وسنرى لاحقا ماذا فعلوا بالتراث). كتب سيد قطب عن ذكرياته وهو طفل وصبى فى قريته موشا (قرب أسيوط)، فروى كيف أن امتلاكه لكتاب الأحاديث النبوية الشهير (صحيح البخارى)، الذى اشتراه من بائع كتب متجول، جعله مشهورا فى القرية، تطلبه النساء ليجلبه لهن لتبريك بيوتهن أو لحل مشكلاتهن ودرء الحسد.. فالبخارى كان عند القرويين فى المرتبة الثانية من القداسة بعد القرآن، وهو بذاته، بصفحاته، وبصرف النظر عن القدرة على قراءته، يجلب البركة. بعد أربعين سنة تقريبا من صباه، كتب سيد قطب هذا نفسه قائلا: سواء "أن يعتقد الإنسان في ضميره أن ليس هناك إله.. وأن يتحاكم إلى غير شرع اللـه.. فكل هذه سواء في أنها تنفي عن صاحبها صفة الإيمان، وتخرجه من الإسلام". إذن فلا إيمان بلا حاكمية، وبالتالى، وفقا للنص، يكون سيد قطب قد عاش فى قرية من الكفار، وكان هو نفسه منغمسا فى كفرها.

مسافة واسعة حقا بين إسلامين. هناك الدين الذى ساد فى العصور الوسطى وغلبت عليه الصوفية، واستمر فى الريف حتى ثورة 1919 على الأقل، بشهادة سيد قطب، بل وما زال موجودا عند قطاعات واسعة، عصية على دعوة الإسلام السياسى. هو دين محوره فكرة البركة، البركة تأتى بالنجاة من الشرور والحسد أو تعين على تحمل مصائب الدهر، أو تجلب الخير المادى والمعنوى، وهى كامنة فى القرآن والبخارى، كما هى كامنة فى أضرحة الأولياء وفى مشايخ الأزهر. العبادات تجلب البركة والستر وتمنع الأذى، ومثلها السلوك بالمعروف. هو باختصار دين محوره الشعائر والطقوس ومرتبط بتأويل العالم بقواه الخفية كالسحر والحسد والهواتف التى تأتى فى المنام، وتكثر فيه الوساطات الروحية والشفاعات، تماما كما كان عالمهم الواقعى نفسه قائما على الوسطاء والشفعاء.

الفقهاء القدامى كانوا يتمتعون بدرجة من الاستقلال، ولكن النظم الحاكمة فى العصور الوسطى الإسلامية كانت لها سلطة عليهم بلا شك، دون أن يكون للفقهاء سلطة مقابلة على الحكام.

ذلك عهد مضى.. فالجماعات السياسية الإسلامية على اختلافها، وأولها جماعة الأخوان المسلمين (1928- الآن)، أدخلت فكرة استخدام جهاز الدولة لفرض تصورات ذات أسس دينية على الناس بالعنف، أو لبناء خلافة (ثم دولة إسلامية، ثم دولة ذات مرجعية دينية كما يقولون الآن). هم يرون أن الدين هو أساسا مجموعة من الأوامر، بعضها قانونى (فقه) وبعضها أخلاقى، والأول ربما كان أكثر أهمية من الثانى، وبالتالى يحتاج إلى "دولة" تفرضه على الناس فرضا. ولكن الدولة أيضا بالنسبة لهم كائن أخلاقى، أو يجب أن يكون أخلاقيا، يمول حث الناس على الفضيلة. كيف حدث هذا التحول؟

يبدو أن الجذور ترجع إلى إقامة الدولة الحديثة. كانت مصر أول دولة إسلامية تدخل الحداثة، على يد والى مصر العثمانى محمد علي. كان هذا تحولا هائلا، استغرق عشرات الأعوام لتتوطد أركانه. الدولة الحديثة جديدة من نوعها تاريخيا، فلم تكن موجودة على نطاق واسع، حتى فى أوربا، قبل القرن السابع عشر. الدولة الحديثة دولة تدخلية واسعة النفوذ، حتى فى أكثر النظم ليبرالية. ما من دولة فى العصور الوسطى فى الشرق أو الغرب وضعت على عاتقها أن تصدر لسكانها بطاقات هوية، أو تحدد تنقلاتهم بين البلدان، أو توفر لهم فرص عمل، أو تتحكم فى تعليمهم وثقافتهم، أو تطعمهم ضد الأمراض، أو تجندهم فى جيوشها، أو تنظم مرورهم فى الشوارع.. لم يكن هذا فى استطاعتها ولا خطر ببالها أصلا. الدول الكبرى القديمة كان لديها سجلات، ولكن بالأشياء، بالأراضى والضرائب، لا بالبشر، وكانت مسئولياتها تجاههم محدودة، لا شاملة.

هذه الدولة كلية الجبروت تعد الشرط الأول لظهور النضالات الديمقراطية الدستورية الحديثة. لأن هذا التدخل الشامل يفتت المجتمعات القديمة، لأنه يتعامل مع الناس كـ"موارد بشرية" للدولة، ويخلق بهيمنته على كل منهم على حدة، "كمورد بشرى"، الفرد المستقل الحديث ويدمجه فى الجهاز السياسى للدولة بإخضاعه. قبل ذلك كانت الدولة شأنا خاصا بمجموعات مسلحة صغيرة سائدة، تتصارع على المساحات الجغرافية التى تحكمها، فتتسع الممالك والإمبراطوريات وتنهار، وتتسع مناطق حكم هذا الأمير أو ذاك، ولكن الحياة القروية، التى كانت تشمل معظم البشر، سواء فى مصر أو فى أوربا قبل الحداثة، كانت تستمر وتتطور فى استقلال كبير عن هذه التقلبات.

أدمجت الدولة الحديثة السكان كأفراد فى بنيتها الأساسية إذن، كخاضعين لها. ولكن هذا أدى إلى نشوء ميل لدى هؤلاء المُدمَجين فيها إلى التعبير عن مصالحهم داخلها، بتقييد سلطة هذا التنين البالغ القوة (الدولة) بحقوق ليبرالية مكفولة للسكان، وتقسيم السلطة إلى ثلاث سلطات رسمية. أصبحت الدولة أخطر على سكانها من أن تُترك لمجموعة مسلحة حول ملك أو سلطان لتديرها. وهكذا تقام الدولة الحديثة أصلا كدولة استبدادية، ثم تصبح، بالتدريج ديمقراطية. والتدريج موجود حتى إذا قامت ثورات، لأن الشعوب لا تصبح حديثة بين عشية وضحاها.

عادة تقوم الدولة الحديثة فى طورها الاستبدادى على مبدأ ما من مبادئ الهوية، عرقية أو دينية، ينتمى من الناحية الإيديولوجية للمدرسة الرومانتيكية المعادية للتنوير كما ظهرت فى أوربا (بالطبع من حيث نمط التفكير، لا من حيث الأفكار نفسها)، بمعنى القول بوجود وحدة عليا تجمع شعبا ما، تعلو فوق الأفراد، الذين ينحصر واجبهم فى خدمة هذه الوحدة العليا (أمة أو عرق أو مذهب أو دين)، ويعاقبون إذا ما هددوا هذه الوحدة، ولو بالانسحاب ورفض خدمتها. الوطن فوق الشعب، والعقيدة فوق الأفراد، أو "مصر فوق الجميع" (شعار حزب مصر الفتاة 1933- 1953، وهو حزب شعبوى انحدر منه حزب العمل الحالى).

الإسلام السياسى الحديث هو أحد أشكال الاستجابة لنشأة الدولة الحديثة فى طورها الاستبدادى، وقد نشأ بعد ظهور حركات جماهيرية واسعة (مثل ثورة 1919) كعلامة مؤكدة على دخول الأفراد الحياة السياسية للدولة. تشكل هذا التيار من قلب "الأفندية"، خارج الأزهر، وإلى حد ما فى مواجهته، وفى تحالف مع السلطة الملكية فى مواجهة الوفد. وهو يمثل فى النهاية مشروعا لاستخدام جبروت الدولة الحديثة فى صياغة حياة السكان وضمائرهم، بناء على عقيدة هوية رومانتيكية الطابع. مثل هذا التصور يفضى مباشرة إلى استبداد يطيح بتقسيم السلطة وحقوق الأفراد معا، باسم المبدأ الأعلى.

كان الناس فى العصور القديمة على دين ملوكهم، كانوا منظمين فى جماعات (عشائر قروية، قبائل، طوائف حرفية، جماعات صوفية)، ولذا كانوا يدخلون فى الدين أفواجا. الآن الناس أفراد، تتجه إليهم الدعوة فردا فردا، ويجب أن ينظموا تنظيما دقيقا، لأنهم فى المجتمع الحديث ليسوا منظمين بشكل طبيعى عن طريق رؤساء العشائر والقبائل ومشايخ القرى وطوائف الحرف وعلاقات القرابة، وإنما يمكن تنظيم الأفراد فى منظمات طوعية، تُعرف بالمجتمع المدنى. هذا بالضبط مغزى حركة حسن البنا، الذى كتب فى مذكراته عن انزعاجه مما اعتبره انحلالا بعد ثورة 1919 كسبب لاتجاهه للدعوة ثم إنشاء جماعة الإخوان، وهكذا اتجه لأبناء المجتمع الحديث نفسه، فجند أعوانه من المقاهى، لا من المساجد، ومن العمال والموظفين لا من الفلاحين، وأقام جماعة منظمة على النمط الحديث. أما الأزهريون، الذين قاوموا الحداثة طويلا، فلم يدخلوا حركة الإسلام السياسى إلا تدريجيا، بعد إصلاح الأزهر الذى حوَّله، عبر أجيال من المصلحين، إلى جامعة حديثة، تختلف تماما عن الدراسة فى الأزهر القديم، مما لا مجال للتوسع فيه هنا.

وبالمثل أصبح محور العقيدة الإسلامية فى طورها الحديث القانون، لا البركة. يظل الإسلام كمشاعر وحياة أوسع كثيرا مما يقوله السلفيون والإسلام السياسى. ما زال الناس يتبركون ويتكلون. ولكن الشارع المدينى، والريفى بالتدريج مع تمدين الريف ودخوله العصر الحديث، أصبح يميل بشكل متزايد إلى مناقشات فقهية والتباهى بحفظ أقوال سمعوها أو قرأوها فى كتب الدعوة المبسطة المنتشرة والنقاش حولها. أصبح الفقه شعبيا، لدى قطاعات معينة واسعة، وأصبح ثقافة.


الإسلام الفقهى والتراث

مصداقا لحداثة الإسلام الفقهى، والإسلام السياسى بالذات، لنر ماذا فعل بتراث وتاريخ الإسلام نفسه. ليست المسألة هنا أخطاء أو انحرافات. فقد أسهمت أجيال من العلمانيين والإسلاميين على السواء فى إخضاع التصوف (الذى لعب دورا جوهريا عميقا فى إسلام العصور الوسطى) للفقه، وطورد بشراسة باتهامات بالتخلف والرجعية والخروج على صحيح الدين، وأصبحت جماعات مثل أنصار السنة والجمعية الشرعية، ذات الانشغالات الفقهية، واسعة الانتشار. واختزل الإسلام السياسى الدين إلى دولة (أو كما قال المودودى، ومن ورائه سيد قطب، أن كلمة "دين" كانت تعنى عند العرب القدماء "نظام الحكم"، فى مجتمع قبلى لم يعرف، ويا للغرابة، الدولة أصلا!)، والدولة إلى قانون، أو شريعة (وبالتالى محورية قضية تطبيق الشريعة، بل والقول بأن الشريعة تشمل كل صغيرة وكبيرة فى الحياة العامة والشخصية)، واختزلوا اللـه إلى مشرع وحاكم. والطريف أن الرجل الذى روج مصطلحا الحاكمية والجاهلية فى مصر، أبو الحسن الندوى، هو الذى استنكر لاحقا تحويل علاقة الإنسان بربه إلى علاقة "ضيقة، محدودة، جافة، جامدة، رسمية"، ووصم هذا الاتجاه عند سيد قطب بأنه دنيوي، يقصر دور الدين على إقامة حياة صالحة، والوصول إلى الحكم؛ الأمر الذي يعني تحويل العقيدة إلى "مادية مجردة"، بتعبيره.

أما تراث العصور الوسطى، فحدث ولا حرج، بدءا من استنكار عيونه، مثل ألف ليلة وليله وكتب الفلسفة الإسلامية، بوصفها "دسيسة" على إسلامهم، وصولا إلى الدعوة المنتشرة لما يسمى "تنقية" كتب التراث وحظر استعمال ونشر غير المرضى عنه منها، بل وتنفيذ ذلك بالفعل بإخراج طبعات "منقحة". وتشمل جهود "تنقية" التراث – أى تزييفه بالبتر – الأدب والفلسفة والتصوف، ولكن هل نجا فقه العصور الوسطى؟ لا، ولا حتى كتب أئمته الحنابلة المتشددين مثل ابن كثير، فتُطبع كتبهم فى طبعات "منقحة" خالية مما يسمونه "الإسرائيليات". وهكذا يشن أصحاب ما يعتقدون أنه "الإسلام الصحيح" الهجمات على كل من العقائد الشعبية وكتابات صفوة العصور الوسطى على السواء.

أما الشريعة نفسها ككل، التى لم تتوقف الدعوة لها، فأعملوا فيها مقص الانتقاء. فمثلا لم تكن العقوبات فى كتب الفقه تعرف المساواة بين الناس، مثلها مثل قوانين أوربا العصور الوسطى. فالحر لا يكافئ العبد، والمرأة غير الرجل، والأب لا يعدل الابن، والشريف يختلف عن العوام، فما يصلح لتأديب علية القوم ورجال الدين من زجر أو لوم، لا يصلح مثله لـ"العوام"، وكل ذلك تقرر السكوت عنه عند الكلام عن "التراث" و"الموروث". نحن فى الواقع أمام مشروع حديث تماما، يدين للحداثة ذات المنشأ الأوربى بأكثر مما يدين لتراث، استُعمل بشكل انتقائى.

بالمقابل، يصور الإسلاميون الحصفاء، مثل الأستاذ طارق البشرى، ظهور الإسلام السياسى (الإخوان مثلا) كرد فعل على اصطدام الغرب بالحضارة الإسلامية، أو ما اعتبره غزوا مما أسماه "الوافد" لـ"الموروث". ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، كما رأينا، بل يمكن القول بأن الإسلام الفقهى السائد، وضمنه الإسلام السياسى، لا يقل "وفودا" عن غيره، وهو مثله مثل التنويريين متمرد على التراث (ولا عجب، فالطرفان من تلاميذ الشيخ محمد عبده)، ولكنه يعتبر جوانب كثيرة من هذا "الموروث" غير مشروعة بل وغير إسلامية أصلا، وتنحصر علاقته بالماضى الذى يدعى أنه يحييه فى اتخاذه كمرجعية، مع التعدى المستمر عليه كما رأينا، لكى ينحصر فى تصور فقهى محدود للدين، يتم فوق ذلك الترويج له على أنه "القديم" الذى أفسده تدخل الغرب.

هذا كله ناهيك عن طمسه لتاريخ المنطقة عموما، فالفراعنة والبابليون والأشوريون والفينيقيون وغيرهم ليسوا فى عرفه سوى عبدة أصنام، لا تشكل تواريخهم، ولا حضاراتهم، التى لا يمكن فهم أديان المنطقة بدونها، جزءا من تراث شعوب المنطقة، بل هو عندهم ببساطة تراث اندثر.

على هذا النحو كانت دعوة الإسلام السياسى إلى "العودة" إلى أصول نقية للإسلام افتراضية فحسب، ومن هذا الجانب ليست "الصحوة الإسلامية" ابنة الماضى بقدر ما هى ابنة الحاضر، وابنة الحضارة الغربية الحديثة نفسها، التى اقتبست منها الدولة القانونية الحديثة ولكن فى جانبها القمعى.

الإسلام الفقهى كإيديولوجية هوية استبدادية

ما زال الخلاف الأساسى بين الديمقراطية والإسلام الفقهى (شاملا السياسى) عميقا: هل المساواة مكفولة لكل مواطن بوصفه مواطنا وإنسانا؟ المساواة فى اعتناق العقيدة، أيا كانت، والجهر بها، والدعوة لها، وتولى الوظائف العامة، وسن القوانين بما لا يخل بهذه المساواة؟ أم فقط نوع "خاص" من "المساواة المشروطة" التى يكون فيها البعض "أكثر مساواة من الآخرين!" فى إطار سيادة متحدثين باسم الإسلام، مهمتهم إقامة دولة دعوة هدفها نشر الإسلام فى العالم، على حساب حريات كل آخر، وحريات الأفراد المسلمين أنفسهم؟ الإسلام الفقهى يصر على أن الإسلام عقيدة وشريعة. عقيدة لمعتنقيه وحدهم طبعا، ولكنه شريعة يجب أن تطبق على الجميع، وعلى العالم كله إذا أمكن (يقول الأخوان مثلا بأن الدعوة ستة مراحل، آخرها "أستاذية" العالم). وبالتالى لا يقل واجب المسلم عندهم عن تدعيم مشروع السيادة على البشرية، وهى على وجه التحديد سيادة سياسية، محورها تطبيق الشريعة، ولكن هذا لا يعنى بالطبع أن يصبح سيدا فى بلده، بل يكون تابعا "لرجال الشرع".

والحق يقال، لم يكن الإصلاح الدينى الإسلامى بدعا فى ذلك كله. فالإصلاح الدينى فى أوربا فى القرن السابع عشر كان أكثر سلطوية وتعطشا للدماء، أسفر عن حروب استمرت أكثر من ثلاثين عاما متصلة. أما فى داخل كل مدينة وإمارة ومملكة، فقد اضطهد أصحاب المذهب الرسمى بكل قسوة الخارجين عليه، سواء كان المذهب كاثوليكيا أو بروتستانتيا بأنواعه. وكانت مدينة جنيف تحت حكم المصلح الدينى كالفن قطعة من الاستبداد الدينى العنيف تجاه المؤمنين أنفسهم، فكانت العقوبات تطول كل خروج على ما يأمر به المذهب وصاحبه، الذى كان حاكما أيضا، فى القول والعمل، على نمط مطوعى السعودية فيما مضى، بل أشد. ومثلما يتهم الإسلاميون عندنا المحتجين عليهم بأنهم يعملون فى خدمة "الصليبية والصهيونية"، كان المصلحون وأعدائهم فى أوربا يتهم كل منهم الآخر بأنه أقرب إلى الإسلام، بل أسوأ منه (باعتبار أن الإسلام بالنسبة لهم رأس الهرطقة).

وبالمقابل، أيضا، وبنفس العقلية، كان كل من الإصلاح الدينى البروتستانتى والإصلاح الكاثوليكى المضاد استجابة للفردية المتنامية، فحاربا بدرجات متفاوتة من الشدة (البروتستانت أكثر من الكاثوليك) كل مظاهر التدين الشعبى واحتفالاته الجماعية وطقسيته وما أصبح يُطلق عليه خرافاته، وأصبح رجل الدين أكثر قربا فى مظهره وسلوكه من الفرد المدينى العادى، على نمط الدعاة الجدد هنا، وطبعت ملايين النسخ من كتب دينية مبسطة. ومثلما أصبح الإسلام السياسى يوجه دعوته لمسلمين، كان الإصلاح هناك دعوة (أو تبشير) مسيحية لا تنقطع موجهة للأفراد المسيحيين الأوربيين. فالمسألة فى الحالتين هى إجراء تحويل جذرى فى مفهوم الدين نفسه، تحت شعار إحيائه.

ليس معنى ذلك أن هؤلاء المصلحين، هنا أو فى أوربا قبل أربعة قرون، كانوا مخادعين، أو يُدركون أنهم يقومون بهذا التحويل، وإنما كانوا مقتنعين تماما بأن ما يفعلونه ليس أكثر ولا أقل من "العودة" إلى الدين الصحيح الذى أفسدته الكنيسة الكاثوليكية، فيما قالوا، أو أفسده فقهاء السلطان، أو أفسده "الوافد" كما يقول البشرى.

ولكن لماذا يتسم الإصلاح الدينى بميل استبدادى قوى؟ لقد رأينا كيف قامت الدولة الحديثة كدولة استبدادية. ومن الناحية الفكرية، كان الميل الاستبدادى كامنا فى قلب إيديولوجيات كثيرة فى الحضارة الحديثة. فقد قامت هذه الحضارة، حتى أوائل القرن العشرين، على فكرة "الحقيقة": كل ظاهرة لها تفسير واحد صحيح يمكن اكتشافه بالعلم التجريبى، وكل نص له معنى واحد يمكن إدراكه. ومن هنا فكرة العودة إلى "صحيح الدين"، وكذا الكلام عن "روح قومية" واحدة للشعب يجب أن تكون "فوق الجميع"، لأنها أكبر من كل فرد على حدة، ومنهم أيضا كمجموع، لأنها هى روحهم "الحقة" فيما يقال، ولكن يجب فى نفس الوقت فرضها على كل منهم فرضا، حتى لا يزيغوا عنها.

بنقل هذه الفكرة إلى السياسة، يصبح لكل "شعب" هوية واحدة، لا تتجزأ، ومصالح مشتركة، لا تتضارب، تعبر عنها فكرة واحدة، يصبح كل خارج عنها خارجا على "الشعب" أو "الأمة"، عدوا لمستقبلها ومواليا للأعداء، عن وعى أو عن غير وعى. وبالتالى يعتبر قمع ومنع كل من يجرؤ على القول برأى مخالف، وربما قتله، واجبا وطنيا وأخلاقيا. بهذه العقلية قامت النازية فى ألمانيا والفاشية فى إيطاليا، وأشباهها من النظم. ولكن حتى إذا استثنينا هذه الحالات، فإن الدولة القومية وُلدت فى العالم كله والدم ينضح من مسامها. فلكى يتحدث جميع سكان فرنسا الحالية لغة واحدة "قومية"، مثلا، تدخلت الدولة الحديثة بالهيمنة على التعليم وتوسيعه ونشره وفرض لغة رسمية، كانت فى الأصل لغة البلاط الفرنسى ومقاطعة باريس. وعقدا بعد عقد، انقرضت أو كادت الألسنة الأخرى فى البلاد، بعد أن تم اعتبارها مجرد لهجات. وبالمثل تم هنا فرض لغة موحدة، هى العربية الفصحى، التى لا يتحدث بها سكان البلاد أصلا، بما فى ذلك أشد المدافعين عنها (كان العامة يسمونها "النحوى"، بينما "العربى" عندهم هو لغة حديثهم الدارجة)، من خلال تعليم متزايد التوسع، وجعل اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد منذ عهد الخديوى سعيد (حكم: 1854- 1863).

ومع ذلك لم تكن الحداثة قائمة دائما على فكرة الهوية القمعية. فبالمقابل هناك درجة أخف بكثير من الاستبداد نجدها فى الطبعة الليبرالية من الحداثة، وفى النزعات التحررية على اختلافها، ما لم تطرح نفسها كعقيدة مقدسة. فى مصر تمثلت الرؤية الحداثية شبه الليبرالية فى حزب الأمة، جماعة كبار الملاك، التى كانت، بعد تبلورها فى عصر الخديوى إسماعيل (حكم: 1863- 1879) تتمتع بثروة ومكانة فى الريف، جعلها تطمع فى تقاسم السلطة مع الخديويين، فنادت بالليبرالية، ولقيت تشجيعا محدودا فى عهد الاحتلال البريطانى. ويعتبر حزب الوفد القديم، جزئيا، وريثا لهذه الفكرة.

كانت لمصر أيضا طبعاتها السلطوية من الحداثة، التى نبعت جميعا من "الأفندية"، هؤلاء الذين أنتجتهم الدولة الحديثة من كتبة ومدرسين ومهندسين ومحاسبين وأطباء، الخ. فهذه الفئة تميل بشكل طبيعى لأن تتصور أنها تتعالى فوق تناقضات المجتمع، وأنها قادرة على أن تستخرج من دماغها الخاص نظاما عادلا للجميع، وتحقيق نهضة كبرى تتمحور حول جهاز دولة كلى القدرة باعتباره تخصصهم الرئيسى. ومع إخفاق كبار الملاك فى الحفاظ على ولاء الأفندية، بسبب محدودية مشروعهم الليبرالى نفسه، أخذت فئات من "الأفندية" تتمرد وتتبنى إيديولوجيات هوية: الإخوان المسلمين، ومصر الفتاة، وقبلهما "الحزب الوطنى" لمصطفى كامل ومحمد فريد: طبعة وطنية عنوانها "مصر فوق الجميع"، وطبعة إسلامية عنوانها "القرآن دستورنا والرسول زعيمنا". نحن، المصريون أو المسلمون، أو العرب، كل حسب اتجاهه، أمة من دون الناس، لنا حقوق عليا، فى مصر وحدها، أو المنطقة العربية، أو العالم بأكمله، ومن قال بغير ذلك خان.

وقد تعزز هذا الميل القمعى بفعل أن التحديث فى مصر أتى من أعلى، من نخبة عثمانية بقيادة محمد علي، ثم واصله الإنجليز، الذين اكتفوا بحكم "الذين يحكمون مصر"، وترسخ فى عهد الضباط الأحرار، تلك النخبة العسكرية التى استولت على الحكم من أعلى بلا حزب سياسى. وقد أدى هذا من جهة إلى أن أصبحت الرؤية السلطوية للتحديث بالغة القوة ومنتشرة فى كل التيارات الفكرية بدرجة أو بأخرى. ولكنه من جهة أخرى فرض قيودا قوية على حركة التنظيمات السلطوية بما جعلها فى النهاية متحالفة أو مهادنة للسلطة المركزية، وعاجزة عن فرض تصوراتها بحرب أهلية.

وليس صدفة أن الضباط الأحرار، وهم نوع خاص من "الأفندية"، ومنحدرين من الفئات الاجتماعية الوسطى، كانوا فى معظمهم متأثرين بأفكار الأخوان ومصر الفتاة. وليس صدفة أيضا أنه فى ظل النظام السلطوى الذى أقامه الضباط استطاع الأخوان، برغم مراحل القمع العنيف الناتج عن التنافس بين متشابهين، أن يصلوا إلى ذروة قوتهم بلا منازع، حتى بدأوا فى غزو جهاز الدولة نفسه. فجو إلغاء السياسة باسم الوطن ومصالحه العليا، وما يصاحبه من تخوين ووصاية، كان فى الإجمال مناسبا لإيديولوجية سلطوية، عززت الميل القمعى، فى كل من الحياة العامة والإبداع الفكرى والفنى.

الطبعة السلطوية للحداثة تقدس الدولة كلية الجبروت. ولهذا كان الإخوان ومصر الفتاة يؤازرون الملك ضد الوفد. وهى تكره الأصوات المتعددة المتنافرة، ناهيك عن المتصارعة. نموذجها المفضل هو الفرد العظيم والمجد، لا الثراء المعنوى والمادى الناتج عن التعدد والصراع. قائدها الأوحد موجود فى السياسة، كما فى الفن (أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، مثلا). أهم أبطال الإسلام عندها عمر بن الخطاب وصلاح الدين. هذه الطبعة تحب الاصطفاف والنظام، يبهرها اختزال الفرد إلى نقطة متحركة فى طابور، وتسعى لاختزاله معنويا إلى "وطنى" أو "مسلم"، يوصف بتبجيل بأنه "مهموم" ("تُترجم إسلاميا: قابض على الجمر) بأمور الوطن والشعب والعقيدة، فتختزل المجتمع والدين إلى دولة.

العلمانيون السلطويون هم بصفة عامة الآباء الشرعيون للإسلام السياسى، بل وما زالوا عمليا رعاته حتى الآن. فكما هاجموا، قبل صعود الإخوان، رجال الدين التقليديين والطرق الصوفية، أو ما أسموه بـ"الدروشة"، ينتقد بعض ألد أعداء الإخوان رجال الدين التقليديين لأنهم يتكلمون فى "فقه الحيض والنفاس" (من باب الاستهزاء)، طالبين منهم أن يتكلموا فى "قضايا الأمة"، ثم يعودون ويرفضون خلط الدين بالسياسة.. كيف؟!! وبالإجمال فإن أفكار التعصب الوطنى هى الأب الشرعى للإسلام السياسى.

من بين المصادر العلمانية المختلفة للإسلام السياسى، يتميز القوميون (سواء كانت قومية مصرية أو عربية) بدور أساسى. فقد أكدوا مرارا وتكرارا على هوية وطنية خاصة، لا تختلط بغيرها، تشمل كل مصرى، من الواحات إلى سكان المدن الساحلية إلى الفلاحين، الخ. وأحيوا أفكار العظمة القومية والعودة للتاريخ، وأدخلوا فكرة "بناء الأمة" والولاء المطلق للدولة، إلى حد تمجيد الإبلاغ عن الأقارب المعادين للنظام، وعبادة البطولة، وتمجيد الموت، والعداء للآخر (الغرب خصوصا)، ونظرية المؤامرة الدائمة على البلاد الناتجة عن "رعب" الآخر من نهضتنا. ويمثل شعار الأصالة، أو الخصوصية، أو الهوية، حصيلة هذه الوجبة الحداثية السلطوية.

ولكن القوميين، إذا كانوا قد نجحوا إلى حد كبير فى قهر الفردية وحقوق الأفراد، فإنهم لم يقدموا أى تعريف لماهية هذه الخصوصية العربية أو المصرية، ففتحوا بجهودهم أولا، وبفشلهم الفكرى والعملى ثانيا، الطريق واسعا أمام تفسير الإسلام السياسى للخصوصية.

وبالإجمال يمكن القول بأن إيديولوجية الإسلام السياسى متأثرة، فى صميم بنيانها نفسه، بالإيديولوجية القومية الحديثة، بل هى ابنتها. فالدولة القمعية الحديثة بأدواتها هى المثل الأعلى، أو قل هى الإسلام مجسدا. بح صوت الإسلاميين أن الإسلام دين ودولة. ولكن الترتيب هنا معكوس. فالإسلام دين بداهة.. المقصود إذن هو أن الإسلام دولة بقدر ما هو دين. وبالتالى يتوقف إسلام المسلم على سعيه لإقامة دولة إسلامية وولائه لها ولاء مطلقا بعد قيامها، هذا فى الطبعات المتطرفة. أما فى الطبعات المعتدلة للإسلام السياسى، فإنه يكون مسلما بغير ذلك، ولكن إسلامه لا يكون حسنا بغير الجهاد من أجل الدولة الإسلامية، وهكذا.

إذن كان الإسلام السياسى (والفقهى عموما) "يبشر" المسلمين أنفسهم، بمفهوم جديد للدين: الدين كمشروع فقهى- سياسى. ولا أدل على ذلك من كلمات سيد قطب نفسه: فقد طرح مشاريعه الإسلامية (فهى أكثر من مشروع واحد)، منذ أن أصدر كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية فى 1949 وحتى كتابه الأشهر "معالم فى الطريق" (1965)، لا فى مواجهة البوذية أو الهندوسية أو المسيحية، وإنما فى مواجهة الرأسمالية والشيوعية، وطالب بأن يتجسد المشروع من الناحية الدولية فى كتلة ثالثة إسلامية فى مواجهة الكتلتين، بل وأكد أن الإسلام يتلافى عيوب كلٍ من النظامين، وأنه يقدم برنامجا إصلاحيا بديلا عن الشيوعية، فيما قال فى كتابه "العدالة الاجتماعية فى الإسلام" (الطبعة الأولى). بل إن الإسلام في أحد تعريفات سيد قطب له هو عقيدة "تصوغ من المسيحية والشيوعية معًا مزيجًا كاملاً، يتضمن أهدافهما جميعًا، ويزيد عليهما التوازن والتناسق والاعتدال" (معركة الإسلام والرأسمالية)، وهكذا أصبحت المسيحية أيضا، لا الإسلام وحده، إيديولوجية سياسية فى عرفه من حيث الجوهر، بحيث يمكن المزج بين المسيحية والشيوعية فى مشروع اجتماعى ورؤية للدولة.

ولعل هذه القرابة العميقة هى التى تفسر لماذا أتى بعض أشهر المفكرين الإسلاميين الجدد من خلفيات يسارية علمانية ذات نزعة قومية قوية، مثل طارق البشرى وعادل حسين ومحمد عمارة والمسيرى، بل وخيرت الشاطر نائب مرشد الأخوان، وغيرهم، ليعمقوا تسييس الإسلام. والعبور المضاد أيضا من الإسلام السياسى إلى الماركسية أو الليبرالية له أمثلة عديدة، ولكن أقل شهرة.

حدود الإصلاح الدينى الفقهى

كان الإصلاح الدينى منذ أن بدأه محمد عبده فقهيا، وكان هو فقيه مصر. وقبله كان الأفغانى أول من دعا إلى أن يكون الإسلام قوة سياسية. بعدهما أتى الشيخ رشيد رضا، الذى جعل الإصلاح الفقهى أكثر محافظة. أنشئت الجمعية الخيرية الإسلامية على يد رياض باشا (فى عهد إسماعيل)، كأول جمعية إسلامية حديثة. وشكَّل حسن البنا أول جمعية دينية اتجهت للسياسة (الإخوان المسلمين)، بعد أن اتصل القصر الملكى بالبنا فى الثلاثينيات من القرن الماضى وأقنعه بأن يتحول إلى قوة سياسية فى الشارع فى مواجهة حزب الوفد. وكان على ماهر، رجل القصر، همزة الوصل. ولكن الجماعة فى عهد البنا ظلت أوسع بكثير من نشاطها السياسى، وكان البنا نفسه صوفيا ومتلقيا لتعليم حديث فى "دار العلوم" ومتصلا منذ صغره بمشايخ الأزهر.

غير أن تسييس الإسلام (وهو ما يعنى تحديثه كما رأينا) قطع شوطا أعمق بعد وفاة البنا. فمجلة "الدعوة"، التى أصدرها صالح عشماوى، أصبحت فى عام 1950 وما بعده صوت مجموعة جديدة من الدعاة المسيسين بالكامل: محمد الغزالى وسيد قطب ومحمد البهى وغيرهم، يطرحون، ومعهم عبد القادر عودة وآخرين من رجال الأخوان، أفكارا سياسية عن الدولة والعدالة الاجتماعية باعتبارها صميم الإسلام (وقد رأينا عينة من كتابة سيد قطب). مع الجهاديين أصبح التنظيم السياسى الإسلامى مسلحا بالكامل بالضرورة. والآن يعلن الأخوان أنهم سينشئون حزبا، بعد أن ظلوا خمسين عاما (منذ أن خيرهم عبد الناصر بين إعلان حزب أو جماعة عام 1954) مترددين بين فكرتى الجماعة والحزب. غير أنه يجب أن نتذكر هنا أن هذا الإسلام السياسى، هو "استجابة" الإسلام الفقهى لـ"تحديات العصر".

فى كل هذه الطبعات يفترض الإسلام الفقهى بالضرورة أن الإسلام شريعة لتفاصيل الحياة، وأن المؤمن هو المطيع، والطاعة هى المبدأ الأعلى، والإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما يكون عبدا للـه. كل ما ورد فى القرآن نفسه من علاقات أخرى بين الإنسان وربه يتنحى جانبا أمام هذا الواجب الأكبر.. واجب العبودية/ الطاعة، الذى يؤول فى النهاية إلى طاعة "القوامين" على الدين. ضمير الفرد يقع فى الدرجة الثانية من الأهمية فعليا، بعد أن يقدم الطاعة، أيا كان دينه. وليست المواقف الأخيرة من البهائيين والعائدين للمسيحية بعد إسلامهم سوى دليل إضافى على مدى الاستحلال الفقهى للاعتداء على ضمائر الأفراد. فليس مهما بالنسبة لهم عقيدتك نفسها، المهم أنه لا يجوز لك أن تعلنها أو تدافع عنها، ولا يمكن أن تنال نفس الحقوق والواجبات، حتى ولو كان هذا الحق يقتصر على استخراج أوراقك الرسمية بغير أن يُكتب بها ديانة غير ديانتك الفعلية.

ولكن خطورة الإصلاح الدينى السلطوى تتعدى اضطهاد الأقليات الدينية بكثير. بح صوت رجال الإسلام الفقهى والسياسى مؤكدين أنه لا سلطة دينية ولا كنيسة فى الإسلام. ولكنهم يقيمون بالفعل سلطتهم الخاصة (ينادى الأخوان الآن بسلطة للأزهر، ثم يقولون الإسلام لا يعرف شيئا يسمى رجال الدين!). فعندهم أن القرآن، والإسلام عموما، لا يجب أن يخوض فى فهمه أو تفسيره سوى من أتقنوا بضعة علوم (وهم بالطبع الذين يحددون من أتقنها ومن لم يتقنها). فجعلوا الدين نوعا من التخصص العلمى لا يفتى فيه سوى المتخصصون. وإذا مددنا الأمر على استقامته سنجد أنه من المنطقى القول بأن المرء لا يكون مسلما إلا من خلالهم، بل يمكن القول بأن الإنسان لا يكون مسلما فعلا، أو مسلما كاملا، إلا إذا كان واحدا منهم (وحتى هؤلاء يكفِّر أحيانا بعضهم البعض). وعلى أقل تقدير يصبح الإسلام تخصصا profession بالمعنى الحديث، مقصورا على أصحابه، بينما على بقية الناس أن "يستفيدوا" منه من خلال تسليمهم بسلطة هؤلاء فى فهمه وشرحه، ويكون إيمانهم بقدر تسليمهم. وبالفعل أصبح فريق من الناس يستفتون "رجال الدين" فى كل صغيرة وكبيرة فى حياتهم. وكأنه دين موجه لصفوة معينة، أو لا يوجه للعامة إلا من خلالها.

وبدلا من الاحتفاء بالضمير والتقوى، لا ينتشى الإسلام الفقهى والسياسى إلا بالقوة. بالطبع لا يكفون عن تكرار أن الإسلام لم ينتشر بالسيف. هذه مسألة تاريخية لن نخوض فيها.. ولكن أنظر حولك لتجد فى ملصقات السيارات وملصقات أخرى، سيفا طويلا راقدا تحت الشهادتين. يكاد السيف أن يحل محل الهلال، رمزا على الإسلام الفقهى الحديث وقدرته الهائلة على العنف. وإذا تذكرت تغنى دعاة الإسلام الفقهى المتواصل بالقوة، فى خطبهم وكتبهم، تشكلت عندك صورة واضحة عن علاقة هذا الإسلام الحديث الوثيقة بالعنف. لذا لم يكن غريبا أن الشيخ محمد الغزالى، حين دُعى للشهادة فى قضية اغتيال المفكر العلمانى فرج فودة، أفتى بأن القتلة معذورون، لأن السلطة هى التى كان يجب أن تقيم عليه الحد، ولم تقمه. وليس غريبا أيضا أن هذا الموقف من جانب الغزالى ما زالت مواقع مثل "إسلام أون لاين" وغيره تحتفى بها إلى الآن، كمآثر للفقيد. لا ليس العنف ضد الآخرين مقصورا على من يحملون السلاح، بل هو باطن فى قلب الإسلام الفقهى لهذا العصر.

والخلاصة إن الإصلاح الفقهى، الذى أتى استجابة لحداثة سلطوية، سيظل مأزوما وعاجزا (برغم كل التنقيحات، وقل "التخفيفات"، المخيفة التى يقوم بها أناس مثل الشيخ القرضاوى "المعتدل")، عن مواكبة الحداثة فى طورها الديمقراطى، بل أنه لم يؤصل ما قام به من قبل. لقد جدد الإصلاح الفقهى الدين بالفعل.. ولكنه تجديد "سرى" ومنقوص. كيف؟ صحيح أنه تم عمليا إسقاط أحكام بأكملها من الشريعة لأنها لم تعد تناسب العصر، ولكن لم تحدث مواجهة صريحة تبرر الإسقاط وتضع له أسسا راسخة. أسقطت أحكام الفقه بصدد العبيد، وقُبلت فكرة العقوبات المتساوية للأفراد، وانتهت قصة "الخلافة" لصالح القبول بالدولة الوطنية. ولكن هذا كله لم يرافقه تجديد مواكب فى فهم العقيدة وعلاقتها بالفقه، ولا حتى مبادئ راسخة فى التفسير تبرر هذه التحولات.

لماذا لم يحدث ذلك؟ يبدو لى أن هذا لا يرجع إلى نقص فى القدرات العقلية للمجتهدين، وإنما تم تجاهل التأصيل لسبب يرجع إلى طبيعة التجديد الدينى الحداثى السلطوى نفسه.فإسقاط الأحكام غير المناسبة صاحبه تمسك وإبراز متزايدين لجوانب أخرى من تراث الفقه أصبحت تعتبر عماد الدين. هذا الازدواج بين الإسقاط والتمسك، والتراجع عن وضع أسس منهجية للتحولات الفقهية، يرجع إلى ظاهرة "الإسلام السياسى" بالذات.. لأن مشروعه يقوم على الإبقاء على جوانب من تمييز المسلم على غير المسلم (الولاية العظمى، أحكام الزواج، الخ). ولأنه ترجم شعار النهضة الذى قالت به الطبقات التى أتت بها الدولة الحديثة إلى شعار دولة الشريعة، ولأنه كيف نفسه مع سياسات الهوية الوطنية، التى هى بطبيعتها سياسات سلطوية.

بدلا من المواجهة الفكرية لجأ الإسلام السياسى والفقهى للدعاية.. بادعاءات من قبيل أن "حقوق الإنسان" قد ظهرت فى الإسلام (هذا الكلام يُدرَّس الآن فى الجامعة مع الأسف
بينما هذا مستحيل تاريخيا، لأنه الإنسان فى إسلام العصور الوسطى ليس سوى المخلوق الرشيد المكلَّف الذى توجه له الدعوة الإسلامية. وهذا أمر يختلف تماما عن القول بأن الإنسان، بما هو إنسان فحسب، وبصرف النظر عن جنسه أو دينه، شخصية قانونية تتمتع بحقوق مساوية لغيره من الناس.


نحو إصلاح دينى جديد: تحرير الضمير

فى مواجهة هذا التراث الطويل نسبيا من التحديث الاستبدادى المنقوص، يقترح هذا المقال أن أمامنا فرصة للانتقال من الحداثة الاستبدادية إلى الحداثة الديمقراطية. أصبح هدف إقامة مجتمع مدنى ديمقراطى يتطلب بالضرورة طرح الإصلاح الدينى مجددا من زاوية مختلفة تماما. هذا المجتمع إقامته مستحيلة إذا اعتقدت طائفة واسعة من المتدينين أن واجبها المقدس هو استخدام الدولة لفرض تصوراتها، أى لفرض طبعة ما من الإسلام الفقهى. هنا تصبح هذه الطائفة قوة قهر، سواء بالسلاح أو بالانتخابات. وباعتبار أن الإسلام السياسى حديث، وابن "الوافد" العلمانى القومى القمعى، كما رأينا، فإننا نكون أمام مشروعين للحداثة: أحدهما سلطوى طائفى قمعى والآخر ديمقراطى مدنى علمانى. وفيما يتعلق بالإسلام كإيديولوجية حديثة يفترض التحول إلى الديمقراطية التوصل إلى نقطة بداية لإصلاح جديد، إصلاح لا يكون فقهيا تربويا ولا سياسيا، بل إصلاح عقيدى. هذا لا يعنى أن الإصلاح الفقهى كان "خطأ" حانت ساعة إصلاحه. لقد لعب الإسلام الفقهى والسياسى دورا مهما (ولكنه ليس دورا حتميا فى كل بلد) فى نقل سكان الريف والبنادر إلى حياة المدينة، فوفر للكثيرين منهم بيئة محافظة آمنة نسبيا، أتاحت لهم الاندماج، من موقع محافظ، فى هذه البيئة التى بدت لهم غريبة وخطرة ومهددة، ولعله ما زال يلعب هذا الدور فى "البنادر"، ولكنه وفَّر أيضا ركيزة لديكتاتورية الطبقة الوسطى، ومبررا لشعورها بتفوق معنوى.

الآن أصبح قطاع معتبر من شباب "الأفندية" (لا نتكلم هنا عن شباب العشوائيات وأطفال الشوارع، فتلك قضية أخرى) من أبناء المدن الكبرى، وُلدوا فيها وليسوا غريبين عنها. قد يحملون أفكار الأفندية السلطوية التى سبقت الإشارة إليها، خصوصا نظرا لاستمرار هيمنة الدولة الاستبدادية، ولكنهم، خصوصا قطاعاتهم الأحدث، أكثر ارتباطا بفعل عملهم الذى يحتك بالعالم الواسع، المتعدد والمختلف، راغبون، ولو عن غير وعى كامل، بمكان لأنفسهم وبلادهم تحت ضوء الحضارة الحديثة، وبالتالى لديهم ميل معتبر للوصول إلى تصالح ما مع العالم المحيط بهم، وهو تصالح يتناقض بشدة مع الإصرار على نفى الآخر والادعاء بأنه لا يحق له الحصول على حقوق متساوية مع المسلمين. وهو قطاع يتزايد ثقله مع رسملة الاقتصاد وسعيه للتحول إلى اقتصاد تصدير. بل نستطيع أن نجد من بين هؤلاء قطاع معتبر من شباب الأخوان. ولكن هذا لا يعنى أن هؤلاء بسبيلهم إلى تبنى مفاهيم ديمقراطية حقيقية، وإنما يعنى أن بينهم أجيالا جديدة قابلة لأن تتجه هذه الوجهة.

بناء على ذلك ما هو المبدأ الذى يمكن أن يقوم عليه الإصلاح العقيدى الذى يسمح بحياة ديمقراطية؟ يبدو لى أن النقطة المحورية هنا هى الانتقال من محورية الفقه إلى محورية الوجدان فى فهمنا للعقيدة. هذا يعنى أن نفهم الدين كاحتياج يخص تحرير ضمير الأفراد ووجدانهم. يفترض هذا التصور، على خلاف الإسلام الفقهى عموما والسياسى خصوصا، أن الإنسان لا يؤمن لأنه يبحث عن سيد (ينجيه فيما يقولون من عبادة أرباب الأرض)، ولكن لأن الدين، أى دين، يمنحه فرصة حياة روحية تأملية حرة فى نفسه وعالمه والكون، تزدهر حسب تطوره الفكرى والوجدانى وتجاربه الحياتية. مثل هذا التصور يوجب على المؤمن، بالتالى، احترام تجارب الآخرين ورؤاهم واقتناعاتهم الناجمة عن نمو حياتهم الروحية.

لقد نقل الإسلام الفقهى الدين من البركة إلى الطاعة، ويبدو أنه قد حانت ساعة نقله من محورية الطاعة إلى محورية الوجدان، أى إلى الحرية
. هذه المحورية لا تلغى مفهوم البركة، مثلما لم يلغها تماما الإسلام الفقهى. بل لعل هذا التصور أقرب إلى مفهوم البركة من الحداثة السلطوية، العلمانية والدينية على حد سواء. كما أنه لا يلغى، فيما أتصور، مبدأ الطاعة، الذى لم يكن بدوره غائبا حين كان مفهوم البركة سائدا، ولكنه يلحقه بالتدبر والانفتاح على العالم فى تنوعه. بهذا المعنى يصبح الدين كتابا مفتوحا لمعتنقيه يتفاعلون معه، ومع غيره، بحرية، ويخلقون أنفسهم معه مجددا مع التحولات التى تطرأ على حياتهم.

هذا يعنى باختصار أن ننظر إلى الأديان كثقافة شكلت وتشكل وجدان معتنقيها الأفراد، بأشكال مختلفة، عبر القرون، لا كمرجعية قانونية للدولة. يعنى تصور الدين كثقافة إعادة التأكيد على أنه يتوجه بطبيعته للأفراد، لا إلى مؤسسات الدولة.. كسلطة ضميرية وأخلاقية وثقافية بالأساس، لا كسلطة قانونية تعتمد على الإجبار. مثلا الإسلام بُنى على خمس، ولكن لا توجد دولة أو شركة تصوم أو تحج، الخ. والقول بأنه يتوجه للأفراد بكامل تعقيداتهم الوجدانية والعقلية، يعنى أنه يتأبى على الاختزال إلى برنامج يُلزمهم بأن يساعدوا على إقامة هذا الشىء الغامض المسمى السلطة الدينية، أو الأكثر غموضا: الدولة ذات المرجعية الدينية، ويدعى فى الطبعات المتطرفة أن إسلام الفرد مشروط بذلك. ذلك المشروع القديم لا بد وأن ينتهى ببساطة إلى جعل الإسلام كنيسة لها محكمة تفتيش.

مثل هذا التصور ليس اختراعا. بل لعلى رأيته بشكل واضح فى كتابات عديدة.. منها رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، التى تناولتها فى العدد الماضى. كما نجدها بشكل أو بآخر فى كتابات نصر حامد أبو زيد، الذى كشف أن كل تفسير فقهى للدين متحيز بطبعه، لأنه، مثل كل تفسير لأى نص، يغفل أشياء ويؤكد على أشياء ثم يدعى أنه أحاط بحقيقة القرآن والسنة معا (أى جبروت هذا!). هؤلاء وغيرهم كان نصيبهم تكفيرا أفضى إلى قتل أو نفى. ونودى هنا علنا بـ"استتابتهم"، وغيرهم، ثم قتلهم إذا لم يتراجعوا (يدخلون محاكم التفتيش ثم يقولون أن الإسلام ليس به هذه المحاكم)، محرضين بذلك على النفاق أو "التقية".

بالمقابل، يسمح تصور الدين كثقافة بقبول التعددية الواقعية فى التراث الإسلامى (وكذلك غير الإسلامى) وتفهم تطورات تياراته عبر الزمن، والتخلص من أوهام إمكان السيطرة على الدين بالقول بوجود تفسير معين واحد صحيح له، يعد كل خروج عنه كفرا.. الأمر الذى يدفع بالكثيرين من غير المقتنعين بهذا التفسير أو هذا المعنى إلى "التقية"، أى النفاق. فالنفاق ابن الجبروت.

القول بدين الضمير، لا دين الدولة، لا يعنى، وفى الواقع يستحيل أن يعنى، أن الدولة المدنية المستقلة عن الأديان، لأنها ترفع يدها عن الضمير، تستطيع أن تشرع متجاهلة الأديان الكبرى، لأن هذه الأديان شكلت وجدان السكان والكثير من عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم، وتتطور حسب تطورهم. ولكنها لا تستعمل الدين كمعيار سياسى تفرضه على الناس، ولا تعطى لمجموعة تزعم الحديث باسم الدين سلطة سياسية مرجعية وتفرضها على المجتمع. الدولة المدنية الحديثة تعبر عن مصالح ورغبات سكانها، وفقا لتوازنات القوى بين مصالحهم ورؤاهم المتغيرة، ولكنها لا تعتبر نفسها قوامة على الدين "تصلح الدنيا به". أما اعتبار الدين شريعة أساسا، يتوجه للدولة (باعتبارها المشرع) لا الأفراد (وبالتالى فكرة أنه دستور، أو إقامة مجلس فقهاء مثل إيران لمراجعة التشريعات)، فليس سوى مدخل للاستبداد السياسى، ويشكل بحد ذاته عدوانا على أتباع ديانات الأقلية، وكذلك على أتباع دين الأغلبية، إذ يسلمون رقابهم ونفوسهم للمتحدثين باسم الدين تحت تهديد سلطات الدولة.. فأصحاب دين الأغلبية يصبحون ممنوعون بالضرورة من التفكير الحر فى دينهم، ليس فقط لأنهم "غير متخصصين" كما مر بنا، بل أساسا لأن الدين الفقهى ليس إلا شريعة تبحث عن جبروت سلطة المركزية، لأنها ببساطة لا تتجسد إلا فيها.

بالمقابل يعنى نقل محور الدين إلى الوجدان، وفهم الدين كسلطة ثقافية بالمعنى الواسع (تشمل الأخلاق والضمير والسلوك، الخ)، أن نقبل حق الأفراد (المؤمنين به وغير المؤمنين على السواء) فى مناقشته وتفسيره وإعادة تأويله بحرية.. بقدر ما أنهم مختلفين، وبالتالى تختلف قراءتهم لنصوصه المقدسة. وبهذا المعنى فإن أحداثا مثل تكفير نصر حامد أبو زيد (بل تكفير عبد الصبور شاهين محرك قضية تكفير نصر!)، وتكفير وذبح نجيب محفوظ، تصبح عدوانا على الدين، بقدر ما أنها تلغى أساسه الضميرى والثقافى وتحرم معتنقيه من حرية استلهامه لتحوله إلى سيف مسلط على الرقاب، فضلا عن أنها تُفقر الإسلام بحرمانه من تعدد الرؤى والخيال والإبداع. ليس لأى فرد أيا كانت ديانته مصلحة فى دولة دينية، تكون بالضرورة قمعية، لأن القيد يشمل المؤمنين بدين الأغلبية أيضا، بل يشمل الدعاة أنفسهم كما تؤكد الشواهد.

وبهذا المعنى أيضا يجب أن تخرج قضايا مثل حد الردة من المناقشة الفقهية حول صحة أو ضعف الأحاديث النبوية التى تشير إليه، لتصبح قضية حرية الضمير أصلا: كيف يُحمل شخص ما ضد إرادته وضميره وعقيدته على أن يظل مسلما رسميا تحت طائلة التهديد بالإعدام؟ أو (مؤقتا حتى تقوم الدولة الدينية "المباركة") تحت تهديد حرمانه من كثير من حقوقه المدنية والسياسية بالحيلولة دون استخراجه بطاقة هوية. بأى ضمير يمكن للمسلم أن يدعو غيره إلى الإسلام إذا كان يرى أن ضمير الفرد ليس مهما وأن عليه أن ينصاع لرأى جماعته؟ وإذا كان سيحظر عليه لاحقا (وعلى أبنائه وأحفاده أيضا!) أن يغير إيمانه ويتبع ضميره؟ وأى ازدواج هائل فى المعايير يستعمله هؤلاء، ويتحملون وزره فى ضميرهم؟ هذا ببساطة ضمير سلطوى يتلذذ بالجبروت ويرى بهاء الدين وعظمته فى تعاظم سلطة جائرة تتحدث باسمه.

وهكذا، وهذا هو مغزى الفكرة، فإن المسألة الجوهرية فى الإصلاح الدينى، فى رأيى، ليست مؤازرة تفسير فقهى "جيد"، أو "متسامح" لنقارع به التفسير "المتشدد" فى ميدان الفقه، ولكن فهم الدين كثقافة تتجه للوجدان والضمير، الفرديين بالضرورة، بحيث يحتفى بالتنوع لا بالوحدة، وبالثراء والإبداع الفكرى لا بالطاعة، بحرية الفرد لا بانصياعه. ويعنى هذا بالتبعية نبذ فكرة "المواطن ضعيف العقل" الذى يحتاج إلى وصاية تمنع عنه، بحجة حمايته، كتابات وأعمال فكرية وفنية من منطلق دينى، وكأن عقيدته نفسها لا تخصه، وكأن ضميره الخاص مجرد غنيمة فى أيدى "القوامين عليه" الممسكين بسيف الدولة، لا يجوز التفريط فيها. كما يتطلب الإصلاح نبذ الفكرة المقابلة والمتممة لها، وهى فكرة "الإنسان المنحط" بطبعه، الذى يحتاج دائما إلى "قوامين" مسلحين وإلا انحرف.

ولكن يجب التذكير هنا، مرة أخرى، بأن الإسلام الفقهى السلطوى، وربيبه الإسلام السياسى، هو ابن التيار القومى. وهكذا فإن قضية الإصلاح الدينى المطروحة الآن هى فى المحل الأول قضية مواجهة سياسية وفكرية لفصل الدين عن التيار القومى الاستبدادى بطبعه، لربطه بفكرة الحرية، لا الهوية والانضباط. وبالتالى فإنها قضية ترتبط بمقاومة كل أصولية تقوم باسم كل هوية، سواء كانت الدين أو مصر أو الأمة العربية، فتقمع الحريات، وتعمم ضميرا جماعيا رسميا، وتشيع النفاق، وتثير مخاوف زائفة من مؤامرات، وتربى عقلية خائفة ونصية وعاجزة عن الإبداع، وتثير أحلاما عريضة قائمة على لذة الاستبداد بالآخرين وإحساسا زائفا بالعظمة يخفى خضوعا مهينا، من جانب ما يسمى "الأغلبية"، قبل "الأقلية"، لـ"القوامين".

إذا كان هذا المشروع ممكنا، سيكون هناك بالفعل إسلام ديمقراطى غير ملفق، وسيتوقف الدعاة من نوع صاحب مقولة "اللحم المكشوف" عن الشعور بالإهانة لمجرد أن ضمير الآخرين لا يطابق ضميره، أو لأن وجدانهم يختلف عن وجدانه، أو الشعور بأنه "مقهور" لأنهم، هؤلاء "الأوغاد"، يعتدون على حقه "الطبيعى" فى أن يكون سيدا على كل أرض وكل إنسان، ويمنعونه من القيام "بواجبه" فى "تعبيد" هذه الأراضى وهؤلاء البشر لربهم كما يراه هو.


نشره البوصلة يوم أرب, 10/31/2007 - 00:18.

http://web.archive.org/web/2008070805505...rg/node/56
12-21-2011, 02:05 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  سنة إقامة الدولة الإسلامية رضا البطاوى 0 169 04-22-2014, 08:52 PM
آخر رد: رضا البطاوى
  تنظيم القواعد العسكرية فى الدولة الإسلامية رضا البطاوى 0 223 04-05-2014, 08:47 PM
آخر رد: رضا البطاوى
  أمة الخير فى الدولة الإسلامية رضا البطاوى 0 257 01-06-2014, 07:42 PM
آخر رد: رضا البطاوى
  العمل الوظيفى فى الدولة الاسلامية رضا البطاوى 0 280 01-02-2014, 10:31 PM
آخر رد: رضا البطاوى
  إدارات وزارات الدولة الاسلامية رضا البطاوى 0 279 01-01-2014, 10:26 PM
آخر رد: رضا البطاوى

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS