لنعلم جميعا أن ما يحدث لنا الآن هو نتيجة حتمية للضعف والإنكسار وأن ذلك بدأ منذ زمن تسليم سوريا أمرها للآخرين سواء ثقافيا أو إحتلالا
سوريا هي تعايش المسيحي واليهودي والمسلم وقدرتهم على العطاء جميعا لبلدهم
وبقدر ما يهمني قراءة تاريخ بلدي بقدر ما أعلم أن المسألة الجغرافية هي أعمق المسائل وكل مفاتيح الحل تدور ضمن سياق واقعها
هذه مقالة أستخلص منها كمثال صدق رؤيتي وهي أنه لا حل سياسي أو إقتصادي أو حضاري بالنتيجة إلا ضمن الشرط الوحدوي:
ناهض حتر
حرب الإبادة الوهابية في العراق وسوريا تصل ... مسيحيي الأردن وسنته!
تشنّ السعودية وقَطر حرباً مكشوفة متصاعدة على سوريا. وربما كان ضجيج هذه الحرب المسعورة يخفي حربهما المستمرة على العراق، إذ يتم إرسال الانتحاريين، بصورة منتظمة، لتفجير المحاولات العراقية للاستقرار وقتل المئات تلو المئات من العراقيين لمجرد كونهم ينتمون إلى المذهب الشيعي. وتستفزّ الدماء بالطبع الدماء، وتنغلق الطريق على استعادة روح الوطنية العراقية التي هي شرط لا غنى عنه لنهضة العراق.
المؤسف هو ذلك الصمت الثقيل المفضوح إزاء القتل العمد المنظم للعراقيين الشيعة، وكأنّ الرأي العام العربي (السنّي) يقبل ذلك ضمناً. لقد وصلنا إلى درك تتقبل فيه ضمائر عالجها البترودولار الوهابي القتل على الهوية المذهبية والطائفية والإثنية! أصبح ذبح الشيعة والمسيحيين والأرمن والعلويين والاسماعيليين واليزيديين... إلخ، وغداً الدروز وسواهم، والسنّة ممن لا يخضعون للمنهج الوهابي، شأناً يتضمن مبرراته الذاتية. قد يكره المرء ذلك، لكنّ الفكرة نفسها لم تعد صادمة: الاختلاف المذهبي والطائفي سبب وجيه للقتل. هذا هو الاحتلال الوهابي للهلال الخصيب من داخله. كينونة «الهلال» تكمن في تعدديته اللانهائية من خيوط النسيج الاجتماعي الثقافي. ويقاتل الخليج ضد هذه الكينونة بالذات؛ فبإلغائها تكتسب الصحراء حضورها حتى البحر الأبيض المتوسط.
لا يرسل الوهابيون إلى الأردن، بعد، الانتحاريين المفخّخين؛ فليس في الأردن شيعة، لكن التحريض ضد المسيحيين بدأ لأول مرة في تاريخ البلد الذي لم يعرف الانشقاق الطائفي بتاتاً. فجأة، ظهرت أصوات تحرّم على المسيحيين الأردنيين المشاركة في الشأن العام الذي هو «شأن المسلمين»! وكالعادة، يمكن الدفع بهذه الروحية نحو أفعال إرهابية.
تمارس الرياض الضغوط على عمان لزجّها في الأتون السوري، وتحويل الأردنيين من عشائر عربية متحضرة إلى جماعة مذهبية حقودة. وفي مسار تهديم البلد نفسه، تعمل الدوحة على برنامج الحرب الأهلية بين الأردنيين ومواطنيهم من أصول فلسطينية. كيف؟
ــ بخطوة أولى منجزة تم استلال حماس من دمشق، وتحويلها من حركة مقاومة إلى نوع من تنظيم يمزج العصبية الفلسطينية بالعصبية السنيّة. وربما يفاجأ مَن بقي من المقاومين ممن يتأمل خيراً بحماس، أنّ جماعتها في الأردن تقف في مقدمة الصفوف في مجالي المناداة بالحقوق المنقوصة والمحاصصة محلياً، والتحشيد المعادي ضد سوريا خارجياً.
ــ بخطوة ثانية فشلت حتى الآن لتغيير المعادلات الداخلية في الأردن بما يسمح بتحويل البلد إلى «حماس لاند» تعيد استقطاب الفلسطينيين في كل مكان حول مركز سني وهابي، وتفرض سيطرتها على الضفة الغربية، وتتأهل لشراكة مع إسرائيل تضع الدوحة في قلب فلسطين والأردن الفلسطيني. وهذه الخطة هي، بطبيعة الحال، سياق أكثر منها سلسلة مؤامرات، مع أن التآمر بالمعنى الفعلي ليس غائباً.
في لوحة الصراع الشامل على مستقبل الهلال الخصيب، لم يعد الأردنيون «سنّة» بالمعنى السياسي. فالمشروع الخليجي يستثنيهم من الصورة التي يلزّمها العامل الفلسطيني بالدرجة الأولى. وهو عامل جاهز بسبب مزيج معقد من المصالح الاقتصادية والعلاقات ومزاج التديّن بين الفلسطينيين، ذاك الذي يمنح قاعدة واسعة للإسلام السياسي في صيغته المتحوّلة إلى عقيدة وهابية. هذا الميل إلى التديّن والتمذهب يظل ضعيفاً في صفوف الجماعة الوطنية الأردنية التي تنطوي على تقاليد ثقافية يمكنها الخروج من الانشقاق المذهبي الحاصل في المنطقة.
العراق ــ من جهته ــ محاصَر بالسعودية وتركيا المنضويتين اليوم في حلف مذهبي أطلسي، ومهدد بالفوضى والتحوّلات في سوريا، بينما العلاقة الودية مع إيران هي أثقل من أن يتحملها استقلال العراق وضرورات توحده الوطني. ليس للعراق، الآن، سوى الأردن كمنفذ جيوسياسي إلى قلب المشرق والعرب وفلسطين، ما يمكنه من إعادة تأسيس دوره الإقليمي اللازم لنهضته. العراق لا يُحكَم ولا يُدار كدولة مركزية في الإقليم من المنطقة الخضراء في بغداد، فهذه وصفة للتشقق الداخلي المستمر. وهو تشقق يلتئم فقط في دور عراقي أساسي خارج الأسوار. هذا ما وعاه صدام حسين الذي ــ بغض النظر عن وسائل حكمه المحلية ــ يعدّ المكتشف العملي للاستراتيجيات العراقية التي لا يمكن تجاوزها، ولكن يمكن فقط تعديلها، ووفقاً للمعطيات المستجدة. ومن تلك المستجدات أنّ إيران الدولة في 2012 ليست إيران الثورة في 1979. وهو ما يفتح مجالاً لتطوير العلاقات الثنائية معها، وفي الوقت نفسه وضع حدود سيادية وسياسية وثقافية تحافظ على استقلال العراق ككيان وطني ومركز رئيسي في المشرق ومقر للتشيّع العربي وللانسجام المدني الوطني. وهي تطلعات لا يزال يمكن لتحققها اليوم أن ينطلق من الأردن، أي في البلد نفسه الذي بدأ صدام عهده الرئاسي بالتطلّع صوبه.
بيد أنّ العلاقات الخاصة بين الأردن والعراق لا تعود إلى عهد صدام، وإنما إلى لحظة البداية بالنسبة للدولتين. فثورة العشرين العراقية نصف المنتصرة، فرضت على البريطانيين في 1921، صيغة الدولة المستقلة المتعاهدة مع لندن. وهي الصيغة التي تم استنساخها في الأردن بعد أقلّ من سنتين. وجرى هذا الاستنساخ لثلاثة أسباب، أولها وجود الصيغة، وثانيها أنّها تتم في كلا البلدين مع الهاشميين، وثالثها ــ وهو الأهمّ ــ تشابه التكوين السياسي للعشائر المستقرة المسلحة التي بدأت في الأردن في الفترة نفسها نشاطات تمرد تذكّر بالتمرد العراقي. بمعنى ما، إذاً، ثورة العشرين العراقية هي التي انجزت الثورة الأردنية وحققت للأردنيين صيغة الدولة شبه المستقلة مبكراً جداً، أي قبل حوالي 25 عاماً من تحققها في سوريا ولبنان.
العلاقة الخاصة بين الأردن والعراق رسمتها حدود تقسيم «الهلال» من خلال الربط بين البلدين من خلال «كوريدور» أرضي واسع يقطع الفاصل الصحراوي الجزيري. كان البريطانيون يهدفون من خلاله إلى تأمين التواصل بين مناطق نفوذهم من بغداد إلى عمان إلى حيفا. غاب السبب وبقيت النتيجة ماثلة؛ فالتواصل الجغرافي والسياسي والاقتصادي بين البلدين أصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخهما كدولتين.
في النصف الأول من عشرينيات القرن العشرين، كانت العشائر الأردنية والعراقية تقاتل على الجبهة نفسها، لكي تضمن الكيانين الوطنيين الوليدين من الغزوات السعودية الوهابية المنطلقة من نجد للتوسع على حساب الأردن والعراق. تلك ملحمة من الكفاح الرهيب مجهولة على نطاق واسع، ومجهّلة من قبل السردية القومية العربية المتمحورة حول خط القاهرة ــ دمشق ــ الرياض. ونحن نستعيدها اليوم لا كدرس تأريخي، بل كلحظة تنوير لها ضرورة راهنة في خريطة الصراعات المعقّدة في المشرق. الغزوات المثابرة العنيفة الهمجية للبدو الوهابيين على مضارب العشائر المتحضرة نصف البدوية ــ نصف الفلاحية التي تكوّن الأطراف الممتدة من الهلال الخصيب في جنوب العراق وشرقي الأردن، لم تميّز بين شيعة العراق وسنّة الأردن، فكلاهما، عند الوهابيين، «كفّار» يحل تقتيلهم وتدمير مرابعهم ومقدساتهم واستلحاقهم بالإسلام الخاص بمملكة آل سعود، وبسلطة الملك السعودي. ورغم ما تركوه من دمار وقتلى وجرحى، فشل الغزاة في تحقيق أهدافهم أمام حائط المقاومة العشائرية الصلب والباسل.
عمّ كان يدافع أولئك العراقيون والأردنيون؟ عن وجودهم وحريتهم بالطبع، لكن أيضاً في العمق عن حدود اجتماعية ثقافية، هي حدود الهلال الخصيب، حدود المشرق. لسنا، إذاً، أمام صراع بين السنّة والشيعة، بل بين نطاقين حضاريين. الأول جزيري بدوي بدائي بدئي مترحّل يتجسد في منظور فقير أعمى متخلف للإسلام والحياة والدورة الاقتصادية الاجتماعية. والثاني مشرقي متحضر، متجذر في الأرض، مركّب من طبقات ثقافية عديدة متراكمة عبر التاريخ من حضارات وأديان وتجارب ولغات، متدامج في عمليات انتاجية وتبادلية سلمية الطابع، فلا يتعاطى، بالأساس، مع مفهوم التكفير والواحدية؛ ذلك أن التعددية هي أساس وجوده الاقتصادي الاجتماعي.
في 1925، انعقد في الكويت مؤتمر للسلام بين العراق والأردن من جهة والسعودية من جهة أخرى. وإذا ما كان الغزو الوهابي العسكري على البلدين المتحالفين قد توقف مذ ذاك، فإنّ الغزو السياسي والعداء ومساعي التدخّل لم تتوقف طوال الفترات اللاحقة، في حين ظلت بغداد وعمان في حلف لم يتزحزح حتى ثورة 1958 العراقية حين انقطعت العلاقات، إنما مؤقتاً، إذ رفض أركان الدولة الأردنية الذهاب مع العائلة الهاشمية بعيداً في دروب الانتقام. حين ذاك، لخّص الزعيم الأردني الشهير، وصفي التل، الموقف بجملة قاطعة: «رحم الله الملك (فيصل الثاني المقتول في الثورة) لكن الأردن أبقى». وكان يعبر عن قناعة البيروقراطية الأردنية في الضرورة الحيوية للعلاقات مع العراق، ملكياً كان أو جمهورياً. ويمكننا أن نقول اليوم: بعثياً كان أو شيعياً.
عاشت العلاقات الأردنية العراقية، لحظات من التوتر بين 1968 و1978، لكنّها ظلت تنطوي على تفاهم جوهري. ففي حلقة مفصلية بالنسبة للأردن، في 1970، اتخذت بغداد البعثية قراراً استراتيجياً بتحييد القوات العراقية ــ الموجودة حين ذاك في الأراضي الأردنية بموجب اتفاقية الدفاع المشترك ــ عن الصراع الدائر بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية. وكان على بعثيي بغداد تبرير هذا القرار ــ الذي نبع من إدراك عميق، لدى صدّام حسين تحديداً، للمصالح العليا للدولة العراقية ــ بفيض من الجمل الثورية والاحتكاكات التي أنهاها صدّام حالما تسلم مقاليد الرئاسة في 1979.
بين 1979 ومطلع 2003 تنامت العلاقات الأردنية العراقية مثل كرة نسيج تجاوزت السياسات اليومية بتعقيداتها المتشعبة، وتحدت كل الضغوط التي مارسها الغرب والخليج على عمان لخفض صلاتها مع بغداد. في ذينك العقدين، كان الاقتصاد الأردني يعتمد على النفط العراقي الرخيص (نصفه منحة ونصفه بسعر تفضيلي) المموّل بصادرات أردنية خلقت مروحة من التشغيل في العديد من المجالات: الصناعة والزراعة والنقل البحري والبري والجوي والتجارة والخدمات المالية وسواها. وخلال الحرب العراقية الإيرانية، تحوّل الأردن إلى منفذ حيوي ووحيد للعراق، وهو ما تكرر خلال فترة الحصار في تسعينيات القرن الماضي.لكن من التبسيط المخلّ أن نفسّر العلاقات بين البلدين بمدلولاتها الاقتصادية؛ فقد انتظمت بغداد وعمان في حلف جيوسياسي كان موجهاً، أولاً، نحو إيران من جهة العراق، وثانياً، نحو إسرائيل من جهة الأردن. بالنسبة للعقل الأحادي ستبدو هذه المعادلة إما اتهامية كونها تشير ضمناً إلى حلف إيراني إسرائيلي، أو أنّها زائفة، كون العداء الإيراني الإسرائيلي لا يسمح بالتصدي لهما معاً. لكن العقل الجدلي يأبى محاكمات المنطق الشكلي؛ ففي الثمانينيات، كانت مركزية العراق الإقليمية مهددة بالتمدد الإيراني فعلاً، وكانت سيادة الأردن مهددة بالضغوط الإسرائيلية التي وصلت حداً لوّح فيه آرييل شارون باحتلال عمان وفرض الوطن البديل بالقوة. في هذه اللوحة من الصراعات المعقدة، كان الأردن، بالنسبة للعراق القاعدة الخلفية الضرورية والآمنة، التي تمكنه من المجابهة مع إيران، وكان العراق، بالنسبة للأردن، العمق الاستراتيجي الذي يمكنه من الصمود في مواجهة الضغوط الإسرائيلية. وما ينبغي أن نتذكّره هنا أنّ عمان رفضت بصورة مثابرة عقد معاهدة سلام ــ لا تلبي شروطها ــ مع إسرائيل، منذ كامب ديفيد وحتى 1994، حين فقد العراق قدراته العسكرية والسياسية إثر العدوان الأميركي في 1990/ 1991. ولم يحدث الاستسلام الأردني في وادي عربة بين عشية وضحاها، فقد عانى الأردن، إلى جانب العراق، الحصار، وخاض البلدان معاً، بين 1990 و1994، المواجهة القاسية مع الخليج. حينها، في تلك السنوات الساخنة، ظهر المضمون المشرقي الصريح لحلف استعاد ذكرى مقاومة الغزوات الوهابية.
من المهم جداً الانتباه إلى ان سياق العلاقات الخاصة بين العراق والأردن قد ترك أثره الإيجابي البليغ على العلاقات بين الأردنيين والفلسطينيين، الذين توحّدوا، شعبياً، مع العراق وضد الخليج، في لحظة من الإشراق الوطني التي حظي الملك حسين خلالها بتأييد جماهيري غير مسبوق. الملك حسين، حليف صدام وصديقه المقرّب، استذكر في تلك اللحظة ثارات الحجاز المغتصَب. أطلق لحيته وأعلن عن تغيير لقبه من «جلالة الملك» إلى «الشريف»، تذكيراً بحقه الوراثي بالعودة إلى مكة. كانت تلك ومضة بليغة من فهم الهلال الخصيب لذاته في مواجهة الجزيرة، ومضة لم تكتمل بسبب الانشقاق السوري اللبناني نحو القتال في الخندق الخليجي. اليوم، تدفع سوريا الثمن الباهظ لذلك التماهي مع أعداء الهلال الخصيب.
إذاً، العداء السعودي الخليجي للعراق لم يبدأ مع ولادة حكومته الشيعية، بل عبّر عن نفسه بأشكال مختلفة منذ الغزوات الوهابية إلى السياسات المناوئة للعراق الهاشمي والقاسمي، وليس انتهاء بالمؤامرات المتتابعة ضد عراق صدام حسين، وقد وجد نفسه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بين المطرقة الإيرانية والسندان الخليجي. وكلاهما أرادا منع العراق من التكوّن كقوة إقليمية رئيسية، فانتهى إلى المواجهة معهما بالتتابع، من حرب إلى حرب، ومن حصار مديد خانق وإجرامي إلى مواجهة الغزو الأميركي في 2003، بعدها استُغلت المقاومة الباسلة، أبشع استغلال ــ ومن الطرفين الإقليميين نفسيهما ــ لتفسيخ الوطنية العراقية مذهبياً.
في المرحلة الحالية لانهيار النظام العربي، تنطلق الغزوات الوهابية، مرة أخرى، لتضرب في المشرق؛ في العراق وسوريا ولبنان، بوساطة المجموعات الإرهابية، وتسعى بوساطة الخنق الاقتصادي والسياسي، إلى إعادة تكوين المجال الأردني الفلسطيني، وهّابياً، في سياق التفاهم الاستراتيجي مع شريك العمر، إسرائيل.
ما فشلت فيه الوهابية في عشرينيات القرن العشرين، تحوّل، منذ مطلع الحقبة النفطية في سبعينياته، إلى مشروع طويل المدى من التدخّل الناعم والسيطرة الأدبية والسياسية المدعومة بالبترودولار وبالإرهاب الذي حقق أولى انجازاته في أفغانستان، ثم تأسس بوصفه أداة دائمة للغزو الوهابي. وبالمحصلة، استطاعت عاصمتا الوهابية، الرياض ولاحقاً الدوحة، تحقيق اختراق ثقافي عقيدي وتشكيل حواضن اجتماعية للانغلاق المذهبي والنزعات التكفيرية والمنظمات الإرهابية في قلب الأوساط السنيّة في الهلال الخصيب. ومعالجة هذا الاختراق، وليس فقط آثاره، تشكّل، اليوم، المهمة الرئيسية أمام القوى المؤمنة بالذاتية الحضارية للمشرق الواقع بين عدوين متحالفين، الوهابية والصهيونية.
إنه لأمر يدعو للتفاؤل أنّ الإعلام السوري أصبح يعبّر، تحت ضغط الأزمة، عن اتجاه يركز على تمييز الحدود الحضارية التي تفصل سوريا عن الجزيرة. لكن ما نخشاه أن تكون هذه الأطروحة مجرد وسيلة صراعية مؤقتة، لا رؤية جذّرتها المواجهات الدامية بين المشروع الحضاري السوري ــ على أخطائه السياسية وخطاياه الاقتصادية الاجتماعية ــ وبين المشروع الخليجي الذي يتلخّص، في النهاية، بالتعصب المذهبي والمتفجرات والإرهاب. كذلك، فإنّ المراقب ليحار من أنّ السوريين ما يزالون يتجاهلون معاني ودلالات الدعم الآتي من العراق والأردن.
تولد الأفكار الكبيرة عادة في الأزمات الكبيرة. وربما يكون هذا هو الوقت الملائم للتفكير بالمشرق ووحدته ومستقبله. يمكننا أن نتصوّر إطلاق تيار فكري سياسي يسعى نحو مشروع ينضّد الدول المركزية الثلاث في الهلال الخصيب، سوريا والعراق والأردن. عندها سوف ينشأ سياق يستوعب العصبيتين المحليتين، اللبنانية والفلسطينية. هل فكرت دمشق ــ وأفضل التفكير هو الذي يحدث تحت النار ــ في استنقاذ نفسها بمشروع يتعداها إلى حدودها الحضارية؟ إلى ذلك، سنفكر الآن بالممكن الذي يقع في قلب ذلك المشروع، أعني استعادة ما انقطع من العلاقات الخاصة بين العراق والأردن.
بين المجابهة العدائية للسعودية وتركيا، والصداقة الباهظة الكلفة لإيران، والاحتمالات الصعبة لمستقبل سوريا، يلوح الأردن، مرة أخرى، كمجال حيوي للحضور العراقي. وهو أفق يحتاج من بغداد إلى القليل من الخيال السياسي والكثير من التبصّر الاستراتيجي. يمكن للعراق، بإقدامه على تجديد شامل لعلاقاته مع الأردن، أن يضع اللبنة الأولى ليس فقط في دوره الاقليمي المستقل اللاحق، وإنما، أيضاً، في إعادة بناء وحدة نسيجه الوطني.
تجديد المنحة النفطية العراقية للأردن (وفتح بوابة التعاون الاقتصادي على أسس تفضيلية) سوف ينقذ البلد المأزوم اقتصادياً ومالياً، من الإفلاس. لكن الأهمّ أن نكون بإزاء تجديد العلاقات الثنائية في سياق جيوسياسي، يحافظ على الطابع السلمي للصراع السياسي في الأردن، ويحرره من الضغوط الخليجية، ويرسّخ حياده الإيجابي نحو الصراع في سوريا، ويعزز قدرته على مواجهة التحدي الإسرائيلي المتجدد الأطماع بمناسبة حالة التفكك العربي والضعف الأردني، ويتلافى، خصوصاً، الاحتمالات الأسوأ لتردي العلاقات الأردنية ــ الفلسطينية.
سوف يستردّ العراق كلفة الانفتاح على الأردن من خلال تفعيل الحيوية الاقتصادية الثنائية في عدة مجالات من إعادة الإعمار في العراق والاستثمار السهل العالي المردود في الاقتصاد الأردني. ففي النهاية، سوف تنتظم العلاقات الاقتصادية بين البلدين على أسس المنفعة المتبادلة، لكن الكسب الأساسي لكل من بغداد وعمان، سيكون في المجال الجيوسياسي: فبإنقاذه الأردن وتجديد العلاقات الاستراتيجية معه، سوف يخرج العراق من مأزق الغرق في السياسة المحلية، ويعيد تركيبها وفق دوره الإقليمي المتجدد، عبر الأردن، نحو فلسطين، وبهما في مواجهة السعودية وتركيا. وهو نفسه الإطار المناسب لتكوين تحالف إنقاذ سوريا.
هل تتوقع بغداد أن تكون المبادرة من قبل الأردنيين الواقعين في شبكة معقدة من الضغوط القاسية والمربكة؟ بغداد هي التي في موقع المبادرة هنا. وإذا ما حزمت القيادة العراقية أمرها، وقررت منح الأردن سعراً تفضيلياً يغطي احتياجاته النفطية ووضعاً تفضيلياً للتعاون الاقتصادي، فستتكون، عندها، النواة اللازمة لشبكة متعددة المستويات من العلاقات الجيوسياسية الثنائية التي يحتاجها البلدان في المدى المنظور.
مرة أخرى، أذكّر العراقيين بأن المشروع الوطني العراقي لا يُدار في الإطار الضيق للمعادلات البرلمانية والإدارية في بغداد، بل يُدار استراتيجياً وعلى مستوى الإقليم، وبوابته الممكنة اليوم، تقع في عمان
http://arabic.rt.com/forum/showthread.ph...8%AA%D9%87!