كانت ليلة ساخنة، رائحة شيء محروق تفوح من الأجساد، أو بشكل أدق - قبل أن أكمل يجب القول أن ما سأحكيه مقرف كما كل الليلة والستون ليلة التي قضيتها
في هذا المكان. هذا القبو تحت الأرض، تحت المكتبة العامرة بالكتب التي تتحدث عن التطوير والتحديث ومقاومة الإمبريالية والإنسان عصب المقاومة لم يترك لنا ماء وجه يُخجلنا من البذاءة، ارتكبوا فينا كل البذاءة ومصوا ماء وجوهنا - الرائحة كانت تفوح من المؤخرات، تحديداً مما تركته المؤخرات على الأرض. سؤال كبير سيطرح حول لماذا كنتم تتغوطون كالبهائم على الأرض؟ الجواب من شقين، أولهما أن التغوط في كثير من الأحيان لم يكن إرادياً، الكهرباء المعلقة بنا من الرأس إلى الأخمص كانت تُفقدنا الإرادة والقدرة على حبس المعدة، كنا نترك كل شيء تحتنا، صُراخنا، شُعورنا، ذاكرتنا، أمنياتنا، وطبعاً بُرازنا والبول، سبب آخر غير الكهرباء كان يجبرنا على إخراجه، القفز على البطن. الشبيح البغل كان يجري كل تدريباته الرياضية على أجسادنا، بدءاً من الركل وتسديد اللكمات وحتى القفز للرشاقة، كان فتاكاً. الشق الآخر من جواب لماذا، لأننا كنا نهرب من الخروج الصباحي إلى الحمامات. تلك الرحلة كانت موتاً يومياً، الضرب بالكرابيج والعصي طوال الطريق، وإجبارنا على السير حفاة والدوس على كل القذارة الممتدة حول المكان حيث كانوا يبولون متعمدين مبالغين في تقذيرنا، والشتائم التي تغسلنا غسلاً برعاية وإبداع الضابط أبو ساطور - والذي لم أجد في لهجته قاف الساحل الفجة التي كنت أبحث عنها بل كل لعثمة لهجة السهل، كان أبو ساطور عميد جلادي المركز الثقافي في زمن الثورة وحتى آخر يوم في حياته من البلد مهد الثورة، للأسف. وقد سميناه هكذا لأنه كان يكسّر الإنسان من الداخل كما يفعل الساطور - ، وقطع بولنا بفتح الباب فجأة ونحن في المنتصف، والضرب المركز عندما نحاول أن نغسل أيدينا مما تعلق بها. الرائحة كانت تفوح أيضاً من القناني الممتلئة بالبول، والتي كنا نعبؤها ونصطحبها معنا كل يومين لنفرغها هناك، محاولين توفير يومٍ أو يومين من الموت القذر. كنا نخبؤها تحت القصدير الذي يلف المواسير التي كانت معدة لتمد المركز الثقافي والمثقفين بالتبريد المركزي.
كنا 46 معتقلاً بلا أقل حقوق السجناء، لا مذكرة اعتقال، لا تهمة واضحة، لا محاكمة، لا مكان للجلوس، لا باب بنافذة، لا سرير سجين، لا اسم، ولا حتى رقم. سأحاول تجاوز كل محيط النسيان والمجهول والمعدوم هذا وأعرف عني، أنا حسين، 16 سنة بحسب تاريخ الميلاد، اعتقلت أو بلفظٍ أصح اختطفت، وبعد جلسات تعذيب مكثف استخدمت فيها كل الأدوات تقريباً والأساليب، اعترفت بخطفي لمقدمٍ في الجيش وعقيد، وباستهدافي لعشرات الحواجز وقتل من فيها، وبأني كنت في وقت الفراغ أو عند قلة الذخيرة أتسلى بالتشليح على الطرقات، حتى شلحت أكثر من عشر سيارات يملكها أبناء قريتي، وبأني كنت أتقاضى على هذا أكثر من خمسة ملايين ليرة سورية شهرياً.
استغربت كيف لم يثبتوا أول تهمة أني أدرك أن الفيسبوك موقع انترنت وليس ملفاً على الجهاز، وأني أعرف جيداً استخدامه. وأنهم عندما أمسكوا بي كنت أحمل أداة الجريمة، كتابٌ يحكي عن النهاية. على ذكر الكتاب، أنا كنت معتقلاً في المركز الثقافي في مدينة معرة النعمان، وهذه مصيبة أخرى. كان عليهم مهمة تطبيق كل ما في الكتب المحتوية على أفكار القائد الخالد علينا. على ظهورنا رسموا خريطة سوريا الكاملة بعد تحرير الجولان والاسكندرون، وفي مؤخراتنا نفذت إحدى الخطط العسكرية للتحرير والفتح. أنا لا أمزح، كنا نُغتصب بشكل متكرر ومعتاد، كان الخازوق يخترقنا إلى عمقنا، وسعيد الحظ من يحظى بدهن مادة مُلينة على المكان قبل الدحش، هذا إذا لم يفترض القائم بالمهمة أن المادة أمريكية يجب مكافحتها، أو أنها منهكة لخزينة الدولة. الخازوق كان خشبة مدببة، تشبه شكل مجموعة تستعد للاقتحام، كنا نُقتحم. وعلى بقية الجسد كانت معاناة الإنسان المحاصر من المؤامرة العالمية الإمبريالية الماسونية الصهيونية الإرهابية العميلة تصرخ بأقوى صوتها.
نوبة الليلة عند أبو ساطور، ليلةٌ لمغامراته الكبيرة وبطولاته، وأنا الطرف المسحوق. مسرح العملية كانت الغرفة التي حُبست فيها ثلاثين ليلة متواصلة مربوط اليدين مطمش العينين حتى أكل النمل من وجهي وأذني بدون أن أستطيع أن أفعل له أي شيء.
في الطريق من الزنزانة الجماعية والتي أفضل أن أسميها قبراً جماعياً إلى غرفة التحقيق كان مشهد دعارة على اليمين، معتقلان عاريان وخمسة مشاهدين قتلة، وصراخ: ركاب عليه، يلا فوتو فوتو "
برفسة واحدة انتقلت من باب الغرفة إلى آخرها، وبلا مقدمات، هكذا بدأت الليلة:
- شغلّو ليسمع بركي بتتحرك النخوة تبعو.
تصرخ الأغنية: يا بشار، متلك مين أنتا يا عالي الجبييييين .. شو ما صار، ما منلين نحنا جنودك ملايين .. يا بشاااار، يا أسد يا حبيب الملايين .. خلو الصوت، يشعل نااااار "
الضرب سبق الأغنية واستمر بالتزامن معها، وكان يزداد أو يقل بحسب موسيقى الأغنية، في محاولة لضبط رقص جسدي من الألم على إيقاعها. بينما يكمل أبو ساطور استعداداته ويتأكد من أسلحته وأدواته وينظر إلي متشفياً.
- شكلو ما عجبتك الغنية، ما هيك؟ دلعو للنعنوع. بدي تعلمه السباحة والغطس والطيران كمان.
بالحبل المنصوب كمشنقة ربط يدي من الخلف، سحب السجان المساعد طرفه المتدلي حتى صرت نائماً على السقف. وابتدأت معاركي مع الجاذبية والعصا وآلام العظام ورغبتها بالتفكك والسقوط. لما ملّ من ضربي وأنا بهذا الشكل، أنزلني وربطني من قدميّ، شد الطرف المتدلي من الحبل، تدليت أنا مشنوقاً من القدمين، الرأس إلى أسفل والقدمان إلى أعلى، يدفعني ويصرخ: يلا طير يا عرعور، هلأ بدك تطير، طير. عندما عجزت عن الطيران ولم تتحول يداي إلى جناحين صار يراجع دروس ملاكمته والكاراتيه على الكيس البشري المعلق أمامه، لكم وركل كل مكان: هلأ بدك تعترف بكل جرائمك يا واطي. : سيدي اعترفتلكن بكل شي. : لا لسا، عمتخبي علينا، غطسو لشوف بركي بيعترف.
وأنا معلقٌ متدلي دفن وجهي في سطل الماء المغلي، بدأت أرفرف كدجاجة تحاول الطيران هرباً من الغرق - الغرق بالموجة العاتية أو بدمها الذي انفجر من نهش الذئب العجوز -، رأيت الموت .. سحب رأسي: بدك تعترف. دفنه ثانية، لما عاد وسحبني اندفعت الكلمات من حلقي: سيدي خلص، بدي اعترف، أنا هجمت عالجيش كتير، كل يوم كنت أهجم، سلبت أسلحتهم، اغتصبت نسوانهم وأخدتن سبايا، فجرت، دمرت، دخلت إرهابيين، عملت الجرائم كلا.
أفلت الحبل، سقطت دفعة واحدة، حاولت الاستناد على الحائط، الحائط الذي كان أفضل صديق طول مدة الاعتقال، كان يساعدني على الوقوف، يسندني ويمنعني من الانهيار، يسندني وألتف، يسندني وأقعد عندما أتعب من الوقوف، يحك وجهي محاولاً إبعاد النمل عنه، وعندما تكون الطماشة ضيقة يساعدني على رفعها للأعلى لأتنفس قليلاً وأتفحص المكان ثم يعيدها معي، كنت أتكأ عليه وأحكي له كل أوجاعي، حكيت له حتى أسراري، لم يعترف بشيءٍ ولم يبح برغم الجلد الذي ناله. لما لم أستطع أن أستند سقطت. قماشةٌ مشبعةٌ بالماء الساخن غطت وجهي، وصاحب الفتوحات دعس عليها حتى انقطعت أنفاسي.
من صباح المسلخ الثقافي:
لا أدري ما الذي فتح ذلك النوع من الجروح هذا الصباح، حنينٌ عميقٌ وشجنٌ انتاب الجميع تقريباً، سنخرج وعاجلاً كان الأمل الذي اجتاح المكان خصوصاً بعد أصوات الرصاص التي لم تتوقف منذ البارحة متزامنةً مع دعوات الانشقاق الموجهة للجنود على الحواجز ولمن في المركز، كان شعور بأن التحرير اقترب من هنا، تحرير الروح والعقل والجسد. واحد منا فقط لم يكن متفائلاً أو لم يكن لديه سببٌ للتفاؤل، لقد فقد كل عائلته، ولو خرج فسيخرج للفراغ السحيق.
أخرجونا للحمامات، كانت القناني المعبؤة في جيوبنا، أفرغناها وعدنا. أبو ساطور أزعجته مسحة التفاؤل التي لم أستطع إخفاؤها من وجهي، جذبني إليه وزفر في أذني: شو مفكر رح يطالعوك الإرهابيين؟ والله ما رح تطلع إلا ميت ورح نزتك عالأوتستراد. التوتر كان بادياً على وجوههم ومن حركاتهم السريعة على غير العادة.
بعدما عدنا عادت الأحاديث المالحة، كلهم استنتجوا ذات الشيء من ملامح القتلة وتحركاتهم، ذكرياتنا وآمالنا قطعها فتح الباب المفاجيء، صرخوا بأن الإرهابيين اقتربوا وأنهم يحاولون حمايتنا منهم، أمرونا بالوقوف والاتجاه إلى الحائط، بلا مقدمات فٌتحت البواريد علينا، بدؤوا من أول الغرفة وأكملوا الصف إلى النهاية، انحنيت في اللحظة الأخيرة وانبطحت على الرجل الغارق بدمائه جانبي بينما استقرت الرصاصة فوق رأسي ، أغلقوا الباب وانسحبوا سريعاً. دقيقتان من الهدوء بدأ بعدها الذين بقوا أحياء بمحاولة استيعاب ما حصل، مروان الدغيم المعتقل الجرجنازي كان يزحف بخمس رصاصات ويستجدي مساعدتي، حاول المقاومة حتى النهاية ولما تعب نام في مكانه وإلى الأبد، حاج خمسيني اخترقت الرصاصة ظهره وخرجت لم يحتمل فمات مباشرة، الرجل الذي كان متشائماً، نظر إلى الفراغ وسقط فيه، أسامة خاف أن يضيع في المقبرة الجماعية والحصيلة الجماعية والخبر الجماعي فغمس يده بدمه ودم الشهداء وكتب على الحائط: أسامة، كفرزيتا. الغرفة امتلأت بفوارغ الرصاص وبالدم وبالموتى، العديد صاروا يزحفون محاولين الخروج من الباب للبحث عن من يساعدهم بعضهم استسلم في الطريق. الثوار وصلوا وبدؤوا بإخراجنا، حاولت أن أمشي، لم أستطع من قشعريرة الموت التي اجتاحتني ولم تسيطر علي، كانت الرصاصة قريبةً جداً من رأسي، تعثرت بشهيدين، وبجثة أحد القتلة الذي أكل الرعب وجهه، وفتح فمه وعيناه ويداه للموت.
من 46 معتقلاً في الغرفة، نجى 16 فقط، معظمهم أصيبوا، بعضهم إصابات بليغة، ماعدا الذين استشهدوا في الغرفة الأخرى المخصصة للعساكر والذين كان عددهم مقارباً لعدد الذين نجوا منا.
* هذه القصة حقيقية، وقعت ليلة ويوم الاثنين 8 / 10 / 2012 في مدينة معرة النعمان. وكخبر على الهامش: ليست المجزرة الأخيرة التي تحدث في المدينة.
* الصورة حقيقية أيضاً، عندما التطقت كانت رائحة مكثفة للدم والموت تفوح من المكان.