نعنى بالإلحاد الوجودي – والذي سنتطرق إليه حالاً – ذلك النوع المتميز من الإلحاد بما يفرقه عن الإلحاد الطبيعي العلمي أو الوضعي من جهة، وعن الإلحاد الأيديولوجي من جهة أخرى.
فإذا كان الإلحاد الوضعي لا يعترف بوجود إله على المستوى الطبيعي، وذلك لافتقارنا إلى الأدلة المادية الحاسمة على وجوده، وإذا كان الإلحاد الأيديولوجي لايعترف بوجود إله من أجل إصلاح أوضاع اجتماعية وسياسية يزيدها الإيمان بالإله استفحالاً واستمرارًا، فإن الإلحاد الوجودي – لدى الوجوديين الملحدين – إنما يقوم على رفض الاعتراف بسلطة الإله من أجل الحفاظ على الحرية الإنسانية، وعلى خطورة القرار، ومحاولة منع الإنسان من التشيؤ في مواجهة الأوامر الإلهية المطلقة، وهو في هذا يحاول أن يؤكد على أصالة الدوافع الأخلاقية بوصفها دوافع إنسانية بحتة.
إذن فالإلحاد الوضعي نتيجة أسفرت عنها مقدمات منهجية علمية، بينما لا يتأسس الإلحاد الأيديولوجي على مقدمات، بل على نتائج، فهو إلحاد غائي يجد سببه فيما يُفترض أن يسفر عنه عمليًا، أما موضع الإلحاد الوجودي من المقدمات والنتائج فهو متوسط، وسببه هو عين نتيجته، وكلاهما هو عين ماهيته، ونعنى بذلك: أن الوجودي الملحد لا يؤسس إلحاده على مقدمات واقعية صادقة، ولا يهدف إلى نتيجة يُرجَى تحققها واقعيًا، بل أنه يجد أساس تمرده في فعل التمرد ذاته الذي يؤكد على الاستقلال، يدل على الاستقلال أولاً بما هو مقدمة للتمرد، ويؤدى إلى الاستقلال ثانيًا بما هو نتيجة له.
والنتيجة النهائية لهذه المقارنة أن الإلحاد الوضعي يقوم أساسًا على رفضالميتافيزيقا بما فيها مفهوم "الإله"، كما هو الحال لدى كارناب مثلاً Carnap ([1]) ، بينما يقوم الإلحاد الأيديولوجي على محاولة إدراك هدف عملى سياسى أو اجتماعى بوصف الميتافيزيقا أو الدين بنية فوقية Superstructure
كما نجد عند ماركس مثلاً([2])،أما الإلحاد الوجودي فهو إلحاد أخلاقى قيمى، إلحاد أكسيولوجى وليس أنطولوجيًا أو أيديولوجيًا.
ومن أجل دراسة هذه القضية، لابد أن ينقسم هذا الفصل إلى شق سلبى وشق إيجابى،فالفصل الأول يعالج جانب الإلحاد الأخلاقي ذاته بما هو سلب للإيمان اللا أخلاقى،بينما يعالج الفصل الثانى جانب الأخلاق الإلحادية التى يفترض إمكان قيامها على الأقل كشرط لسلب الأخلاق الإيمانية.
-1-
الإلحاد الأخلاقي
معنى الإلحاد الأخلاقي هو الإلحاد من أجل الموقف الأخلاقي، ذلك الموقف الذي لا يكون أخلاقيًا إلا مع توافر شروط معينة، وغنى عن الذكر أن هذه الشروط لا تتحقق أبدًا – من وجهة نظر الإلحاد الأخلاقي – في الموقف الإيمانى.
بشكل أكثر مباشرة وارتباطًا بالتقديم السابق لهذا الفصل، أقول: إن الإلحاد الأخلاقي هو الإلحاد الوجودي عند الوجوديين الملاحدة، وهو الذى يتحدد عن طريق الإشراط الشامل للفلسفة الوجودية ككل، أى ما يميزها عن باقى الفلسفات في النقطتين التاليتين:
- النظر إلى الذات الإنسانية الفاعلة الفردية المتعينة باعتبارها الموضوع الأساسي للبحث الفلسفي([3]).
- معالجة الذات الفردية على أساس التمييز بين الوجود Existence والماهية Essence بشرط أسبقية الأول (أى الوجود)([4]).
إن الإلحاد الوجودي إذن هو عدم اعتراف بسلطة الإله باسم صون هذين المبدأين،وهو ما يصل بنا إلى نقطتين أخريين:
الأولى:كيف يميز هذا الإشراط الإلحادَ الوجودي بما هو إلحاد أخلاقى عن الإلحاد الوضعي والأيديولوجى ؟
والثانية:كيف يؤدى الموقف المناقض (أى: الإيمانى) إلى إخلال بالإشراط السابق ؟
والإجابة عن السؤال الأول أننا نلاحظ كيف يصير الإلحاد الأخلاقي إنكارًا لسلطة الإله، وليس لوجوده، هو محاولة للتمرد، ومحاولة لتحمل المسئولية مهما بلغت خطورتها، بل وعلى أخطر وجه لها، حتى لو كان الثمن هو الخطيئة والقلق([5])وهو يتحدى السلطة بمجرد أن يبدأ في مناقشتها، وحين يناقشها فإنما يعترف بوجودها على المستوى الأونطولوجى ضمنًا([6])،ذلك أنه – كما أسلفنا – إلحاد قيمى لا أنطولوجي([7]).
بهذا يكون الإلحاد الأخلاقي محاولة للحفاظ على إمكانية ارتكاب الخطأ،واعتبار هذه الإمكانية شرطًا لإمكانية فعل الصواب أيضًا، بل واعتبار الخطأ جزءًا ضروريًا من الخبرة الفاعلة الشعورية والقادرة على التشريع لنفسها بنفسها، أي: الخبرةالأوتونومية Autonomic.
وبهذا أيضًا يقتصر الإلحاد الوضعي والأيديولوجى على إنكار الوجود، وعدم خوض مناقشة مع السلطة وإلا كان هذا نفيًا للنفى، وهو فارق جوهرى كما نرى.
أما الإجابة عن السؤال الثانى: فهى أننا نلاحظ أن جوهر هذا الموقف الأخلاقي هو التوتر الدائم في حالة شد وجذب لا تنتهى، وهو توتر خلاق مبدع يتوقف دائمًا عند الجديد والمتفرد، وهو على وجه التحديد: القلق الوجودي بكل ما يحمل من آلام وآمال.
إن الموقف الدينى لا يرتضى ذلك القلق الأوتونومى حلاً لمشكلة الوجود الإنسانى، بل يتجه إلى ضرورة القضاء عليه بحسم الإجابة عن أسئلته([8])،كذلك فهناك مذاهب أوتونومية أخرى لا تعترف لا بوجود القلق ولا بأهميته كمذاهب اللذة والمنفعة العامة مثلاً([9])لذا يعانى الإلحاد الأخلاقي من مواجهة لـ (اللا قلق الدينى) والـ (لا قلق العلمانى) كليهما.
إن حسم موقف القلق بالإيمان والطمأنينة يبدو لا أخلاقيًا بالمرة من وجهة نظر الوجوديين الملاحدة، إذ يقضى على الوجود الأصيل، الوجود الذى يمتلك فيه الموجود نفسه وقدرته على تحديد ماهيته، الوجود الذى يتميز بالخصوصية Mineness ، وهى فكرة قام عليها مفهوم النبذ السارترى،أى نبذ الله للإنسان وغياب المشرّع القبلى، وفتح باب الممكنات بلا محتوى محدد([10])،فقط هناك شرطان صوريان: الإبداع والتفرد من جهة، والمسئولية الهائلة من جهة أخرى([11])،وبهذا يصبح الموقف الأخلاقي أقرب إلى الإبداع من الاتباع، أقرب إلى موقف الفنان الذى يبدع دون أن يحتذى حذو نموذج إرشادى ما، وهذا هو عين كونه أخلاقيًا.
وعلى الجانب المناقض يقف الوجوديون المؤمنون، مثلهم مثل كيركجور في فكرته عن الإيقاف الغائى للأخلاق، والتى يمثل لها بموقف إبراهيم النبى حين أطاع الأمر الإلهى بذبح ابنه رغم أن ذلك خطيئة، إن كيركجور لا يجد غضاضة في التوفيق بين الذاتية والفردية وبين هذا الإيقاف، إذ يرى أن طاعة إبراهيم لربه كانت تحقيقًا لذاتية إبراهيم الذى قرر أن يكون (المطيع لله) بل ويتخذ هذا الموقف تحديدًا مثالاً لتوضيح فكرته([12]).
والتناقض بدهى بين الذاتية والإيقاف الغائى، لأن تحقيق الإيقاف لمرة واحدة بهذا الشكل الكامل يلتهم كل حدود الذاتية، لأنه يقضى على إمكانية الاختيار والقرار فيما بعد.
والأخطر من ذلك، أن السلطة الإلهية لا تتجلى للبشر مباشرة، وإنما من خلال نصوص لا تمر إلى الجمهور إلا بعد أن تحدد النخبة معناها وهدفها، مما يعنى أن الإيقاف الغائى قد يصبح بسهولة في ظل الحضارة الثيونومية Theonomic أو الهتيرونومية Heteronomic تأسيسًا للقمع السياسى والمعرفى.
-2-
الأخلاق الإلحادية
هذا هو الجانب الإيجابى من هذا الفصل، ولسنا نعنى بعنوانه: الأخلاق الإلحادية بإطلاق، ولكن نعنى به: الأخلاق الإلحادية بالمعنى الوجودي للإلحاد كما وضحناه سالفًا،ولكن على أية حال، فإن الأخلاق الوجودية الملحدة لن تقوم أبدًا إلا حينما يمكن قيام أخلاق إبداعية تنطلق دون نموذج إرشادى، والأخلاق الإبداعية بدورها لن تنطلق إلا من قاعدة الأخلاق العلمانية الأوتونومية، ولهذا فإننا نصل إلى الترتيب التالى للقضايا السالفة:
1- هل يمكن قيام أخلاق علمانية أوتونومية ؟
2- وإن أمكن، فهل يمكن قيام أخلاق إبداعية ؟
3- وإن أمكن، فهل يمكن قيام أخلاق وجودية إلحادية ؟
إن المسألة الأساسية في العلمانية هى الأخلاق، والمسألة الأساسية في الأخلاق العلمانية تتمحور حول معضلتين أخلاقيتين أساسيتين:
الأولى: عدم وجود إتفاق موضوعى على معيار خلقى موضوعى في حالة غياب الأمر الأخلاقي الديني.
الثانية: عدم وجود تسويغ موضوعى للإلزام الأخلاقي في الحالة نفسها.
ولسنا في حاجة للإطالة في الرد على النقد الأول في حدود الوجودية الإلحادية إذ إننا استبقناه بالتأكيد على أن أصالة الفعل الخلقى إنما تنبع من إبداعيته وفردانيته، والموضوعية هى الصورة السالبة لكل هذا، ونضيف إلى ذلك أن الأخلاق الدوجماطيقية لا يمكن تأسيسها إلا على اعتقاد دوجماطيقى في وجود الإله وطبيعته،الأمر الذى يقضى على المعقولية المنشودة في مجال الأخلاق الموضوعية([13])والذى يقضى عليه انتفاء موضوعية وجود مثل هذا الاعتقاد الدوجماطيقى بشكل عام.
نعم، لسنا في حاجة لأكثر من ذلك في حدود الوجودية الإلحادية، ولكننا إذا طرحنا السؤال بشكل عام ليمس كل علمانى سواء كان وجوديًا أم غير ذلك، فنحن نحتاج إلى مزيد من التوسع في النقطة السابقة.
تقوم الأخلاق الموضوعية الدينية على أساس وجود الله وخيريته وعنايته وقدرته الشاملة، فإذا اختل أى ركن من هذه الأركان الأربعة تهاوت، فلا فائدة من وجود إله شرير، أو خيّر لا يعتنى بالبشر، أو مكترث بالبشر وهو عاجز وإذن تقوم الأخلاق الدينية على أساس الثقة المطلقة بهذه الصفات.
ولكن أنّى للبشر أن يعرفوا معنى الخيرية قبل أى معرفة بالأخلاق والخير؟ وهو استفهام غرضه البلاغى النفى، لابد للبشر من معرفة الخير أولاً قبل الإيمان بهذاالركن من أركان الأخلاق الدينية([14]).
ولكن مادام البشر عارفين للخير، فما حاجتهم للتشريع الإلهى فوق البشرى؟
وبهذا المنطق يمكن الرد على تيليش حين أراد القضاء على شتى أنواع القلق عن طريق الإيمان بالله والغفران والعناية، بل إن الإيمان بأخلاق تعتمد على العناية الإلهية يحول البشر إلى أطفال غير ناضجين، ويقضى بالتالى على فرض الخيرية([15])،أما الإيقاف الغائى للأخلاق عند كيركجور فهو يصور الإله في صورة متناقضة قد تدفع بالمؤمن إلى الارتداد ذاته.
أما النقد الثانى فهو أكثر خطورة وتعقيدًا، فالأخلاق الدينية بما تتضمنه من استحقاق للثواب والعقاب أكثر قدرة على ردع المجرم، وعلى دفع البشر إلى العمل الخير، ولكن... أليس يؤدى هذا إلى تصاغر النفوس وتحجر الضمائر والعقول ؟ أليس ذلك ما كان يدعوه ياسبرز (سكينة العالم الثقافى المسيحى البرجوازى الذى أفسد حريته وأضاع الاتصال المباشر بأصله)؟([16])وأبعد وأخطر من هذا، ألا يمكن أن يكون هذا النمط من الأخلاق بداية لعصور وسطى جديدة وتاريخ جديد لحروب صليبية (أو هلالية) إذ يقضى على الضميرالفردى لحساب الضمير الجمعى والسلطة المعرفية المركزية ؟
الواقع أن الأخلاق الدينية بالفعل أكثر قدرة على الإلزام مع قدر من التحفّظ، لكنها قد تؤدى إلى مخاطر تفوق هذهالقدرة، في حين ترتكز الأخلاق العلمانية على إمكانية التشريع البشرى الذى هو نسبىبطبعه، ولهذا فهو يسمح بمساحة أكثر اتساعًا للفردية، وحساب الذات، وبناء على منطق حساب الذاتيمكن تصحيح الأخطاء ذاتيًا ومرحليًا، والنسق الناجح هو الذي يستطيع أن يتوازن داخليًا دون الحاجة إلى تدخل خارجي، في الطبيعة، وفي المجتمع، وفي النفس البشرية.
والتحفظ المذكور أعلاه:أننا نلاحظ أن الأخلاق الدينية تُقارَن بالأخلاق العلمانية في النقاشات المعتادة من الزاوية الصوريةالبحتة (الموضوعية، الإلزام)، في حين تنتفى أساسيات المقارنة عند طرح المحتوى الأمرى: (لاتزن، لا تشرب الخمر..)، فقد تكون هذه الأفعال غير مجرّمة من وجهة نظرالعلمانى، ولا قيمة عندئذ لقدرة الدين على الإلزام مهما بلغت، لاحظ كذلك أن الأخلاق الدينية فقط (أكثر قدرة) على الإلزام، لكنها غير (مطلقة القدرات)، ولاحظ ثالثًا أن هذه المقارنة تتم في ظل ظروف دينية في الغالب حتى في العالم الغربى،مما يجعل الأخلاق العلمانية هامشًا ضيقًا أو فرضًا تخيليًّا، ولكن حينما نتصور عالَمًا ملحدًا أو مؤمنًا لكنه لا يدين بشرع محدد (أوامر ونواهٍ)، عندئذٍ يصبح منالسهل علينًا تصور الوجود العينى الموضوعى للأخلاق اللا دينية وإلزاميتها، حيث ذلك هو الاختيار الوحيد.
وعندما نتحدث عن الأخلاق العلمانية بدون تحديد، فإنما نتحدث عن إمكانية هذا التشريع ومدى نجاحه حين التطبيق، ولا ريب في أن الشك في هذا الأساس يقوم لحسابالأخلاق الدينية وذلك بتجاهل مثالب الأخيرة، ولكن إذا ركزنا على مثالب الأخلاق الدينية وبالتالى ازددنا ثقة بما يمكن أن تقدمه لناالأخلاق العلمانية، فإن هذا يفتح الفصل لأخلاق الإبداع في مقابل أخلاق الاتباع،فهل يمكن قيام أخلاق إبداعية ؟
هذه هى المسألة الثانية في هذا الفصل، وليست المشكلة هنا في إمكانية كون الأخلاق إبداعًا، بل في إمكانية كون الإبداع أخلاقًا، فيمكن للإنسان أن يبدع سلوكًا على غير مثال، ولكن كيف يصمد هذا السلوك للأهواء وعوائق الحياة ؟ هذاهو السؤال.
وبالمنهج السابق نفسه، الذى هو أقرب لقياس الخُلْف، سوف نركز هنا على النماذج المختلفة للأخلاقالاتباعية لبيان مثالبها، والحقيقة أننا استفدنا هنا من برديائيف خاصة الذى قسم أنماط الأخلاق الاتباعية إلى نمطين أساسين:
1. أخلاق القانون التى تجعل من السلوك الخير مجرد إطاعة لبعض القواعد.
2. أخلاق الخلاص الفردى أو الحرية التى تجعل الإنسان الفرد غاية قصوى في ذاته([17]).
ويهاجم برديائيف هذين النمطين بناء على أن كلاً منهما يتسبب في عبودية الإنسان للقانون، فالأول يستعبده لصالح آمر علوى، والثانى يستعبده لرغباته الشخصية أو الجمعية([18])وجدير بالذكر هنا أن برديائيف يمثل بالأول لنموذج الأخلاق الدينية التقليدية،وبالثانى لنموذج أخلاق العقل العملى الكنطى ونظريات اللذة العلمانية غير الوجودية، وهو بهذا يقترب جدًا من سارتر([19])في موقفه الذى بادرنا بالحديث عنه فيما سبق.
وفى مقابل ذلك يقترح برديائيف ما أسماه بأخلاق الإبداع Creativeness وبموجبها يجب أن يعمل الفاعل الخلقى على غير مثال سابق وبدونتقليد، بل عليه أن يعمل طبقًا لضميره الفردى الخاص، ويركز برديائيف هنا على نقطتين رئيسيتين:
الأولى:أن تعتبر الشخصية العينية الفردية هى القيمة العليا للحياة.
الثانية:ليس المهم الغاية التى يسعى إليها النشاط الخلقى الإبداعى، بل مقدار طاقته الإبداعية([20]).
إن أخلاق الإبداع إذن أكثر جدوى، ويمكن لها أن تكتسب قدرتها الإلزامية منالضمير الفردى، حاجة الأفراد إلى تحقيق الذاتSelf-realisation، حتى حينما يتطلب ذلك التضحيةبالذات Self-sacrifice.
وهنا يصير الطريق مفتوحًا أمام إمكانية قيام أخلاق وجودية إلحادية بما هى علمانية وإبداعية معًا، ولكن لابد من أساس ما لهذه الأخلاق، ليس للإلزام بمحتوى ما، ولكن بغية تمييزها عن الأنماط الأخرى المغايرة، وبحيث لا يتجاوز هذا الأساس الإشراط الشامل للوجودية.
والحقيقة أن أغلب فلاسفة الوجودية ليست لهم مؤلفات موقوفة على هذه القضية،بل إن بعضهم صرح بعدم إمكانية قيام أخلاق وجودية قطعيًا([21])،ولكن الحقيقة أيضًا أن في الوجودية قدرة خارقة على تركيز الشعور بالمسئولية الفادحة وبالضمير الطاغى على النفس الفردية، والواقع أن الوجودية ليست فقط فلسفة تسمح بقيام أخلاق، بل هى فلسفة أخلاقية أساسًا، وهى ليست فقط فلسفة أخلاقية، بل هى الفلسفة الأخلاقية بالألف واللام، وقد رأينا كيف أنكرت الوجودية سلطة الإله ذاته من أجل الحرص على الموقف الخلقى النقى والأصيل.
الوجودية فلسفة مبنية على دراسة الخبرة المعيشة العينية الإنسانية، وهى لهذا قادرة على النقد الفردى الذاتى لذات الفرد، وذلك حين يصل إلى لحظة الوعى الوجودي أى: لحظة وعيه بوجوده السابق على ماهيته وبحريته الكاملة الشاملة.
عندئذ يمكن للوجودية أن تؤسس أخلاقها بناء على خبرتين هامتين:
الأولى هى خبرة الوقوف أمام الله موقفًا مستقلاً، وهى خبرة عنيفة وقاسية لا قبل للبشر بها، ولكن خوضها يجعل الإنسان مسئولاً أمام نفسه وأمامالله (وإن كان لا يعترف بسلطته عليه).
وكلما شعر بخطورة موقفه وتملكه الخوف من أن يهوى بلا قرار في أخراه، كلما ازداد تشبثًا بالفعل المسئول وطاعة الضمير الحر، أما إذا كان الوجودي ملحدًا إلحادًا لا وجوديًا، أى كان منكرًا لوجود الله (وهذا جائز) فلن يخشى عندئذ السقوط في الآخرة وتبقى إذن الخبرة الثانية.
أماالخبرة الثانية فهى خبرة الألم، ونحن نعلم كيف كانت للألم مكانة كبيرة في الفكر الوجودي بل إن هذا الألم هو القادر على إنماء الوعى الذاتى([22])وتوثيق خبراتنا بالآخرين سعيًا إلى تخفيف آلامنا نحن، وهذا يشترط التعاطف، أى:التخفيف المتبادل، والشعور بالآخر إلى جانب الأنا، ويبدو لنا أن الخطأ الأساسى الذى وقعت فيه الوجودية الملحدة هو إصرارها على أن الجحيم هو الآخرون، رغم المكانة العظيمة التى كانت للألم في الدين المسيحى خاصة في فكرة الفداء Redemption، ورغم الإمكانيات اللافتة لهذه الفكرة لتحمل مشاق الحياة، والإحساس بالمسئولية، وتمجيد الألم البشرى على عظمه وسموه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
([1]) "يأخذ كارناب في تحليل الكلمات الميتافيزيقية، ويكتشف أنها خالية من المعنى، ومن أمثال هذه الكلمات: مبدأ الوجود والماهية والله" محمود رجب: الميتافيزيقا عندالفلاسفة المعاصرين (دار المعارف، القاهرة، 1986، ط2) ص 240.
([2]) "الفلسفة أو الميتافيزيقا رغم كونهامجردة، فإنها لا تكف عن أن تكون مرتبطة بالواقع، ذلك أن.. الطبقة التى تخلقالأيدولوجيا تستخدم الميتافيزيقا سلاحًا تستعين به في تخدير أذهان الناس"المرجع نفسه، ص 265.
انظر أيضًا: "كان الإقطاع يخوضمعركة موته ضد البرجوازية التى كانت آنذاك ثورية، ولم تكن فكرة حرية المعتقدوالحرية الدينية إلا إيذانًا بسيطرة حرية المزاحمة في مجال المعرفة "كارل ماركس وفريدريك إنجلز: البيان الشيوعى، ترجمة العفيف الأخضر(دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1998، ط1) ص 46.
([3]) "هذا الأسلوب في التفلسف.. هو فلسفةعن الذات أكثر منها فلسفة عن الموضوع.. الذات التى تأخذ المبادرة في الفعل وتكونمركزًا للشعور والوجدان "جون ماكورى" الوجودية (ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، مراجعة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1982، بدون رقمالطبعة) ص12.
انظر كذلك "الوجودية إذن.. اتجاهعام لتحليل الوضع الإنسانى" د. يمنى طريف الخولى، الوجودية الدينية (دارالثقافة العربية، القاهرة، 2005، ط2) ص42.
([4]) "يقول سارتر معبرًا عن هذه الرؤية إنوجود الإنسان يسبق ماهيته" جون ماكورى: مرجع سبق ذكره، ص 13. وأنظر كذلكد. يمنى طريف الخولى: المرجع السابق، ص 50.
([5]) "التمرد الميتافيزيقى يحتج على عدماكتمال الحياة الإنسانية كما يتمثل في الموت.. في الشر.. يرفض بالتبعية الاعترافبالسلطة التى تفرض عليه أن يعيش في هذه الوضعية، وإذن لا يكون المتمردالميتافيزيقي منكرًا لوجود الله، ولكنه يعترف بوجوده ويعتبره أصل الموت والشر"ألبير كامى: المتمرد، ترجمة عبد المنعم الحنفى (الدار المصرية، القاهرة،1964، بدون رقم الطبعة) ص 32.
([6]) "إن العبد يحتج ضد سيده، وهوباحتجاجه يؤكد وجود هذا السيد.. وبنفس الطريقة يؤكد وجود السلطة التى يعلن تمردهعليها باستمرار مناقشتها" المرجع السابق، والموضع نفسه.
([7]) "التمرد ليس بنفى خالص.. لكننا نجدقيمًا يُتمرد باسمها" المرجع السابق، ص 31.
([8]) مثال ذلك موقف تيليش "الإيمانبالعناية الإلهية يقهر القلق الأونطيقى، والإيمان بالغفران يقهر القلق الأخلاقى،والإيمان بالرب.. يقهر القلق الروحى" يمنى طريف الخولى: مرجع سبق ذكره، ص120، 121.
([9]) "إن الفيلسوف الوجودى يعارض بشدة نوعالأخلاق العلمانية التى تود تنحية الله بأقل جهد ممكن" جان بول سارتر: الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة: حنا دميان (داربيروت، لبنان، 1954، بدون رقم طباعة)، ص 23.
([10]) جون ماكورى: مرجع سبق ذكره، ص 298، ص 300.
([11]) العبارة الأخيرة في كتاب د. عبد الرحمن بدوىعن الأخلاق الوجودية "ولئن جاز للوجودية أن تستخدم فعل الأمر لقالت: أفعلما شئت مادام جديدًا "عبد الرحمن بدوى: هل يمكن قيامأخلاق وجودية ؟ (مكتبة النهضة المصرية، 1953، دون رقم الطبعة) ص 248.
([12]) جون ماكورى: مرجع سبق ذكره، ص 303: 305.
([13]) W.T. Stace: in
www.philosophy.lander.edu/intro/stace.html.
([14]) "أعتد أنكم لا يمكنكم حيازة أى مفهوممتسق، لو أن لمثل هذا المفهوم وجودًا، عن الله حسب ما يريد التقليد اليهودىوالمسيحى والإسلامى... دون أن يكون لديكم بعض الفهم السابق للأخلاق على الأقل".
- J.P. Moreland and Kai Nielsen
oes God Exist ? (Prometheus books, Bufflo, New York, USA, 1990. no ed. No.) pp. 98-99.
- انظر كذلك "إذا لم يوجد معيار خلقى سابقعلى المشيئة الإلهية لم يعد لدينا مقياس لما هو خلقى، .. فنعتنا لله بأنه خير كلى يتضمن بالضرورة أن الله يفعل ما هو خير ومعنى ذلك أن المعيار النهائى للخير مستقلعن مشيئته" عادل ضاهر نقلاً عن عاطف أحمد:"الإسلام والعلمنة" (دار مصر المحروسة، القاهرة، 2004، ط1) ص 194.
([15]) "إن الأخلاق الدينية... بضغطها علىالاهتمام والعناية تقوم بتحويلنا إلى أطفال "Infantalizes us.
- J. P. Moreland and KaiNielsen, op. cit., p. 102.
([16]) جون ماكورى، مرجع سبق ذكره، ص 309.
([17]) زكريا إبراهيم: المشكلةالخلقية، (مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، بدون تاريخ وبدون رقم الطبعة) ص 106.
([18]) المرجع السابق، الموضع نفسه.
([19]) انظر كذلك: "الأخلاق تواجه إشكاليةحددها سارتر على هذا النحو: إذا كانت الغاية معطاة فإنها تصبح واقعة وليست قيمة،وإذا لم تكن معطاة فإنها محايثة وموضوع نزوة، وهذا فهم خاطئ، يجب أن تكون الغايةمراده، إذن لكى توجد، ... ينبغى إذن ألا نبحث عنها، ولكن علينا أن نبتدعها ونريدها". ج. ب. سارتر: كراسات لتأسيس أخلاق، نقلاً عن: مراد وهبة، مستقبل الأخلاق (دار الثقافة الجديدة، القاهرة،1994، ط1) ص111، 112.
([20]) زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية: مرجع سبقذكره، ص 106-107.
([21]) "صفوة القول عندنا هو أنه من غيرالممكن قيام أخلاق وجودية وأن محاولات الفلاسفة الوجوديين في هذا الباب تؤذنبتوكيد هذا الرأى": د. عبد الرحمن بدوى: هل يمكن قيام أخلاق وجودية ؟مرجع سبق ذكره، ص 243.
([22]) "لا يمكن أن يقوم وجود بشرى بدون وىذاتى أو شعور بالذات، ولكننا ما نكاد نتحدث عن الشعور بالذات حتى نجد أنفسنامضطرين إلى التفكير في الألم: لأن الواقع أن وجودنا يظل ملتبسًا بالوجود الخارجىأو وجود الأشياء، إلى أن نتألم فنشعر عندئذ أن وجودنا لم يعد مختلطًا في غمارالأشياء، ومعنى هذا أن الألم هو الذى يكشف لنا عن وجودنا الفردى في حدة قاسية...الألم من شأنه أن يردنا إلى ذواتنا ويحتبسنا في وجودنا الفردى... ومن هنا فقد ذهبالبعض إلى أن الألم هو الذى يتيح لنا الفرصة لأن نعانى تجربة الوحدة على حقيقتها"زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، مرجع سبق ذكره، ص 205.
قائمةالمصادر والمراجع
أولاً: المصادر:
1. ألبير كامى: المتمرد، ترجمة عبد المنعم الحنفى (الدارالمصرية، القاهرة، 1964، بدون رقم الطبعة)
2. جان بول سارتر: الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة: حنا دميان(دار بيروت، لبنان، 1954، بدون رقم طباعة)
3. عبد الرحمن بدوى: هل يمكن قيام أخلاق وجودية ؟ (مكتبة النهضةالمصرية، 1953، دون رقم الطبعة)
4. كارل ماركس وفريدريك إنجلز: البيان الشيوعى، ترجمة العفيفالأخضر (دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1998، ط1)
ثانيًا: المراجع:
أ: المراجع العربية:
1. جون ماكورى" الوجودية (ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،مراجعة فؤاد زكريا، سلسلةعالم المعرفة، الكويت، 1982، بدون رقم الطبعة)
2. زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، (مكتبة مصر، دار مصرللطباعة، بدون تاريخ وبدون رقم الطبعة)
3. عاطف أحمد: "الإسلام والعلمنة" (دار مصر المحروسة،القاهرة، 2004، ط1)
4. محمود رجب: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين (دار المعارف،القاهرة، 1986، ط2)
5. مراد وهبة، مستقبل الأخلاق (دار الثقافة الجديدة، القاهرة،1994، ط1)
6. يمنى طريف الخولى، الوجودية الدينية (دار الثقافة العربية،القاهرة، 2005، ط2)
ب: المراجع الأجنبية:
J.P. Moreland and Kai Nielsen: Does God Exist? (Prometheus books, Bufflo, New York, USA,1990. no ed. No.)
ثالثًا: المواقع الإلكترونية:
W.T. Stace: in www.philosophy.lander.edu/intro/stace.html