RE: أفكار مبعثرة
- بحياتك وطي هالصوت اعمل معروف
قلت لسائق الفان عندما كاد يصرعني صوت لعين الشيخ, وهو يتحف السامعين باهم مقطوعاته الموسيقية, التي تقطع الانفاس لكثرة ما فيها من حكم و اراء فذة و تعليقات رصينة, رزينة, على مستوى" الله من بيت حمية".لم اكن اعلم ان الله من آل حمية من قبل, لكن لعين الشيخ- عليه السلام- اوضح لي ذلك.و كان سائق الفان منسجما مع التغريد الشجي للمطرب الكبير, و كان يردد احيانا بعض عباراته, متباهيا بحفظه هذه العبارات كما لو كان يحفظ القرآن.
كنت استقل الفان متوجها من بيروت الى بعلبك, و كان الفان يعج بالركاب الذين كان اكثرهم من العسكريين.كان صوت لعين الشيخ يصدح باقصى طاقة ممكنة لمكبرات الصوت الموجودة في الفان حين طلبت من السائق ان يخفض الصوت, ففعل و لكن على مضض.كان السائق في العشرين او الثانية و العشرين من عمره على ابعد تقدير, يافعا, اشقر الشعر, ابيض البشرة, ازرق العينين و كانت كل نواقص ذلك العمر موجودة فيه, اقلها انه كان اهوجا.و كان يعرف كل شيء. فما من موضوع فتح للنقاش الا و خاض فيه مهللا متيمنا و كانه تخصص في هذا الموضوع بالذات. فعندما فتحوا موضوع طب الاعشاب قال مباشرة:
- طب الاعشاب, هه, اسالوني انا. انا هو من كان بها خبيرا.لكل داء دواء, سبحان الله, فالختيمة مثلا هي خير علاج للربو, فاذا كنت تشكو الربو او اي مرض صدري او حتى اي مرض داخلي فعليك بها...شربتان و كانها مسحة رسول.
فسالته احدى الراكبات و قد صادف انها حسناء:
- ابن اختي كسر زنده و هو لغاية اليوم لا يجبر...
فقاطعها قائلا:
- الكسور...همممممم, حلك بسيط: الطيوووون. و مط كلمة طيون بشكل غير طبيعي. ثم تابع:
- الطيون هو خير علاج للكسور...تقطفينه...تغلينه.....و يوضع...
لم اكن اهتم لكلامه الا ان ما لفت نظري انه اسهب في شرح الامر للحسناء, متحدثا كخبير عتيق في جبر الكسور, مستفيضا في الشرح, مرسلا لها بين الفينة و الاخرى نظرات ذات مغزى و كان كل همه ان يطيل الحديث معها قدر المستطاع, و ختم اطروحته عن الطيون على الشكل التالي:
- و هكذا, كما ترين, فالطيون هو خير علاج للربو ايضا, و للامراض الصدرية كافة بل وللامراض الداخلية عامة.
كنت قد فهمت منه في البداية ان الختيمة هي القصة كلها في علاج الربو و الامراض الصدرية, بل و الامراض الداخلية بشكل عام, لكن اتضح لي الآن ان الطيون هو الاهم في هذا المجال. و يبدو اني لم اكن الوحيد الذي لاحظ ان هذا السائق فيلسوف عصره, فقد طرح عليه احد العسكريين سؤالا ملغوما, و قد انفجر به:
- والله يا ريس انا مريض. و بكل صراحة اقول لك ان مرضي ليس داخليا و لا خارجيا, و لا ادري له علاجا. و سكت.
احتار السائق الخبير و لم ينتبه الى اللغم, فسال:
- اهي حزورة؟ كيف لا يكون المرض لا داخليا و لا خارجيا؟
- يعني ... كيف اقول لك ذلك, مرضي يا سيدي بين بين, يعني بين الداخل و الخارج.
- لم افهم
- في باب الخاتم, البواسير, انت كبير القدر
- آه, البواسير,حلك ليس بالعسير, البعض يصفون اتة الحمار, البعض الآخر يصفون مرهم الخيار وزيت الخروع...
فسارع العسكري اللبيب الى التعليق:
- الخيار جيد, لكن الا تعتقد ان حجمه كبير بعض الشيء بالنسبة لباب خاتم الذكر؟
- ليس الخيار, بل مرهم الخيار
- آه, فهمت, يعني مرهم معمول من الخيار و ليس الخيار مباشرة
- صحيح, و لكني اقول لك ان لا هذا ينفع و لا ذاك. الدواء يا سيدي الكريم هو معجون اليقطين بزيت بذور الاجاص البري.
- خريت... يا حنون
- يا سيدي الامر ليس معقدا, تشوي بعض اليقطين الغير مقشر في تنور حام, ثم تنقعه في الماء البارد,ثم تهرسه مضيفا اليه زيت بذور الاجاص البري رويدا رويدا لتحصل على المعجون المطلوب, و تتناوله بعد ذلك صباحا على الريق و مساء قبل النوم. و فيه الشفاء. ملعقة كبيرة.
- الاجاص البري... زيت البذور... الا يصلح ان يكون اجاصا غير بري
- لا يعطي المفعول ذاته. البري افضل
- قلت اتناوله, في الفم تقصد؟
- نعم
- عجيب....! هذه اول مرة يوصف لي فيها دواء للبواسير يتناول في الفم
- العلم تتطور يا اخي.
جرت بعد ذلك مناقشات كان بطلها البارز سائقنا الفذ, تناولت مواضيع تتراوح بين الحرب النووية و التفاسير العجيبة الغريبة للقرآن الكريم. كان الضجيج في الفان يصم اذني, و لم اكن اعير تلك الاحاديث اي اهتمام الى ان سالت عن الوقت. اجبت باقتضاب فصرخ السائق صرخة اعتقدت معها انه فقد حبيبا للتو, لكن الامر كان ابسط من ذلك بكثير:
- كدنا نفوت نشرة الاخبار.
اكتفينا منك يا لعين الشيخ. جاء وقت السياسة.استعذت بالله من الشيطان الرجيم ومن فذلكات جهابذة السياسة, فلا بد ان بيننا الكثير منهم. لكني فوجئت بان جميع من في الفان باستثنائي و رفيقي الجالس بقربي كانوا من اقحاح المخضرمين في السياسة اللبنانية و العالمية. بدات نشرة الاخبار و بدات الشتائم من كل صوب و حدب تكال لكل السياسيين دون استثناء, ولم يبق منهم من لم ينشروا له اهله من قبورهم و افتعلوا باعراضهم و حتى باطوالهم. بعد ان خفت حدة السباب قليلا قال السائق:
- لا تؤاخذوني يا جماعة لكن السيد ليس ككل السياسيين
- اسمح لي من فضلك فذاك هو اسوأ السياسيين, ذقن الكل...لعن الله ذقنه النجسة, ما له و للسياسة, فلينتظر الاوامر من ضابط الاستخبارات السورية و ليريحنا من كلامه, اخو الشر...يتهجم على دولة الرئيس بكل عين وقحة و هو يعرف ان دولة الرئيس هو اكثر من دافع عنه وعن تنظيمه الارهابي...
- اعمل معروفا ولا تتهجم على السيد في هذا الفان و لا تقارنه بصاحب البوز الملتوي, فوالله خراب البلد كان من وراء ابي النيع المرتخي, اما ان هناك اناس على ضلال مبين فهذا امر عجيب, لولا السيد لفقدنا عزتنا و منعتنا و كرامتنا, و لرايت الاسرائيلي يسرح و يمرح في مدننا و ينتهك اعراضنا...
- على رسلك... انا لا اعرف ماذا كان ليفعل الاسرائيلي, و لكني على يقين مما فعله السوري بوطننا و اعراضنا و كرامتنا بوجود السيد و بغطاء منه, بالله عليكم هل في الفان من لم يكن له شرف البهدلة من المخابرات السورية و كلابها؟
هل...
- احترم كلامك احسن لك.
دبكت.
- روقوها ياشباب, لقد كنتم متفقين على ان الكل عكاريت, فماذا حصل لكم؟
- اما سمعت يا اخي, يسب دولة الرئيس دون حياء...
- و لكنك تسب السيد
- روقوها... ولو! لعن الله السياسة و السياسيين
ما حدث بعد ذلك وصل حد العراك و السباب القذع, لكني و رفيقي الجالس بقربي لم ننبس ببنت شفه, كاننا هبطنا من المريخ و لا علاقة لنا بما يحصل, مما لفت انتباه الجميع.
عند النقطة الرابعة لم يبق في الفان احد من الركاب غيري. اخذ السائق الفهيم مجده. لكني لم اخرج عن صمتي.كان يهاجم يشدة جماعة الرابع عشرمن الشهر و يمدح بشدة جماعة الثامن من الشهر. و كعادة العامة من الشعب اللبناني كان متطرفا في حديثه, لا يرى في الجماعة الاولى الا المساوىء, كما لا يرى في الجماعة الثانية الا المحاسن.بعد هنيهة تضايق الشاب من صمودي في موقفي الصامت فسالني:
- ما لي اراك لا تشارك في الحديث؟
- اي حديث؟
- السياسة... يعني الوضع العام... الناس... الاحزاب...يعني ما اتحدث عنه الآن
- عفوا, و لكني لم اسمع منك غير السباب و انا في هذه السياسة غير فهيم, فقد غفل اهلي عن تعليمي اصول السباب و الشتيمة, لذلك انا اعتذر منك على عدم المشاركة...
- يا اخي انهم يستاهلون المسبات, فهذا المفلوج لا يستاهل الا اللعنات, الا ترى كيف انه انهك الشعب اللبناني بالضرائب؟الا ترى ماذا يفعل بالبلد؟
- هل تريدني ان اجيب؟
- اذا كان عندك جواب فهات ما عندك
- اولا اريد ان اعرف من هو المفلوج؟
- لا احد غيره... المهلبية
- ما زلت لا افهم
- رئيس الوزراء
- آه... اولا انت تصفه بشكل مغلوط, فهو دولة رئيس مجلس الوزراء, لا مفلوج و لا بطيخ ممسمر, و اريد ان اقول لك انه من اصول الحديث في السياسة ان تحترم الآخر لكي يحترمك الآخر. اما عن اتهامك له برفع الضرائب, فهل تعتقد ان باستطاعته فرض الضرائب على الناس دون موافقة المجلس النيابي؟ ثم و قبل ان اتابع حديثي اريد ان اسالك هل تعرف من يحاسب الحكومة في النظام اللبناني؟
- طبعا اعرف...الشعب... اليس هو مصدر السلطات؟
- نعم انه مصدر السلطات و لكنه لا يحاسب الحكومة مباشرة لان الشعب لا يستطيع اسقاط الحكومة طبقا للدستور اللبناني. لكن المجلس النيابي يفعل. اما الشعب فباستطاعته محاسبة النواب عن طريق الانتخاب. فان كانت مواقف النائب الفلاني لا تناسبك فانت لن تنتخبه في الانتخابات القادمة. الضرائب ازدادت, هذا صحيح و لكن المجلس النيابي هو من اقرها...
- من اتى بالمجلس النيابي؟ انا او انت؟ لا ياحبيبي. السوريون كانوا ياتون بالنواب و كانوا هم من يحاسبونهم…
سكت ولم اجب.فاعتقد انه قد اقنعني بشيئ ما. و لكن سكوتي طال نسبيا فسالني:
- شو… لماذا لا تجيب؟
- اتريد ان اجيب؟
- تفضل
- زاد الله في فضلك. و لكن اذا اردتني ان اجيب فعليك ان لا تقاطعني قبل ان اكمل فكرتي كما عليك ان تخاطبني بادب و ليس يا حبيبي او ما شابه ذلك. لكني اعتقد ان السكوت افضل.
- لا, لا, بالله جاوب…
قالها بنوع من التهكم.فسكت. طال سكوتي نسبيا.
- من اين العم؟
لم ابرح سكوتي.
- لهجتك عرسالية
سكوت
- هذه هي... انت عرسالي من الجماعة و تدافع عن معلمك
سكوت. بعد هذا السكوت بدا سائقي الفهيم بالاحتقان ثم عاد الى السباب و الشتيمة, و لكني لم اخرج عن صمتي الى ان كاد ينفجر. لكني لم اخرج عن صمتي الى ان سالني:
- شو ما فيك دم؟
- بلى و لكني اعتقد انه ليس فيك عقل لذلك تراني ساكتا.
هدا لجوابي هذا وسالني:
- طيب, هل لك ان تكمل حديثك و لك ان لا اقاطعك الى ان تنتهي
- قلت ان السوريين هم من كانوا ياتون بالنواب, اريد ان اسالك هل كنت تدلي بصوتك في الانتخابات؟
- ابدا, لم انتخب ابدا
- لو انك انتخبت انت و غيرك ممن لا ينتخبون لما وصل النواب السوريون الى البرلمان...
- و لكني كنت انتخب الحزب...
- امرك عجيب يا عمي, وعدتني بعدم المقاطعة و ها انت تقاطعني, اسالك هل تنتخب فقلت انك لم تنتخب ابدا, ثم تقول انك انتخبت الحزب. اسمع, الحزب هو جماعة السوريين ان كنت لا تعلم فعلام تحملهم المسؤولية ان كنت تنتخبهم. يا ايها الذين آمنوا عليكم بانفسكم. هل تريدني ان اكمل؟
احتقن و سكت على مضض حين احسني غاضبا.
- نعم انا من عرسال. اما الجماعة فلا افهم عما تتكلم و اعتقد انك ايضا لا تفهم ذلك. اذا كنت تقصد السنة فانا ابعد الناس عن الطائفية و المذهبية, اما اذا كنت تقصد جماعة الرابع عشر من الشهر فانا لست منهم, اما معلمي الذي تعنيه, فلكم تمنيت ان يكون لي معلم كذاك المعلم, انه راس المعلمين, افهمت؟
لبث صامتا.
- سالت ماذا فعل بالبلد, قل لي ماذا فعل؟
- سرق الدنيا و اكل العالم
- اتعرف؟ انت عكروت
- احترم نفسك احسن لك
- لماذا انزعجت؟ فانا لم اقل سوى انك سافل منحط فهل يثير ذلك غضبك؟
- قلت لك احترم نفسك احسن لك و الا حصل لك ما لا ترضاه
- طيب, انا ساشرح لك, انا لم اقصد الاهانة اطلاقا, و لكني رميتك بهذه النعوت لكي تسالني لماذا اقول ذلك الكلام, و لكنك لم تفعل و رحت تهددني. هل تعرفني؟ هل اعرفك؟ لا. فاذا كنت لا اعرفك فكيف لي ان اعرف ما هي مواصفاتك؟ و كيف لي ان اطلق عليك النعوت و الاتهامات جزافا. تقول سرق و نهب. قل لي اين سرق و ماذا نهب؟لا تطلق كلاما عموميا لا يصرف, بل اعطني ارقاما و وقائعا.
- كل الهدر في البلد...السرقات على المستويات العليا...
سكت.
- اذا كنت لم تفهم سؤالي فلا باس دعني اوضح لك المقصود: في الجرائد يكتبون في صفحات القضايا العدلية بان فلان الفلاني قام بالسطو المسلح على المنزل الفلاني واستطاع ان يسرق ما قيمته اربعة ملايين ليرة لبنانية مثلا.
سكت و لم يحر جوابا.
- على كل حال اسمح لي ان اطرح عليك سؤالا
- تفضل
قالها و هو يتميز غيظا
- هل انت متفرغ في حزب ما من المعارضة؟
- لا
- هل تقبض منهم راتبا لقاء الدعاية التي تقوم بها من اجلهم في ناقلتك؟
- لا
- هل تتلقى منهم مساعدات ما؟ مازوت مثلا او طحين او مساعدات مدرسية او ما شابه ذلك...
- لا
- اذا لماذا تبث الدعاية لهم في ناقلتك, علما ان ذلك يضر بمصلحتك
- كيف؟
- لو كنت من جماعة الرابع عشر من الشهر لما ركبت ناقلتك ثانية
- ليكن... لا يهمني... اناادافع عن الحق... مبدأ... اخلاق...
- و لكن جماعة الرابع عشر من الشهر يعتقدون ايضا انهم يدافعون عن الحق و المبدأ و الاخلاق
- و انت عما تدافع؟
- عن مصالحي و عن عائلتي و اقربائي و قريتي و هكذا دواليك
- ولكن ما هي سياستك؟
- لقد قلت لك
-لا, اريد ان اعرف, انت مع مين؟
- انا مع وائل سكرية
- وائل سكرية؟ و ما هي سياسته؟
- لا اعلم. انا لا اتحدث معه في السياسة, فهو رب عملي وانا اتحدث معه عن الاعمال فحسب
- و لكنك عرسالي و قلت لي انك لست من جماعة الرابع عشر من الشهر.
- صحيح
- و لكنك تدافع عنهم.
- عفوا !
- كنت تدافع عنهم.
- لا, و لكني كنت اجيب على اسئلتك.
- كنت تدافع عنهم.
- ادافع عن الحق مجانا اما ما دون ذلك فانا لست وكيلا للدفاع عن احد.
- مبدأ !
- مبدأ !
* الحكمة من هذا الحديث: لا تغبر ذقنك على بيدر ليس لك من غلته شيء.
|