تحت عباءة أبي العلاء_ نجيب سرور ( الجزء الأول: الفكر والشعر فى منظور أبي العلاء " مجموعة مقالات " )
حققه وكتب مقدمته د.حازم خيري
٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨ ، بقلم
د.حازم خيري
المقالة الأولى
أبو العلاء المعري بين الترغيب والترهيب
محنة هى ومتعة أن ترفض العالم الذي لا يعجبك من أجل عالم تتمناه، ومحنة هى ومتعة أن تتحدى كل قوى الشر والقهر والاستبداد. ومحنة ثالثة أن تعاند قوى اليأس والتثبيط والاحباط فى كل ما حولك. ومحنة أن تقف من العالم المحيط بك موقف النقد، رغم أمراض البدن والروح. ومحنة أن ترى نفسك عملاقا وسط أقزام، ونابهة وسط أغبياء ونابغة بين أوساط الناس وجهلائهم. إنها محنة ومتعة لا يحسها إلا العمالقة من بني الانسان والعباقرة منهم على التخصيص حين يفسد الملح، كل الملح، تُطبق الظلمات وتتضافر قوى الشر على قهر الفرد والجماعات. وقلة من بني الانسان هي دائما الطلائع، وهي دائما التى تقف في وجه كل قوى الحصار، وخاصة حين لا يبدو هناك بصيص من نور، وحين يتردد الانسان بين قوى الترغيب وقوى الترهيب. هذه فى العادة وقفة لا يقفها إلا أولئك الذين يُولدون أو يعيشون أو يموتون على الحافة، حافة الانتقال من عصر إلى عصر، الانتقال من مجتمع الى مجتمع، ميلاد علاقات وموت علاقات أخرى، قيام أبنية وانهيار أبنية أخرى. قد لا تكون هذه العملية ملحوظة ولا ظاهرة للعيان ولا مكشوفة بالدرجة الكافية، ولكن رصدها هو مهمة الطلائع والنوابغ فى كل العصور، وهم في هذا لا يعبرون عن وجدان خاص متفرد ولا متميز ـ وان كانوا كذلك بالفعل ـ ولكنهم يعبرون، شاءوا أو لم يِشاءوا، عن حركة التاريخ ووجدان الجماهير. وليس أمر على النفس الكبيرة، والكبرياء المتمرد، الذي يميز هؤلاء عادة على كل العصور، من أن تجد نفسها في دوامة الاغراء والارهاب والمساومة والتسليم والاستسلام والتحدى والعناد والاصرار..إلى آخر ما تثيره المعركة عادة من آلام النفس والروح.
وليس ثمة نموذج لكل ما قلناه أروع من الحوار الذي دار يوما ما بين المعتزل المنتمي فى نفس الوقت: الزعيم الامام أبي العلاء العري، وبين "داعي الدعاة". لقد بدأ داعي الدعاة مراسلة أبي العلاء من منطق مختلف تماما، وموقع مختلف تماما عن منطق وموقع رهين المحبسين بل رهين الثلاثة محابس. واضطر أبو العلاء إلى الرد، والرد والرسائل وثيقة ضميرية هامة وشيقة ونموذجية، تعتبر درسا فى الصمود وفي أخلاق الرجال وفي كبرياء النوابغ.
قال ياقوت (الحموي) في معجمه (معجم الأدباء): "إن أبا نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر لما قرأ قول أبي العلاء:
غدوت مريض العقل والقلب فالقني
لتُخبر أنباء العقول الصحائـــح
كتب إلى المعري يقول له: أنا ذلك المريض رأيا وعقلا، وقد أتيتك مستشفيا فاشفني. ودارت بينهما مراسلات فى ذلك..
ولما وقفت على ذلك (والكلام هنا لياقوت) اشتهيتُ أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرتُ بمجلد وفيه عدة رسائل من أبي نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران إلى المعري فى هذا المعنى، وانقطع الخطابُ بينهما على المساكتة. ونقلُها على الوجه يطولُ، فلخصتُ منها الغرض دون تفاصح المعري وتشدقه"!
بدلا من السخرية
اما أن "المساكتة" تمت بعد تمام التراسل بين أبي العلاء وداعي الدعاة، بمعنى أن يكون داعي الدعاة قد اقتنع بردود أبي العلاء كما هو متوقع وبمعنى أن يكون قد فهم ما يقصده أبو العلاء بالبيت المذكور فى اللزوميات، واما أن تكون المساكتة كما يغلب الظن عندنا راجعة إلى عجز داعي الدعاة عن استنطاق أبي العلاء واستبطان داخلته ومعرفة سره، واما أن تكون المساكتة من جانب ياقوت نفسه، خاصة وأنه يشير إلى مجلد من الرسائل بين أبي العلاء وبين داعي الدعاة ويشير إلى أنه اختصره اختصارا يبدو فيه العمد وسبق الاصرار أكثر مما تبدو فيه العفوية. كما لا ننسى دلالة هجوم ياقوت على أبي العلاء بالذات لا على داعي الدعاة وذلك حين اتهم أبا العلاء بالتفاصح والتشدق، مما يدل على الرغبة فى الترضية وذلك بغير موجب يستدعي الهجوم مما تقرؤه فى ردود رهين المحبسين على داعي الدعاة، بل الأوجب والأقرب إلى المنطق أن يقف ياقوت إلى جانب أبي العلاء بدلا من السخرية الصريحة منه.
هذا موقف تمليه الاعتبارات الانسانية قبل كل شيء مهما كانت ردود رهين المحبسين. ومهما يكن الأمر فلنترك داعي الدعاة يتكلم بنفسه ولنطرح المسألة برمتها أمام محكمة القراء وهي لابد عادلة ولابد أن تقف إلى جانب أبي العلاء البريء تماما من التفاصح والتشدق، والبريء تماما من كل التهم الأخرى التى طالما وُجهت إليه على مدى ألف عام. إن داعي الدعاة يبدأ رسالته بالنفاق الظاهر والثعبانية ليُزهد أبا العلاء فى الأدب ويُحبب إليه الدنيا ويعرض عليه نوعا من الترغيب: "الشيخ ـ أحسن الله توفيقه ـ الناطقُ بلسان الفضل والأدب، الذى ترك من عداهُ صامتا، مشهود له بهذه الفضيلة من كل من هو فوق البسيطة. غير أن الأدب الذى هو جالينوسُ طبه، وعنده مفاتيح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة فى معاشه أو معاده سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامح المذكور به علم أنه له بمكانه الجمال والزينة ما دام حيا، فاذا رمت به يدُ المنون من ظهر الأرض إلى بطنها فلا بحُسن ذكره ينتفع، ولا بقبحه يستضر".
استدراج
ثم يستطرد داعي الدعاة فى زعزعة ايمان أبي العلاء بجدوى اعتزاله وزهده وعذاباته بطريقة عدمية صارخة، فيقول: "وإذا كانت الصورة هذه كان مستحيلا منه ـ أيده الله ـ مع وفور عقله، أن جعل مواده كلها منصبة إلى أحكام اللغة العربية والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة له منها، وترك نفسه المتوقدة نارُ ذكائها خلوا من النظر فى شأن معاده...".
ثم يستطرد داعي الدعاة فى الاستدراج البوليسي لرهين المحبسين، فيقول: "فاذا هو ـ حرسه الله ـ بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة. والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكُهُ سبيل العيش والتزهد...".
ويخلص داعي الدعاة بطريقة ماهرة خبيثة بعد هذا التكتيك إلى ما يريد فيستطرد قائلا: "...ولما رأيتُ ذلك وسمعتُ داعية البيت الذي يُعزى إليه، وهو:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني
لتعلم أنباء الأمور الصحائـــح
فشددتُ إليه راحلة العليل فى دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح. وأنا أولُ ملب لدعوته، معترف بخبرته، وهو حقيقُ أن لا يوطئني العشوة، فيسلك بي فى المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل. وأول سؤالي عن أمر خفيف، فإن استنشقتُ نسيم الشفاء، سقتُ السؤال إلى المهم..."
إنه التمهيد إلى انزلاق أبي العلاء إلى الفخ...
أبو العلاء يدرك
ولنستمع إلى الصوت الآخر، صوت أبي العلاء، المدرك جيدا للفخ المنصوب له وللطريق إليه، والمصر على ألا ينزلق واضعا في حسابه قرب داعي الدعاة من السلطة: "قال العبد الضعيف العاجز....
إني أعد سيدنا الرئيس الجليل المؤيد في الدين ـ أطال الله بقاءه ـ ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء... وهو بكتابه إلى متواضع، ومن أنا حتى يكتب مثلُهُ إلى مثلي؟! مثله فى ذلك مثل الثريا كتبت إلى الثرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الأبصار نقيل (غريب)...
إن الله جلت عظمتُهُ حكم على بالإزهاد، فطفقت من العُدم فى جهاد، وأما قول الضعيف العاجز:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
فإنما أخاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصًل.......
فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلافُ الأقوال، وبلغ ثلاثين عاما، سأل ربه إنعاما، ورزقه صوم الدهر، فلم يفطر فى السنة ولا الشهر، إلا فى العيدين، وصبر على توالى الجديدين...".
على أنه لابد من ملاحظة أن أبا العلاء اُستدرج فعلا، وإلى درجة ما، إلى الفخ المنصوب واندفع بطبيعته العنيدة يدافع عن النباتيين ويثير قضايا كان يمكن أن تُطيح برأسه فى عصر المذاهب والطرائق والشيع، ولكن الأهم من ذلك أن أبا العلاء يختم رسالته بقوله: " ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقى لى ما لا يُعجبُ، فاقتصرت على فول وبُلسُن (العدس) وما لا يعذب على الألسن..
فأما الآن فإذا صار إلى من يخدمني كبير عندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين. ولست أريدُ في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام..".
المصارحة المباشرة
ولكن داعي الدعاة أخطأ فهم رهين المحبسين، فبعد فشل التكتيك الخبيث الثعباني الماكر خلص من الحوار الضمني إلى المصارحة المباشرة ليعرض غرضه الأصلي على رهين المحبسين، فيقول فى إحدى رسائله إلى أبي العلاء: "...وقد كاتبتُ مولاى تاج الأمراء (يقصد الأمير ثمال بن صالح المرداسي وهو يُلقب أيضا معز الدولة) ـ حرس الله عزه ـ أن يتقدم بازاحة العلة، فيما هو بلغةُ مثله من ألذ الطعام، ومراعاته على الإدرار والدوام، ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجرى أمرُهُ في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة...".
ولكن أبا العلاء رفض. وهكذا يكون موقف العبقرية، موقف الكبرياء والتحدي والصبري والاصرار ومواجهة كل الصعوبات وكل قوى القهر والترغيب فى سبيل الانتماء فى الاعتزال أو الاعتزال فى الانتماء، وذلك على الحافة بين عصر وعصر. إنه رجل لكل العصور.
--------------------------------------------------------------------------------
المقالة الثانية
منهج الشك بين أبي العلاء وديكارت وطه حسين
"لا تولوا أموركم أيدي الناس
إذا ردت الأمور إليكــــم"
"تنام أعين قوم عن ذخائرهم
والطالبون أذاهم ما ينامـونا" أبو العلاء
يسود الاعتقاد بين المثقفين العرب بأن طه حسين استقى منهج الشك الذى نظر به إلى "الشعر الجاهلي" من الفيلسوف الفرنسي ديكارت! ولعل طه حسين قد استمرأ هذه النغمة فراح يُرددها ويُكررها، ربما طلبا للسلامة ونوعا من الحذر والحيطة وحتى لا يُعرض نفسه لأخطار متوقعة!..
فهل صحيح هذا الاعتقاد؟!
الواقع أنه غير صحيح على الاطلاق. فطه حسين ذو طبيعة "فنية" كما أشرت إلى ذلك فى غير هذه المناسبة، وهو لايملك الطبيعة "العقلانية" ولا العقلية الفلسفية التى تمكنه من أن يطبق منهج الشك عند ديكارت على الشعر الجاهلى بالذات ويستنتج من التطبيق النتائج المنطقية اللازمة التى أثارت عليه الرأي العام العربي فى حينها.
ثم إن ديكارت بعيد تماما عن الموضوع والقفزة منه إلى الشعر الجاهلي قفزة مستحيلة. وما لم تكن الأفكار الأساسية التى قام عليها كتاب طه حسين "فى الشعر الجاهلي" جاهزة بين يديه وناضجة وواضحة وصريحة لما كان له أن يراها فى ضوء منهج الشك عند ديكارت فأين رآها طه حسين؟!
رآها جاهزة وناضجة وصريحة عند أبي العلاء المعري وفى رسالة الغفران على التحديد، وان كانت بذورها وأصداؤها مبعثرة فى مقدمتي سقط الزند ولزوم ما لا يلزم ومترددة بين الصراحة والضمنية كما فى الديوانين المذكورين. فلماذا لا نرد الأشياء الى أصولها الحقيقية.. ولماذا نتمسح بديكارت ونغمط سبق وحق أبي العلاء؟! ربما كما قلت ايثارا للسلامة، فمن الخطر على كل حال الاشارة الى أبي العلاء أو الاقتراب منه أو تبني أفكاره. وطه حسين بالذات كان رجلا يجيد الاحتياط لنفسه ويقدر الظروف المحيطة به.
المنحول والصحيح
فى السطور الأولى من رسالة الغفران يرد ذكر أبي زيد الأنصاري البصري الذى روى عن خلف الأحمر الذى أتى الى الكوفة ليكتب عنهم الشعر فبخلوا عليه به فكان يعطيهم المنحول ويأخذ الصحيح..فلما مرض قال لهم: "ويلكم..اني تائب الى الله. هذا الشعر لي". فلم يقبلوا منه فظل منسوبا الى العرب لهذا السبب!.. واذا كان هذا عن الشعر فيما بعد الاسلام فهو أصدق على الشعر الجاهلي. وعندما يصبح الشعر محلا للشك بين الصحيح والمنحول ـ الاسلامي والجاهلي بالتالي ـ فان هذا يُعرض التراث كله للشك. لأن الشعر الجاهلي هو المصدر أو المرجع اللغوي الأساسي. مما يشكك أيضا فى كل ما رواه الرواة من شعر أو من خبر! وما دام المنحول تسرب الى الشعر الجاهلي فمعنى هذا أنه تسرب الى كل التراث فيما بعد الجاهلية؟..فماذا نصدق وماذا نكذب؟ انه مأزق بديع الزمان الهمذاني القائل:
اياك واحذر أن تكون
من الثقات على ثقة !
على أن أبا العلاء يلح على المنحولات فى التراث العربي الجاهلي والاسلامي والقديم والحديث الحاحا غريبا على طول رسالة الغفران، ولكن بذكاء نادر لأنه يعلم خطورة ما يقول.
يفعل الرجل ذلك من خلال لقاءات ابن القارح المتخيلة والمدبرة لمختلف النحاة واللغويين والرواة والشارحين والحفظة وشعراء الجاهلية والاسلام، ومن خلال سؤال ابن القارح عما ينسبه اليهم الرواه والمؤولون والمصحفون والناحلون، ومن خلال ما يورده ويحيل اليه من أسماء الشعراء أو من خلال استشهاداته بأبيات وقطع لهم.
ففي لقاء مع النابغة الذبياني يقول ابن القارح: "لله درك يا كوكب بني مرة! ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة. وكيف لى بأبوي عمرو المازني والشيباني وأبي عبيدة وعبد الملك وغيرهم من النقلة لأسألهم كيف يروون وأنت شاهد لتعلم أني غير المتخرص ولا الولاغ..".
ثم يسأل ابن القارح النابغة عن قوله:
ألمـا على الممطورة المتأبدة
أقامت بها فى المربع المتجردة
فيقول النابغة فينكر نسبتها إليه: "ما أذكر أني سلكت هذا القرى قط!!". فيقول ابن القارح: "ان هذا لعجب! فمن الذى تطوع فنسبها اليك؟". فيقول: "انها لم تُنسب الى على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلها لرجل من بني ثعلبة بن سعد". فيقول نابغة بني جعدة ـ وكان حاضرا المجلس ـ: "صحبني شاب فى الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة المنسوبة الى النابغة الذبياني لنفسه، وذكر أنه ابن ثعلبة، وصادف قدومه شكاة من النعمان، فلم يصل بها اليه". فيقول نابغة بنى ذبيان: "ما أجدر ذلك أن يكون!".
هنا يسجل أبو العلاء الشك، لا فى أخطاء لغوية أو نحوية أو لحنية مما تخطينا الكثير منه عمدا لضيق النطاق وكثرة الاستشهادات، وانما فى قصيدة كاملة من الشعر الجاهلي تُنسب ظلما الى النابغة الذبياني!
ثم يشير أبو العلاء الى النسيان الذي كان سببا فى ضياع الكثير من التراث العربي الجاهلى والاسلامي، مما أتاح الفرصة كاملة لتسلل المدسوس والمنحول والمغلوط والمصحف. وذلك فى لقاء ابن القارح بعوران قيس: تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، وراعي الابل عبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي. وذلك حين يقول ابن القارح للشماخ بن ضرار: "لقد كان فى نفسي أشياء من قصيدتك التى على الزاي وكلمتك التى على الجيم فأنشدنيهما لا زلت مخلدا كريما".
فيقول الشماخ: "لقد شغلني عنهما النعيم الدائم فما أذكر منهما بيتا واحدا". فيقول ابن القارح لفرط حبه بالأدب: "لقد غفلت أيها المؤمن واضعت! أما علمت أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك..وان القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب؟!" انظروا الى أي حد يقدس أبو العلاء هنا التراث ويحرص على سلامته ويأسف لضياعه؟
ثم ينشده قصيدته التى على الزاي، فيجده بها غير عليم! ثم يسأل عن عمرو بن الأحمر، فيحضر فورا فيسأله عن أشياء فى قصيدته الرائية فيجده غير مبال. ويقول عمرو: "لم تترك فى أهوال القيامة غبرا للانشاد. وقد شهدت الموقف، فالعجب لك اذا بقي معك شيء من روايتك". والقيامة والموقف اشارتان رمزيتان لما عاناه الشعراء فى حياتهم من العذابات والأهوال. فيقول تميم: "والله ما دخلت من باب الفردوس ومعى كلمة من الشعر ولا الرجز. وذلك أني حوسبت حسابا شديدا..وإن حفظك لمبقي عليك، كأنك لم تشهد أهوال الحساب".
ثم يشكك أبو العلاء فى الشعر العربي كله عندما يحكي ابن القارح قصته يوم الموقف ـ القيامة ـ ومحاولاته رشوة رضوان خازن الجنة وزُفر خازن النار بأشعار موزونة على طراز قصائد جاهلية شهيرة فلا تحرك أشعاره منهما ساكنا. ويسأله رضوان:
ـ وما الأشعار؟
ـ الأشعار جمع شعر، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، اذا زاد أو نقص أبانه الحس، وكان أهل العاجلة يتقربون به الى الملوك والرؤساء.
ويقول زُفر: "لا أشعر بالذى قصدت..وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن ابليس المارد ولا ينفق على الملائكة، إنما هو للجان وعلموه ولد آدم ...فمن أين أنت؟ فيقول: "من أمة محمد بن عبد المطلب". فيقول زُفر: "صدقت، ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن ابليس اللعين نفثه فى اقليم العرب فتعلمه نساء ورجال".
ان نسبة الشعر العربي الى ابليس تشكيك ما بعده تشكيك فى التراث الشعري كله. وكذلك نسبته الى الجان، خاصة اذا وضعنا فى اعتبارنا الأشعار التى نسبها أبو العلاء الى الجن فى رسالة الغفران والتى هي من وضعه بغير شك، ثم إن العرب ـ كما يقول ـ كانوا يقولون الشعر على الغريزة والفطرة والعفوية، ولكن هناك أناسا أو قوما تعلموه رجالا ونساءا ولم يكن يتعلمه العرب؟! من هنا فُتح الباب على مصراعية أمام الشعر المصنوع المنحول المدسوس الذى يرفضه الحس العربي الأصيل..وأبو العلاء من القلة النادرة التى كانت تتمتع بهذا الحس. وماذا حين يُرد الشعر كله الى ابليس وأعوانه؟ ومن هو ابليس وأعوانه فى معجم أبي العلاء هذا ما نعد بالقول فيه قريبا.
الصافي والمخلوط
أين الخالص الصافي من تراثنا وأين المخلوط؟!
وهكذا يُشهر أبو العلاء منهج الشك كالسيف القاطع على طول رحلة ابن القارح فى رسالة الغفران وشعاره كما ورد فى اللزوميات:
وكيف أرجي من زمانـي زيادة
وقد حذف الأصلي حذف الزوائد
وقوله:
فان تعهدينـي لا أزال مسائلا
فانى لم اعط الصحيح فاستغني
ثم قوله:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالـوا صدقنا فقلنا نعم!
وكثير غير هذا..
ولكثرة الاستشهادات العلائية لا أملك إلا أن أحيل القاريء الى حديث ابن القارح مع حمزة بن عبد المطلب، لأنه كما يقول أبو العلاء: "شاعر، واخوته شعراء، وكذلك أبوه وجده، ولعله ليس بينه وبين معد بن عدنان، إلا من قد نظم شيئا من موزون". فأين شعر حمزة بن عبد المطلب وشعر أبائه وأجداده؟ ثم ما دلالة تأصل الشعر فيه أبا عن جد؟ وما هي النتائج المترتبة على هذا ان صح وهو لا شك صحيح؟!
ثم أُحيل القاريء الى مقابلة ابن القارح للنحوي أبي على الفارسي وقوم من الشعراء يحيطون به ويقولون: "تأولت علينا وظلمتنا!"، أي افتريت علينا ورويت عنا كذا زورا وبهتانا. ثم اذا جماعة من هذا الجنس، كلهم يلومونه على تأويله". ثم هناك المقابلة مع حميد بن ثور. ثم الأبيات المنسوبة حتى الى الخليل بن أحمد، والتى يتبرأ منها الخليل:
ان الخليـط تصــدع
فطر بدائك أو قع...الخ
ثم سؤاله لامريء القيس عن التسميط (القيام بضم شطر من عنده الى شطر من قصيدة كتبها غيره) المنسوب اليه ببعض الأبيات فيقول امرؤ القيس: "والله ما سمعت هذا قط، وانه لفرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير. وأحسب هذا لبعض شعراء الاسلام، ولقد ظلمني وأساء إلى...يُقال لي مثل ذلك؟ والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز". فيُعجب ابن القارح من امريء القيس! ثم لقاؤه مع عمرو بن كلثوم، ومع أوس بن حجر. ثم يروي فى نفس الوقت للنابغة، ثم لقاؤه بالمهلهل وتأبط شرا وما يُروى عنه من نكاح الغيلان. فيقول تأبط شرا: "لقد كنا فى الجاهلية نقول ونتخرص (نكذب)، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب، والزمن كله على سجية واحدة". أي:
كذب الظن لا امام سوى العقل
مشيرا فى صبحــه والمساء
تُرى كم يتبقى من تراثنا، وماذا يتبقى اذا حكمنا فيه العقل والفكر أحرارا من المحاذير والمخاوف والروادع والقيود والأوهام وأوثان العقل والوجدان والضمير؟
ثم يأتى لقاء ابن القارح بآدم وسؤاله له: "يا أبانا، صلى الله عليك، قد رُوى لنا عنك شعر منه قولك:
نحن بنو الأرض وسكانُـها
منها خُلقنا، وإليها نعــود
والسعد لا يبقى لأصحابـه
والنحس تمحوه ليالي السعود
وهنا يتجلى منهج الشك عند أبي العلاء فى غاية قوته وسخريته، فحتى آدم لم ينج من المنسوب والمنحول والدخيل. هو أبو العلاء الذى يقول فى اللزوميات:
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على اثر آدم!
ويقول أيضا:
وما آدم فى مذهب العقل واحدا
ولكنه عند القيـــاس أوادم!
والمهم أن آدم هذا يقول عن الأبيات المنسوبة إليه: "إن هذا القول حق، وما نطقه الا بعض الحكماء، ولكنى لم أسمع به حتى الآن".
فيقول ابن القارح: "فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت؟ فقد علمت أن النسيان مُتسرع إليك".
فيقول آدم: " أبيتم إلا عُقوقا وأذية! إنما كنت أتكلم العربية وأنا فى الجنة، فلما هبطت الأرض، نُقل لساني الى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنة، عادت على العربية، فأى حين نظمت هذا الشعر: فى العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك، يجب أن يكون قاله وهو فى الدار الماكرة، ألا ترى قوله (منها خُلقنا وإليها نعود) فكيف أقول هذا ولساني سرياني؟ وأما الجنة قبل أن أخرج منها، فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنه مما حُكم به على العباد..وأما بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي (وإليها نعود) لأنه كذب لا محالة!".
حجة قوية وعقلانية ومفحمة ولا نقض لها.
ويقول ابن القارح: "إن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده يعرُبُ فى مُتقدم الصحف بالسريانية، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون. وكذلك يروون لك صلى الله عليك لما قتل قابيل هابيل..ويذكر له بيتين منسوبين إليك فى ذلك..". فيقول آدم: "أعزز على بكم معشر أُبيني! إنكم فى الضلالة متهوكون! آليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نُطق فى عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله!..كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض!".
اذن...تُرى ما الذي خلا من الكذب والمكذوب فى الشعر الجاهلي والاسلامي وفى السير والروايات والأحاديث والأخبار؟! ألا يضع هذا حتى تراث أبي العلاء نفسه تحت مجهر الشك؟ لماذا يكون قد أفلت من الحبالة المحبوكة حول كل تراث؟! هذا سؤال نطرحه على سبيل الاحتياط وبمنهج الشك العلائي نفسه.
الشك بينهما
ثم ما الذي تبقى لمنهج الشك عند ديكارت وعند طه حسين؟ أليس أبو العلاء على حق حين يقول:
أرى هذيانا طال فى كل أمة
يضمنه ايجازها وشروحـها
وحين يقول:
وخطوا أحاديثا لهم فى صحـائف
لقد ضاعت الأوراق فيها وحبرها
وأخيرا، نقفز إلى رسالة ابن القارح نفسه فنراه يُلمح كثيرا لأبي العلاء بالمدسوس والمنحول والمصحف، الأمر الذي يستفيض أبو العلاء بعد ذلك فى تفصيله. يقول ابن القارح: "وسمعت قائلا يقول لغلام: يا رخمة، اقلعه وأسرع"، يعني ميزاب الكعبة. فعلمت أن أصحاب الحديث "صحفوه"، فقالوا: يقلعه غلام اسمه رخمة؛ كما صحفوا على على رضي الله عنه قوله: تهلك البصرة بالريح. فهلكت "بالزنج"!..ثم يُقدم لأبي العلاء ثبتا بكتب ومراجع مسروقة أو ضائعة أو مخبوءة يعالجها أبو العلاء أولا بأول فى رده على ابن القارح.
كما يحكي الأخير فى مطلع رسالته الحكاية التالية: "لقيت أبا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه، فعرضها على، فقلت: كتبك هذه يهودية، قد برئت من الشريعة الحنيفية، فأظهر من ذلك إعظاما وانكارا، فقلت له: "أنت على المجرب، ومثلي لا يهرف بما لا يعرف". فقرأ هو وولده، وقال: "صغر الخبر الخبر" وكتب إلى رسالة يقرظني فيها..".
وهنا نذكر قول أبي العلاء:
كل الذي تحكون عن مولاكم
كذب أتاكم عن يهود يحـبر
فاذا كان هذا مصير المقدسات، فما بالكم بغير المقدسات من الشعر الجاهلي والاسلامي؟!
ومن أين استقى طه حسين المنهج والشواهد والأدلة والبراهين والنتائج؟!
إن معاصري طه حسين الذين حملوا عليه حملتهم الشعواء كانوا يعلمون جيدا خطورة منهج الشك العلائي، لذلك مازالوا مصرين على أن يُحكموا حوله الحصار ميتا كما أحكم حوله حيا!!
--------------------------------------------------------------------------------
المقالة الثالثة
منهج الديالكتيك العلائي بين المذاهب المثالية والمادية
"الفكر حبل متى يمسك على طرف
منه ينط بالثريا ذلك الطـــرف" أبو العلاء
رأينا فيما سبق أن أبا العلاء هو صاحب منهج الشك لا ديكارت ولا طه حسين ولا أحد قبله أو بعده. ورأينا كيف أنه لم يقصد إلى التشكيك في الشعر الجاهلي وحده ولا في التراث العربي عامة وانما قصد الى التشكيك فى التراث الانساني على الاطلاق..وفي كل شيء وبغير استثناء! ولا يمكن فهم منهجه فى الشك بدون فهم طبيعة تكوينه وطبيعة تركيبه النفسي وتركيبته الفكريه..أعني "فلسفته"..لأن منهج الشك لديه ـ كما سنرى ـ نابع من "موقفه الفلسفي"..من رؤيته للفكر وللوجودين الطبيعي والاجتماعي! وذلك بطريقة طبيعية وتلقائية ومنطقية إلى أبعد الحدود!
فما موقف أبي العلاء الفلسفي؟! ما هو مذهبه؟
يقول الرجل فى لزومياته:
إذا سألوا عن مذهبي فهو بين
وهل أنا إلا مثل غيري أبله؟
فهل صحيح أن الرجل أبله؟ أبو العلاء؟
انه هو نفسه الذي يقول:
عش بخيلا كأهل عصرك هذا
وتباله فان دهرك أبلــــه
أى أن الرجل ليس أبلها وانما يتباله، وذلك على طريقته فى التمويه والمناورة لأمر فى نفس يعقوب! ويقول:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى ظُن أني جاهــل!
للرجل اذن مذهب..؟! فما عساه يكون؟!
كان فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا يقولون:
"آمن كى تعقل"..
فهل يقول أبو العلاء بالعكس تماما:
"اعقل كى تؤمن"
وكان ديكارت يقول:
"أنا أفكر اذن فأنا موجود"
فهل يقول أبو العلاء:
"أنا موجود اذن فأنا أفكر"
إنه الذي يقول:
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيرا في صبحه والمســاء
ويقول:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهـدا
وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي
وليس في تاريخ الانسانية على الاطلاق ـ وأتحمل المسئولية عن هذا الكلام ـ داعية للعقلانية وتقديس العقل كأبي العلاء. انه ينصحك وبالحاح واصرار على أن تتبع عقلك دائما، وبألا تُعول على شيء مما قد "يخالف المعقول" على حد تعبيره فى رسالة الغفران!
اذن قد يتبادر إلى الذهن ـ على الفور ـ أن الرجل كان من الغلاة في الكفر، كما يتبادر إلى الذهن ـ وفي نفس الوقت ـ أنه كان من غلاة الايمان!
فاتباعه لعقله واتخاذه له اماما لا امام سواه يحتمل ضمنا أو صراحة أنه لا يمكن أن يؤمن قبل أن يعقل، بل لابد أن يعقل لكى يؤمن. وهذا بدوره يعني، ضمنا أو صراحة، أيضا، أنه لا يؤمن بعقل آخر ـ الله ـ فوق عقله أو فوق الوجود! ولكن هذا نفسه يحتمل ضمنا أو صراحة أيضا أنه لا يتخذ الايمان وسيلة للتعقل بل يتخذ التعقل وسيلة للايمان!
مُحير فعلا أبو العلاء..ولهذا اختلف فيه معاصروه ثم اللاحقون به، فذهب أغلبهم إلى أنه مغالي في الكفر، وذهب أقلهم إلى أنه مغالي في الايمان..وأولئك وهؤلاء ساقوا الحجج المقنعة والدامغة والتى لا تقبل النقض لاثبات ما ذهبوا إليه! وهذا الخلاف الشديد حول مذهب الرجل هو الذي سجله داعي الدعاة الفاطمي أبو نصر بن أبي عمران حين قرأ له بيته الشهير:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتُخبر أنباء الأمور الصحائـــح
فكتب إليه فيما كتب يقول: "..ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين. فكل يذهبُ فيه مذهبا، وحضرتُ مجلسا جليلا أُجرى فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا، فحفظته فى الغيب".
على أن حيرة داعي الدعاة ومعاصرو أبي العلاء تتجلى أكثر في قوله: "..وابتدأ يقول ـ أى أبو العلاء ـ إني طلبتُ الرشد ممن لا رُشد عنده، وإن البيت الذي قال مما تعلقتُ به وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده فى التدين، وما حيلته فى الآية المنزلة: ]من يهد الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد لهُ وليا مُرشدا[. فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة. إنه إن كانت الآية حقا كان الاجتهاد باطلا"!
والحق أن داعي الدعاة معذور في حيرته، فاذا كان أبو العلاء يعلم بالأمور الصحائح في العقل والدين فكيف يدعى أن لا رشد له. واذا كان لا رشد له فكيف يدعي أنه يعلم بها؟!
واذا كان له رشد فلماذا يدعي أنه لا يعلم. واذا لم يكن له رشد فكيف يدعي أنه يعلم؟! لهذا يستطرد داعي الدعاة فيقول: "..إن لله ـ سبحانه ـ أسرارا لا يقفُ عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف. فإن قلنا إنه حرسه الله ـ يقصد أبا العلاء ـ من أصحابه بدعوى صحته فى دينه وعقله، ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رُشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقضُ نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟!".
اذن أدرك داعي الدعاة التناقض الشديد في أقوال أبي العلاء الشعرية والنثرية. وهذا التناقض هو الذي فتح باب الخلاف الشديد حوله ـ على مصراعيه ـ أمام معاصريه واللاحقين به.
وهنا نلفت النظر إلى أن أبا العلاء يؤكد لداعي الدعاة فى رسالته "اجتهاده فى التدين"! مما يعني أنه مؤمن بالله ومجتهد فيه!
ولكن الرجل نفسه هو الذي يقول فى اللزوميات:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل لــه
وهذا يعني أن العقل يلغي الدين، وأن الدين يلغي العقل! واذا صح أنه كان "مجتهدا فى التدين" ـ كما يدعي ـ فمعنى هذا أنه لم يكن يتبع عقله ولم يكن يتخذه اماما لا امام سواه، ولم يكن من دعاة العقلانية. وانه يتبع مبدأ فلاسفة العصور الوسطى ـ اللاحقين به ـ آمن كى تعقل!
واذا صح أن الرجل لم يكن "مجتهدا فى التدين" كما يدعي، فمعنى هذا أنه كان يتبع عقله ويتخذه اماما لا امام سواه وأنه كان من دعاة العقلانية ومن أتباع مبدأ "اعقل كى تؤمن"!
فياليت شعري ما الصحيح! على حد تعبير أبي العلاء نفسه!
مرة ثانية أين يقف الرجل؟!
إن الدين شيء، والايمان شيء آخر، كما يؤكد القرآن: ]قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم[. وهذه نقطة في صالح أبي العلاء، لأنه يمكن أن يكون غير متدين ويظل مع ذلك محتفظا بنعمة الايمان، فيكون له عذر في أن يقول:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فانما
ديانتكم مكر من القدمـاء
هذا يؤكد أنه غير متدين، فضلا عن "الاجتهاد فى التدين" الذى يدعيه..أى كافر! ولكنه يُحتمل أيضا أنه يكفر بالأديان ولكنه يؤمن بالله! ويُحتمل أخيرا أنه غير متدين وغير مؤمن.....
فما هو الصحيح؟!
المعروف أن ماركس قال عن منهج هيجل الديالكتيكي: "لقد كان الهرم مقلوبا فعدلته"..أى كان يقف على قمته فأعاد قلبه ليقف على قاعدته. وأنه قصد بذلك الى أن منهجه الديالكتيكي هو معكوس منهج هيجل، وهو نفس المنهج ولكنه نقيضه في وقت واحد؟ والمعروف أن منهج هيجل منهج مثالي، وهو مثالي لأنه يبدأ من نقطة انطلاق هي أسبقية "الفكر" على "الوجود". وتترتب على نقطة الانطلاق هذه نتائج لا حصر لها فى الفكر وفي الوجودين الطبيعي والاجتماعي. والمهم بالنسبة الينا هنا أن أسبقية الفكر على الوجود تعني حتمية وجود "عقل" فوق هذا الكون..هو العقل الأكبر..هو الله!
فاذا جاء ماركس وقلب هذا المنهج..أو اذا كان الهرم بهذا الشكل واقفا على قمته وقلب ماركس الهرم المقلوب..فان معنى هذا أن منهج ماركس منهج مادي وهو مادي لأنه يبدأ من نقطة انطلاق اخرى أو مناقضة تماما لنقطة انطلاق هيجل ألا وهي أسبقية الوجود على الفكر. وعلى هذه النقطة بدورها تترتب نتائج أخرى مغايرة ومناقضة لنتائج منهج هيجل في الفكر وفي الوجودين الطبيعي والاجتماعي..والمهم بالنسبة إلينا هنا ـ أيضا ـ أن أسبقية الوجود على الفكر تعني عدم امكان وجود "عقل" فوق هذا الكون..عقل أكبر..هو الله!
كل المذاهب الفلسفية منذ كانت هناك فلسفة وتفلسف وفلاسفة تنقسم إلى هذين المعسكرين المتضادين دائما..إلى مثالية ومادية،وذلك وفقا لنقطة الانطلاق..أسبقية الفكر على الوجود أم أسبقية الوجود على الفكر.
وهناك مذاهب فرعية تقف موقفا توفيقيا بينهما، فتقول بوحدة الوجود ـ الفكر، أو وحدة الفكر ـ الوجود. وهذه بدورها تقف في النهاية إلى جانب أحد المعسكرين: المثالي أو المادي، مهما ادعى بعضها حياده التام بين المعسكرين وأنكر نسبته إلى أحدهما.
والآن..أين يقف أبو العلاء؟! ومن أين ينطلق؟ أمن الموقف المثالي أم المادي أم التوفيقي؟! من أسبقية الفكر على الوجود أم أسبقية الوجود على الفكر أم وحدة (الوجود ـ الفكر) (الفكر ـ الوجود).
إن عقلانية الرجل التى لا حد لها لا تقبل امكان وجود عقل فوق هذا الوجود. وهذا ما تدلل عليه ألوف الشواهد من أقواله النثرية والشعرية! ولكن ايمان الرجل الذي لا حد له لا يقبل امكان وجود "وجود" بدون وجود "عقل" من فوقه! وهذا أيضا ما تُدلل عليه ألوف الشواهد من أقواله النثرية والشعرية!
هنا نقف لحظات أمام ثلاثة أبيات لأبي العلاء حدث بالنسبة لهما لبس كبير بالنسبة للقدماء والمحدثين! فهما يُساقان ـ كحجة قوية ـ على الحاد الرجل..ويُساقان كحجة قوية أيضا على شدة ايمانه:
قلتم لنا خالق حكيـم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا مكـان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبـىء
معناه ليست لنا عقول
والمعسكران المختلفان يحتجان معا وفى وقت واحد بهذه الأبيات الثلاثة! فهي تعني أن أبا العلاء يقول بأن لله مكانا وزمانا وينكر على مخالفيه أن يقولوا عكس ذلك، بأنه خارج كل مكان وكل زمان!
ولكن تصور إله له زمان ومكان لا يمكن أن يكون اعترافا بوجود إله..بل هو يلغي وجوده ويلغي ضرورته للوجود..أى للمكان والزمان! من هنا كان المعسكر الذي يقول بالحاد الرجل وكفره وزندقته على حق تماما فيما يذهب إليه. لأن ما هو داخل الزمان والمكان لا يمكنه أن يكون هو نفسه هو خالق الزمان والمكان..العقل الأكبر..الله!..ثم لا يمكن تصور أنه داخل المكان والزمان وخارجهما في نفس الوقت!
والآن دعونا نقرأ الأبيات الثلاثة السابقة مرة ثانية على التالي:
"قلتم: لنا خالق حكيم..
قلنا: صحيح..كذا نقول..ذلكم..لنا خالق حكيم..
زعمتموه بلا مكان ولا زمان! الضمير هنا يعود على من؟! زعموا من..؟! زعمتم خالقكم! أما خالقنا فليس له مكان أو زمان"
أى أن الحديث يجري هنا عن إلهين لا عن إله واحد. عن إلههم، وعن إله أبي العلاء. أما إلههم فله مكان وله زمان، وهذا ما يعلمه أبو العلاء. وأما إله أبي العلاء فليس له مكان ولا زمان لأنه خالق المكان والزمان وخارجهما. إذن حدث اللبس لأن الظن تبادر إلى أن أبا العلاء يتحدث عن إلهين..لا عن إله واحد..إنها على ذاتها "لكم دينكم ولى دين" الواردة في القرآن. والدين هنا ليس الدين بالمعنى الحرفي وانما بمعنى الايمان!
ولكن من هم الذين يخاطبهم أبو العلاء؟!
إنهم أولئك الذين لا دين لهم..لا ايمان..لا إله؟!
ولكن كيف يكونون كذلك ثم يظل لهم خالق حكيم..أى إله..أى دين..أي ايمان؟!
انظروا إلى مدى التناقض..؟!
فهل معنى هذا ان أبا العلاء يقول بإلهين..أو بتعدد الآلهة..لكم إله ولى إله آخر والسلام؟! إن معنى هذا أن الرجل كان وثنيا..لا ملحدا ولا زنديقا ولا كافرا فحسب، وهذا أكثر بشاعة وأكثر تناقضا وأكثر مبعثا للحيرة!
أم أنهم هم الوثنيون الذين يعبدون إلها له زمان ومكان، وإن زعموا أنه بلا زمان ومكان؟!
فمن هؤلاء الوثنيون وما إلههم؟! هذا ما يبدو أن أبا العلاء على علم تام به!..على علم بخبىء كلامهم ومزاعمهم..ولو صدق مزاعمهم أو صدقناها نحن لكان معنى هذا فعلا أن "ليست لنا عقول"، ولكن لنا عقولا بلا شك. ويعني هذا أننا لا يمكن أن نصدق تلك المزاعم ولو اتخذت شكل الايمان بإله خارج المكان والزمان. لأننا نعلم خبىء تلك المزاعم، نعلم انها معكوس ما تقولون.
أما من هم؟! ومن إلههم؟! فليست هذه مهمتنا الآن. أبو العلاء ـ كما سنرى فى مكان آخر ـ قد كشفهم وكشف إلههم وخبيئهم بما كان يجب ألا يدع مجالا للحيرة أمام معاصريه واللاحقين به...أما القدماء والمحدثين والمعاصرين لو قرأوا الرجل جيدا ومرارا وفهموه على الوجه الصحيح! ولكن.. ما الحيلة فى عمى البصر، وما الحيلة في حسن النية، أو سوء النية الذي ترتب عليها الافتراء على الرجل منذ أكثر من ألف عام؟!
إن عقل أبي العلاء لا يمكن ـ بطبيعته ـ أن يقبل بأسبقية الوجود على الفكر..إذ لابد أن يكون هناك خالق حكيم:
عجبي للطبيب يلحد في الخالق
من بعد درسه التشريحـــا!
نعم إن كل شيء فى هذا "الوجود" يثبت ويؤكد أن وراء هذا الوجود عقلا أكبر من أن يُحيط به العقل الانساني. هو عقل موجد..خالق للوجود. إن الوجود في حاجة إلى "شيء" يفسره! في حاجة إلى علة أو إلى سبب أول..إلى عقل أكبر..إلى إله.
ولكن عقل أبي العلاء من ناحية مقابلة وبطبيعته أيضا لا يمكن أن يقبل بأسبقية الفكر على الوجود..لأن هذا الفكر يحتاج بدوره إلى وجود سابق عليه. نعم إن العقل والمنطق ـ الانسانيين ـ يثبتان ويؤكدان ويحتمان أن يكون وراء هذا العقل الأكبر وجودا أكبر من أن يُحيط به العقل الانساني! هو وجود موجد للعقل..إن الوجود فى حاجة إلى "شيء" يفسره..في حاجة إلى علة أو إلى سبب أول..! وهكذا سيستمر الدور إلى ما لا نهاية!
وفي الحالتين هو أمام طريق مسدودة..أو دائرة مغلقة!
هل يسبق الفكر الوجود؟! هذا مستحيل عقلا..
هل يسبق الوجود الفكر؟! هذا أيضا مستحيل عقلا..
هل الاثنان شيء واحد؟! هذا ثالث المستحيلات؟!
هل ثمة شيء يتجاوز الوجود والفكر معا؟! هذا رابع المستحيلات، فضلا عن أن هذا التجاوز المستحيل لو أمكن ـ فرضا ـ لكان معناه حتمية أسبقية الفكر على الوجود وفي نفس الوقت أسبقية الوجود على الفكر. وهذا خلف..أو دور..أو سباق في طريق مسدودة أو سقوط في دائرة مغلقة أو مجرد هذيان!
والحق أن العقل الانساني إذا تجاوز نفسه فرضيا إنما يكون قد ألغى وجوده، لأن حتمية وجود العقل هي نفسها حتمية وجود الوجود. وهو اذا تجاوز وجوده فانما يكون يكون قد ألغى نفسه، لأن حتمية الوجود هي نفسها حتمية وجود العقل؟!
لم يعد هناك غير الفرار من العقل ومن الوجود معا:
وهل يأبق الانسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسمـاء؟!
إن هذا هو خامس المستحيلات!
حيرة..بل الجحيم بعينه..وخصوصا بالنسبة لعقل كعقل أبي العلاء؟!
لم يبق أمام أبي العلاء إلا التمرد..على الفكر وعلى الوجود معا..على الأسبقية الحتمية ـ
عقلا للفكر، والأسبقية الحتمية ـ عقلا للوجود..على المثالية وعلى المادية في وقت واحد، وان لم يكونا معروفان، بهذا المصطلح، على عهده فى القرن الرابع الهجري! ولكن إلاما يُفضي هذا التمرد وما معناه وكيف يمكن أن يكون؟! لم يبق إلا أن يكون هو نفسه "العقل"، وهو نفسه "الوجود"، وهو نفسه الذي يتجاوز العقل والوجود، هو الله!
وأشهد أني بالقضاء حللتها
وأرحل عنها خائفا أتألـه
قد يتبادر إلى الذهن هنا أن الرجل يوشك أن يدعى الألوهية وأنه فقط يخشى مغبة الادعاء..خاصة وأن قتل المتنبي ليس عنه ببعيد، وأكثر خصوصا أنه كثيرا ما سجل بالغ حبه للمتنبي وبالغ اعجابه به. وكثيرا ما استشهد بأقواله، ثم هو محيط كل الاحاطة بأخبار من سلفه من المتنبئين والمتألهين ـ كما عددهم في رسالة الغفران ـ ويعلم جيدا المصائر الغامضة التى انتهوا إليها. ثم إذا كان هذا ما لقيه المتنبي ـ مثلا ـ من مصير السجن ثم القتل، فما عساه يكون مصيره هو اذا ادعى الالوهية؟! هو شديد الاحتياط لنفسه مفرط فى الحذر وأزكى من أن يسلم نفسه هكذا بكل بساطة إلى "أعدائه"!! ثم أن البيت السالف يثبت أن الرجل لم يكن ملحدا ولا زنديقا ولا وثنيا ولا مؤمنا ولا شيء البتة من هذا القبيل..وإنما كان بكل بساطة مجنونا...وقصارى القول فيه أنه مجنون والسلام! ولكن كيف يتورط في هذا الجنون هو الذي سخر من جميع المتنبئين والمتألهين، بما في ذلك المتنبي، في رسالة الغفران وأدانهم جميعا بقسوة واتهمهم بالجنون؟!
ليس الجحيم إذن هو الذي يعتمل فى عقل ووجدان أبي العلاء، وهو شاعر فيلسوف وفيلسوف شاعر، وانما ما هو ألعن من الجحيم..فهل ثمة ألعن من الجحيم؟!
لم يعد أمامه سوى الموت، لذلك فكر فى الموت كثيرا وطويلا ومرارا، وما أكثر ما تمناه: من باعني بحياتي ميتة سُرُحا
بايعته وأهان الله من ندمــا
ولكنه هو نفسه الذي يقول أيضا:
ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكـرى أي أنه يؤمن بأن ثمة حياة أخرى! وما دامت هناك حياة أخرى فمعنى هذا أنه مؤمن بأن ثمة إلها! فالمصيبة أن تمنى الموت هو دليل على الايمان بالله بقدر ما هو دليل على الكفر بالله..]فتمنوا الموت إن كنتم صادقين[.
وفرق كبير بين أن تتمنى الموت لكي لاتطالع وجه الله وأن تتمناه لكي "تأبق" أو تفر من أرضه وسمائه! في الحالة الأولى هو الشوق والحب والرضا والطمأنينة، أما في الحالة الثانية فهو الضيق والكفر والتمرد على إرادة الله، "قل يا عبادي الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله"، وقد رأينا كيف أنه يعاني فى الحالة الثانية..القنوط!
لذلك فكر كثيرا وطويلا فى الانتحار وذكر ذلك فى رسالة الغفران: "..قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح نخلي بإبار. وقيل لبعض الحكماء: إن فلانا تلطف حتى قتل نفسه..وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى منازل السرور. فقال الحكيم قولا معناه: أخطأ ذلك الشاب المقتبل..هلا صبر على صروف الزمان..فانه لا يشعر علام يقدم!!
هذا الاعتراف لايدع مجالا للشك فى أن الرجل مؤمن بالله ويرهب قدومه عليه بغير عمل صالح. أى أنه لم يكن ملحدا ولا زنديقا ولا كافرا ولا وثنيا، ويعني أيضا أنه لم يكن مجنونا كما أضفنا منذ قليل! ثم هو هناك "خائف" أن يتأله! فهل كان خائفا ـ فقط ـ من مصير المتنبئين والمتألهين كما ظننا أم كان خائفا من ـ أساسا ـ قدومه على الله مدعيا الألوهية؟! وإذا كان يخشى الله فكيف يدعي الألوهية؟! وإذا كان يدعي الألوهية فكيف يخشى الله؟!
إنها لعنة..وليست مجرد جحيم!
ولكن الرجل يستشهد في رسالة الغفران بقول الضبي:
ولقد علمت بأن قبري حفرة
ما بعدها خوف على ولا ندم
الموت إذن يضع حدا للخوف؟!
ألأن الموت نهاية كل شيء؟! إن معنى هذا أنه لا يؤمن بالبعث ولا الخلود في حياة أخرى وبالتالي لا يؤمن بالله..فكيف يستقيم هذا ـ منطقيا ـ مع خوفه من القدوم على الجبار فيما لو انتحر أو مع خوفه من الناس والله فيما لو ادعى الألوهية؟! ثم كيف يستقيم هذا مع قوله هو نفسه!
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفــاد
إن هذا يعني أنه يؤمن بالبعث والخلود فى حياة أخرى وبالتالي يؤمن بالله! ويُدين من لا يؤمنون بما يؤمن به بالضلال!
أنظروا إلى الأرجوحة المترددة بين الجحيم والجحيم..بين اللعنة واللعنة..بين النقيض ونقيض النقيض؟! فهل كتب ما كتب لكي يضعنا على كف هذه الأرجوحة؟! إنه يعبث..يعبث بنفسه وبنا وبكل شيء..وبالوجود والفكر على السواء! ولا يفعل هذا إلا مجنون..نعم إنها هستيريا..حمى لعينة..لا عقل ولا فكر ولا فلسفة ولا منهج ولا مذهب ولا شيءعلى الاطلاق..هذيان في هذيان ليس غير! خصوصا وهو القائل:
أرى هذيانا طال في كل أمة
يضمنه ايجازها وشروحـها
إذن كل ما قاله الأولون وكل ما قاله هو أو سيقوله اللاحقون به..مجرد هذيان لا معنى له ولا غاية ولا جدوى منه..باطل الأباطيل..الكل باطل..
فهل كان الرجل عدميا؟!
هناك ألوف الأدلة أيضا على أنه كان كذلك، وألوف أخرى ـ مثلها ـ على أنه لم يكن كذلك؟ إنه يصبح بذلك فى نظرنا مجنونا، مجنونا والسلام! فإذا عدنا إلى رسالة الغفران وجدنا الرجل يقول: "والتأله موجود في الغرائز..ويلقنُ الطفل الناشيء ما سمعه من الأكابر، فيلبث معه في الدهر الغابر، والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المُخبر، لا يميزون الصدق من الكذب لدى المعبر، فلو أن بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسيا..واذا المعقول جُعل هاديا، نقع بريه صاديا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل..؟ هيهات!".
هل معنى هذا أن التأله غريزة؟!
إذن فأبو العلاء لم يتبع إلا غريزته حين أوشك أن يدعي الألوهية، فالألوهية هنا ليست مدعاة! الرجل إذن طبيعي وعاقل ومنطقي مع الطبيعة، وليس مجنونا..
وهكذا عدنا إلى الناحية المقابلة أو المضادة من حركة الأرجوحة! أم يعنى أبو العلاء أن "التأله" أمر يلقنه الكبار للطفل فيلبث معه ويشيب عليه؟!
إذن كيف يكون موجودا "في الغرائز"؟! ثم هذا التأرجح المستمر من النقيض إلى النقيض..ومن الجنون إلى غاية العقلانية وقمة العبقرية..أليس فى حد ذاته جنونا وعبثا وهذيانا وعدمية وحمى جهنمية يبدو ألا نهاية لها ولا شفاء ولا نجاة منها ولا جدوى على الاطلاق ولا علاقة لها بال