يصادف يوم 28/3 من كل عام الذكرى السنوية لرحيل وغياب قائد ثوري فذ شغل العالم وملأ الدنيا، وحبس أنفاس الكثيرين في مرحلة تاريخية وحساسة واستثنائية من عمر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والثورة الفلسطينية المعاصرة نهاية الستينيات وفترة السبعينيات من القرن الماضي، إنه الشهيد وديع حداد ـ أبو هاني الذي أسس مع الحكيم حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي تم تسميمه قبل ثماني وعشرين عاماً حيث صارع الموت في أحد مستشفيات ألمانيا الشرقية، وقد اعترفت أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» العام الماضي بقتله، حيث وري الثرى على أرض العراق بجنازة استثنائية ورسمية شارك فيها رفاق دربه وأصدقائه، ومن أحبوه من كافة أرجاء العالم من أمميين ثوريين.

لا زالت مقولة وديع حداد المشهورة وراء العدو في كل مكان تقض مضاجع الأعداء وتستحق منا التوقف والقراءة المعمقة بعيداً عن السطحية والشعاراتية التي اعتاد عليها الخطاب الرسمي الفلسطيني والعربي أحياناً كثيرة، هذه المقولة التي توحي بالرومانسية الثورية، لكنها تلخص حقاً رؤية شاملة لطبيعة الصراع وإدامته، وتؤشر لأهمية إجادة استخدام كافة وسائل النضال وفق الظروف الملموسة، وفي اللحظة التاريخية المحددة، بعدما حلت بالشعب الفلسطيني نكبة 1948 حيث استهدف الشعب الفلسطيني اقتلاعاً وتشريداً وترويعاً قل مثيله، وثأراً لحالة اليأس والإحباط والتخاذل العالمي والعربي آنذاك. رسم وديع حداد خطاً كفاحياً لملاحقة العدو ومصالحه في كافة أنحاء العالم، وبعبقريته الفذة نجح في تجنيد وكسب الأصدقاء الأمميين محاولاً إيصال قضية فلسطين ومأساتها إلى كافة أرجاء العالم، وبكافة الوسائل التي آمن بمشروعيتها، ولم لا وقد شهد وديع حداد وجيله مأساة النكبة، ورأى بأم عينيه الجرائم المروعة بحق أبناء شعبه، وكشف عن فظاعة تلك الجرائم المؤرخون الصهاينة الجدد، وليس آخرهم البروفسور اليهودي إيلان بابيه في كتابه المشهور (التطهير العرقي في فلسطين).

لقد حاول الأعداء وبعض الأصدقاء قصيري النظر النيل من الخط الكفاحي الذي مثلته مسيرة وديع حداد ونجحوا أحياناً بالإساءة لصورة النضال الوطني الفلسطيني ومشروعية مقاومته.وإن اختلف البعض أحياناً مع القائد الشهيد وديع حداد في التكتيك والتوقيت والمكان، إلا أنه بقي وفياً لقضيته ومدرسته النضالية ورفاق دربه، وما تكريم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين له وإعادة الاعتبار لدوره الكفاحي في المؤتمر الوطني السادس للجبهة عام 2000 إلا دليل راسخ عن المكانة التي يحتلها في صفوف حزبه..

إن ملاحقة العدو في كل مكان براً وبحراً وجواً من خلال العمليات التي خطط وأشرف عليها الشهيد وديع حداد ليست إرهاباً أو قرصنة، بل كانت تهدف بالأساس إلى إيصال رسالة قوية للعالم بأن هناك شعباً، وضحية احتلال تستصرخ العالم وتحاول هزّ ضميره.

لقد آمن وديع حداد بأن قوة المنطق لم تستطع إلزام الكيان الصهيوني المتغطرس بقرارات الشرعية الدولية حيث أشترطت الأمم المتحدة لقبول "إسرائيل " في عضويتها آنذاك تنفيذها للقرارين 181و 194، حيث مازال كيان العدوان
والأرهاب حتى الآن يضرب بعرض الحائط بكافة الشرائع الدولية ، لذلك آمن بمنطق القوة (فما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ) وهي اللغة الوحيدة التي يبدو أن العدو يفهمها ، وظلّ وديع حداد يلاحق عدوّه ويطعن بشرعيته ويقتص منه طالما ذراع المقاومة تستطيع الوصول إليه .

إن الملاحقة الإعلامية و القانونية والسياسية لم تجد وحدها كأشكال نضال دون أن تسند بعمليات موجعة توقع الخسائر البشرية والاقتصادية والعسكرية بألة العدو وشريانه الحيوي في أي مكان . لقد أدرك وديع حداد بحسه الثوري المرهف طبيعة العلاقة بين المشروع الصهيوني الامبريالي وحليفته الرجعية العربية، فسعى إلى بناء تحالفه الطبقي لقوى الثورة من حركة التحرر الوطني والعربي والعالمي في مواجهة معسكر الأعداء الطبقيين، وآمن بحق بالنضال القومي والأممي في مواجهة مشروع توسعي يستهدف مصالح الأمة العربية وشعوبها ومستقبلها ، لذلك عمل القائد الراحل على إضعاف وقطع الشرايين التي تمدّ العدو الغاصب وتحالفاته .

فالمقاومة الشاملة في فكر وديع حداد لم تنعزل وتنفك مع ضرورة بناء المجتمع المقاوم، فكان المقاوم والمثقف العضوي جزء أصيل من نسيج شعبه وهمومه ،فعمل كطبيب في خدمة فقراء مخيمات اللجوء يدعوهم للتنظيم والثورة ،واستطاع وأسهم بترجمة مقولة غسان كنفاني "خيمة عن خيمة بتفرق " فنقل قضية الشعب الفلسطيني من بعدها الانساني في خيم التشرد والبؤس التي تنتظر مساعدة وعطف وكالة الغوث للاجئين "الأنروا " إلى خيمة للفدائي الثائر المصممم على استرجاع الحق باذلاً في سبيل ذلك الغالي والرخيص .

ستون عاماً من محاولات طمس الحقوق ومخططات الأسرلة والتهويد والتمدد للمشروع الصهيوني بأشكال مختلفة (من محاولات التطبيع السياسي والثقافي والاقتصادي ) مسنودا بقوة الأرهاب والعدوان ، الأمر الذي يتطلب منا اليوم إعادة أبتداع كافة أشكال المواجهة المفتوحة مع العدو الصهيوني ، وأن تبقى أيدينا على الزناد ، وراء العدو نلاحقه على جرائمه ومخططات عدوانه المستمرة .

هاهم يا وديع حداد رفاق دربك وتجربتك يحفظون درسك جيدا ،وأنت الذي شكلت حقاً نموذجاً وطنياً وقومياً وأممياً يحتذى به.
وديع حداد أيها الساكن في قلوب محبيك مازلت تملئ ذاكرتهم الوطنية ويستلهمون قيمك النضالية، ومازل وهجك الثوري يلسع وجنات وجوهنا ، فأنت الحاضر فينا أبداً
نّم قرير العين فقد لحق بك مؤخراً رفاق دربك ( أبو علي مصطفى وحكيم الثورة د جورج حبش ) وكثيرون ،وهناك في المعتقلات رجال أشداء أمثال (أحمد سعدات وعزيز دويك ومروان البرغوثي وعاهد أبو غلمة ...) ينتظرون لكسر قيدهم وإطلاق سراحهم .

العهد كل العهد، والوفاء كل الوفاء، في الذكرى التاسعة والعشرين لرحيلك بأن نبقى وراء العدو في كل مكان نقاوم ونلاحق رموزه على جرائمه التي لم تنقطع طوال واحد وستين عاماً

:redrose:

تشرفت بغداد يوم ٍ ما انه عاش على ترابها .رجل عظيم وصاحب مبادىء.

لذكرى وديع :redrose:


محارب النور

(f)