ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
"أوبوس ديّ" (عمل الله)، من الأسطورة السوداء إلى التطبيع الإعلامي
مقال مثير وجميل نُشر في هذا العدد في شهرية اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية، أحببت أن أشارككم به.
"أوبوس ديّ" (عمل الله)، من الأسطورة السوداء إلى التطبيع الإعلامي
جيروم أنسيبيرّو *
استراتيجيّة إعلاميّة ذكيّة في خدمة مشروع
منذ عقود تبعث منظّمة "أوبوس ديّ" على الإعجاب والخوف في الآن ذاته، جرّاء نفوذها المزعوم، بعد أن تمّ تصويرها بأكثر الصور قتامةً في روايات مثل "شيفرة دافينشي"، وبعد أن تمّ ربطها بالحقبة الفرانكويّة في اسبانيا وبدكتاتوريّات أمريكا الجنوبيّة. ولكنّنا نشهد اليوم "تطبيعاً" تدريجيّاً للمنظّمة نتيجة حملةٍ إعلاميّة ذكيّة. خاصّة وأنّه منذ رفع مؤسسها خوسيه ماريا أيسكريفا دي بالاغوير إلى مرتبة القدسيّة، جعل تشدّد الكنيسة الكاثوليكيّة مهمّات وممارسات الـ"أوبوس ديّ" أموراً عاديّة.
كامينو 999 (الطريق 999)...العنوان فعّال دون شكّ. هكذا لا يَخفي جان جاك روبو، مؤسّس ومدير دار النشر الجديدة Après la Lune ("بعد القمر")، رضاه بعد عامٍ على إصدار الكتاب: "كنّا نفكّر بعنوانٍ لهذه الرواية وتراءى لنا الحلّ فجأة: فكلمة "كامينو" تشير مباشرةً إلى الكتاب الأكثر شهرةً لإيسكريفا دو بالاغوير، مؤسّس منظمة أوبوس ديّ. ويتضمّن كتاب التنوير الديني هذا 999 فكرة. وإن قلبتم الأرقام تحصلون على 666 الذي يُعتبر رقم الشيطان في سفر الرؤيا. وبالنسبة لرواية بوليسية، وبصراحة، لقد كان العنوان طريفاً ووقعه جيّد...".
ربما كان ذلك هو ما أثار، في ربيع العام 2007، اهتمام الأوبوس دي برواية الكاتبة كاترين فرادييه هذه، المعروفة في الوسط الصغير للقصة البوليسية المكتوبة باللغة الفرنسية، ولكن التي لم تكن شهرتها دون شكّ لتصل إلى مكاتب هذه المنظمة المندمجة تماماً ضمن الكنيسة الكاثوليكية، التي تضمّ ما يزيد عن 900 عضو في فرنسا (80 ألفاً عبر العالم) والتي لا تشبه في شيء الرابطة الأدبية. ويعطي كتاب كامينو 999 صورة قليلة الإشراق عن منظمة أوبوس دي ("صنيعة أو عمل الله" باللاتينية)، والتي تظهر فيه كمنظّمة مافياوية لا تتردّد في اللجوء إلى القتل لحماية أعمالها. لم تتم إدانة كاترين فرادييه وجان جاك روبو اللّذيْن استُدعيا أمام القضاء بناءً على دعوى أقامتها عليهما حبريّة المنظمة في فرنسا، التي تلوم هذه الرواية على زجّ عناصر حقيقية (كأسماء مسؤولين في المنظمة) إلى الرواية المؤلّفة، وتعتبر ذلك ذمّاً بحقّها. إذ في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2007، أعلن قضاء الغرفة التأديبية السابعة عشرة في محكمة باريس العليا، بأنّ الدعوة باطلة بحكم عدم دقّة الشكوى. يأسف السيّد أرنو جينسي، المتفرّغ [1] والمسؤول عن الإعلام في حبريّة منظمة أوبوس دي في فرنسا، لأنّه "لم يتم الحكم في هذه القضية على المضمون"، متابعاً أنّه "يجب على الناس أن يفهموا جيداً بأنّه لا يمكن الاستمرار باختلاق ما شاؤا عنّا". إنّه تحذيرٌ للجميع...
باستثناء اليسوعيّين في القرون الماضية، لم تُثر أيّة منظمة كاثوليكية هذا الكمّ من الكتب والمهجيّات والمقالات والتحقيقات ضدّها، كمنظّمة أوبوس دي [2]. فلائحة الشكاوى التي صدرت إزاءها تاريخياً، تكاد تتلاقى مع كافة الدناءات التي يمكن لأذهانٍ متنوّرة تخيّلها: التلاعب الذهنيّ، القساوة النفسيّة تجاه أعضائها [3]، التشدّد (أو الغباوة) الفكري(ة)، والمازوشيّة والساديّة العقابية، وتحريك مجموعات الضغط بذهنيّة رجعيّ، التطرّف، الفاشيّة أو الليبيراليّة المتطرّفة حسب الحالات، التسرّب داخل أوساط السلطة الكنسية، السياسية كما الاقتصادية، سعياً لتحقيق مخطّطاتٍ تزداد سواداً، كونها نادراً ما يتمّ تبيانها (جشعٌ ماليّ، تواطؤات مافيويّة...).
وقد ساهم تستّر هذه المنظمة نفسه في تغذية هذا الانبهار. فوصولاً إلى العام 1982، التاريخ الذي رفع فيه يوحنا بولس الثاني منظّمة أوبوس دي إلى مرتبة الحبريّة الشخصية، كان يُرجى من أعضائها عدم الكشف عن انتمائهم. مع أنّ الأوبوس دي، وفق نظمها، لا تهدِف سوى لمساعدة المؤمنين على تطهير نفوسهم "في الحياة العادية"، من خلال "ممارسة الفضائل المسيحية". ويُفترَض على المؤمنين التابعين لها أن يعيشوا "روحانيّتهم العلمانيّة" التي يتميّزون بها، وسط العالم، وخصوصاً في العمل الذي يُعتبَر صلاةً حقيقية. هكذا لا شيء يُميّزهم خارجيّاً عن سواهم من المواطنين.
ضمن هذا الجوّ من السريّة، يشكّل الكشف الدوري عن أسماء الأعضاء المزعومون للأوبوس دي، رياضةً تُمارَس بمثابرة. هكذا في فرنسا، قد ترتبط صفة "منتمين للأوبوس دي" أو "مقرّبين من الأوبوس دي" لسنوات مع المشاركين في النقاشات العامة حول مواضيعٍ غير دينية تجري في أماكنٍ خاضعة فعلياً لإدارة المنظمة، كمركز غارنيل في باريس. بهذه الطريقة نُسِبَ إلى "الأوبوس دي" كبارٌ من أرباب العمل، ككلود بيبيار، وديدييه بينو-فالانسيين ولويس شفيتزير (وهو بروتستانتيّ!). ولن نقوم بمثل هذا الربط بالنسبة لرئيس الوزراء السابق جان بيير رافاران، والفيلسوف بيير مانون أو مقدّم البرامج التلفزيونيّة ميشيل دروكير، الذين شاركوا أيضاً مؤخّراً في دردشات من هذا النوع.
ويؤكّد وزير المالية السابق هيرفي غيمار، لمن يودّ توجيه السؤال له مباشرة، بأنّه لم يكن أبداً عضواً في الأوبوس دي، بعكس الإشاعات. ولا وزيرة السكن الحالية كريستين بوتان بحاجة للانتماء إلى المنظمة للتعبير عن قناعاتها الدينيّة والتأكيد على ولائها للفاتيكان [4]. يجب إذاّ علينا أن نحسم : أنّه إن كانت توجد هناك فعلاً أمثلة مشهورة لوزراءٍ وموظّفين رفيعي المستوى أو أرباب عملٍ أعضاء في الأوبوس دي [5]، إلاّ أنّ شغل منصبٍ في السلطة، مع المجاهرة بكاثوليكيّة صارمة، ليس بحدّ ذاته من ميّزات صفة الانتماء إلى المنظمة.
لفترة طويلة، أفسحت الأوبوس دي المجال لتركيب "الأسطورة السوداء" عنها، مُوحيةً بأنها لا تهتّم كثيراً بالأمر. وهي تندرج إذ ذاك ضمن ثقافةٍ كاثوليكية تحمل سمات الحذر إزاء وسائل الإعلام والرعب من الشهرة (يُستثنى من ذلك أسلوب البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان أستاذاً في هذا المجال). إذ كانت الحبرّية تؤمّن حدّاً أدنى من النشاطات الإعلاميّة. غير أنّ تطويب مؤسّس الأوبوس دي، خوسيه ماريا إيسكريفا دو بالاغوير (الذي توفي في العام 1975)، في العام 1992، وهي الخطوة الأولى نحو إعلان قداسته، قد أدّى إلى صعوبات، أقلّها إعلامياً. فتضاعفت المواقف العدائيّة. فهكذا لا نجد أبداً داخل الكنيسة أساقفة يؤيّدون هذه الخطوة بقوّة. وفي حين يتضخّم السجال، اكتفت المراكز الإعلاميّة للمنظمة بالاتّصال ببعض الصحافيّين لتقترح عليهم معلومات عن حياة وأعمال إيسكريفا دو بالاغوير. وقد كان أثر ذلك شبه معدوم. فالجمهور الواسع يتلقّى معلوماته من خلال مقالاتٍ صحافية وتحقيقات تكون عموماً كثيرة الانتقاد.
يعترف السيّد خوان مانويل مورا، مدير الإعلام في الأوبوس دي بين العامين 1991 و2006: "كنّا دائماً في وضعٍ دفاعيّ. بعد التطويب، قمنا بتقييم ما قد حصل. وتوصّلنا إلى أنّه علينا أن نكون أكثر احترافاً". مع العلم أنّ المنظمة تتمتّع بمعينٍ من الكفاءات الواسعة: أصحاب مهنٍ حرّة يمارسون عملهم في المجتمع (مسؤولو علاقات عامّة، صحافيّون، الخ.)، أساتذة وباحثون في كلّية الاتصالات في جامعة "نافار" التي أسّستها الأوبوس دي في العام 1952. هكذا تمّ وضع استراتيجية جديدة قيد التنفيذ، ترتكز على "المبادرة": تعزيز التواصل حتى قبل اندلاع السجالات.
هذا ما تمّ القيام به من أجل التحضير للحملة الإعلامية حول إعلان قداسة المؤسّس التي كانت مُرتقَبَة عام 2002. اتّصلت المنظمة باكراً بالصحافيّين، واقترحت المساعدة والمعلومات، واعتنت بعلاقاتها الشخصية مع مخاطبيها وحاولت تبني سياسة الأبواب المفتوحة وتنظيم زيارات إلى داخل مراكزها أو مساكن طلابها. وكانت النتيجة إيجابية جداً. فمع أن السجال قد دار حول مؤسّس التنظيم، لكن حديّته كانت أخفّ وطأةً ممّا كان عليه في العام 1992 والأعوام التي أعقبته مباشرةً. كما تتمتّع الأوبوس دي بدعمٍ كبيرٍ داخل الكنيسة. ففي غضون عشرة سنوات، خسرت الكاثوليكية التقدّمية شريحةً واسعةً من مؤيّديها. في حين كان الكاثوليكيّين الناقدين هم من كانوا يغذّون الصحافة بالمعلومات في غالبيّة الأحيان. أخيراً، بات إعلان قداسة المؤسّس، الذي يوازي نوعاً ما شهادة ضمان، يزيد من صعوبة الانتقادات داخل المؤسّسة. الانتقادات لا تزال موجودة، لكنّها أصبحت أكثر تكتّماً أو تصـدر على هامش الكنيسة.
تفاصيل مثيرة لوسائل الإعلام
كانت الاستراتيجية مروَّضة إذاً بشكلٍ جيّد عندما تدافعت أمواج "شيفرة دافينشي" Da Vinci Code، رواية دان براون التي صدرت في العام 2003 لدى دار النشر الأميركية "دوبلداي" Doubleday. في البداية، اكتفت الحبريّة بالتنبيه وبالردّ على كافة طلبات المعلومات، باذلةً الجهود لتفادي أيّ سجال. لكنّ الإعلان عن صدور الفيلم المُقتبَس عن الرواية، لرون هاوارد (Sony Pictures)، دفع المنظمة إلى وضع استراتيجيةٍ مواجهة أزمة. وتمّ اتخاذ قرارات في اجتماعٍ في روما بتاريخ 10 كانون الثاني/يناير 2006، بين المسؤولين عن المكاتب الإعلامية للأوبوس دي في نيويورك، لندن، باريس، مدريد، كولونيا، لاغوس ومونتريال، حيث جرى الحديث عن تحويل "مرارة الليمون" (هجومات شيفرة دافينشي) إلى "عصير الليمون" [6].
هكذا عملت مراكز إعلام المنظّمة حول العالم برمّته مضاعفةً جهودها، رادّةً عملياً على كافّة الطلبات الإعلامية ومنقّحةً حججها في مواجهة أسئلةٍ تكاد جميعها تدور حول "الأسطورة السوداء" التي تستعيدها "شيفرة دافينشي". هكذا ستضع الأوبوس دي سريعاً على الشبكة موقعها الإلكتروني الجديد، المُترجَم إلى 22 لغة، والذي يذهب عالم السيميولوجيا والكاتب أمبرتو إيكو [7] إلى التوصية به عندما يتعب من الأسئلة المستمرّة التي تُوجَّه له حول صحّة معلومات "شيفرة دافينشي". وستخصّص الوسائل الإعلامية الكبرى ملفّات للأوبوس دي، هذا إن لم تصدرها على صفحاتها الأولى (تايم، مجلة الفيغارو،...)، وستتدافع التلفزيونات إلى داخل المراكز التي ستخصّص أياماً تفتح خلالها أبوابها للزيارات.
ويقول السيّد أرنو جانسي: "قال لي صحافيّ، ينتمي إلى أسبوعيّة كبيرة، أنّنا محظوظون كون المراسلين الذين يرسلونهم غير متخصّصين، أو متخصّصين بالمتفرّقات وليس بالأمور الدينية. هذا ممكن: فربما لم تكن طريقتهم في معالجة الموضوع مثاليّةً بالنسبة لنا، لكن لم تكن لهم الأفكار المسبقة الخاصّة ببعض الإعلاميّين المهتمّين بالشأن الديني".
حتماً إنّ الصورة التي يعطيها دان براون عن الأوبوس دي مُضحكة بلا شكّ. لكن بما أنّ المنظمة تحضّرت بشكلٍ واسعٍ للعاصفة، فقد سمحت لها هذه الأخيرة، بصورة متناقضة، بقلب المبادرة لمصلحتها. إذ يعتبر كريستيان تيراس، مدير المجلة الكاثوليكية النقدية غولياس Golias، بأنّ "شيفرة دافنشي قد شكّلت قضيةً جيّدة بالنسبة للأوبوس دي. فقد سمحت لها بإعادة تلميع صورتها، عبر إعطائها تفاصيل مُغرية لوسائل الإعلام، لكنّ غالبيّتها كان ثانوياً تماماً". وتمّ استخدام الطرفة والقصّة الصغيرة ببراعة.
مثالٌ واحدٌ على ذلك: إحدى أكثر شخصيات الرواية خطورةً يُدعى سيلاس. إنّه أحسَب (أبيض الجلدة بسبب مرضٍ وراثي) تمّ تقديمه على أنّه "ناسك الأوبوس دي"، و هو قاتلٌ مريضٌ نفسياً يعمل في خدمة رؤساء المنظمة الذين يعانون من الإحساس بالاضطهاد. وقد شرحت الأوبوس دي - الحقيقية- أن لا وجود للنسّاك في المنظمة، وهو أمرٌ صحيح. ثمّ قدّمت إلى الجمهور عضواً في المنظمة يُدعى بحقّ سيلاس، على غرار القاتل الأحسب في الرواية. وسيلاس هذا ربّ عائلةٍ مسالم، يعمل وسيطاً مالياً في بورصة نيويورك، من أصولٍ نيجيرية، وبالتالي أسود. هكذا تدافعت وسائل الإعلام، بطبيعة الأحوال، على هذه الطرفة المرئية بالكامل ووجد الساخرون أنفسهم إلى جانبٍ واحد مع الأوبوس دي.
ابتسم مسؤول العلاقات مع الصحافة الدولية في مكتب الإعلام السيّد مانويل سانشيز بتواضع قائلاً "لا أدري ما إذا كنا جيّدين. لكنه من الواضح بأنّنا أصبحنا نحشد نوعاً من الخبرة"؛ وقد وُضعت هذه في خدمة الكنيسة الكاثوليكية. وفي روما بمجملها. هكذا في روما، تتضمّن الجامعة الحبريّة للصليب الأقدس، المرتبطة مباشرة بالأوبوس دي، أربع كليّات: فلسفة، لاهوت، قانون كنسيّ واتصالات مؤسّساتية. وهذه الأخيرة هي الوحيدة من نوعها في الوسط الجامعي الكاثوليكي. وهي تُخرّج متخصّصين سيعملون للأبرشيّات، وللمؤتمرات الأسقفية الوطنية أو لحساب سواها من مؤسّسات الكنيسة. يأتي الطلاّب الذين لا ينتمون، في غالبيّتهم، للمنظمة، من كافة أنحاء العالم للتدرّب على النظريات والتقنيات الأحدث في هذا المجال، ويمكنهم متابعة دراستهم وصولاً إلى الدكتوراه. وتنظّم كليّة الاتصالات المؤسّساتية في جامعة الصليب الأقدس، مؤتمرات ومنتديات ذات مستوى عالٍ مخصَّصة للمحترفين في المراكز الإعلاميّة التابعة للكنيسة، إنما أيضاً للعاملين في الصحافة العلمانيّة.
فها هي إذاً تؤمّن منذ العام 2006، بالتعاون مع الجمعية الدولية للصحافيّين المعتمدين من قبل الفاتيكان، مادّةً دراسية سنويّة مخصَّصة للصحافيّين الأجانب القادمين لتغطية المستجدّات والأخبار الدينية في روما.
وقد ساهم الوجود نفسه لجامعة الصليب الأقدس، التي تأسّست رسمياً من قبل الفاتيكان في العام 1990، وتمركزها في قلب روما، بشكٍل قويّ في منح الشرعية للأوبوس دي. هكذا يلاحظ جون واك، الكاهن في الأوبوس دي، والأستاذ في كلّية الاتصالات والمحرّر سابق لخطابات سياسيّين أميركيين معارضين لحقّ الإجهاض، بأنّه "عندما يعثر الناس على هذه الجامعة، على مقربة من ساحة نوفانا، ويرون بأنّ الطلاب يأتون من كافة أنحاء العالم، وبأنّ أعضاء الإكليروس يعلّمون فيها بصورةٍ طبيعية، يرتاحون. ففي روما، أصبحت الأوبوس دي طبيعيّةً تماماً. وألاحظ بأنّ بعض الأساقفة الأميركيّين بدؤوا يرسلون طلاّباً في المدرسة الإكليريكيّة للتخصّص هنا منذ سنتهم الدراسية الأولى. إنها لمسألةٌ جديدة".
تقديسٌ يأتي في مكانه
هكذا، من بين المؤلّفات العديدة التي نُشرت حول الموضوع منذ العام 2002، يبرز تحقيقٌ دقيق يرمز إلى هذا التطوّر، وهو الذي أجراه الصحافيّ الأميركي جون ل. ألين الإبن، مراسل الأسبوعية الكاثوليكيةNational Catholic Reporter في روما والتي تتميّز بلهجة حرّة جداً. فجون ل. ألين معروفٌ بأنه ليبيراليّ نوعاً ما، ولا يمكن إنكار نزاهته الصحافية. فمن خلال استقصاءاته [8]، تتشكّل صورة معتدلة نسبياً عن الأوبوس دي، مقارنةً مع المآخذ التي توجَّه إليها عادة. وهو قد استفاد من سياسة الشفافية الجديدة للمنظمة، وتمكّن من مراجعة كافة الوثائق المرغوب بها لهذا التحقيق، بما فيها الوثائق التي تُخصَّص عادةً للأعضاء فقط أو المعروف بأنّها "سرّية [9]". وقد جمع أكثر من ثلاثمائة ساعة من المقابلات، عدا عن الأحاديث غير الرسميّة، مع أعضاءٍ من كافة المستويات والمراتب، ومع معارِضين، وأعضاء سابقين، ذهب للقاء بهم في ثماني دولٍ عبر العالم. وإن كان لا يجعل من الأوبوس دي نادي ملائكة، بيد أنه يتوصّل إلى الخلاصة التالية: "الأمور ليست سيّئة إلى هذه الدرجة - أو إنّها على الأقلّ أفضل بكثيرٍٍ مما يتمّ غالباً اعتقاده".
في الواقع، تمزج هذه المنظمة عناصراً قطعاً حديثة بمركّبٍ من العقائد ليست كذلك، الأمر الذي قد يضيّع المراقبين. فالبديهة الأساسية لمؤسّس المنظمة كانت هي أخذ التوجّه العام للمجتمع نحو إضفاء الطابع الدنيويّ والاستقاليّة، على محمل الجدّ، من أجل التحكّم به بشكلٍ أفضل - وليس رفضه بالكامل، كما هي الحال بالنسبة للكاثوليكية المتطرّفة.
فعبر مناداته بتطهّر الجميع من خلال العمل في الحياة اليومية، قطع إيسكريفا دو بالاغوير مع الفكرة المتجذّرة في الخيال الكاثوليكي والتي تقضي بأنّ الكهنة أو المنذورين(ات) كانوا، بفعل تفرّغهم الكامل لأمور الدين، يتمتّعون بالأسبقيّة على غيرهم في السباق إلى ملكوت الله [10]. لكنّ هذه الدمقرطة للقداسة وهذا الغوص المتعمّد داخل العالم لم يهدّدا أبداً الإطار الإكليريكيّ التقليدي للكاثوليكية. فالكهنة هم فعلاً من يشغل مناصب القيادة والأعضاء المتفرّغين numéraires (ليسوا كهنةً، لكنهم يسعون إلى تكريس أنفسهم بالكامل لرسالتهم، من خلال التزامهم التبتّل) هم الذين يقومون بالقسم الأكبر من أعمال تدريب وتأهيل الفرقة. ويرتبط التعلّق الشديد بالطقوس، وخاصّة بطقس الاعتراف، أيضاً بهذه الإيكليروسيّة التي تدّعي بأنها تسعى إلى طيّ نفسها بالنسيان. هكذا غالباً ما يعتبر الفاتيكان أنّ ترويج الأوبوس دي للعلمانيّين وحريتهم، هو عملٌ تنبّؤيّ بالنسبة لمجمع فاتيكان الثاني. لكن لا شك أنّ الإحاطة الروحيّة الشديدة التي يخضع لها الأعضاء (قدّاسٌ يومي، تلاوة المسبحة، فحص الضمير، الاعتراف الأسبوعي، الاعتكاف الشهري، إلخ.) تحدُّ بشكل كبير من مخاطر الانزلاق التحرّري. فكما يعترف به بشكلٍ بسيط عضوٌ باريسيّ معتمد في المنظمة (مُستخدَم في البريد ومندوب نقابي في الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل CFDT!): "في حياتي، لديّ إطارٌ واضحٌ جداً للتفكير والعمل لا أخرج عنه: إطار تعاليم الكنيسة الكاثوليكية".
كما أنّ الأوبوس دي لا تندرج ضمن التيّار الأصولي للكاثوليكية. حتى ولو كان بادياً أنّ أعضاءها يستطيبون اللاتينية ونوعاً من الكلاسيكية؛ إلاّ أنهم يكتفون، بالرغم من كلّ شيء، بالمعايير المجمعيّة، خصوصاً في مجال الطقوس، حتّى أنهم متَّهمون من قبل المتطرّفين بـ"تشجيع ذهنيةٍ علمانيةٍ في المجتمع، مخالفة للملَكيّة الاجتماعية لسيّدنا يسوع المسيح [11]". لهذا، يترافق الوفاء الشكلي لنصوص المجمع، مع براعة كبيرة في شدّها نحو تفسيرات محافظة [12]. من جهة أخرى، إنّ اللاهوت الذي يشكّل أساس تعاليم المنظمة لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي يعترف به المتطرّفون أنفسهم.
ومن المشاع أنّ الهدف الأساسي للأوبوس دي هو النفاذ ضمن حلقات السلطة. لكنّه من الصعب جداً قياس نفوذ المنظّمة الحقيقي في المجتمع؛ إذ يؤكّد المسؤولون الذين التقينا بهم عدم توفّر إحصائيّات لديهم عن المستوى الاجتماعي والمهني للأعضاء. غير أنّها تهتّم كثيراً بالأوساط الثقافية [13] وبتثقيف أعضائها. فلكي تصبح عضواً كاملاً numéraire فيها عليك أن تكون حائزاً على مستوىً جامعيّ؛ ويتمّ تشجيع كهنة الأوبوس دي على استكمال شهادة الدكتوراه. ومن جهة أخرى، تدير المنظّمة العديد من المساكن الطلاّبية، وهي مفتوحة للجميع، لكن حيث يُوصى بالتحصّل على نتائج مدرسية أو جامعية جيّدة للحصول على مكان [14]. من البديهيّ أنها تشكّل كلّها أماكناً مناسبة لاستقطاب الأعضاء الجدد. كذلك، ضمن المؤسّسة الكاثوليكية، شهدت سنوات جلوس يوحنا بولس الثاني على الكرسيّ الباباوي تضاعفاً في تعيينات أعضاء الأوبوس دي في المناصب العليا في الفاتيكان وفي الأسقفيات، خصوصاً في أميركا اللاتينية. بهذا الصدد، يُعتبر وصول عضو المنظمة جواكين نافارو-فالز في العام 1984،، وبقائه لمدّة تسعاً وعشرين سنة على رأس المركز الإعلاميّ للفاتيكان، رمزاً هاماً. من ناحيته، يخفّف جون ل. ألين الإبن من أهمية الأمر بالقول أنه: "مقارنةً مع ما يقوم به اليسوعيّون والدومينيكيّون وحتى الفرانسيسكانيّون، أمرهم سخيف...". بيد أنّ المنظمة لا تزال فتيّة جداً على صعيد تاريخ الكنيسة الكاثوليكية مقارنةً بتلك الرهبنات الدينية. من ناحية أخرى، يشدّد السيّد جيوفاني أفينا، مدير وكالة الإعلام الدينيّ أديستا، على أنّ التناغم العقائديّ لمجموعة أعضاء الأوبوس دي قويٌّ جداً: "نجد عند اليسوعيّين، ولدى الفرانسيسكانيّين أو في الرهبنات أو الحركات الأخرى، أطيافاً واسعة من الآراء أو الخيارات اللاهوتية التي تعكس نوعاً ما كل أطياف الكنيسة العالمية، من التقدّمية الأكثر اهتياجاً إلى التقليدية. ليست الحالة كذلك بالنسبة للأوبوس دي التي تقوم بقولبة أعضاءها لاهوتياً".
كانت العلاقات عميقة بين الأوبوس دي وإسبانيا الفرانكويّة التي كانت حاضنة حقيقية للمنظمة. لكن ضمن هذا النظام الديكتاتوري، جنح أكثر الأعضاء نفوذاً في المنظمة، هؤلاء الذين يدعونهم "التكنوقراطيّين" - والعديد منهم كانوا وزراءً من المرتبة الأولى [15]-، بشكل قويّ نحو نوعٍ من التحديث الاقتصادي الليبيرالي، الذي وجدت الأوبوس دي نفسها مرتاحةً جداً داخله، بدل التيوقراطيّة السلطويّة الإستكفائيّة كما كانت تحلم بها الكتائب الإسبانيّة. ولم تخضع الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية أبداً لانتقادات المنظمة، حتى ولو عبّر هذا العضو أو ذاك، بصفةٍ شخصيّة، عن بعض التحفّظات. وفي أوروبا وأميركا الشمالية، يكون ميل هؤلاء بالمتوسط نحو الانتماء إلى مشاريع اليمين التقليدي أكثر منها مشاريع اليمين المتطرّف، فيما يخصّ المسائل الاجتماعية والاقتصادية.
إعادة تأطير إيديولوجيّة
وليس مُستثنى أيضاً بالنسبة لعضوٍ في المنظمة، أن يصوّت أو يناضل إلى جانب اليسار المعتدل. فعضوة مجلس الشيوخ الإيطالي باولا بينيتي، العضو الكامل في الأوبوس دي، هي إحدى الشخصيّات الأكثر شهرةً في تيّارٍ تابع للحزب الديموقراطي الإيطالي الجديد، الذي أكمل في ما بعد مسار فيديرالية شجرة الزيتون. إلاّ أنّ تموضع أعضاء الأوبوس دي، على اختلاف ميولهم، حول مسائل الأخلاقيات العائلية أو البيولوجيا الطبّية (الإجهاض، زواج بين المُثليّين، الحمل الاصطناعي، أبحاث حول الخلايا الجنينيّة الأساسية، الخ.) يتوافق، بصورة منهجيّة، مع تصلّب السلطة الكاثوليكية، ويتعارض بقوّة مع الطموحات التقدّمية للمجتمع في تلك المجالات.
أصبحت إذاً الانتقادات التي يمكن توجيهها للأوبوس دي تتقاطع جزئياً مع تلك التي قد توجَّه للمؤسّسة الكاثوليكية، كما تطوّرت منذ جلوس يوحنا بولس الثاني على الكرسيّ الباباويّة. وتساهم حركة إعادة وضع إطارٍ إيديولوجيّ للكنيسة المؤسّساتية، القائمة منذ الثمانينات، في التطبيع النسبيّ لصورة الأوبوس دي في أوساط الكاثوليكيّين وتلقائياً لدى ما تبقى من الجمهور الكبير. هكذا في الوقت الذي تركّزت فيه أولويّة المؤسّسة، مع بينيديكتوس الرابع عشر، على إثبات الهويّة في مواجهة مخاطر "النسبيّة"، يبدو أنّ طروحات الأوبوس دي تزداد توافقاً مع التيّار المسيطر في الكنيسة.
* صحافيّ
[1] للأوبوس دي عدة أنواع من الأعضاء. الأعضاء غير الكاملين surnuméraires (حوالي 70 في المئة) وهم في غالبية الأحيان متزوّجون ويعيشون حياةً عائلية مستقلّة، لا تختلف كثيراً عن حياة غالبية الشعب في الدول التي يعيشون فيها، مع أنّها تتميّز بممارسات دينية كثيفة،. الأعضاء الكاملون numéraires والمعلّمون agrégés (حسب إن كانوا يعيشون أم لا في مراكز المنظّمة) يلتزمون التبتّل، لكنهم لا يتلون نذزر أنفسهم على طريقة الرهبان والراهبات. ونجد أخيراً الكهنة (2 في المئة من أعضاء الأوبوس دي). بعض الكهنة الأبرشيين ليسوا مباشرةً أعضاء في الأوبوس دي لكنهم يلتحقوا بالجمعية الكهنوتية للصليب الأقدس المرتبطة بها مباشرة.
[2] François Normand, “ La troublante ascension de l’Opus Dei ”, Le Monde diplomatique, septembre 1995.
[3] Véronique Duborgel, Dans l’enfer de l’Opus Dei, Albin Michel, 2007, témoignage d’une ancienne membre.
[4] السيّدة كريستين بوتان مستشارة في المجلس الحبريّ لشؤون العائلة.
[5] خصوصاً في إسبانيا وأميركا الجنوبية. في بريطانيا، روث كيلي، الوزيرة الحالية للنقل في حكومة السيّد غوردون براون العمّالية، لا تخفي كونها عضواً في الأوبوس دي.
[6] يمكن الحصول على تفاصيل هذه الاستراتيجية مفسّرةً من قبل بعض من واضعيها في: Marc Carrogio, Brian Finnerty et Juan Manuel Mora, “ Three years with the Da Vinci Code ”, Direzione strategica della communicazione nella Chiesa : nuove sfide, nuove proposte, Atti del 5° Seminario professionale sugli uffici comunicazione della Chiesa, EDUSC, 2007.
[7] L’Espresso, 30/7/2005.
[8] John L. Allen Jr, Opus Dei: An Objective Look Behind the Myths and Reality of the Most Controversial Force in the Catholic Church, Doubleday, 2005. Patrice de Plunkett, L’Opus Dei, enquête sur le “ monstre ”, Presses de la Renaissance, 2006.
[9] كان يُفترَض، منذ وقت ليس بطويل، إثبات روح قتاليّة حقيقيّة للوصول إلى تلك الوثائق، هذه الروح التي لم يفتقر لها بعض المحقّقين أمثال بيتر هيرتيل. ,آخر إصداراته: Schleichende Übernahme, das Opus Dei unter Papst Benedikt XVI, Publik-Forum, 2007. Opus Dei, enquête au cœur d’un pouvoir occulte, de Peter Hertel, Christian Terras et Romano Libero, éditions Golias, Lyon, 2006.
[10] إنّ عمليّات التطويب والتقديس في الكنيسة الكاثوليكية، لا تزال إذاً حتى اليوم مقتصرة فعلياً على الرهبان والراهبات.
[11] In Abbé Hervé Gresland, “ La canonisation de Josémaria Escriva de Balaguer ou une nouvelle étape de la glorification de l’Eglise conciliaire ”, Nouvelles de chrétienté, n° 77, septembre-octobre 2002. هذه المجلّة هي نصف فصليّة تصدرها الأخويّة الكهنوتيّة للقديس بيوس العاشر (وهي كاثوليكيّة أصوليّة).
[12] Romana (العدد 41، تموز/يوليو-كانون الأول/ديسمبر 2005)، الدرس الذي قدّمه فيرناندو أوكاريز، النائب العام للأوبوس دي، حول المقطع رقم 8 من دستور Lumen Gentium لفاتيكان الثاني. ويبرّر فيه المونسنيور أوكاريز، متّبعاً في ذلك الخطّ الذي رسمه جوزيف راتزينغر في إعلان "سيدنا يسوع المسيح" في العام 2000، بأنّ كلمة "كنيسة" لا يمكنها أن تقتصر فقط على الكنيسة الكاثوليكية وحدها. Romana هي النشرة الرسمية للأوبوس دي.
[13] إقرأ النظام الداخلي للمنظمة على موقعنا www.monde-diplomatique.fr/2008/03/A...
[14] تدير الأوبوس دي أيضاً بنجاح أماكناً للتعلّم مخصَّصة لجماهير ليست بالضرورة مرتاحة مادياً، كمركز ELIS في روما، وهو مركز لتعليم الشباب والبالغين، يتمتّع بصيتٍ ممتاز. السيد فيلتروني، رئيس بلدية روما، قائد الحزب الديمقراطي (اليساري)، أثنى عليه بالمديح.
[15] دخل أول وزراء ينتمون إلى الأوبوس دي (ماريو نافارو روبيو، وزير المالية وألبيرتو أولاستريس، وزير التجارة) إلى الحكومة في العام 1957. وبحسب المصادر، هنالك بين 8 و12 وزيراً (من أصل ما يزيد قليلاً عن مئة وزير) كانوا أعضاءً في الأوبوس دي في الحكومات التي تتالت حتى العام 1975.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-09-2008, 12:37 AM بواسطة ابن سوريا.)
|
|
03-08-2008, 11:26 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
|