السلام الداني المفاوضات السورية الإسرائيلية ـــ قراءة وعرض: عصام خليل
أصدر مركز دراسات الوحدة العربية كتاب "السلام الداني"، المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، للباحث الدكتور رضوان زيادة؛ وهو الكتاب الذي "يشكّل، عملياً، الرواية السورية الأولى عن المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، بعد عديد الروايات الغربية والإسرائيلية" وفقاً لما جاء في مقدمة المؤلف.
يدرس الكتاب السياسة الخارجية السورية منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى الآن، مركِّزاً على عقد التسعينيات ـ مرحلة انطلاق عملية السلام ـ وحتى توقفها؛ معتبراً أن الصراع مع "الكيان الصهيوني" يشكّل حجر الأساس في بناء السياسة السورية الخارجية، من حيث ترتيب الأولويات، ودخول التحالفات، وبناء التوازنات، وإلى الحد الذي يصح معه القول: "إن السياسة الخارجية السورية تتحدد وفق الموقف من "إسرائيل وموقف العالم منها".
ينقسم الكتاب إلى خمسة عشر فصلاً، يغطي كل فصل مرحلة تاريخية من مراحل الصراع العربي الصهيوني، مركزاً بشكل أساسي على الجبهة السورية، ومستعرضاً مجمل الظروف الإقليمية والدولية، فضلاً عن العوامل الداخلية في سورية و"إسرائيل" والتي أثَّرت في مسار الصراع، فدفعت به إلى المواجهة المسلحة الشاملة مرات، واتجهت به نحو الهدوء النسبي، أو المتوتر مرات أخرى؛ في إطار بحث تاريخي موثّق اعتمد تسلسل الأحداث، واستعراض وجهات نظر مختلفة، توصلاً إلى إعادة تركيب المشهد السياسي بشكل يتيح للقارئ اطلاعاً تفصيلياً على المفاوضات والاتصالات السورية ـ الإسرائيلية التي بدأت أواسط العقد الثاني من القرن الماضي، من خلال محاولة بعض رجالات الكتلة الوطنية استثمار النفوذ اليهودي لدى الغرب في تحقيق استقلال سورية، دون أن يكون لدى هؤلاء الوعي الكافي بمخاطر المشروع الصهيوني، أو التقدير السليم لإمكانات الوكالة اليهودية التي تعمل على تحقيقه.
يتابع الكتاب كشف الاتصالات، وتطورها إلى مفاوضات بعد إعلان قيام "إسرائيل"، والحرب التي رافقت هذا الإعلان، ونتائجها على الأنظمة السياسية العربية، راصداً محاولة نظام "الزعيم" في سورية إجراء مفاوضات مع "إسرائيل" عبر قنوات سرية، من أجل إقرار اتفاق يؤدي إلى وقف تهديداتها، ودرء خطرها التوسعي، ومنعكساته السلبية على بنية نظامه السياسي العاجز عن مواجهتها عسكرياً، في الوقت الذي كان فيه الخطاب الإعلامي يضلل الرأي العام المحتقن ضد الأداء السياسي، والمؤيد لخطوة عسكرية حاسمة، مدفوعاً بوهم القدرة على تحقيق نصر ساحق!
يركّز الكتاب، بعد ذلك، على التفاعلات الداخلية في البلدان العربية، والانقسامات والصراعات السياسية التي أدّت إلى ثورة في مصر، وسلسلة انقلابات عسكرية في سورية، ويعرض الموقف "الإسرائيلي" المتربص، والمتابع لهذه التطورات، منتظراً فرصة ملائمة على المستوى الدولي، بعد توفرها إقليمياً؛ لتكون حرب حزيران 1967 محصّلة لمجمل هذه التطورات، وليبدأ، على ضوء نتائجها الكارثية، تشكّل مناخ سياسي مثُقل بكل عوامل القلق والتوتر، دفع الأنظمة العربية إلى تبنّي توجهات تنسجم مع الغضب الشعبي العارم الذي أشعلته النكسة، فيما كان سقوط الجولان على الجبهة السورية، يشكّل واحدة من المستجدات الخطيرة، التي ستصبح فيما بعد العنوان الرئيس في المفاوضات السورية ـ "الإسرائيلية".
ولم يتمكن العرب، كما يعرض الكتاب لاحقاً، أن يستثمروا حرب تشرين على أكمل وجه؛ وفشل المصريون في تحقيق نتائج سياسية توازي كفاءة الأداء العسكري، لاسيما خلال الأيام الأولى للحرب؛ ولعبت السياسة الأمريكية دوراً واضحاً في تفكيك التنسيق السياسي بين مصر وسورية، تمهيداً لإقرار اتفاقية فك الاشتباك؛ واستطاع السوريون الحصول على مكاسب سياسية، لم يكن ميزان القوى العسكري، ومعطيات الوقائع الميدانية تتيحها لهم، لولا صلابتهم التفاوضية، واستمرارهم في تسخين جبهة القتال، على الرغم من توقف الجبهة المصرية، وتوقيع اتفاقية فك الاشتباك، بشروط مجحفة للمصريين.
يتحوّل الكتاب، بعد ذلك إلى رصد الصراع على الساحة اللبنانية، بالتوازي مع استمرار المفاوضات المصرية "الإسرائيلية" عبر القنوات الأمريكية، وصولاً إلى الزيارة المفاجئة التي قام بها السادات إلى القدس، وتوقيع اتفاقية "كمب ديفيد"، الأمر الذي شكل ضغطاً متزايداً على سورية، لاسيما في لبنان، بعد دخول الحرب الأهلية فيه مرحلة من الشراسة، تهدد وحدة كيانه، في نفس الوقت الذي اشتعلت فيه الجبهة العراقية الإيرانية، لتصبح المنطقة ميداناً متفجراً مفتوحاً على كل الاحتمالات السلبية، التي كانت سورية تراقبها بحذر شديد، وتتعامل معها بمرونة وحنكة، مؤسسة على قراءة عميقة لمعطياتها، ونتائجها المتوقعة، وتمارس إزاءها سياسة بالغة الدقة والهدوء، حتى تمكنت من وقف الحرب الأهلية في لبنان، وإعادة بناء تحالفاتها الإقليمية، وترميم قدراتها العسكرية، بدعم من حليفها السوفييتي السابق.
يتابع الكتاب في جزئه الأهم استعراض المشهد السياسي الذي تبدّل نوعياً بعد حرب الخليج الثانية، وعودة سورية إلى واجهة الأحداث بفاعلية وقوة، تمثلت في إعلان الإدارة الأمريكية التزامها إطلاق عملية سلام في المنطقة، كشرط لموافقة سورية على الاشتراك في حرب تحرير الكويت، واستطاع الرئيس الراحل حافظ الأسد، من خلال مفاوضاته مع الأمريكيين، أن يؤسس أرضية صلبة يقف عليها المفاوض العربي؛ بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية، والراعي الروسي، أن عملية السلام ستنطلق على أساس قراري الأمم المتحدة 242 و338، ومبدأ الأرض مقابل السلام. ويعرض الكتاب، تفصيلياً، مسار المفاوضات السورية "الإسرائيلية" بعد مؤتمر مدريد، مقدماً وجهات نظر متعددة، ومتابعاً التحليلات الصحفية، والتصريحات السياسية التي رافقت جولات المفاوضات، وراصداً التحولات السياسية في "إسرائيل"، ومواقف الحكومات "الإسرائيلية" المختلفة من مسألة الانسحاب "الإسرائيلي" من الجولان حتى خط الرابع من حزيران 1967؛ وهو الشرط الذي عملت سورية على انتزاع تعهد قاطع من المفاوض "الإسرائيلي" بتنفيذه، تحت طائلة وقف المفاوضات وإنهائها؛ وبعد أن قدّمت حكومة "رابين" هذا الالتزام، بدا أن السلام في متناول اليد؛ لكنّ اغتيال "رابين" وتراجع الحكومات "الإسرائيلية" اللاحقة عن التزامه، بسبب ضعف بعض هذه الحكومات، وتطرف بعضها الآخر، الذي حاول نسف العملية برمتها، أدى إلى نشوء هواجس جدية بتحول مسار العملية السلمية من إطار التفاوض إلى احتمال نشوب حرب مسلحة؛ ولعب الانحياز الأمريكي لـ"إسرائيل" والعوامل الداخلية الانتخابية دوراً في تراجع فعالية الوسيط الأمريكي، الذي أصبح دوره أقرب إلى ساعي بريد، يعمل على نقل الرسائل "الإسرائيلية" إلى الجانب السوري الذي مارس سياسة مرنة، قَبِل من خلالها بعض التعديلات على بعض المواقف، وبقي متمسكاً بثوابته وحقوقه، ولم يقبل المساس أو التنازل عن هذه الثوابت والحقوق.
مما لاشك فيه أن الكاتب تناول المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية على أرضية الإحاطة الشاملة بمجمل الظروف السياسية التي لعبت دوراً أساسياً في مسار الأحداث، ورصد التطورات السياسية من خلال قراءة موسعة لكل ما رافقها من تصريحات سياسية، وتحليلات صحفية، ومؤلفات فكرية وسياسية موثقاً، ومحللاً، وباحثاً في العمق عن العوامل التي لها تأثير حقيقي وحاسم في رسم المشهد السياسي الذي آلت إليه عملية السلام، وأسباب تراجعها، وتوقفها لاحقاً. ويرى أن على "الدول العربية أن تنتقل لوضع استراتيجية جديدة تتجاوز إطار عملية السلام التي لم يعد لها وجود عملي أو حتى نظري" فالسلام لم يعد له وجود، "وكل ما يتم طرحه هي مبادرات للتهدئة"، في إطار التوجه الأمريكي "لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بشكل يضمن مصالحها أولاً، ويحقق لها رغباتها الأيديولوجية القائمة على فرض سياسة القوى على الجميع".
http://www.awu-dam.org/politic/27/fkr27-016.htm