ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
العيش كالقطيع مع الشعور بالحريّة
مقال مهم جداً عن شهرية اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية لعدد كانون الثاني/يناير 2008
العيش كالقطيع مع الشعور بالحريّة
داني-روبير دوفور *
هل يصقل التلفزيون أناساً أم خرافاً؟
ليست الفردانيّة هي مرض عصرنا هذا، بل إنّها الأنانيّة،" حبّ الذات" self love هذا العزيز على قلب آدم سميث الذي يتغنّى به الفكر الليبيرالي بمجمله. إنه عصر الترويج للأنانيّة، وإنتاج العديد من "الأنا" العمياء أم المعميّة، لدرجة أنها لم تعد تلاحظ لأيّ درجة يمكن تجييشها داخل مجموعات جماهيريّة. إنها "الأنا" تحديداً، ذلك أنّ الناس يعتقدون بأنهم متساوون في حين يخضعون، في الواقع، للسيطرة على ما يجدر تسميته بـ"القطيع". وفي هذه الحالة، قطيع المستهلكين بالتحديد.
إنّ العيش ضمن قطيعٍ مع التظاهر بالحرّية لا يشهد على شيءٍ سوى على علاقةٍ بالذات مُرتَهَنَة بصورةٍ كارثيّة، كونها تفترِض إرساء علاقة كاذبة مع الذات كقاعدة حياتيّة. ومن هنا، مع الآخرين أيضاً. هكذا، نكذب بوقاحة على الآخرين، هؤلاء الذين يعيشون خارج الديموقراطيات الليبيرالية، عندما نقول لهم بأننا جئنا - مع بعض الأدوات كهدايا أو مدجّجين بالسلاح في حال رفضوا ذلك- لمنحهم الحرّية الفرديّة، في حين أننا نتطلّع قبل كلّ شيء الى إدخالهم في قطيع المستهلكين الكبير.
لكن ما ضرورة هذه الكذبة؟ الجواب بسيط. يجب أن يتوجّه كلّ شخص "بحريّة" نحو البضائع التي يصنّعها من أجله نظام الإنتاج الرأسماليّ الجيّد. "بحريّة"، لأنّه في حال إرغامه على ذلك سيقاوم. لذا يجب أن يترافق الإرغام المستمرّ على الاستهلاك دوماً بخطابٍ عن الحرّية، حرّية مزيّفة طبعاً، بمعنى تلك التي تسمح بالقيام بـ" كلّ ما نريده".
ومجتمعنا في سياق إختراع نموذجٍ جديدٍ لخليطٍ اجتماعيّ يضع على المحكّ تركيبةً غريبةً من الأنانيّة وغريزة القطيع أسمّيها بـ"الأنانيّة القطيعيّة"(!). وتشهد هذه التركيبة على أنّ الأفراد يعيشون منفصلين عن بعضهم، الأمر الذي يمدح أنانيّتهم، مع إبقائهم على ارتباطٍ بنمطٍ افتراضيّ من أجل توجيههم نحو مصادر الوفرة. وتلعب الصناعات الثقافيّة [1] هنا دوراً كبيراً: التلفزيون، الإنترنت، وقسمٌ كبير من السينما التي يرتادها الجمهور الكبير، وشبكات الهاتف المحمول المُتخمَة بالعروض "الشخصيّة"...
ويشكّل التلفزيون، قبل أيّ شيء، وسيطاً منزليّاً، وقد أتى ليستقرّ في أسرةٍ كانت تعاني أساساً من أزمةٍ في كيانها. فقد تمّ الحديث عن "فردانيّة"، و"خصخصة" و"تعدّدية" الأسرة، الناتجة عن تفكّكات لم يسبق لها مثيل للعلاقات الزوجيّة وللعلاقات بين الأهل والأولاد. حتّى أنّ البعض من الكتّاب يتحدّث عن "تفكّكٍ مؤّسساتي"، يجب إرجاعه إلى تداعي الروابط السلطويّة لمصلحة روابطٍ قائمةٍ على المساواة. هكذا تحوّلت العائلة من مجموعةٍ مبنيّة على أقطابٍ وأدوار، إلى مجرّد تجمّعٍ وظيفيٍّ بسيطٍ لمصالح اقتصادية-عاطفية: يستطيع كلّ واحدٍ الاهتمام بأشغاله الخاصّة، دون أن يترتّب على ذلك حقوقٌ أو واجبات محدّدة لأيّ منهم. مثلاً سيذهب كلّ واحد -الأب، الأم أو الأولاد- لتجميع حاجاته من الطعام من البرّاد ما يكفي ليسدّ جوعه قبل أن يعود إلى غرفته أمام التلفزيون أو الفيديو، دون المرور بالطقس المُشترَك لوجبـة الغذاء أو العشاء العائليّة.
تلك نواحٍ معروفة. لكن ما لا يعرفه الناس جيداً هو التعديلات التي أدخلها استخدام التلفزيون. إذ يغيّر هذا الأخير أُطُر الحيّز المنزليّ، عبر إضعافٍ أكبر للدور الذي أساساً تقلّص للعائلة الحقيقيّة، ومن خلال إنشاء ما يشبه العائلة الافتراضيّة التي أتت لتلتصق بالعائلة السابقة. ومنذ وقتٍ طويل، أطلقت بعض الدراسات التي أُجريت في أميركا الشمالية اسم "وليّ الأمر الثالث" على التلفاز [2]. يجب تناول هذا التعبير بمعناه الحرفيّ وعدم اعتباره مجرّد صورة مجازيّة، لما يحتلّه وليّ الأمر الثالث هذا من مكانة تفوق مكانة ولييّ الأمر الأوّليْن أهمّيةً.
وليّ الأمر الجديد هذا يجلِب معه، داخل الحيّز المفكّك البنية للعائلة القديمة، حيّزه الخاصّ الذي بالرغم من كونه افتراضيّاً لا يقلّ اجتياحاً. ففي النهاية، يشكّل وليّ الأمر الثالث هذا للأولاد، وهو في الوقت نفسه صديق العائلة المفضَّل بالنسبة للأهل الحقيقيّين، المحور الذي يسمح بربط بقايا العائلة الحقيقيّة بعائلةٍ افتراضيّة جديدة. وما سهّل فرض هذا التوسّع نفسه، هو انتشار أجهزة التلفزيون في جميع أنحاء الحيّز الخاصّ: فبالإضافة إلى الجهاز المنتصِب في وسط الدار، في غرفة الجلوس، كما كانت الحال منذ جيل، أصبح يتواجد في كل مكان، حتّى في غرف الأولاد [3].
لم تتنبّه العلوم الاجتماعيّة جيداً لهذا التوسّع الافتراضيّ للعائلة من خلال وليّ الأمر الثالث. علماً أنّه تمّ تحديد هذه الظاهرة بصورةٍ جليّة كاملة من قبل الآداب، منذ بدايات عهد التلفزيون. ففي العام 1953، وفي روايةٍ استباقيّة مُدهِشة Fahrenheit 451، أظهر الكاتب الأميركيّ راي برادبوري عن نواحٍ عدّة من المشكلة في وقتٍ كانت الرؤية تقتصر غالباً على تناول ناحيةٍ واحدة: مجتمعٌ حلّ فيه التلفزيون مكان الكتاب [4]. وقد استُوحي من هذا الكتاب فيلمٌ من إخراج فرانسوا تروفو في العام 1966: تدور أحداثه في مستقبلٍ قريب يعتبر فيه المجتمع بأنّ الكتب خطيرة، وبأنّها تشكّل عائقاً في وجه ازدهار البشر.
وإن تمّ إدراك مسألة العلاقة بين التلفاز والكتاب بشكلٍ جيّد، إلاّ أنّ المسألة المصيريّة الثانية التي تطرحها هذه القصّة لم تؤخَذ كثيراً بعين الإعتبار: التلفزيون كعائلة جديدة. علماً أنّ هذه الناحية موجودة، بشكلٍ قويّ، من خلال الدور الكبير الذي تلعبه زوجة مونتاغ في القصّة. فميلدريد (ليندا، في الفيلم) خاضعةٌ، بشكلٍ تامّ، لنظام الحياة المعقَّم والسعيد جبرياً الذي أسّسته "الحكومة". وهي تستهلك ما يكفي من المهدّئات لتفادي أيّ شعورٍ بالقلق. وتعيش خاصّة مع التلفزيون الموجود في جميع غرف المنزل والذي يغطّي مساحة الجدار بأكملها (القصّة متقدّمة قليلاً على تقنيّاتنا، لكنّنا لحسن الحظّ أصبحنا نمتلك شاشات مسطّحة تزداد إتّساعاً).
تمثّل تلك "الجدران الناطقة"، كما يسمّيها الراوي، "عائلته" التي تعيش شخصيّاتها الافتراضيّة، كلّ يوم، في صالون ميلدريد. حتّى أنّ الطموح الأكثر دلالةً للبطلة هو شراء شاشةٍ جداريّة رابعة لتحسين...الحياة العائليّة.
تكمُن قوّة هذه الرواية في كونها كشفت باكراً جداً عن هذه السمة: في حين كانت العائلة الحقيقيّة - مع أنظمتها وأماكنها وتراتبيّاتها- تتلاشى تدريجياً، وكان يتمّ استبدالها بمجتمعٍ جديدٍ ضخمٍ ومتبخّر، يخلقه التلفزيون. ومنذ العام 1953، فهم برادبوري أنّ المشاهدين بدأوا ينتمون، من خلال تخلّيهم عن العلاقات الإجتماعية الحقيقيّة القديمة، إلى "عائلةٍ" واحدة، إذ أصبح لديهم فجأةً نفس "الأعمام" الذين يروون عادةً القصص المضحكة، ونفس "الخالات" المازحات، ونفس "الأنسباء" الذين يكشفون عن حياتهم الخاصّة.
هكذا فإنّ برامج النقاش العديدة جداً وغيرها من البرامج الترفيهيّة التي تُبثّ اليوم على القنوات العمومية، تؤمّن مجموعةً كبيرةً من صور العائلة: من الخجول المثابر إلى الثرثار الذي لا يمكن إصلاحه، مروراً بصاحب امتياز الامتعاض، والمناضل السابق المنتقل إلى صفوف الشهرة، والأستاذ الأبله، ومناصر البيئة ممّن يحبون المأكولات الجيدة، والصلف بالأسلوب الغاليّ، والشقراء المفرقعة ذات الجسم المقوّى اصطناعياً، ومعبود الشباب الدائم، والمغنّي العاطفي المتقدّم في السنّ، ونجمة السينما الإباحية المدافعة عن حقوق الانسان، والمثليّ الجنسي في كافة تنويعاته، والمعاق المضحِك، والمتحوّل جنسياً بأصنافه، والمفكّر المعتَمَد، وابن المهاجرين المهذار، والممثلون مع نزواتهم، والرياضيون الكريمي الأخلاق، والمدافع عن القضايا الخاسرة سلفاً، وحتّى المحلّل النفسي الممتلىء ببواطن الكلام الفرويدي-اللاكاني.... أي حوالى المئة من الشخصيّات المتنقّلة باستمرارٍ من قناةٍ الى أخرى والذين يزنون ثقلهم ذهباً، باختصار أولئك الذين يدعونهم اليوم أهل المجتمع (people)، ويتبعهم المسؤولون السياسيّون الذين يعانون من نقصٍ في جمهورهم.
وأصبح المشاهد يجد اليوم أنسباءه وأعمامه وخالاته وهو ينقّل القنوات zapping، إضافة الى أنّهم مرحون أو يُفترض كونهم كذلك. وما لم تعد القصص العائلية (الصغيرة والكبيرة، المضحِكة والمأساوية) تؤمّنه، أصبحت "عائلة" التلفزيون هي المدعوّة إلى منحه. فهي التي تعزّي الباقين وحيدين وتُحيي المجموعات التي تنقصها الحيويّة. هكذا، إنّ "التلفزيون" لا يؤمّن فقط "عائلة"، لكنّه يحوّل أيضاً مشاهديه إلى عائلة كبيرة. كلّ واحدٍ يكشف عن مكنونات نفسه للجميع، وسط مثاليّة من الشفافية لا يعود من الممكن فيها إخفاء أيّ شيء عن الآخر. وعلى مرّ البرامج، يتمّ الكشف عن "الأسرار العائليّة" الأكثر حميميةً؛ وما من أحد يقاوم هذه الاعترافات الجيّاشة. فتحت شمس برنامج "الأخ الأكبر" Big Brother، على كلّ شخصٍ الإفصاح عن كلّ شيءٍ للجميع. وحتّى المراهقون والشباب الناضجون يمرّون بتجربة "غرفة الاعتراف" في برامج Loft Story أو Star Academy [5]. وما استحدثته تلك البرامج اليوم هو أنّه يمكن للمشاهد تركيب هذه "العائلة" على هواه - مثلاً يضرب الرقم واحد لدعم سيريل أو الرقم اثنين لاستبعاد إيلودي...
يمكننا أن نتساءل: في النهاية، لماذا نرفض هذه الافتراضية للروابط العائلية؟ أليست هذه مسيرة التاريخ بحدّ ذاتها؟ بحيث لا يعود هنالك من سببٍ لإبداء رأيٍ سلبيّ حول الحقبة الحالية، خاصّةً إن كان ذلك بهدف تقييمٍ أفضل للحقبة التي ولّت. وفي الواقع، ليس بعيداً إلى هذا الحدّ الزمن الذي كان فيه أفراد العائلة الحقيقيّة يختنقون. فشعار "أيّتها العائلة، إنّني أكرهكِ" الذي أطلقه أندريه جيد، والذي استعاده طلاّب ثورة 1968 الطلابيّة، لا يرجع سوى إلى جيلٍ أو جيليْن. بهذا المعنى، أليست "العائلة" الافتراضيّة أفضل من العائلة الحقيقيّة، مع العلم أنّه، في حال الشعور بالتعب الحقيقيّ، تكفي كبسة زرّ دون الإضطرار، كما في الماضي، لـ"قتل الأب".
الإجابة على هذا السؤال بسيطة: فالمشاهد الذي يحبّ شخصيّات هذه "العائلة" لا يمكنه أن يحصل على شيءٍ منها في المقابل، لأنّ هؤلاء، كونهم وهميّين، لا يمكنهم سوى أن يكونوا لامبالين تماماً لمصيره. إلاّ طبعاً في حال أصبح المشاهد نفسه شخصيّةً في وسائل الإعلام. في هذه الحال، سيُدخِلون الشخصيّة التعيسة "داخل" الجهاز وسيعطونها براهينً عن الحبّ تفوق العادة، كما لجعل الناس ينسون انعدام المعاملة بالمثل الذي يميّز الوسيلة الإعلاميّة.
من هنا يتبع سؤالٌ جديد وجوابٌ جديد. لما القيام بكلّ هذا الإنفاق في مجال التكنولوجيا (كاميرات، تقنيّون، شبكات برامج، أقمار إصطناعيّة، شبكات، الخ.) والاستثمارات المختلفة (ماليّة، شبقيّة، الخ.) إن لم يكن ذلك لجعل الأشخاص الذين يشاهدون التلفزيون يعيشون فعلاً من خلال تمضية كلّ هذا الوقت أمامه؟ فهل تمثّل هذه "العائلة" عهد التسلية الصرف؟ نعلم أنّ التسلية كانت في الماضي محصورةً بالملك ضمن نطاق دعمه للجميع، في حين لم يكن يلقى دعماً من أحد. وتفادياً للخطر الكبير بإصابة الملك بالسُويداء، لم يكن هنالك من وسائلٍ أخرى سوى تسليته باستمرار. قد نكون اليوم في وضعٍ مشابه، بفارق أنّه اليوم، وفق ما تفرضه ديموقراطيّات السوق، يجب تسلية الجميع.
لكن تسلية المتفرّج لا تكفي. هنالك حاجة إلى المزيد. ويمكن القيام بأفضل من ذلك. إذ إن لم يكن الوجود الذاتيّ للآخر من الأولويّات التي تشغل هذه "العائلة"، فذلك بكلّ بساطة لأنّ لا شيء يشغلها، كونها هي ذاتها مجرّد خديعة. فوراءها، تختبىء الحقيقة الوحيدة المتينة، وهي المشاهدون (ونسب متابعتهم وتعويدهم عبر الوهم) الذين يُقاسون ويُقسَّمون إلى أجزاء للتمكّن من بيعهم وشرائهم في سوق الصناعات الثقافيّة.
وإن بقي عقلٌ واحد ساذجٌ لدرجة تجعله يعتقد أنّ وضع البرامج يأخذ بعين الإعتبار نوعيّة تلك البرامج، فهنالك إمكانيّة كبيرة في أن يفقد أوهامه منذ التحقيق الأول. فالاهتمام محصورٌ بنسبة المشاهدين فقط لأنّهم الوحيدون الذين يؤثّرون على الأعمال الجديّة: وهي أسعار المساحات الإعلانيّة. إنها القاعدة التي أعلن عنها مدير برامج قناة TF1، وهو أيضاً أستاذٌ في جامعتي دوفين والسوربون، ليستخدمها المبتدئون في إعداد البرامج: "لا تجدي زيادة التكاليف لإنتاج برنامجٍ أفضل من الذي يُبثّ، إن كنتم تحظون أساساً بأفضل نسبةٍ من المشاهدين [6]".
هكذا بات الجميع مطّلِعاً على أقوال السيّد باتريك لو لاي، رئيس قناة TF1 التي أدلى بها أساساً في اجتماعٍ مصغَّر: "الهدف من برامجنا هو وضع (دماغ المشاهد) في حالة من الجهوزيّة، أي تسليته وإراحته من أجل تحضيره بين رسالتين. فما نبيعه لكوكا كولا هو وقتٌ من جهوزيّة الدماغ البشريّ. وما من شيءٍ أصعب من الحصول على هذه الجهوزيّة [7]".
إذن هذا هو تحديداً ما يجب إيضاحه: الطريقة المحدّدة التي يتمّ من خلالها الحصول على هذه الجهوزيّة. لكنّه، وفي الحال التي لا يوجد فيها أيّ نشاطٍ اجتماعيّ آخر يتمّ تقييمه أكثر من الاستهلاك التلفزيونيّ، فتلك القياسات تكاد لا تقول شيئاً عن ذاتيّة المشاهدين. ولذا يجب جرد هذه المنطقة الواسعة المعتَمة حيث يتمّ التقاط الطاقة النفسيّة لتحويلها إلى نسبة مشاهدين. وأنا أطرح هنا إذاً الفرضيّة القائلة بأنّ ما يسمح لهؤلاء المشاهدين بالتحوّل الى متعبّدين للتلفزيون يجد تفسيراً له في لعب التلفزيون دور العائلة الافتراضيّة البديلة.
من الضروريّ إذاً أخذ هذه "العائلة" بعين الإعتبار لمن يريد فعلاً وصف عالمنا وناسه والتعمّق بهم. فذلك سيسمح له بالكشف عن طبيعته الحقيقيّة. هكذا، يشير برنار ستيغلر في كتابٍ حيويّ صغير حول التلفزيون والبؤس الرمزيّة، إلى أنّ "(المرئيّ والمسموع) يؤدّي إلى تصرّفات قطيعيّة وليس إلى تصرّفات فرديّة، بعكس إحدى الأساطير. إنّ القول بأننا نعيش في مجتمع فردانيّ ليس سوى كذبةٍ واضحةٍ وخدعةٍ مزيّفة بصورة مذهلة (...). إنّنا نعيش في مجتمعٍ-قطيع، كما فهمه واستبقه "نيتشه" [8]".
إنّ العائلة المعنيّة هي إذاً في الواقع "قطيع"، يقتصر الأمر فقط على أخذه إلى حيث نريده أن يشرب ويأكل، أي نحو منابعٍ ومصادرٍ محدَّدة بوضوح. لن أستند الى "نيتشه" الذي لم تُثبَت بعد مزاياه كديموقراطيٍّ كبير، إنّما الى "كانت" و"أليكسي دو توكفيل".
ففي كتابه "ما هي الأنوار؟" Qu’est-ce que les Lumières ? (1784)، يطوّر "كانت" موضوع تحويل الناس إلى قطيع. إذ يعتبر أنّ هذا التحويل يحصل عندما يعدِل الناس عن التفكير بعقولهم الخاصّة ويضعون أنفسهم تحت حماية "حرّاسٍ يقترحون "من كرم لطفهم" السهر عليهم. فبعد أن يجعلوا قطيعهم ساذجاً (Hausvieh، وتعني حرفياً "قطيع منزليّ")، ويتوخّون كل الحذر من أن تتمكّن هذه الكائنات المسالمة من التجرّؤ على القيام بأيّة خطوة خارج الحديقة المسيَّجة التي حُبسوا داخلها، ينبّهونه إلى المخاطر الذي ستواجهه في حال ذهبت إحداهم وحدها". وإلى لائحة حرّاس القطيع التي وضعها "كانت" - الأمير السيّىء، والضابط، وجابي الضرائب، والكاهن، الذين يقولون "لا تفكّروا! أطيعوا! إدفعوا! آمنوا!"- يجب طبعاً اليوم إضافة التاجر الذي يعاونه الإعلانيّ الذي ينهر قطيع المستهلكين "لا تفكّروا! أنفقوا!".
أمّا بالنسبة لتوكفيل، فمن المدهش أن يكون هذا المفكّر البارز الذي تناول الديموقراطية قد بحث في إمكانيّة تحويل الشعوب إلى قطعان، عندما تساءل عن نوع الاستبداد الذي يجب أن تخشاه البلدان الديموقراطيّة. إذ يظهر مفهوم "القطيع" تحديداً في 1840، عندما يشير إلى أنّ الشغف الديموقراطيّ بالمساواة يمكنه "تحويل كلّ بلدٍ ليصبح مجرّد قطيعٍ من الحيوانات الخجولة والشغّالة"، محرَّرة من "الإضطراب الذي يولّده التفكير [9]". وفي الواقع هذا الأمر صحيح: فضمن القطيع، نحن جميعاً متساوون حقاً.
هكذا بعد تحويل العمّال إلى بروليتاريا، بادرت الرأسماليّة إلى "تحويل المستهلكين إلى بروليتاريا". ولامتصاص الإنتاج الفائض، طوّر الصناعيّون تقنيّات تسويقيّة تهدِف إلى جذب رغبات الأفراد من أجل حثّهم على شراء المزيد دائماً [10]. تمّت عندها الاستفادة من نظريّات سيغموند فرويد، من خلال تطبيقها على عالم الصناعة من قِبل... قريبه الأميركيّ إدوارد برنايز. فقد استثمر هذا الأخير (في البدء لمصلحة صانع السجائر فيليب مورّيس) الإمكانيّات الضخمة للحثّ على الاستهلاك لما كان يدعوه زوج عمّته بـ"الاقتصاد الشبقيّ [11]".
وتكمن عبقريّة بيرنايز بأنّه رأى باكراً جداً الاستفادة التي يمكنه الحصول عليها من أفكار فرويد. وفي الواقع، منذ العام 1923، شرح في كتابه "بلورة الرأي العام"، Crystallizing Public Opinion، بأنّه يمكن للحكومات وأصحاب الإعلانات "تطويع الأذهان كما يطوّع العسكريّون الأجساد". ويمكن فرض هذا الانضباط بحكم "اللّيونة المتأصّلة في الطبيعة البشريّة الفرديّة". ويشير برنايز إلى أنّ "الوحدة الجسديّة تشكّل رعباً حقيقياً بالنسبة للحيوان القطيعيّ، وبأنّ وجوده ضمن القطيع يُشعِره بالأمان. ولدى الإنسان، يثير هذا الخوف من الوِحدة رغبةً بالتماثل مع القطيع وآرائه".
لكن بعد دخوله الى "القطيع"، يُبدي "الحيوان القطيعيّ" دائماً عن رغبةٍ في إبداء رأيه. وبالتالي، يجب على خبراء التواصل أن "يتوّجهوا إلى فردانيّته (التي) تتماشى، بشكلٍ وثيق، مع غرائزٍ أخرى، كنرجسيّته". لذلك، يُوصي برنايز دائماً بالتحدّث معه عن رغبته "هو". ويهدف هذا الجمع للأفراد داخل قطيعٍ إلى خلق تجانسٍ في التصرّفات، بطريقةٍ تسمح باكتساح الأسواق وبالتالي تحقيق أقصى حدٍّ ممكنٍ من الأرباح، بالاعتماد خصوصاً على وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة الجماهيريّة، ومنها الراديو والسينما، ثمّ التلفزيون الذي تمّ اختراعه فيما بعد، والتي يتمّ استخدامها لتوظيف الناحية الجماليّة للفرد.
والمدهش في الأمر هو أنّ الكلام عن مجتمعٍ- قطيع من المستهلكين الذين تمّ تحويلهم إلى بروليتاريا، لا يتناقض أبداً مع نشر ثقافة ٍللأنانيّة نُصّبت قاعدة حياتيّة - بل على العكس: إذ أنّ تلك المفاهيم تترابط وتدعم بعضها بعضاً. هذه الحياة ضمن قطيعٍ افتراضيّ، يتمّ قيادته باستمرارٍ نحو منابعٍ سماويّة مليئة بالحوريّات وعرائس البحر، تفترِض في الواقع أنانيّةً مضخَّمة يتمّ تقديمها كإنجازٍ ديموقراطيّ. "كن دائماً نفسك أكثر بالمشاركة دائماً أكثر في العائلة"، "معنا ستكون في وسط النظام"، أو "في وسط البنك، شبكة وكلّ ما تشاء" – هكذا يمكننا رصف آلاف الإعلانات التي تضرب على الوتر نفسه، لأنّ الإعلانيّين متخصّصون في استخدام هذا الشيء (الفظّ إنّما الذي لا يُضاهى فعاليّةً) الذي يقضي بمدح أنانيّة الأفراد، بكافّة أشكالها الممكنة.
مع هذه "الأنانيّة القطيعيّة" égoïsme grégaire (gregarius باللاتيني: قطيع)، لا شكّ أننا أمام نموذجٍ جديدٍ نوعاً ما من "التجمّع"، يُفتَرَض تحليله بسرعة، ذلك أنّ منحاه الأنانيّ يمنعه أبداً من اكتشاف نفسه ككائن جماعيّ. فنحن أمام تلك التركيبات الأنانيّة القطيعيّة كمن يقف أمام وحوشٍ تفرزها الديموقراطية. وحوش، نعم، لأنّ تلك التركيبات مُعادية للديموقراطية في الجوهر: تعمل على الإغفال الطوعيّ والنهج المخادع اللّذيْن يتكرّران باستمرار، وعلى شراء الضمائر، وضربات الحظّ، والربح السريع والأقصى، وهي، علاوة على ذلك، تصيب بالعدوى بصورة متزايدة الآليّة الديموقراطية الفعليّة الباقية إذ أنّها تساهم، بشكلٍ خاصّ، في تحويل السياسة إلى نجوميّة اجتماعية peoplelisation.
تعمل حياة القطيع الافتراضي من خلال سَلسلَة الأفراد، المعرَّضين لاحتمالاتٍ عدّة لإشباع رغباتهم الأنانيّة والتي يتمّ إثارتها وإعادة تحريكها باستمرار. أعني بالسَلسَلة خسارة الشعور بالانتماء إلى (الـ)مجموعة (الـ)بشريّة، وظهور فوضويّة لدى أعضاء مجموعة واحدة، تقودهم إلى العيش كلّ واحدٍ لنفسه مع الشعور بالعداء تجاه الآخرين. وتساهم هذه السَلسَلة في أن يضع كلّ فردٍ من القطيع الافتراضيّ نفسه بحرّية تحت سيطرة مجموعة عروض تحقيق الرغبات.
ولحثّه على ذلك، يكفي عرضٌ للتفرّج، يمكنه مبدئياً أن يُرفَض أو يُقبَل ("مبدئياً" لأنّه غالباً ما يتمّ وضع الأولاد تقريباً بالقوّة أمام التلفزيون من قبل الأهل لكي يهدأوا). ففي حال قبل هذا العرض، شبه الإجباريّ، للتفرّج، يكون العضو في القطيع قد "وقع في الفخّ"، لأنّه سيتفرّج مُعتبراً بأنّه يشاهد التلفزيون بحرّية. حينها يتمّ تجييش إحدى ميّزات غريزة المتابعة البصرية هذه: عكس وجهة النظر، ما يسمح في النهاية ألاّ يعود المشاهد هو الذي ينظر إلى التلفزيون، بل أن يكون، واقعاً، التلفزيون هو الذي ينظر إلى المشاهد. ويجب طبعاً أن تكون عمليّة المعاكسة هذه غير مؤلمة قدر الإمكان.
كلّ شيءٍ ينطلق من عقدٍ كاذِب يعتقد المشاهد بموجبه أنّه قادرٌ على المشاهدة دون أن يراه أحد. من هنا، يولَد هذا الشعور بالقوّة الفائقة الأنانيّة التي تطال ذلك الذي يعتقد بأنّه "يقوم بما يريده" عبر مشاهدته ما يريد فعلاً مشاهدته. كون الإثبات النهائيّ على ذلك هي قدرته على تغيير القنوات على هواه. ولكن في الواقع، هذا المشاهد ليس فائق القوّة، بل بعيداً عن ذلك: إذ لا شكّ أنّه محطّ مُشاهَدة، بل هو محطّ تدقيقٍ أكثر مّما هو مُشاهِد. ولا ننسى أنّه ما من نشاطٍ إجتماعيّ آخر يتم تقييمه وقياسه أكثر من ذلك المرتبط بالممارسات التلفزيونيّة.
في الواقع، تسري الظاهرة نفسها على كافة تلك المجموعات الأنانيّة-القطيعيّة الجديدة. فحتّى مع الإنترنت، تسجّل العديد من البرامج-الجاسوسيّة المحليّة أو عن بعد، نظرة مستخدم الإنترنت من خلال كبساته على الفأرة، بطريقة تسمح بوضع رسمٍ آليّ يجعل من الممكن النظر إليه بكافّة أشكاله وعاداته؛ هكذا تسجّل العديد من العلب السوداء أدنى ردّات فعل المشاهد. وعندما ينظر يكون أيضاً محطّ أنظار.
التلفزيون هو إذاً عينٌ موجَّهة نحو كلّ عضوٍ أو مجموعةٍ من أعضاء القطيع. بالتالي إنّ القول الاعتياديّ بأنّني "أريد الإسترخاء قليلاً ومشاهدة التلفزيون" لهو مخادعٌ حقاً. لأنّه عندها، يكون الآخر هو الذي ينظر إليك، أنت، لكن ليس أنت فقط، كونه ينظر في الوقت نفسه إلى كلّ عضوٍ من القطيع. وطبعاً إنّ جميع عيون التلفزيون الخفيّة تلك، الموجَّهة نحو أعضاء القطيع الافتراضيّ، متّصلة في ما بينها. ما يشكّل شبكةً ضخمة، حيث كلّ فردٍ معرَّضٌ باستمرار ومراقَبٌ من قبل ما يَنظُر إليه. ويُقاد مباشرةً إلى المنابع، حيث يريده هذا الآخر أن يذهب ليقتات ويرتوي مع أمثاله في القطيع (ونعلم أنّه، بالنسبة للرئيس المدير العام للقناة التلفزيونيّة الفرنسيّة الرئيسيّة الذي قُبِلَ بعرضه لأنّه "الأفضل ثقافياً"، الأولويّة هي لمنابع الكوكا كولا).
يعمل التلفزيون إذاً على غرار "مُشتمَل بنتام" بالمقلوب. ففي مُشتمَل "بنتام"، وفق ما برهنه فوكو، "(كلّ واحد) مرئيّ لكنّه لا يرى"، بطريقة "تولِّد لدى المسجون شعوراً واعياً ودائماً بأنّه محطّ الأنظار، ما يجعل آليّة السلطة تعمل بصورة أوتوماتيكيّة [12]." هنا، تفنّنٌ إضافيّ (هذا هو التطوّر): لا أحد مرئيّ، لكن كلّ واحدٍ محطّ أنظار هذا "الآخر" الأعمى الكبير الذي ينظر إليه. وفي الواقع، لم يعُد يقتصِر الأمر بالنسبة لهذا الآخر على مشاهدة كلٍّ من الأعضاء من مركز الرؤيا المركزية نفسه، لكن أن يجعل كلاًّ منهم ينظر في إتّجاهات محدَّدة جداً، وهي تلك التي تعد بالسعادة من خلال التحقيق المعمَّم والأوتوماتيكيّ للحاجات، طبعاً المجدوَلة بشكلٍ لائق... والمتوقَّعة.
* فيلسوف، أستاذ في العلوم التربويّة في جامعة باريس 8، ومدير برامج في المعهد الدولي للفلسفة؛ من مؤلّفاته: On achève bien les hommes, Denoël, Paris, 2005. نشر مؤخراً كتاب:Le Divin Marché. La révolution culturelle libérale, Denoël, Paris 2007.
[1] مفهوم "الصناعات الثقافيّة" عائدٌ لتيودور و.أدورنو الذي لا يزال تحليله النقديّ للصناعات الثقافية Kulturindustrie معاصراً جداً. الاطّلاع مثلاً على كتابه Philosophie de la nouvelle musique [1962], Gallimard, Paris 1985, p. 15-17.
[2] التعبير وارد في تقرير لجنة تحقيق مجلس الشيوخ الفرنسيّ حول "جنوح القاصرين" (26 حزيران/يونيو 2002): "دخل التلفزيون حياة العائلات إلى حدٍّ كبير، وهو يلعب دوراً كبيراً في حياة الأولاد اليوميّة لدرجة أنّه يمكننا، دون مبالغة، الحديث عن "وليّ أمرٍ ثالث" للدلالة عنه www.senat.fr/rap/r01-340-1/r01-340-... .
[3] في أوروبا، بين ثلث وثلثي الأولاد أصبح لديهم جهاز تلفزيون في غرفهم . راجع: Sonia Livingstone et Moira Bovill, Children and young people in a changing media environment, Lawrence Erlbaum ed., Londres, 2001.
[4] Ray Bradbury, Fahrenheit 451, Denoël, Paris, 1966.
[5] كون المروّجين لأوّل برنامجٍ من هذا النوع قد أطلقوا عليه إسم Big Brother (في هولندا، العام 2000) يشير إلى أيّ مدى أصبح النقد السياسيّ المُقذٍع الذي تضمّنته رواية أورويل، 1984، مُنكَراً.
[6] Laurent Fonnet, La programmation d’une chaîne de télévision, Dixit/DESS Communication audiovisuelle Université Paris I, Paris, 2003
[7] Les Dirigeants face au changement, éditions du Huitième Jour, Paris, 2004.
[8] Bernard Stiegler, Aimer, s’aimer, nous aimer du 11 septembre au 21 avril, Galilée, Paris, 2003. p. 30.
[9] Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique [1840] Œuvres II, Gallimard, Bibliothèque de la Pléiade, Paris, 1991.
[10] Bernard Stiegler, Mécréance et discrédit I, 2 et 3, Galilée, Paris, 2004-2006.
[11] كان إدوارد برنايز، ابن أخي زوجة فرويد، يرسل كتبه لزوج عمّته. وقد بقي على تواصلٍ مستمرٍّ مع فرويد لترجمة أعمال هذا الأخير ونشرها في الولايات المتحدة.
[12] Michel Foucault, Surveiller et punir, Gallimard, Paris, 1975, p. 234. السجن المُشتمَل Panoptique الذي ابتدعه جيريمي بنتهام، هو ذلك الذي يقف فيه الحرّاس داخل مرقبٍ يتمّ إبقاؤه في العتمة، ويتمّ تشييده في النقطة المركزيّة لمساحةٍ دائريّة مرتفعة حيث يتمّ توزيع زنزانات ذات قضبان حديديّة، مُضاءَة بقسوة، على عدّة طوابق. هكذا، يمكن رؤية عددٍ كبيرٍ من المساجين من قبل حارسٍ واحد، دون أن يعلم أيّ واحدٍ إن كان فعلاً مُراقَباً.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 01-21-2008, 04:07 PM بواسطة ابن سوريا.)
|
|
01-21-2008, 04:05 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
العيش كالقطيع مع الشعور بالحريّة
الأعزاء نيوترال، سيناتور، آورفاي؛
شكراً لمروركم وإثرائكم الموضوع بآرائكم، وسأعود لها لاحقاً.
الآن اسمحوا لي بنقل هذا المقال الذي يدور حلو ذات المحور الديمقراطي، رغم أنه يتطرق بشكل أخص لحالة الديمقراطية الفرنسية.
المقال نُشر في اللوموند ديبلوماتيك لهذا الشهر (كانون الثاني/ يناير 2008)
الديموقراطية بين الدمار وإعادة الإعمار
جيريمي ميرسييه
في حين أضحت المرجعية المفترضة للخطابات والممارسات السياسية، يمكن القول إن الديموقراطية في أزمة. فقد انبعثت مجدّداً التصرفات الأوليغارشية معتمدةً على العولمة الاقتصادية: من إملاءات المؤسسات المالية الدولية إلى السياسات المُلزِمة للاتحاد الأوروبي، إلخ. وفي فرنسا تعمل المؤسسات السياسية منكفِئة على نفسها. فإلى متى ننتظر مؤسسات ديموقراطية تنقذ المواطنين؟ إنما أيضاً إلى متى ننتظر مواطنين أحرار ينقذون الديموقراطية؟
ودومينيك روسو، أستاذ القانون الدستوري في مونبولييه، في كتابه "الجمهوريّة الخامسة تموت، فلتعِش الديموقراطية!"، يتناول تحديداً المؤسّسات الفرنسية بالنقد! وفي الواقع تتعلّق الميزة الأولى للأزمة الحالية بالصعوبة الرهيبة لإيصال رغبات الشعب إلى زعمائه. وهذا ما تُمكن تسميته الانقطاع المؤسساتي. إذ يحلّل المؤلّف اهتراء نظامٍ سياسيّ ليس فيه أيّ قوة توازُن مقابل السلطة الحاكمة، التي لا تخضع لأي رقابة ولا تحسّ بأنّها مسؤولةٌ أمام الشعب السيّد الحرّ. وتتناسى هذه السلطة كلّياً اهتمامات المواطنين الذين باتوا هم بدورهم غرباء أكثر فأكثر عن مؤسساتهم.
فمنذ ثلاثين سنة مضت [1]، والسياسيون يرفضون مساءلتهم عن خياراتهم. ومن بين الأمثلة الكثيرة التي يسوقها روسو على ذلك: "عندما يطلب الرئيس من الشعب أن يوافق على سياسته الأوروبية، وعندما يخسر الرئيس الاستفتاء ولا يستقيل إثر ذلك (عام 2005)، فهذا يعني أنّ المؤسسات لا تؤمّن الترابط، الأساسي في النظام الديموقراطي، بين القرار والمسؤولية"(ص 11). ويؤكّد عدم إخضاع المعاهدة الأوروبية الجديدة، الموقّعة في لشبونة في 13 كانون الأوّل/ديسمبر عام 2007، للاستفتاء، هذا الرفض لتأدية الحساب أمام الشعب.
ويسترجع المؤلّف جذور أزمة الثقة بين الحكّام والمحكومين. إذ تكمُن هذه الأزمة في مؤسّسات الجمهورية الخامسة التي تكسر العلاقات السياسية. ويستمرّ دستور العام 1958 حتى اليوم في إنهاك الديموقراطية. فليس من شأن هذا النظام المؤسّساتي، الذي نشأ من حركة تمرّد عسكرية [2] إلاّ أن يقيم المواجهة بين فرنسا "من تحت"، المتمرّدة لكن المهمَلة، وبين الهيمنة الرئاسية التي كرّسها إصلاح العام 1962 [3]، حتى "يصل الأمر بالتتويج الشعبي إلى لعب دور التتويج الملكي (على شاكلة تتويج الملوك في مدينة رانس في العهود القديمة)!"(ص 172). وإذا كان الطموح الديغولي قد هدف إلى تزويد فرنسا أخيراً "بمؤسساتٍ كانت تنقصها منذ العام 1789" فإن الجمهورية الخامسة قد طوّرت مبادئ مناقِضة لفكر عصر الأنوار، بتجرّؤها على مبدأ فصل السلطات على الأخصّ. ذاك أن الرئيس، الذي لا يُمكن أن يكون بالنسبة إلى الشعب "حاكماً مأسوراً" [4]، يستفيد من تمركز السلطات ويمكنه الاستغناء عن شرعية الجماعة، فالمسؤولية السياسية تتلاشى عندما يبقى رئيس الدولة في موقعه بالرغم من حالات الفشل الانتخابية أو التشريعية أو الاستفتائية [5].
فمن نصوص المواد 38 و49-3 إلى التقليص المنتظم لدور البرلمان، الذي لم يعُد يتحكّم حتى بجدول أعمال جلساته، مروراً بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، كلّ هذا أو تقريباً، وضمناً أولويّة القانون الأوروبي على القانون الوطني، يضيّق مجرى شرايين الديموقراطية. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، لا فرانسوا ميتران ولا جاك شيراك ولا حتّى نيكولا ساركوزي، الذي يحاول أن يحكم عبر استطلاعات الرأي، قد عمل على فكّ هذه العقدة. ودومينيك روسو، إذ يحدّد بعض المعالم لـ"دستور المواطنين"، يربط بين تفكيك النظام المؤسساتي ونتائجه: تفكيك النظام الاجتماعي والانكفاء على ما هو مجتمعيّ.
"إن ما يصنع الديموقراطية الحقيقية ليس الاعتراف بتساوي الناس، إنّما بتحقيق ذلك بينهم".
وبحسب المؤلّف إن المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية المتأزّمة تؤذي مباشرةً حياة كلّ مواطنٍ بحرمانه وضعه كـ"بالغ دستورياًmajeur constitutionnel "(ص 324). وعندها يحلّ مكان الناس المتساوين في الحقوق أفرادٌ منفصلون بفوارق الجنس والعمر والأصل والمحفظة المالية... والحال أنّه "وفي استعارة من سيمون دو بوفوار، لا يولد المرء مواطناً، بل هو يصبح كذلك و(...) لكي يصبح مواطناً يحتاج المرء إلى المؤسسات التمثيلية"(ص 318). وتصبح المهمّة صعبة عندما يحلّ الجزائي مكان الاجتماعي، وحين يتمّ إفراغ الفصل بين السلطات من معناه. أساساً ومنذ القرن التاسع عشر، أطلق ليون غامبيتا (1838-1882) صرخته في مجلس النواب: "إن ما يصنع الديموقراطية الحقيقية ليس الاعتراف بتساوي الناس، إنّما بتحقيق ذلك بينهم".
وفي هذا المجال يأتي كتاب القاضيين "جيل سايناتي" و"أولريخ شالشلي" مفيداً جدّاً. ففي كتابهما "الانحطاط الأمني (La Décadence sécuritaire)" يبيّنان انكفاء المؤسسة القضائية التي باتت مغلقةً وصمّاء، بالنسبة إلى ما هو أساسيّ، إزاء الدواعي الديموقراطية والاجتماعية. وفي حين أن هذه المؤسّسة هي من الأكثر فقراً في الدول الغربية، فإنّ كبار المسؤولين في الدولة قد أضعفوها أكثر فأكثر وذلك بإخضاعها، كما في حال سائر الدوائر الرسمية، لدواعي الربح وهوس المردودية [6]. وتدريجياً تلقّت السلطة القضائية بذلك هيمنة الانشغالات الأمنية المستوردة من الولايات المتحدة.
هذا الانحراف، والذي يمكن أن يكون شعاره الرمزي "من يسرق بيضة يسرق بقرة"، أحلّ خشية الآخر ومطاردة العدو الداخلي (ص 21) مكان الحوار الاجتماعي وتحديد الحيّز المشترك. ويلفت المؤلّفان إلى أن لا شيء أكثر غرابةً من ذلك إذا ما تذكّرنا أن الحقّ في الأمان قد قال به ثوريو العام 1789 كـ"ضمانة للأفراد في وجه تعسّف السلطة وعملائها"... فعندما يقطع "الأمن" رأس العدالة باسم "عدم التساهل المطلق" ويحلّ مشاكل التقصير الاجتماعي بالردّ عليها بما هو جزائي (ص 38)، يصبح القاضي مجرّد كاتب عدل بين يديّ المدعي العام (ص 43). وفي ظلّ هذه الظروف هل يبقى هناك مكانٌ لوجود سلطة رسمية شرعية؟
كيف يمكن تقدير الصفة التمثيليّة لفاعليات المجتمع المدني ؟
وفي أساس العدالة كان هناك الإنصاف، والإنسانية في قاعة المحكمة، وحقّ الدفاع أو افتراض البراءة. أمّا اليوم فقد اختارت النُخَب الحاكمة الرقم وإفقار مؤسّسة العدالة. ويكشف سايناتي وشالشلي، وهما عضوان في نقابة القضاة، الغطاء عن آليات القمع من مختلف الأنواع ضدّ "الأوباش" وتوتاليتاريّة الفعاليّة والتعصّب الاجتماعي والتعسّف البوليسي (ص 101). وإذا لم تكن دولة القانون أبداً كافيةً لإقامة الديموقراطية فإنّ الإلحاح على العقاب والتعطّش إلى مراقبة الجماهير لا تني تقضي على الأخلاقيات. فهل يجب الانصياع لمصادرة هذا الحيّز العام من جانب تقنيين إداريين للآلية الانتاجية؟
كلا، وذاك لأنّه، وفي رأي الصحافيَيْن وعالمَيْ الاجتماع "آن دوكوا ومارك هاتزفيلد"، "بمعزلٍ عن الدقائق العادية في الحياة اليومية، فإنّ الجماعة لم تتوانَ أبداً عن استعادة السلطة السياسية". كلٌّ يحاول أن يمنح الديموقراطية لوناً جديداً عبر سلسلة من التجرّؤات التشاركيّة. وما همّ إن صودرت المؤسّسات وأُعيقت عملية الفصل بين السلطات واستنفذت عملية التمثيل السياسي وانهار النظام الاجتماعي؟ إذ إنّ إرادة المواطنين السياسية تبقى عصيّةً على الإدارة المنهكة للسلطة؛ حتىّ أنّ هذه الإرادة توازن الانحرافات المؤسساتية وتعوّضها بديناميات جديدة في الأحياء والبلدات والتربية الشعبية وبإحياء أشكال التضامن ما وراء الحدود.
الديموقراطية التشاركيّة، التي تكافح الزوال التدريجي للرابط الاجتماعي، تغرُف من معين الفهم "الجوريسي" (نسبةً إلى جان جوريسJAURÈS ) للحياة المدنيّة المرتبط بمشاركة الشعب والتواصل المباشر معه [7]. ويمكنها بحسب ما يشدّد عليه الكاتبان أن "تعطي مجال الكلام لأولئك الذين لا حقّ لهم في التصويت (ص 126). كما يمكنها أن تطوّر التعاون بين الشعوب وتشجّع الإصلاحات السياسية والبيئية والاجتماعية والمصلحة العامة التي تعزّز كلّها حسّ الديموقراطية.
لكن إذا كانت حياة الجمعيات والمعارك التي تخاض من أجل الكرامة الإنسانية ضرورية بالنسبة إلى الديموقراطية، فإنّها تساهم أيضاً في بعض الضبابيّة السياسية التي يصل بها الأمر، كما في "النُزُل الإسباني"، إلى السماح بالشيء وضدّه. وهذا ما ينطبق على مفهوم "المجتمع المدني" كما شرّحته "جان بلانش". فهذا المجتمع الذي يلتقي فيه المواطنون طوعاً يضمّ خليطاً من المنظّمات غير الحكومية والجمعيات أو النقابات إضافة إلى الكنائس ووسائل الاعلام ومجموعات الضغط (اللوبيات) الاقتصادية، إلى جانب زوجة الرئيس والجوقات الموسيقيّة والقائد المساعد ماركوس (ص 35). وهكذا يمكن للمجتمع المدني أن يساهم في دمقرطة المؤسسات كما في القضاء عليها!
وإذا كان عمل الخبرة "المواطنيّ"، كذلك الذي تتمنّى جمعيات عديدة تطويره [8]، ينعِش الديموقراطية حُكماً، فإنّ شجرة استمزاج رأي المجتمع المدني يمكن أن تخفي وراءها غابة السياسات الأكثر رجعيةً. فمؤلّفة كتاب "المجتمع المدني، فاعلٌ تاريخي في الحاكمية" توضح ضبابيّة هذا المفهوم، الذي ليس هو فاضلاً حُكماً بطبيعته. فهل من المستغرب أن تصبح "هذه الضبابية ذات الحدود الغامضة" (ص 95) التي تحبّذ في أفضل الأحوال المصلحة العامة بدون تبصّر، وسيلةً يمسك بها البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي بغية الحلول بهدوء مكان السيادة الشعبية وتصويت المواطنين؟ ألم يُعتَمَد الدستور الأوروبي، الذي كان قد رفض عبر الاستفتاء في دولتين أوروبيتين، من جديد بعد استطلاع رأي "المجتمع المدني"؟ فكيف يمكن تقدير الصفة التمثيليّة لفاعليات المجتمع المدني المزعوم، التي غالباً ما تفرض نفسها على الساحة السياسية عبر موازين قوى صرف، ليست شرعية المطالِب فيها سوى معيار من بين معاييرٍ أخرى؟
ثمّ ألا يعني المجتمع المدني، باحتوائه لائحة لا نهاية لها احتمالاً من الفعاليات، الخضوع بكل بساطة لقوانين مرحلة ما بعد الحداثة الظافرة؟ وهو بذلك يُستعمل لمزيدٍ من تفكيك وحدة القواعد الديموقراطية والحيّز العام الملازم لقيامها. أفليس تدمير "الشعب demos" هو هدف عمالقة المال بذريعة "الحكم الصالح والرشيد"؟
تلك هي الفرضية التي يدافع عنها مؤلفو كتاب "الحاكمية: ديموقراطية بدون شعب؟". فهم يحلّلون في آنٍ معاً مفاهيم الحاكمية والمجتمع المدني. وهم بعد أن يلفتوا الانتباه إلى أنّ هذه "الصحن الطائر المفهوميّ" الذي يسمّى "المجتمع المدني" يحاول الانفتاح لكي ينجح في إغلاق الأشياء، يقولون بأنّه يُعزّز الليبرالية الاقتصادية. وفي الواقع إنه يندرج ضمن رؤية إلى العالم حيث المجتمع يمتصّ بطريقةٍ او بأخرى قصور دولة تتخلّى تدريجياً عن التزامها بأيّ مصلحة عامة، لتبقى ضامنةً فقط للاستقلالية الخاصّة بالأفراد. هكذا يعود المواطن تابعاً ولا يبقى السياسي مرجعيّة الديموقراطية بل المفاهيم الموهومة للاجتماعي الصرف. ولا تعود المشكلة في التساؤل عن أيّ حكومة يحتاجها المجتمع، بل بالأحرى في معرفة كيفية العمل دون حكومة (ص 96-142) [9].
والمجتمع المدني، كما الحاكميّة، ينمّ عن "نوع من الريبة العميقة تجاه المبادئ التي تحكم السيادة (الوطنية كما الشعبية) وتجاه الدولة كونها الضامن إزاء التحالفات الممكنة دائماً بين الهيئات الحرفية المنكفئة إلى انطوائيتها النفعيّة" (ص 175). والحال أنّه عندما يتمّ إنكار الشأن العام ألا يصل الأمر إلى إنكار الحريات الجوهرية؟ ذاك أن ممارسة "الحاكمية" عبر تقديم المجتمع المدني وخليطه من سياداته المتعدّدة المتناقضة، يعني في نظر المؤلّفين الفلاسفة والقانونيين، تهميش الديموقراطية عبر تهميش المواطنين والنوّاب والسلطات العامّة. وفي حين أن العولمة لم تكن يوماً على هذه الدرجة من القوّة، فإن الخضوع "لليد الخفيّة" لم يكن يوماً مقصوداً إلى هذه الدرجة. ألا يوجد إذاً سوى "سياسة واحدة ممكنة"؟ وفي حين أن الديموقراطية مهدّدة بالانهيار، فإنّ الانكفاء على التدفّق المجتمعي و"الحاكمية الصالحة" هو نوعٌ من الهجوم المباشر على الطموحات المدنيّة لمشروع الجمهورية.
وإذا كان نظام العولمة الليبرالية قد لاءم تماماً دعوى الجمهورية الخامسة عبر إعادة صياغة الكلمات، وعبر التدافع بالمرافق لإزاحة الشعب خارج دوائر القرار، فإنّ هناك حلاً وحيداً موثوقاً: هو وضع دستورٍ جديد. البعض يرى أنّه لا يجب طرح هذه الفكرة أبداً. وهؤلاء هم من قوى المال التي تريد دولةً خاضعة للاقتصاد ولمؤسسات غير مرتبطة بالشعوب ومنقادة للطبقات المالكة. فيما يقول البعض الآخر أنّه ليس طرحها فقط ممكناً وحسب بل أنّه حيويّ اليوم، هؤلاء هم المتمسّكون بالحقوق الأساسية والرافضون للرؤى الحتمية. ذاك أنّه، وبحسب ما يعبّر عنه عددٌ من مؤلّفي الكتاب المشترك "أيّ جمهورية سادسة؟"، يجب أن يعود الشعب سيّد نفسه، أي مجتمعاً سياسياً حرّاً ينظّم شؤون مصيره بدون أن يتلقّى القانون الحديدي للوصفات الليبرالية. فالمصير المشترك هو ملكٌ له، وله وحده فقط. والمؤسسات التي توظّف إرادته يجب أن تضمن التمثيل الفعلي للجسم الاجتماعي.
إذن هل تسير الأمور في اتجاه تمرّدٍ شعبيّ أم نحو إعادة صياغة مؤسّساتية بعد تصادم الأفكار فيما بينها؟ يرفض الوزير الشيوعي السابق "آنيسيه لوبور"، في مساهمته في كتاب "أي جمهورية سادسة؟" هذه الفكرة البسيطة المضطربة حتى عن الجمهورية رقم كذا، التي لن تكون سوى صورةً عن الجمهورية الخامسة. وهو بذلك ينتقد مشروع النائب الاشتراكي "أرنو مونتوبور" المروّج لجمهوريةٍ سادسة. وفيما يدعو البعض إلى انتخاب مجلسٍ تأسيسي غايته تنظيم عملية تغيير جذرية للنظام [10] يقترح لوبور إجراء إصلاحات هادفة. وهو يقترح على الأخصّ، وعلى غرار المحامي "رولان وايل"، إصلاحاً لوضع رئيس الدولة (ص 130): انتخابٌ من قبل مجلسٍ وولاية واحدة غير قابلة للتجديد.
وبالنسبة إلى هؤلاء المؤلفين يجب الاختيار: إمّا البرلمان وإمّا الرئيس؛ إما إيكال السلطة إلى حاكمٍ معصومٍ شبه ملكيّ وإمّا نظامٌ برلمانيّ يعطي الأفضلية لمجلس مداولات لا يعمل إلا تحت رقابة المواطنين الدائمة. وقد كتب لوبور على الأخصّ ما يلي: "ليس من الممكن أن يقوم مصدران متنافسان للشرعية من أجل التمثيل الوطني والشعبي. والحال أنّه في فرنسا، ولأسبابٍ تاريخية ونتيجة لعبة السلطات الطبيعيّة تتفوّق دائماً شرعية الرئيس المنتخَب بالاقتراع العام على الشرعية التي يشترك فيها مئات النواب المنتخبين محلّياً وفقاً لنظام الأغلبيّة. يجب الاختيار إذن، إمّا البرلمان وإما الرئيس. فكيف يمكن التأكيد على أنّ هذا الإيكال الجماعي للسيادة التي يمثّلها انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام هو ملائمٌ لخطّ القوة التقليدي الذي أتي من عصر الأنوار؟ لذلك فالخيار المعتمد هنا يجب أن يكون خيار النظام البرلماني"(ص131).
وفي نظر المؤلفين إن الرئاسة السامية هي حتّى نقيض الديموقراطية. فهي تنخر حتى العصب النقاش السياسي وتشرّع تفكيك المؤسسات، التي لم تعد تترجم مطالب الشعب الفلسفية والاجتماعية.. وعلى كلٍّ هذه الرئاسة السامية هي التي تصورتها اللجنة الاستشارية التي رئسها في العام 2007، بناءً على طلب الرئيس ساركوزي، رئيس الوزراء السابق إدوار بالادور.
والعيش بحرّية، يعني ضمناً في الديموقراطية قوانين وقوى موازنة، وتوازن في السلطات وحكّامٌ هم، وفق كلمة كوندورسيه، ممثلون فعليّون للشعب. واليوم يجب التعلّم من جديد كيف تعاش الحريّة عبر الإطاحة بالوهم التكنوقراطي القائل بأنّ الديموقراطية هي مسارٌ طبيعي، كما المجتمع أو النظام الفيزيائيّ. وفي الواقع إن واضعي كتاب "أيّ جمهورية سادسة؟" يبرهنون أنّها تُبنى بإرادة الشعوب وأنها تتمأسس بوسائلٍ قانونية وسياسية عبر رفض التبعية، كما في زمن إعلان الجمهورية بعد "فالمي" في 22 أيلول/سبتمبر عام 1792 (ص 164). وفي نظرهم إنّ تصحيح وضع المؤسسات في إطار الدولة القومية "يبقى هو المستوى الأكثر ملاءمةً لتمفصل الخاص مع العام" (ص 138).
عولمة تشجّع التشنّجات في الهويّة والارتداد التراجعي إلى الجماعات الطائفيّة
دولة أمّة أم لا، فإنّ الفيلسوف ريجيس دوبريه يتخوّف (في كتابه "وهمٌ معاصر: حوار الحضارات") من نظام عولمةٍ يفاقم من التشنجات بين الجماعات. وهذه العولمة، بتطوّرها بواسطة التقانات والاقتصاد، ليس من شأنها إلاّ أن تشجّع حالات التقهقر الكياني في الهويّة. وهو في طريقه يندّد بأشكال التعصّب الديني وبـ"وزارة الإدماج والهوية الوطنية والهجرة" غير الفرنسية كثيراً بمفهومها. ويحلّل دوبريه، بخطوةٍ بارعةٍ كعالمٍ في مجال التواصل الإعلامي هذا "العالَم الأوحد" المعولم الذي "يتبيّن أنّه بلقنةً سياسيّة حضاريّة" تطبع "المجتمع المدني" بطابع الجماعات الطائفية أو الإتنية.
لكن أليس أنّ المؤسسات الديموقراطية، وبتفاديها تحديداً أن تجعل "منّا" قيماً مُقلقة، تستبِق عودة هذه الشعلة المؤثّرة؟ أليست هي المؤهّلة أكثر من غيرها لكي تقول "كلاّ" لهذه المبالغة في المخاتلة التي تقطع كل حيّزٍ سياسي؟ وما يخشاه الكاتب هو ما يصفه عن حقّ بالمفعول الرجعي أو "بالركض الفردي" ويعني مواصلة الانحرافات الإمبراطورية التي تنزلق من خلالها أمّة من وضعها الفعّال بالانتخاب إلى وضعٍ إتني ومن المواطنية إلى أخوّة الدم.
وحدها المؤسسات التي تحمل الأصوات المتناقضة لمجموع المواطنين هي التي تحمي من انقلاب السياسة إلى مواجهات إتنية أو دينية. وقد باتت أزمة المؤسسات وأزمة التمثيل السياسي وأزمة الدلالات اللغوية وعودة الحالات الظلامية بقوّة تشكّل مختلف أشكال الانعكاسات التي تنزلها بالحيّز العام المأزوم جماعة العولمة التكنو-اقتصادية الأمّيون في اللغة الديموقراطية ظاهرياً.
لكن المواطنين، وبحسب ما يتبيّن من غزارة المؤلّفات المخصّصة لتجديد الديموقراطية، لا يبدون مستكينين. إذن إلى متى ننتظر "ديموقراطية المواطنين" وإلامَ انتظار الدستور الجديد؟
* باحث في مجال الفلسفة، شارك مع أندريه بيللون وإيناس فوكونييه وهنري بينا-رويز في تأليف:Memento du Républicain, Mille et une nuits, Paris, 2006
[1] أي منذ استقالة الجنرال ديغول في 28/4/1969 عند الدقيقة العاشرة بعد منتصف الليل، وبعد ساعاتٍ من الـ"لا" التي قالها الشعب الفرنسي لإصلاح نظام مجلس الشيوخ كما اقترحه، وبعد أحد عشر عاماً من الحكم دون انقطاع.
[2] لقد رجع الجنرال ديغول إلى الحكم في العام 1958 في سياق أحداث الجزائر (الحرب الاستعمارية والتوترات بين المستعمرين المستوطنين والعاصمة).
[3] في العام 1962 تكرّس انتخاب رئيس الجمهورية بالانتخابات العامة المباشرة بعد عملية إصلاحٍ دستوريّ أقرّت في العام 1962 بواسطة الاستفتاء.
[4] بحسب كلمة اندريه تارديو في العام 1936.
[5] اقرأ: أندريه بيلون: "هل نغيّر الرئيس أم نغيّر الدستور؟"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آذار/مارس 2007، http://www.mondiploar.com/article87...
[6] القانون الأساسي الخاص بالأنظمة المالية الصادر في 1/8/2001، حدّد الإطار القانوني لأنظمة مالية الدولة عبر نشر منطقٍ تنافسي في القطاع العام بغية ضغط انفاقاته. راجع: http://www.performance-publique.gouv.fr/
[7] وكذلك جان جوريس والتعاونية الاجتماعية في خطابه في 30/7/1903.
[8] منها:Association pour la taxation des transactions financières (Attac), Fondation Copernic, Réseau des écoles de citoyens (Recit), etc.
[9] وهذا ما ينطبق أيضاً على تقرير "شيرتييه" الذي أوكل دومينيك دوفيلبان أمره في العام 2006 إلى المستشار الاجتماعي السابق للسيّد جان بيار رافاران، وفيه أنّ الدولة يمكنها أن تصادق في مجال الأنظمة على قرارات الشركاء الاجتماعيين دون المرور أبداً تقريباً بالنواب... المنتخبين وممثلي الشعب، وهكذا لا يبقى البرلمان وحده السلطة التشريعية...
[10] حول هذا النقاش راجع أيضاً نظرات جماعة "ريبوبليك!"(الجمهورية) على موقع: http://www.le-groupe-republique.fr/
كتب
DOMINIQUE ROUSSEAU : La Ve République se meurt, vive la démocratie (Odile Jacob, Paris, 2007, 334 pages, 23 euros)
GILLES SAINATI ET ULRICH SCHALCHLI : La Décadence sécuritaire (La Fabrique, Paris, 2007, 105 pages, 14 euros)
ANNE DHOQUOIS ET MARC HATZFELD : Petites Fabriques de la démocratie (Autrement, Paris, 2007, 214 pages, 19 euros)
JEANNE PLANCHE : Société civile. Un acteur historique de la gouvernance (Charles Léopold Mayer, Paris, 2007, 146 pages, 20 euros)
MADELEINE ARONDEL-ROHAUT ET PHILIPPE ARONDEL : Gouvernance. Une démocratie sans le peuple ? (Ellipses, Paris, 2007, 186 pages, 16 euros)
OUVRAGE COLLECTIF : Quelle VIe République ? (Le Temps des cerises, Pantin, 2007, 169 pages, 12 euros)
RÉGIS DEBRAY : Un mythe contemporain : le dialogue des civilisations (CNRS Editions, Paris, 2007, 62 pages, 4 euros)
|
|
01-28-2008, 11:52 AM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|