(المصدر : محمد كامل البنا : بيرم كما عرفته، ومحمد العتر : ألحان مصرية، نقلا عن مجلة الجراد، القاهرة، يوليو 1994، ص107 وما بعدها)
"سورة السـتّـات"
"يا أيّها المحافظ إذا أبصرتم النّساء يقصّرن ملابسهنّ، ويبدين صدورهنّ، فأصدروا لهنّ منشورا، ألاّ يتخطّطن ويتحكّكن ويقوّرن الثّوب تقويرا. إنّما الأحمر والأبيض والكحل والأقلام زينة من عمل الشّيطان، وليست شيئا مشكورا. صنعة الله التي تعجب المتّقين من الرّجال، ولا يعجب الأحمر إلاّ رجلا غفيرا. وقـل للمتزوّجات يسترن أفخاذهنّ، ويغطّين سمانات أرجلهنّ، ولا يلبسن فستانا قصيرا. ذلك بأنّهنّ تزوّجن، ومن تتزوّج فقد فازت فوزا كبيرا. العانسات والأبكار يغسلن وجوههنّ، ويمشّطن شعورهنّ، ولا يضعن جبسا ولا جيرا. ليعلم الذين يخطبون ذات البعل وغير ذات البعل وكفى بذلك تفسيرا. ما كان لرجل يتبع المرأة وهو مؤمن، إنّ الرّجل كان خنزيرا. يا نساء الشّعب إن يملك منكنّ الرّجال أغراضهم فلن تتزوّجن أبدا، ولو أعجبتهنّ كثيرا. الرّاقصون للرّاقصات، والصّرماحون للصّرماحات، والمعلّمون للمعلّمات. ولا تتزوّج شريفة خنزيرا. حرّمت على المؤمنات السّمكة والأساور من القشرة والحجل، وما جعل الله من أرجلهنّ جنزيرا."
"سورة أربعين سعد زغلول"
(المصدر نفسه)
"يس، والدّستور العظيم ذكر ما أنزل على مصطفى وفريد، وما أوحي إلى الزّعماء من لدن عزيز عليم. قالوا ربّنا هب لنا قوّة، وامددنا بجرائد وأحزاب، وجنّبنا القوم الرّجعيّين. إذ خطب مصطفى قومه وكانوا غافلين، ألاّ تجعلوا في الوطن شركاء آخرين، يسعّرون قطنكم، ويعلّمون أبناءكم، إن هذا هو الخسف الكبير. ثمّ اصطفاه ربّه كما اصطفى عيسى بن مريم عن ثلاث وثلاثين. أمّا فريد فكان من أولي العزم إذ ابتلاه ربّه ببرلين. قال ربّ إنّي بلي الثّوب منّي، ولا أجد الخيط الأبيض ولا الخيط الأسود، وأنت على ذلك شهيد. وكان ثلّة من آل فرعون يعيثون في الدّيار، يقامرون ويرقصون مع الرّاقصين، فما سندوه وما نصروه، ومات من الجوع وهو زعيم. وكم من زعماء ماتوا وهم يشحذون. ألا إنّ آل فرعون قوم منحطـّّون. ما كان سعد وفديّا ولا دستوريّا، ولكنّ مصريّا كالمصريّين. فمن اتّبع هداه جعلناه خليفة في الأرض، وإنّا له لمصوّتون. فإن تولّوا فالذي توفــّى سعدا يأتي بأربعين، وما ذلك عليه بعزيز."
إنّ مثل هذه المحاكاة السّاخرة للنصّ القرآني قديمة في التّراث العربي. وقد سقنا بعضها في مقال سابق بعنوان "مسلمون يجامعون بالقرآن والنحو والبيان"، وتمثّلنا بنصّ من كتاب السّيوطي"رشف الزّلال من السّحر الحلال". ويمكن أن نشير أيضا إلى كتاب المعرّي"الفصول والغايات" الذي يرى فيه البعض ومنهم الباكستاني طارق علي"تقليدا ساخرا من القرآن"، برغم أنّه ـ على ما يتهيّأ ـ لنا سخرية خفيّة أو مراوغة، لأنّ الكتاب في ظاهره تمجيد للذات الإلهيّة. غير أنّ المحاكاة السّاخرة تتجلّى أكثر في شعر العرب. ومن الصّعوبة الإلمام بها في حيّز كهذا، ونقتصر منها على هذا الشعرالذي نحا فيه أبو تمّام منحى القصص القرآنيّ. من ذلك ما جاء في أخبار أبي تمّام، فقد نقل الصّولي عن علي بن محمّد الجرجاني، قال : "اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائر، ومعنا أبو تمّام، فحجبنا أيّاما فكتب إليه أبو تمّام :
أيّهذا العزيز قد مسّنا الضّرّ وأهلـنا أشــــــتات
ولنا في الرّحال شيخ كبير ولدينا بضاعة مزجـــاة
قلّ طلاّبها فأضحت خسارا فتجاراتنا بــها ترّهــات
فاحتسب لنا الأجر وأوف لنا الكيل وصدّق فإنّنا أمـوات
فضحك عبد الله لمّا قرأ الشّعر، وقال : قولوا لأبي تمّام: لا تعاود مثل هذا الشّعر، فإنّ القرآن أجلّ من أن يستعار شيء من ألفاظه للشّعر". والحقّ أنّ أبا تمّام استعار في هذه الأبيات الهزليّة، لا الألفاظ والقوافي فحسب، بل القصّة كلّها كما جاءت في الآيات التي تخيّرها من سورة يوسف. ومثال ذلك الآية الثّامنة والثّمانون "فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين"، والآية الثّامنة والسّبعون : "قالوا يا أيّها العزيز إنّ له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين". وإذا كان أبو تمّام احتفظ بالصّيغة القرآنيّة كما هي، في بعض هذه الأبيات، فإنّه يصرفها إلى جهة من جهات القول، غير متوقّعة، في أبيات أخرى؛ من ذلك العبارة القرآنيّة "بضاعة مزجاة"، فهو يصرّفها بحيث توائم غرضه في تقريظ شعره وأنّه نهاية في الجودة. قال التّبريزي إنّ أصل " الإزجاء " هو السّوق، من أزجى النّاقة إذا ساقها ؛ ثمّ نقل ذلك إلى البضائع فقيل : " بضاعة مزجاة"، أي معجّلة أو ليست بالطّائلة أو قصّر صاحبها في اختيارها وتهذيبها. وقال : وإنّما أراد أبو تمّام أنّ بضاعته نهاية في الجودة.
ونعود إلى بيرم، وقد حجزنا الاستطراد عنه، لنلاحظ أنّ هاتين"السّورتين" : سورة الستّـات وسورة أربعين سعد زغلول، تؤكّدان أنّ"الهـزليّ" ليس"قيمة غريبة عن الجماليّة" على نحو ما تقول بذلك بعض الجماليّات الفلسفيّة. ذلك أنّ الأمر يتعلّق بنوع من اللعب أساسه الكلمات نفسها، أو هو بعبارة أخرى تلاعب بالكلمات أو لعب بها وعليها. فإذا كان من أظهر وظائف اللغة التّخاطب والتّواصل، كان من الطبيعي أن يكون كلّ جزء من اللغة قابلا للفهم أو أنّ الشكل اللغوي لا يستخدم إلاّ بمعنى مفهوم أو هو قابل للفهم. وإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها حسب المعنى المتعارف في الظاهر، وكان قصده معنى آخر، فإنّ حصيلة ذلك ليس الغموض كما هو الشأن في اللغة الخاصّة، وإنّما المعنى المزدوج. وهذا المعنى هو الأساس في"سورتي" بيرم، بحيث تتـفكّك مفهوميّة اللغة القرآنيّة أو هي تتعطّل، ويخيب "أفق التوقّع" لدى المتلقّي، بعبارة المعاصرين. وهذا هو المنشود عادة، من المزحة أو الهزل حيث تنعقد الأشياء وهي تتفكّك وتتحلّل. وهذا إنّما يتكشّف على ضوء المقارنة بين اللغة الخاصّة واللغة المشتركة. والأولى وهي القرآنيّة في السياق الذي نحن به "مضلّلةّ بطبعها، بل هي تخدع القارئ إن هو صدر في إدراكها عن اللغة المشتركة. فهي لا تنتج دلالات خاصّة فحسب، وإنّما تنفتح في ذات اللحظة التي تنغلق فيها. ويكفي أن نذهب إلى"القرآنيّ" فيما "الواقعيّ" عند بيرم هو المقصود، أو أن نذهب إلى المعنى الحرفيّ في هاتين "السّورتين" فيما المجازيّ أو المضمر أي محاكاة الأسلوب القرآني، هو المقصود.
http://www.alawan.info/DisplayDetail.aspx?pid=85