لو غربل الناس كيما يعدموا سَقَطاً لما تحصل شيء في الغرابيل
لم أصادف فيما رأيته أو سمعته من أحوال المتقين المتحمسين في العبادة أشد تألهاً وتحمساً ولا أعظم تعمقاً وتنطساً في الدين من الحسن البصري , فقد تقدم أنهم قالوا في وصفه من هذه الناحية بأنه إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه, وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه, وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له, قد نقلت لك هذه العبارة من السيرة الحلبية (1) وما أدري من أين نقلها صاحبها0
فتصور أيها القارئ الكريم رجلاً مقبلاً عليك ترى عليه من الكآبة والحزن ما يجعلك تظن أنه مقبل من دفن حميمه , أي من دفن ابنه أو أخيه أو صديقه , ثم تصوراً أسيراً مقيداً قد أريد قتله صبراً فجلس جلسة خاشعة مضطربة والسيف مصلت على رأسه ليضرب به عنقه, ثم تصور رجلاً متعبداً قد ذكرت له النار فأظهر من الجزع والهلع ما يدلك على أنه يرى النار لم تخلق إلا له, فإذا تصورت في مخيلتك رجلاً هذه حالته فقد رأيت بعينك الحسن البصري كيف يقبل عليك وكيف يجلس وكيف يكون إذا ذكرت له النار
أما أنا فأقول إن الذي ألهمتنيه الفراسة وعلمتنيه التجارب وأثبتته لي الخبرة الصادقة في هذه الحياة هو أن هذه الحالة ليست إلا حالة المرائين من الناس, فلذا كانت حالة الحسن البصري هذه مركزاً لدائرة كل ما دار حوله في خلدي من الشكوك والريب0 وإليك تعليل ذلك وتوضيحه
ليس من الممكن عادة أن تكون هذه الحالة جبلية, لأن الإنسان جبل على حب الحياة وحب كل ما يقوم به كيانها ويتم به كمالها , وانسلاخ الإنسان من جبلته أمر مستحيل عادة, كما أنه ليس من المعقول أن تكون صادقة غير جعلية لأنها تخالف الغاية المطلوبة من الدين, لا سيما دين الإسلام الذي هو دين التيسير لا التعسير ودين التخفيف لا التشديد, ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (2) , ( ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (3) , كما أن الغلو في كل أمر من أمور الدين مذموم , وقد ذم الله أهل الكتاب بالغلو ونهاهم عنه نهي زجر وتوبيخ فقال:( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) (4)
ومما ورد النهي به عن التشدد في الدين خبر الصحابي عثمان بن مظعون الذي كان يجهد نفسه بالعبادة وينهكها , فقد رووا عن عائشة: أن خولة بنت حكيم وهي امرأة عثمان بن مظعون دخلت عليها وهي متشوشة الخاطر فقالت لها عائشة: ما بالك؟ قالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار , فدخل النبي على عائشة, فذكرت له ذلك, فلقي النبي عثمان ونهاه عن ذلك فقال له: " يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا, أما لك بي أسوة , والله إن أخشاكم الله وحدوده لأنا" (1) , أي وأنا لا أتعمق في عبادة الله كما تتعمق أنت0
ولا شك أن المتدين إذا أخلص لله إيمانه وأحسن في أعماله نيته, ونفض من غل وحسد صدره, وطهر من أوساخ الرذائل نفسه كان مقبولاً عند الله في الدرجة الأولى , وإن لم يظهر للناس بمظهر المتقين المتعمقين في تقواهم وقد جاء في الحديث النبوي: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى ما في قلوبكم" (2) , فلا قيمة للظاهر إذا خبث الباطن خصوصاً بالنسبة إلى الله العليم بذات الصدور
وعليه فأي شيء يدعو الحسن البصري وغيره من المتقين إلى الظهور بهذا المظهر العجيب سوى الرياء الذي به يموهون على الناس ما يريدون وبه يسترون ما يدسون
ومما يؤيد ما نقول ما تقدم ذكره عن الحسن أنه قيل له: يا أبا سعيد إنك تقول قال رسول الله وأنت لم تدركه؟ فقال: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله فهو عن علي بن أبي طالب, إلا أني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً , أي خوفاً من الحجاج(3)
فانظر يا رعاك الله هل يصح للمتعمق في دينه إلى الحد الذي ذكرناه أن يكون مداجياً في قول الحق خوفاً من الحجاج, أفلا يجب على المتخشع من خشية الله كتخشع الحسن لا يخشى من قول الحق لومة لائم وأن يمتنع من الجهر به ولو كان السيف مصلتاً على رأسه
على أن هناك سبباً آخر يدعو الحسن إلى الامتناع عن بيعة ابن المهلب وإلى إنكارها , وذلك أنه كان كسائر أبناء فارس علوياً في نزعته السياسية , إلا أنه كان يتكتم فيها خوفاً من بني أمية, وليس المتكتم في نزعته بجرئ فهو لا يرى البيعة جائزة لابن المهلب ولا لبني أمية سوى أن خوفه من بطش بني أمية ألجاه إلى الخضوع لسلطانهم القاهر خضوعاً
خاتمة
أخذ الوهن يدب في الإسلام من طريق الرواية التي كان معظم القائمين بها من هؤلاء الموالي الموتورين, ثم دخلت فيها السياسة فهمدت طرياً مهيعاً لأكاذيب الرواة بما شوهوا به الإسلام وفرقوا به المسلمين, وظلت أخبارهم ورواياتهم تلوكها الألسن وتمضغها الأفواه مدة قرن وربع قرن حتى جاء ابن إسحاق فدونها بعجرها وبجرها وقد دخل فيها من الطمس والمسخ ومن التحريف والتغيير ما لا يحيط به إلا الله
وإن الرواة الذين جاؤا من بعد ابن إسحاق كانوا كلهم عيالاً عليه في رواياتهم وكان معظمهم مثله من الموتورين أيضاً, وأكثرهم من أبناء فارس كالخراساني والبخاري وابن منده ومغلطاني وأبو شامة والنووي والجوزقاني والبيهقي وغيرهم
وإذ تحققت لنا خيانة بعضهم , حصل الشك في الباقين وحامتالريبة حولهم أجمعين أن لا نقبل ما رووه إلا بتحفظ, وأن لا نصدقه إلا بعد التصفية والتحميص وقد ألف بعض علماء الإسلام كتباً خاصة بالأحاديث الموضوعة, ولا ريب أن هذا يدل دلالة قاطعة على أن في الرواة من يضعون الأحاديث ويكذبون , فبذلك قد علمنا أن هذه الأحاديث المسطورة في كتبهم قد اختلط فيها الصدق بالكذب والصحيح بالفاسد فكيف إذن نطمئن إليها ونثق بها
إن ما نراه في كتب الحديث والسير من الأحاديث والأخبار أشبه شيء بكثبان الرمال التي يوجد بين ذراتها قليل من الشذور الذهبية, فيجب أن نستخلص منها هذه الشذور بنوع من التنقية, وأحسن طريقة لذلك ما ذكرناه لك فيما تقدم من الكلام عن الرواية, وذلك بأن نضعها في غربال منسوج من القرآن ومن المعقول ونغربلها فما بقي من الغربال أخذناه وما سقط منه تركناه ونبذناه, وإلا بقينا هكذا مشتتين حيارى , مختلفين في ديننا متأخرين في دنيانا وأنا على يقين من أننا إذا غربلنا هذه الكتب بمثل هذا الغربال لم يبق لنا منها إلا شيء قليل ,
أو كما قال شاعر البشر أبو العلاء المعري:
لو غربل الناس كيما يعدموا سَقَطاً لما تحصل شيء في الغرابيل
(1) الكشاف , تفسير الآيات 42- 46 من سورة نوح- (2) سورة البقرة , الآية 69- (3) سورة المرسلات , الآية: 33- (4) الكشاف , تفسير الآية السابقة- (1) السيرة الحلبية 2/ 89-(2) سورة البقرة , الآية: 185-(3) سورة البقرة , الآية: 286-(4) سورة النساء , الآية: 171- (1) حديث متواتر ؛ حلية الأولياء 1/ 106- (2) السيرة الحلبية 3/124-(3) السيرة الحلبية,1/ 880
* حياة معروف الرصافي
أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال ومتشجم أهواء الناس , إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة 0
ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد أسخطت الناس عليّ , ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها , كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليّ , وعلى قلوبهم أكنة من بغضهم إياي0
فإن قلت أيها القارئ الكريم من يضمن لك إنك ترضي الحقيقة؟ وهل رضاها عنك فيما تكتبه هنا إلا دعوى مجردة 0 قلت كفى بحرية الفكر ضامناً لي رضاها وما عليّ في نجاح هذه الدعوى مني وصدقها إلا أن أفتكر حراً وأكتب حراً فإن أصبت ما أردته لها فقد أرضيتها , وإن أخطأت فلي ما يعذرني عندها من أنني لا أقصد إلا رضاها ولا أنحاز إلا إلى جانبها0 وإذا كنت لا أتبع هوى النفس فيما أكتبه فما أنا بمسؤول عما لا طاقة لي به منها0
أما سخط الناس من أجل أنني خالفتهم لوفاقها وصارحتهم في بيانها جرياً على خلاف ما جروا عليه من عادات سقيمة وتقاليد واهية فلست مبالياً به ولا مكترثاً له0 وإني لأعلم أنهم سيغضبون ويصخبون ويسبون ويشتمون , فإن كنت في قيد الحياة فسيؤذيني ذلك منهم , ولكني سأحتمل الأذى في سبيل الحقيقة وإلا فليس لي أن أهتف باسمها ولا أن أدعي حبها كما يدعيه الأحرار, وإن كنت ميتاً فلا ينالني من سبابهم خير كما لا ينالهم منه خير فإن سب الميت لايؤذي الحي ولا يضر الميت, كما قال محمد بن عبد الله عظيم عظماء البشر
* فلوجة 5 تموز 1933 , معروف الرصافي0
|