حلقات مهمه في حياة فيروز --------------------------------------------------------------------------------
الحلقه الاولى
ولدت فيروز باسم نهاد حداد, كأول مولود لوديع حداد وليزا البستاني, في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر لعام 1935. كانت عائلة حداد تعيش في بيت متواضع مؤلف من غرفة واحدة في زقاق البلاط , الحي القديم المجاور لبيروت, حيث عاش الفقراء من جميع الطوائف, ولأجيال, حياة مشتركة وآمنة.
بضعة عائلات أخرى كانت تعيش في تلك الدار وكانوا يتشاركون المطبخ والأدوات الأخرى. لقد كان ذلك زمن الهجرة إلى المدينة, ففجأة, كان يمكن أن تأتي عائلة من أي مكان لتبدأ بالبحث عن أقرباء مقربين أو حتى مجرد معارف من نفس الضيعة ممن وصلوا قبلاً إلى المدينة الكبيرة. وديع, الذي اشتغل كعامل مطبعة في مطبعة (le Jour) القريبة,كان هادئاً, حسن الأخلاق وسرعان ما اعتبره الجيران كواحد منهم.
نهاد, التي ستصبح فيما بعد فيروز, والتي تعتبر واحدة من أشهر المطربات في الوسط العربي والعالم أجمع, وأسطورة زمانها, كان لديها نزعة عفوية إلى الغناء منذ نعومة أظفارها. في ليالي الشتاء, ومع جمعة الجيران, كثيراً ما كانت تدهش الجميع برندحة أغنية ما. كانوا فقراء الحال ,كما تتذكر فيروز, لكنها تصر على أن حياتهم كانت سعيدة, دون تطلّب.
لم يكن بمقدور العائلة الدفع للحصول على جهاز الراديو, هذا الجهاز السحري الذي كانت تمتلكه قلّة محظوظة. لقد كان ذلك من ضروب الخيال, كان يعطي بيوت الفقراء شحنة من عزاء ومن شعور مبهم بالانتماء إلى ما كان ينبض بعيداً خلف حدود الوصول. اعتادت نهاد على الجلوس على حافة الشباك لتستمع إلى الأغاني التي فتنت بها من راديو أحد الجيران. بعض من هذه الأغاني التي طالما أحبت أن تغنيها في تلك الفترة المبكرة كانت أغاني ليلى مراد وأسمهان, المطربتان المصريتان المشهورتان في ذلك الوقت.
كانت تفعل ذلك أثناء الغسيل خلف البيت, أو العجن لتحضير المرقوق (الخبز الريفي في لبنان), أو أثناء مساعدة أمها في الصباح. في نفس الوقت, كان عليها الاعتناء بأختيها هدى وأمال وأخيها جوزيف, كونها الأكبر سناً. تعتبر المشاركة عنواناً للثقة. كان هذا ولا يزال مبدأً بين الفقراء. مرة بالأسبوع, كانت إحدى الجارات تدعو أولاد حداد للاستحمام, وتقوم بذلك بنفسها, وقبل أن يخلد الأطفال للنوم, كان لا بد للفتاة, ابنة عائلة حداد, أن تغني لهم أغنية أو اثنتين لنوم طيب وهانئ.
كانت نهاد معروفة بحبها الكبير للزهور. فقد كانت تمضي الكثير من وقتها بجمع الزهور البرية, تنسقها في باقات لتزيّن البيت بها. كانت تحبها لدرجة أن أمها اعتادت على مضايقتها بفكرة أنها ستزوجها إلى بستاني. كانت فتاة خجولة, تخجل من الآخرين حتى من الأصدقاء. في نفس الوقت كانت جدية, ومسؤولة في تعاملها. المرات الوحيدة التي كانت تتغلب فيها على الخجل, كانت في التجمعات, عندما يطلب منها أن تغني, إذ كانت معروفة بجمال صوتها منذ أيامها المبكرة.
حبها للزهور لم يكن ينافسه سوى حبها لجدتها التي كانت تعيش في ضيعة الدبيّة. كانت تمضي نهاد معظم عطلاتها الصيفية في بيت جدتها, تساعدها في أعمال البيت نهاراً, وتستمع إلى حكاياتها في الليل.
وفّر الأب بعضاً من دخله الضئيل من أجل تعليم أولاده. لذلك حظيت نهاد بفرصة الالتحاق بالمدرسة, وهناك استطاع صوتها أن يجذب الانتباه فوراً, بوصفه يتمتع بنوعية فريدة, حيث كان يمكنها تحويل الأناشيد العادية الوطنية إلى شيء مدهش بجماله. كانت تلميذة نجيبة, مع أنها كانت تكره الحساب كثيراً, لم تكن لتستوعب مفهوم جمع وطرح الأعداد, ناهيك عن ضربها, ويقال أنها لم تكن قادرة على حفظ جدول الضرب غيباً, حتى يومنا هذا.
في حفلة المدرسة عام 1946, سمعها أستاذ في المعهد الموسيقي اللبناني, الذي صرح بأنه حقق اكتشافاً. هذا الرجل, محمد فليفل (أحد الأخوين فليفل اللذين لحنا النشيد الوطني السوري), كان يبحث عن مواهب جديدة في ذلك الوقت في مدارس الأولاد لغناء الأناشيد الوطنية في الإذاعة اللبنانية المؤسسة حديثاً. لكن والد نهاد ,الذي ينتمي إلى بيئة محافظة, كان مستاءً من فكرة أن ابنته ستغني للعامة. لذلك رفض منح موافقته لفليفل في البداية, لكن هذا الأخير نجح في النهاية في إقناع السيد حداد بأن طمأنه أن نهاد سوف تشارك فقط في غناء الأغاني الوطنية وأنه, أي فليفل, سوف يتحمل نفقات تعليمها في المعهد الموسيقي. بعد الموافقة, طلب والد نهاد أن يرافقها أخوها جوزيف.
كان يرأس المعهد الموسيقي في ذلك الوقت وديع صبرا, ملحن النشيد الوطني اللبناني, والذي بدوره رفض تقاضي أي مبلغ من نهاد ومن بقية الطلاب المشار إليهم من قبل فليفل. فليفل الذي اعتنى بصوتها عناية أبوية, لإيمانه بذلك الصوت الذهبي المخبأ في حنايا حنجرة المغنية الصغيرة, فقد أوعز إليها بعدم تناول الطعام المبهّر, الحمضيات, أو أي شيء آخر يمكن أن يؤذي حبالها الصوتية. كما حذرها من غناء الطبقات العالية أو المقاطع التي تتطلب جهداً شديداً. بعد ذلك أكمل معروفه بأن ساعدها لأن تدخل المعهد الموسيقي الوطني. ربما كان أبرز ما ساهم به فليفل هو تعليم نهاد علم التجويد في القرآن الكريم, الذي يعتبر الأسلوب الأكثر رفعةً في تلاوة الآيات في الموروث العربي.
استمرت دراستها في المعهد الموسيقي مدة أربع سنوات. بعدئذ, ساعدها فليفل في المثول أمام لجنة مؤلفة من: حليم الرومي, خالد أبو النصر, نقولا المني وآخرين ممن عينوا لفحص الأصوات لصالح الإذاعة اللبنانية. لقد كان يوماً مصيرياً في حياة نهاد, وقفت هناك بنوع ثيابها الأبدي الذي طالما فرضته على نفسها (بلوزة وتنورة) وبمصاحبة عود حليم الرومي, غنت "يا ديرتي" لأسمهان. ذهل حليم الرومي بصوتها لدرجة أنه توقف عن العزف في منتصف الأغنية. استمرت نهاد فغنت مطلع "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش, ثم ما لبثت أن أحيطت بأعضاء اللجنة الذين هنؤوها بحرارة وأظهروا تقديرهم لصوتها الفريد.
الرومي, بشكل خاص, كان شديد الإعجاب بصوتها حيث وجد أنه شرقي أصيل وبنفس الوقت مرن كفاية لأن يحمّل النمط الغربي بشكل مثير للإعجاب. اختيرت كمغنية في جوقة الإذاعة في بيروت بعد الحصول على موافقة والديها ومدير الإذاعة اللبنانية السيد: فايز مكارم. في البداية عارض والدها فكرة ذهابها إلى الإذاعة. إذ تطلبت موافقته الكثير من الإقناع وبعض التدخل القاسي من قبل معارف مقربين, اشترط الأب أن ترافقها أمها أو أخوها جوزيف, أو ابن الجيران عند ذهابها إلى الإذاعة.
أمنيتي كانت أن أغني في الإذاعة, تتذكر فيروز. "أخبروني أنني سوف أتقاضى مبلغ 100 ليرة (21 دولار) في الشهر. كانت فرحتي لا توصف, لكن في نهاية الشهر لم أكن محظوظة كفاية لأن أشبع عيني برؤية الورقة من فئة المئة ليرة, بسبب خصم الضريبة (كانت تقبض 95 ليرة فقط بعد اقتطاع الضريبة). استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تمكنت من الحصول على ورقة كاملة من فئة المئة ليرة". راتبها الأول أنفق في شراء حاجيات لها ولأشقائها, الذين أرادت أن تدللهم ولو قليلاً, وأن تعوض عليهم الحرمان المادي الذي عاشوه طوال حياتهم.
كانت هذه المرحلة هي فترة الممارسة والملاحظة بالنسبة لفيروز, درست عن كثب أسلوب العطاء الغنائي عند كل مغنٍ في الجوقة, وكان غالباً ما يحدث أن يتم استبدال مغنية تأخرت أو فشلت في الأداء, بفيروز. كانت تمتلك إحساساً فنياً عالياً وذاكرة حادة حيث أنها كانت تمتلك القدرة على حفظ أربع صفحات من الشعر عن ظهر قلب, خلال ساعتين, أو خمس صفحات منوّطة. مهمة نهاد في الجوقة دامت حوالي الشهرين, بعدها صارت تؤدي بشكل انفرادي.
الحــلقه الثانيه
أولى أغانيها الخاصة كانت من ألحان حليم الرومي وكلمات ميشيل عوض, بعنوان: تركت قلبي وطاوعت حبك. عند التحضير لبث الأغنية على الهواء, اقترح حليم الرومي أن تحمل نهاد أحد اسمين كان قد اختارهما لها: شهرزاد أو فيروز. في البداية لم تأخذ الأمر على محمل الجد, لكن أخيراً عملت بنصيحته واختارت اسم: فيروز. بثت الأغنية في الأول من نيسان/أبريل لعام 1950. الأغنية الثانية: في جو سحر وجمال كانت باللهجة المصرية, الثالثة: عاشق الورد غنتها مع حليم الرومي كثنائي. تلا ذلك أغنيتي: يا حمام و أحبك مهما أشوف منك, اللتين سوقتا تجارياً في العام 1952.
ثم تبع ذلك العديد من الأغاني القصيرة الخفيفة ذات الأهواء المختلفة, خاصة تلك التي اختيرت من قبل حليم الرومي في محاولة منه لتجنب حصر فيروز في نمط غنائي واحد. في العام 1951, كانت قد غنت أغانٍ من ألحان الرومي, مدحت عاصم, نقولا المني, سليم الحلو , محمد محسن, توفيق الباشا, خالد أبو النصر وآخرين.
كان حليم الرومي متحمساً جداً للموهبة التي اكتشفها لكنه كان كثير الانشغال لأن يعطيها ما تستحق, لذلك اقترح أن يقدم فيروز لعاصي الرحباني, الشرطي, عازف الكمان في الإذاعة والملحن الطموح. رأيها المبدئي كان أنها لا تود التكلم مع عاصي, إذ أنها لم تكن تتوقع الكثير من هذا اللقاء, لكنه نجح في أن يغير رأيها. عاصي من جهته كان رأيه الأولي أن صوت فيروز مناسب لغناء الأغاني الشرقية فقط, وليس مناسباً للأغاني العصرية, والتي كان مهتماً بها. احتج الرومي بقوله أن صوت فيروز غير محدود الإمكانيات , فهو قادر على أداء الأغاني الحديثة كما الأغاني الفلكلورية, وهذا ما سوف تثبته الأيام المقبلة, وسيشهد المستقبل على أنه أكثر صوت في العالم قادر على غناء الموسيقى العصرية. ولقد تحققت نبوءته.
كانت أول أغنية غنتها لعاصي, لما ولمياء, ثنائية غنائية بالاشتراك مع مغنية تدعى حنان. أما أول أغنية خاصة لحنها عاصي لفيروز فكانت غروب من شعر قبلان مكرزل, تلتها ماروشكا, ثم جاءت أغنية سوف تشكل علامة فارقة في تاريخهما الفني, والتي تعتبر فاتحة الاحتراف, هذه الأغنية هي عتاب, أغنية حزينة تقول في مطلعها:
حاجي تعاتبني, يئست من العتاب
ومن كتر ما حمّلتني, هالجسم داب
حاجي تعاتبني, وإذا بدّك تروح ..
روح, روح, روح وأنا قلبي تعوّد عالعذاب
بين ليلة وضحاها, صنعت عتاب من فيروز مطربة كبيرة في العالم العربي. ومن أسباب نجاح هذه الأغنية كانت تجهيزات إذاعة دمشق المتميزة حيث سجلت الأغنية هناك في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1952. ثم في وقت لاحق طبعت على اسطوانة في باريس, أغنيتهما الرابعة كانت راجعة. ثم عدة أغان أخرى مثل بلمح ظلال الحب في عيونه, و قوي حبك. ثم تبع تلك المرحلة المبكرة, انضمام منصور الرحباني, الشقيق الأصغر لعاصي, إليهما ليشكلوا الثلاثي الرحباني, والذي استمر ليصنع تاريخاً.
في البداية, انصبت جهودهما بشكل رئيسي في صياغة الألحان الخفيفة الراقصة. في ذلك الوقت, كانت بيروت تستقطب الفرق الفنية الكبيرة القادمة من وراء البحار لتعزف التانغو والرومبا لشريحة واسعة ذات الأهواء الغربية في العاصمة اللبنانية. إحدى هذه الفرق كانت فرقة إدواردو بيانكو الأرجنتينية. أثناء التسجيل في استوديوهات إذاعة الشرق الأدنى, اقترح صبري الشريف الذي كان يدير القسم الموسيقي فيها, أن يتم تنفيذ تجربة غير مسبوقة في الموسيقى الشرقية حتى ذلك الوقت. وهي أن تغني فيروز مع أوركسترا بيانكو ألحاناً وضعت بالأصل لرقصات, مثل "la compersita" وتانغو ""la boheme . كان ذلك في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1951, يوم ذو أهمية خاصة في حياة فيروز والأخوين رحباني, عاصي ومنصور اللذين آمنوا بأنها كانت البداية الحقيقية للأغنية الراقصة في الموسيقى العربية, والتي لم تكن مسبوقة من قبل باستثناء أغاني الملحن المصري مدحت عاصم.
في ذلك الوقت, كانت برامج الإذاعة تبث على الهواء مباشرة, دون أن تسجل. بانتظار أن يأتي دورهما, فيروز وعاصي, ملحنها ومرافقها الدائم, اعتادا على الجلوس تحت شجرة قرب بركة ماء في الفناء الخلفي للاستوديو والدردشة لتمضية الوقت وأحياناً أخرى كانت فيروز تطلق العنان لأحلامها. لم تكن تتوقع مستقبلاً باهراً لنفسها كمطربة. بالأحرى كان حلمها الحقيقي أن تصبح معلمة. كثيراً ما صرحت في مناسبات عديدة بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً. فيروز التي نشأت ضمن عائلة تقية, أقرب إلى الزهد في أخلاقها واحتمالها, كانت مثالية بالمقارنة مع الفتيات اللبنانيات من عمرها. الكثير ممن عرفوها أخبروا كيف كانت أثناء الاستراحات غالباً ما تصلي راكعة في مكان ما في جوار الاستوديو.
مرة, أخبرت فيروز عاصي وبشكل عابر, أنها لم تستسغ الطريقة التي اهتم فبها بإحدى الفتيات في المحطة. هذه الملاحظة البريئة لم تذهب سدىً. بينما كانت لا تزال تحتفظ بذلك الرفض العنيد لفكرة الزواج. ولكن في ذلك الربيع من العام 1954, وبينما كانا يتمرنان سوية على حافة نفس البركة, تحت نفس الشجرة, كرر عاصي عرضاً كان قد عرضه سابقاً للزواج, هذه المرة ردّت فيروز بالإيجاب.
تزوجا في كانون الثاني/يناير من العام 1955. تجمعت في العرس حشود كبيرة من البيروتيين في مساء ذلك الأحد لمشاهدة هذه الاحتفالية. بالنسبة للبنانيين, يعتبر فندق مسابكي في شتورة المحاط بشجيرات الصبار, مكان الأحلام الذي يغفو في قلب جبال لبنان. في ذلك المكان, ذهب العريس والعروس لقضاء شهر العسل.
مع أغانٍ مثل عتاب, بدأت فيروز والأخوين رحباني مرحلة الشهرة في كثير من البلدان حول العالم العربي وكانوا كثيراً ما يدعون إلى إذاعة دمشق لتقديم أعمالهم. محطة إذاعية أخرى, هي صوت العرب من القاهرة, أوفدت المعتمد الرئيسي لديها: أحمد سعيد, ليعقد اتفاقاً مع الثلاثي. في العام 1955 ذهب الأخوان رحباني وفيروز إلى القاهرة, وهناك كتبوا أهم عمل موسيقي على الإطلاق في ذلك الوقت: راجعون . كما غنت فيروز العديد من الأغاني الأخرى, منها ثنائيات بالاشتراك مع المطرب المصري كارم محمود.
عادت فيروز والرحابنة إلى بيروت بعد ستة أشهر, وفي أول يوم من سنة 1956 أنجبت فيروز بكرها زياد. في صيف عام 1957, كان لها أول لقاء حي مع الجمهور, واقفة على قاعدة أحد الأعمدة الستة التي تشكل معبد جوبيتير في بعلبك. كان هذا الحشد الجماهيري الأكبر على الإطلاق الذي تجمع في المعبد الروماني, تحت قمر بهيئة هلال. أغرق المخرج فيروز بضوء أزرق من إتجاهات مختلفة حتى بدت وكأنها تحلق في الفضاء. وحين بدأت بالشدو بصوت واثق سكون: لبنان يا أخضر حلو, كانت تلك لحظة سحرية حقاً ووقع الناس مفتونين. بدءاً من ذلك الوقت فصاعداً فيروز سوف تغني وتمثل, مرة واحدة في السنة على الأقل في بعلبك, بمسرحيات غنائية ضخمة مثل البعلبكية, مسرحية تهجر فيها الآلهة مدينة بعلبك بعد أن تهدمت, وتطلب من صبية ذات صوت شجي أن ترافقها ولكن الصبية تفضل البقاء بين البشر حتى تعيد لبعلبك مجدها القديم, جسر القمر حيث تصنع صبية مسحورة طيبة السلام بين أفرقاء يكرهون بعضهم, وأيام فخر الدين قصة الأمير فخر الدين الذي ناضل ليعيد إعمار وطنه في القرن السابع عشر, والذي حارب بشرف من أجل تحريره. من هنا بدأت فيروز طريقها للشهرة والمجد.
الحــلقه الثالثه
في ذلك الوقت, كانت برامج الإذاعة تبث على الهواء مباشرة, دون أن تسجل. بانتظار أن يأتي دورهما, فيروز وعاصي, ملحنها ومرافقها الدائم, اعتادا على الجلوس تحت شجرة قرب بركة ماء في الفناء الخلفي للاستوديو والدردشة لتمضية الوقت وأحياناً أخرى كانت فيروز تطلق العنان لأحلامها. لم تكن تتوقع مستقبلاً باهراً لنفسها كمطربة. بالأحرى كان حلمها الحقيقي أن تصبح معلمة. كثيراً ما صرحت في مناسبات عديدة بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً. فيروز التي نشأت ضمن عائلة تقية, أقرب إلى الزهد في أخلاقها واحتمالها, كانت مثالية بالمقارنة مع الفتيات اللبنانيات من عمرها. الكثير ممن عرفوها أخبروا كيف كانت أثناء الاستراحات غالباً ما تصلي راكعة في مكان ما في جوار الاستوديو.
مرة, أخبرت فيروز عاصي وبشكل عابر, أنها لم تستسغ الطريقة التي اهتم فبها بإحدى الفتيات في المحطة. هذه الملاحظة البريئة لم تذهب سدىً. بينما كانت لا تزال تحتفظ بذلك الرفض العنيد لفكرة الزواج. ولكن في ذلك الربيع من العام 1954, وبينما كانا يتمرنان سوية على حافة نفس البركة, تحت نفس الشجرة, كرر عاصي عرضاً كان قد عرضه سابقاً للزواج, هذه المرة ردّت فيروز بالإيجاب.
تزوجا في كانون الثاني/يناير من العام 1955. تجمعت في العرس حشود كبيرة من البيروتيين في مساء ذلك الأحد لمشاهدة هذه الاحتفالية. بالنسبة للبنانيين, يعتبر فندق مسابكي في شتورة المحاط بشجيرات الصبار, مكان الأحلام الذي يغفو في قلب جبال لبنان. في ذلك المكان, ذهب العريس والعروس لقضاء شهر العسل.
مع أغانٍ مثل عتاب, بدأت فيروز والأخوين رحباني مرحلة الشهرة في كثير من البلدان حول العالم العربي وكانوا كثيراً ما يدعون إلى إذاعة دمشق لتقديم أعمالهم. محطة إذاعية أخرى, هي صوت العرب من القاهرة, أوفدت المعتمد الرئيسي لديها: أحمد سعيد, ليعقد اتفاقاً مع الثلاثي. في العام 1955 ذهب الأخوان رحباني وفيروز إلى القاهرة, وهناك كتبوا أهم عمل موسيقي على الإطلاق في ذلك الوقت: راجعون . كما غنت فيروز العديد من الأغاني الأخرى, منها ثنائيات بالاشتراك مع المطرب المصري كارم محمود.
عادت فيروز والرحابنة إلى بيروت بعد ستة أشهر, وفي أول يوم من سنة 1956 أنجبت فيروز بكرها زياد. في صيف عام 1957, كان لها أول لقاء حي مع الجمهور, واقفة على قاعدة أحد الأعمدة الستة التي تشكل معبد جوبيتير في بعلبك. كان هذا الحشد الجماهيري الأكبر على الإطلاق الذي تجمع في المعبد الروماني, تحت قمر بهيئة هلال. أغرق المخرج فيروز بضوء أزرق من إتجاهات مختلفة حتى بدت وكأنها تحلق في الفضاء. وحين بدأت بالشدو بصوت واثق سكون: لبنان يا أخضر حلو, كانت تلك لحظة سحرية حقاً ووقع الناس مفتونين. بدءاً من ذلك الوقت فصاعداً فيروز سوف تغني وتمثل, مرة واحدة في السنة على الأقل في بعلبك, بمسرحيات غنائية ضخمة مثل البعلبكية, مسرحية تهجر فيها الآلهة مدينة بعلبك بعد أن تهدمت, وتطلب من صبية ذات صوت شجي أن ترافقها ولكن الصبية تفضل البقاء بين البشر حتى تعيد لبعلبك مجدها القديم, جسر القمر حيث تصنع صبية مسحورة طيبة السلام بين أفرقاء يكرهون بعضهم, وأيام فخر الدين قصة الأمير فخر الدين الذي ناضل ليعيد إعمار وطنه في القرن السابع عشر, والذي حارب بشرف من أجل تحريره. من هنا بدأت فيروز طريقها للشهرة والمجد.
في حين أن موهبة فيروز في البداية وجدت تعبيراً من خلال أشعار و موسيقى الأخوين اللبنانيين, عاصي ومنصور رحباني فقط, إلا أن معظم الشعراء العرب المبدعين هرعوا الآن ليكتبوا أشعاراً لصوتها عله يترجمها. قائمة الشعراء الذين كتبوا لها قصيدة أو أكثر بما مجموعه أكثر من 800 أغنية تضم: عمر أبو ريشة, قبلان مكرزل, نزار قباني, ميشيل طراد, سعيد عقل, بدوي الجبل, الأخطل الصغير, أبو سلمى, أسعد سابا, جوزيف حرب, طلال حيدر وشعراء آخرين معاصرين. غنت أيضاً أعمالاً لجبران خليل جبران, ميخائيل نعيمة, الياس أبو شبكة, هارون هـ . رشيد, وبولس سلامة, كما هو الحال بالنسبة لشعراء عرب من العصور القديمة مثل: ابن دريق البغدادي وابن جبير, كما اتسعت قائمة من لحنوا لفيروز لتضم: حليم الرومي, توفيق الباشا, خالد أبو النصر, جورج ضاهر, نجيب حنكش, فليمون وهبة, محمد عبد الوهاب,محمد محسن, الياس الرحباني, زكي ناصيف, وابنها زياد .
لعل أبرز من لحن لفيروز من غير الأخوين رحباني في تلك الفترة, هو فليمون وهبة. تميزت ألحان فليمون بروحها الشرقية الواضحة بخلاف ألحان الرحابنة التي كانت تنزع نحو التجديد والتطوير الموسيقي. فليمون صاحب الشخصية المرحة والخفيفة الظل, كان صديقاً حميماً لفيروز, أحبت شخصيته وألحانه على حد سواء, كان كثيراً ما يفاجئها على المسرح بأن يرتجل ويخرج عن النص مما يضطرها إلى كبت ضحكها لتفجره وراء الكواليس. كان فليمون موهوباً بالفطرة, عند التحضير لأي عمل مسرحي أو غنائي مقبل, كان الرحبانيان يعرضان عليه جميع الكلمات المقترحة لكي يختار, فيختار الأجمل دوماً. ألحان فليمون أبرزت فيروز كمطربة شرقية بامتياز.
كانت فيروز أيضاً نجمة ثلاثة أفلام سينمائية أنتجت في الستينات: بياع الخواتم من إخراج يوسف شاهين, وسفر برلك وبنت الحارس, من إخراج هنري بركات. مع ذلك, حياتها الاجتماعية كانت ولا تزال محافظة جداً. تكره فيروز فكرة الذهاب إلى الحفلات والنشاطات الاجتماعية الأخرى, وهي تفضل عليها البقاء في المنزل مع أولادها. كان لفيروز تأثيراً على بيروت عندما كانت تعيش تجربة التأثير المتنامي للعصرنة. كان هذا التأثير واسعاً على البلاد إذ تمكنت من نقل صورة الثقافة اللبنانية إلى العالم الغربي.
أغاني فيروز, والتي غنت الكثير منها في المسرحيات الغنائية الفولكلورية, كانت منسجمة مع الاتجاهات السياسية والاجتماعية والسكانية في لبنان, خاصة تلك التي صيغت قبل الحرب الأهلية. وغالباً ما عبرت أغانيها عن المشاعر العربية المشتركة على نحو واسع, واستخدمت نصوصاً عربية كلاسيكية لشعراء معروفين مثل: جبران خليل جبران. بعض الأغاني ارتكزت بالشكل الصوتي على الموشح التقليدي, وأخرى عادت وقدمت أعمالاً قديمة من بدايات القرن العشرين بشكل حديث كأعمال الشيخ سيد درويش وغيرها.
أغاني فيروز المبكرة, أبرزت طابعاً صوتياً متميزاً لديها, والأشعار عبرت عن حب رومانسي وحنين لحياة الضيعة. تعشّقت مع مزيج موسيقي رقيق, حيث تظهر آلات موسيقية عربية معينة بشكل بارز, ولكن تندمج بلطف مع آلات غربيه أيضاً ومع إيقاعات غربية شعبية راقصة. أحياناً كانت تغني ألحاناً عربية فلكلورية معاد توزيعها. مع بداية الستينات, أصبحت فيروز واحدة من المعالم الرئيسية لمهرجانات بعلبك السنوية, وشهرتها لم تعد تقتصر على لبنان, بل تعدته إلى العالم العربي. إن بذار ألوف الأغاني , العديد من المسرحيات الغنائية, و بضعة أفلام, انتشرت لتنزرع في قلوب جمهورها ولتشمل أيضاً العرب المقيمين في أوروبا والأمريكيتين.
منذ ظهورها الأول على المسرح أمام الجمهور في العام 1957, سافرت فيروز إلى عدة أماكن, كأنها طفلة صغيرة, حيث لم تكن تعرف عنها على ما يبدو إلا من خلال قصص الأجداد. غنت على مدرج فيلادلفيا الأثري في عمان, أيضاً في دمشق, بغداد, الرباط, الجزائر, القاهرة, تونس, كما سافرت إلى ما وراء البحار, حيث التقت بالمهاجرين العرب في ريو دي جانيرو, بيونس آيريس, نيو يورك, سان فرانسيسكو, مونتريال, لندن, باريس, ومدن أخرى عديدة حول العالم. في هذه الرحلات قدمت لفيروز علامات تقليدية من الترحيب, مثل المفاتيح الرمزية للكثير من المدن, ربما كان الأقرب إلى قلبها يبقى المفتاح المصنوع من خشب الزيتون لمدينة القدس. على الرغم من أن فيروز لم تغني للقدس خلال زيارتها للمدينة المقدسة سنة 1961, إلا أن القدس كان لها الشرف الكبير في العديد من أغانيها منذ حجها هناك.
علاقة فيروز والرحابنة بدمشق جديرة بذكر خاص هنا. دمشق احتضنت الفن الرحباني منذ بداياته. في الوقت الذي حورب في لبنان نفسه, كانت انطلاقة فنهم الحقيقية من دمشق. لم تغني فيروز على مسرح في العالم مثلما غنت على مسرح معرض دمشق الدولي. جميع مسرحياتها قدمت عليه, عدا عن الحفلات الغنائية المستقلة, أواخر كل صيف, كانت دمشق وبردى وقاسيون على موعد متجدد مع الحب والفن. أما من ناحية فيروز والرحابنة فقد بادلوا دمشق هذا الحب العظيم بأن كتبوا ولحنوا عشرات الأغاني للشام, اعترافاً منهم بفضل الشام عليهم, وليس أدل على ذلك إلا قول فيروز: أنا صوتي منك يا بردى, هذه الجملة التي ما زال السوريون يرددونها بشوق غامر إلى تلك الأيام المجيدة من عمر الفن الخالد.
لفيروز صديق عمر ورفيق درب هو نصري شمس الدين, صاحب الصوت الجبلي الحنون. كان نصري مرافقاً لها في جميع المسرحيات والحفلات, إذ لعب دور الأب أو الجد أو ابن الضيعة أو الملك. كان فخوراً بصداقته مع فيروز ومحباً لها لدرجة نكران الذات. لفيروز معه أغان ثنائية ومحاورات زجلية جميلة, شكلا ثنائياً منسجماً إن من الناحية الفنية أو من ناحية الصداقة العميقة التي ربطت بينهما. حزنت فيروز كثيراً بوفاة نصري, ورثته بكلمات مؤثرة جداً.
إن التعاون بين فيروز والأخوين رحباني لمدة عقدين ونصف من الزمن أثمر عن ثروة إبداعية لم يسبق لها مثيل في العالم العربي. غنت أكثر من 800 أغنية, مثلت في أكثر من 20 مسرحية غنائية, ثلاثة أفلام وبضعة اسكتشات موسيقية, ناهيك عن الحفلات الغير معدودة, الجولات, والظهور المتعدد على امتداد الوطن العربي والعالم. كتبوا وغنوا لمواضيع عديدة متنوعة, خاطبوا قلب وعقل كل إنسان عربي. غنت فيروز البلدان, المدن والشعوب. لم تغني قط لأي رمز سياسي. غنت للحب, للفرح والحزن, للأمل والتفاؤل, غنت للشعب الفلسطيني ولقضيته, غنت للأمهات في الأرض, للسماء والنجوم والقمر, للأطفال,للأب والأم, للأخ والأخت, للبنت والابن, غنت قلبها لوطنها الحبيب لبنان, وحملته معها إلى كل العالم, وأكثر من ذلك صلت واعترفت بإيمانها. الله والصلوات تخيم على أغانيها لأنها مؤمنة ومخلصة. الرحبانيون وفيروز أبدوا إهتماماً بمواضيع عديدة حتى يصعب إيجاد موضوع معين لم يحظ بالذكر في أعمالهم وأغانيهم. لقد خاطبوا شعباً من كل الأعمار والطوائف والجنسيات.
الحلقه الأخــيره
خلال الحرب الأهلية اللبنانية, قررت فيروز البقاء في بيروت على الرغم من أنها كانت تملك المقدرة المادية لتعيش في الخارج. لم تغادرها حتى بعد إصابة بيتها بصاروخ. لم تغنّي فيروز داخل لبنان خلال معظم سنيّ الحرب لأنها لم تكن تريد التحيز لأي فئة.
مرت علاقة فيروز بعاصي بمراحل مختلفة. عندما تعرض عاصي لأزمة صحية أصابت أحد شرايين دماغه, اضطر معها لأن يغيب عن التحضيرات لمسرحية (المحطة) عام 1973, غنت له فيروز سألوني الناس, التي تشتاق فيها إليه وتعبر عن أنه يعز عليها الغناء في غيابه خاصة وأنه الغياب الأول. كانت هذه الأغنية أول ما لحنه لها زياد ابنها. لكن علاقة فيروز بعاصي ومنصور تدهورت في أواخر السبعينات وعقد عملهم انكسر إذ جاءت مرحلة الخلافات الحادة بين عاصي وفيروز والتي أدت في نهاية المطاف إلى الانفصال. بعد تدهور عائد بحالته الصحية, توفي عاصي في 21 حزيران/يونيو 1986 وكانت فيروز وقتها تحيي حفلات ناجحة في لندن, بمرافقة زياد, وترتل في كنيسة ويست منيستر. شكل رحيل عاصي كارثة في مسيرة الفن العربي وفي حياة فيروز الشخصية. هذه المرأة العظيمة بصمتها والكبيرة وبحزنها, فجعت أيضاً بوفاة ابنتها ليال بعد وقت قصير من وفاة عاصي.
طوت وفاة عاصي تاريخاً من الإبداع المشترك لتفتح صفحات جديدة منه مع زياد الابن. فبعد عام واحد على رحيل عاصي, أصدرت فيروز اسطوانة معرفتي فيك التي جاءت لتستوعب الماضي الفيروزي العريق, ولتضيف عليه إبداعاً أكثر جرأة وأكثر انطلاقاً نحو التطوير. وفي العام 1995 قدمت فيروز وزياد أسطوانة إلى عاصي كهدية إلى روحه, استعادت فيها فيروز غناء مجموعة من الروائع الرحبانية بتوزيع وإشراف موسيقي لزياد, مع أوركسترا ضخمة كما كان يحلم عاصي أن تنفذ موسيقاهم, عبرت فيها فيروز عن حبها الكبير له, وتقديرها لفنه العظيم, فكانت أجمل هدية لراحة نفسه.
استمرت فيروز في غناء الأغاني الرحبانية جنباً إلى جنب مع الأغاني الخلاقة والمتأثرة بشكل أساسي بموسيقى الجاز لابنها زياد. كما غنت أغان كان قد خبأها لها فليمون تحت وسادتها قبل رحيله. عملت أيضاً مع زكي ناصيف, ومؤخراً مع محمد محسن, بعد عقود طويلة من أول تعاون بينهما.
بعد انتهاء الحرب الأهلية, أقامت فيروز حفلة في بيروت في العام 1994, ثم عادت إلى بعلبك عام 1998 حيث حققت حفلاتها نجاحاً مجروحاً. استمرت بإطلاق أغان جديدة وإحياء الحفلات حول العالم.
أغاني فيروز تدين بالكثير للعبقرية الموسيقية والشعرية للأخوين رحباني. في السنوات الأخيرة عكست أيضاً موهبة التأليف لدى زياد الرحباني. بالإضافة إلى ذلك, عززت القاعدة الموسيقية الرحبة لفيروز التي تجمع ما بين الأداء الطقسي الكنسي و الغناء العربي التقليدي.
من أكثر أعمالها الجديرة بالذكر مؤخراً, حفلتي بيت الدين عامي 2000 و 2001 اللتان أقامتهما بالتعاون مع ابنها زياد . هاتان الحفلتان بشرتا بولادة عصر جديد في حياة وأعمال فيروز وأوضحتا اختيارها وتفضيلها التركيبة الزيادية. ألبومها الأخير ولا كيف ,أيضاً بالتعاون مع زياد, وضع الختم الأخير على حصرية زياد في أية أعمال مقبلة.
مصادر:
"فيروز: حياتها وأغانيها" تأليف مجيد طراد وربيع محمد خليفة
"فيروز: المطربة والمشوار" تأليف رياض جركس
"الرحبانيون وفيروز" تأليف جان ألكسان
"طريق النحل" تأليف هنري زغيب
ملحوظه هامه هذا المقال منقول
http://www.sama3y.net/forum/showthread.php...1939&page=3