ليسوا سواء...
لا الإسلاميون سواء في مشاريعهم ونهجهم وتقويمهم للتجربة التركية، ولا مبارك وغول كذاك!
كل يرى التجربة من زاويته، ويكفي التجربة التركية فخرا أن فيها ما ينصر الإسلامية الوسطية، والعلمانية المعتدلة، والليبرالية المحافظة، واليسار المنضبط، والبورجوازية العادلة، والبروليتاريا الراشدة، مثلما هي ترضي كل الطوائف وكل الأعراق!
فقد حقق حزب العدالة والتنمية فوزا كاسحا لا باعتبار تركيا ككل فقط، وإنما كانت له الأغلبية في كل الدوائر الانتخابية، بما فيها دوائر الأكراد على الأكراد أنفسهم، ودوائر في عقر دار العلويين، وأخرى كانت حكرا لأتاتورك وحزبه!
من هنا فقد نجد من يجير التجربة لصالح العلمانية، ومن يجيرها لصالح الإسلامية، وقد كتبت مقالا عشية الانتخابات البرلمانية قلت فيها أن الذي هزم بالتجربة إنما هو التطرف...
فلا يحق لمتطرف أيا كان، إسلامي أو علماني أو يساري أو ليبرالي أن يستثمر التجربة لصالحه لأن الواقع سيكذبه...
وهنا فحين نصفق للتجربة، فنحن نصفق للحرية، للتنمية، للمجتمع المدني، لدحر الطغيان العسكري وتدخلاته المملة في شؤون السياسة لا في تركيا وحدها، نحن نصفق للإنسان...
هذه واحدة..
أما الثانية فهي تلك المقارنة الكوميدية بين حزب العدالة والتنمية، وحزب مبارك الوطني حتى بطبعته الحديثة وفكره الجديد!!
فكلا الحزبين -مع الاعتذار للحزب التركي على المقارنة- يمثلان قواعدهما المجتمعية، وبقدر تجذر الإسلام في كلا المجتمعين يمكن أن نحتسب التقدم الذي يحرزه الحزب...
بمعنى أنه لا يقبل أن تقاس كفاءة حكومة السعودية مقارنة بحكومة اليمن أو السودان بناء على نتائج التنمية في كلا البلدين، فموارد الأرض هنا وهناك مختلفة، والظروف السياسية والعسكرية والاستقرار الاجتماعي أيضا مختلف، وهنا يكون قياسنا مع الفارق... بل هو قياس فاسد لا تقوم له قائمة بمقارنة البنية التحتية بين البلدين على مدى خمس سنوات...هذه سذاجة
قريبا من ذلك ما يردده علماء السلوك الصوفي من عبارة ذات دلالة، غدت منهاجا في الربانية:
(حسنات الأبرار سيئات المقربين)
لذا قال ربنا تبارك وتعالى لنساء البيت الأطهر:
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }الأحزاب30
وفي الحديث: (درهم سبق ألف درهم) فالدرهم الذي يبذله كادح يكاد أن يسوي عشر ماله، لا يقارن بمئات الدنانير من مليئ يملك الملايين...
وكنت في فترة التدريس أعاني من تلميذي (سعيد) الأمرّين بسبب تلكئه في حل واجباته الدراسية، وما يكاد يحل لي سؤالا من أسئلتي الأربعة التي كنت أحافظ على عددها في أغلب الدروس!
وكنت أعيره وأمثاله بزميله (نظمي) الذي لا يترك سؤالا حتى ولو حاول حله بطريقة خاطئة...
وفي أحد الأيام تصادف أن جاءني نظمي بحلول ثلاثة أسئلة حلها على عجل، وتفرست من حله أنه أهمل الواجب وحله في المدرسة، فأوقفت نظمي ووبخته وأعطيته دشا ساخنا من التقريع لم أجد مناصا منه، محبة وإخلاصا له...
وكان في المقعد الخلفي (سعيد) وكنت أنوي تجاوزه سريعا للضفة الأخرى من الفصل، لأقول كلمتي المعتادة معه: (ما في فايدة!)
ولكنني ذهلت يومها يوم أن رأيت (سعيد) يفتح كراس الواجبات على الصفحة، وفي عينيه بريق ما..
فركت عيني واقتربت منه، فوجدت أن (سعيد) الذي لم يكلف نفسه فتح كتاب أو دفتر، حل سؤالين من أسئلتي حلا معقولا، وبخط متواضع!
لم أسأله عن بقية الأسئلة غير المحلولة، ولم أفكر بذلك!!
بل أوقفته هذه المرة في محله لا ليعاقب كنظمي وإنما ليصفق له الصف على إنجازه المعتبر...
لم أكن عادلا كيومي ذاك، فأنا لم أفكر بالانحياز لحظة، وكان نظمي أقرب إلى قلبي بما لا يقارن مع (سعيد)، ولكن القاعدة التي انطلق منها (نظمي) غير القاعدة التي انطلق منها (سعيد) وها هنا فكانت عقوبة نظمي مضاعفة، وكانت سيئته التي عوقب بها، هي هي حسنة سعيد التي صفق الجميع له فيها وازداد بها زهوا وإشراقا!!
أتاتورك حطم الإسلام في تركيا تحطيما، فمنع الأذان بالعربية، ومنع الخمار، ومنع الزي التركي الذي يذكره بشرقيته كالطربوش، وحارب التعليم الديني، وشوه تاريخ أسلافه بطريقة أكثر قسوة مما فعله ضباط مصر مع مملكة فاروق وعائلته,,,
وبعد نيف وثمانين من تلك الحرب المدمرة للهوية الإسلامية في المجتمع والدولة التركية، حتى بعد إصلاحات عدنان مندريس التي أعادت الأذان للعربية وفتحت المجال للمعاهد الدينية، والتي أعدم بها بقرار من الجيش الذي عدّها انقلاب على العلمانية ومبادئ أتاتورك المقدسة!!
أقول بعد ثمانين سنة من انقلاب أتاتورك كان الواقع في تركيا يقوم على أرضية ضعيفة إسلاميا، والمحاولات المدنية الإسلامية السابقة ووجهت بتحطيم جماعة سعيد النوري، وإعدام رئيس وزارة والانقلاب على أربع حكومات منتخبة، باسم الوصاية على مبادئ (أتاتورك!)
-الخط الذي ينطلق منه أردوغان وأربكان وغل، يصعد باتجاه الأسلمة، من قاعدة مجتمعية لم تصلها دولة عربية بما فيها تونس، بله مصر بلد الأزهر العريق...
والخط الذي ينطلق منه مبارك هو مصر الذي بقيت مبادئ الشريعة الإسلامية فيها هي المصدر الأساسي بنص الدستور..
وهذا فرق أول، فبوصلة مبارك نحو العلمنة المتدرجة، وبوصلة (الشيخ غل!!) نحو الأسلمة المتدرجة... وكل يراعي ظروفه المحيطة، وقاعده والأرضية التي ينطلق منها، ولا نستطيع أن نجزم بقدرته على تحقيق طموحاته القريبة والبعيدة....
-الفرق الثاني مبارك خرج من رحم الجيش والنظام الانقلابي الدكتاتوري، فكان ضابطا فيه...
أما (الشيخ غل) فقد كان ولا يزال هدفا للجيش يرفض الجيش حتى حضور حفل تنصيبه!
-مبارك يتاجر بالإسلام وشريعته، ولكنه لا يطبق أحكامها حتى في خاصة زوجته!
و (الشيخ غل) لا يأتي على ذكر الإسلام ولكن حجاب زوجته يفصح عن هويته...
-مبارك يلعب بمكعبات الدستور ليفصله على مقاسه ومقاس ابنه، ويضع صلاحيات أوسع بيد الرئيس
و(الشيخ غل) ومن خلفه يطرحون فكرة تعديل الدستور لتقليص هيمنة الرئيس والجيش على البرلمان المنتخب
-مبارك يدخل لعبة الانتخابات الرئاسية المتعددة بمسرحية تنتهي بفوزه بأصوات ما يزيد على ثلاثة أرباع الشعب...
بينما (الشيخ غل) يسقط في الجولة الأولى والثانية ليصعد في الثالثة بأصوات حزبه الذي لم يتجاوز نسبة 62%
-مبارك قدم لمصر بعد ربع قرن ويزيد فضيحة تنموية كان ختامها حوادث العبارات والقطارات والطائرات المصرية التي تشي بحجم الفساد في نظامه..
بينما (الشيخ غل) ومن وراءه قدموا في خمس الفترة التي حكم بها مبارك مصر إنجازات تنموية لا يكاد يطعن بها شانئ أو متحامل، ودعوا الليرة التركية تحاور الجنيه المصري: اين كنا وإلى أين صرنا!
أما أولئك الذين يرون بأن مدى التخريب الذي صنعه أتاتورك في تركيا على مستوى الديمقراطية والأسلمة والقيم الاجتماعية، لا يمكن أن يكون صنيعة شخص واحد، فلهم أن يتذكروا بأن أتاتورك ليس شخصا واحدا، بل هو طوال العقود الماضية من حياة المجتمع التركي، دولة وأجهزة أمن ورئاسة وبرلمان وحكومات!
وإني لأذكر أن مصر عبد الناصر كادت أن تخلو من فتاة جامعية محجبة، وسورية حافظ كذلك، ولك أن تنظر لواقع ردة الفعل الجارف نحو الحجاب و اللحية و (التطرف الديني أيضا!)
وتركيا أتاتورك نفسها اختلفت مجتمعيا عن تركيا (السلطان عبد الحميد)، حتى أن والدة أتاتورك كانت (محجبة) حتى في حياة ابنها، بينما أصبح (الحجاب) في تركيا وفي عهد الابن البار مصطفى، رمزا للتخلف، وهدفا لسهام الجيش والدولة، وتهمة كافية لمنع التعليم في الجامعات، ومنع دخول الدوائر الرسمية!!
خلاصة الحديث أخي آمون:
(الشيخ غل) و (الشيخ أردوغان):D يحرصان على أن تظهر زوجاتهما ملتزمات بشريعتهن، ويسعيان لاستصدار مادة دستورية، وبطريقة دستورية غير انقلابية، تجيز حرية لبس الزي في جميع الدوائر الطلابية والرسمية...
بينما الحاخام (مبارك) يدافع حتى عن حق فرنسا بمنع الحجاب عن المسلمات، مع أن القرار في فرنسا ليس تبعا لرأيه، ولم يستشره احد ولا طالبه بتحمّل أوزاره!!
وعليه فلن يكون مبارك ابن تيمية عصره ولا بظفره، حتى ولو قارناه بعمه أولمرت!
واسلموا لود واحترام:redrose: