كتاب في غاية الروعة ... أنهيته للتوّ
الصوفية في الإسلام
خيرة طهيري
يوصف التصوف بأنه أكبر تيار روحي في الأديان جميعها، ويعرف التصوف بأنه إدراك الحقيقة المطلقة، وترجع تسمية الصوفي بهذا الاسم لأن المتصوفة كانوا يلبسون ثياب الصوف تعبيرا عن الزهد والتقشف، وقال آخرون إن هذا الاسم مشتق من الصفاء، وفي كتابها "الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف" تعرض المستشرقة الألمانية آنا ماري شميل لهذا الجانب في الإسلام.
حاول متصوفون من شتى الأديان شرح خبراتهم الصوفية في ثلاثة أنماط، أولها البحث المتواصل عن الله، ورمز إليه بصورة طريق يجب على السائح أن يسلكه صعودا، كما عبر عنه بصور بلاغية عديدة كالتدرج والارتقاء، أو معراج الروح، وثانيها ما عبر عنه بتربية النفس بالابتلاءات وتنقيتها بأنواع الآلام، وثالثها إشارات اقتبست من الحب الإنساني عبر بها عن لوعة المحب وشوقه، وكثيرا ما تبدو أشعار المتصوفين وكأنها تخلط بين الحب الإلهي والحب الإنساني.
وعلى الرغم من أن التجربة الصوفية تشابهت أوصافها، إلا أنه من الأفضل الفصل بين نمطين رئيسيين منها، أولهما صوفية اللا حدود، وثانيهما صوفية استبطان الذات، وتتشابه تيارات الصوفية التي تطورت تحت تأثير فكر ابن عربي، والتي يعرف فيها الله بأنه وجود كل الوجود بل أحيانا بأنه العدم، لأنه يمكن وصفه من خلال أي نوع من التفكير المحدود، فالذات الإلهية لا متناهية، بلا زمان، وبلا مكان، وهو الوجود المطلق، وهو الحقيقة المطلقة.
وتعتبر العلاقة بين الإنسان وبين الله علاقة مخلوق بخالق، لكن عند الصوفية هي بمكانة العبد في حضرة سيده، أو موقف محب في لهفة إلى حبيبه، إضافة إلى أن الصوفي يحب أن يصل إلى أبعد من ذلك، إلى التخلق بصفات الله، فهو يبتغي توحيد إرادته مع إرادة الله توحيدا تاما، وبذلك يخرج من المشكلة النظرية في معرض التفريق بين الجبر والاختيار، ويمكن اعتبار هذا النوع من التصوف طريقة حياة عملية، أما المتصوف ذو الاتجاه الغنوصي فيبحث عن تعميق معرفته بالله، ويحاول التعرف على تركيبة الكون أو عن درجات الوحي الإلهي، رغم أن الإطلاع على ذات الله لا يتسنى لأحد.
وبعدما كان التصوف الإسلامي قد تبلور بالفعل تركزت فكرته في جوهر الإسلام، المتمثل في التوحيد كونه محور الإسلام، وقد بقي الصوفية دائما داخل المجتمع الإسلامي، ولم يكن مذهبهم إلى التصوف مصبوغا بانتمائهم إلى هذا المذهب الفقهي أو ذاك، وقد استطاعوا الوصول إلى غاياتهم من عدة مسالك، فلم تكن أساسا تهمهم الاختلافات بين المذاهب الفقهية ولا الدقة في المذاهب الكلامية، ونشير هنا إلى أن الصوفي لا يتبع لأي مذهب من المذاهب الفقهية.
وفضلا عن ذلك فإن المتصوفة كانوا يذمون تعلق العلماء بالكتب، وكانوا ينصحون تلامذتهم بالاجتهاد لكشف الحجب وليس لجمع الكتب، إلا أن الواقع يؤكد أنهم كانوا من أغزر المؤلفين إنتاجا للكتب في العالم الإسلامي، ولابد أن نعترف أن كثيرا من كتاباتهم النظرية لم تكن أسهل في القراءة ولا أكثر جاذبية من الشروح المذهبية التي كانوا يهاجمونها بشدة في أشعارهم.
ويفرق الصوفيون صراحة بين المتصوف الذي يجتهد في الوصول إلى درجة روحية عالية، والمتصوف الذي يتظاهر بالتصوف وهو في الحقيقة شخص نفعي ومخادع خطير، وهنا أدرك الصوفيون تمام الإدراك أن سلوك الطريق الروحي صعب إلا على من خلق له، ومن الصعب أن يصبح صوفيا من لم يولد صوفيا فهذه الخرقة لا بد أن تكون قد خيطت في قديم الأزل، لهذا السبب ظهرت الشكوى من اضمحلال التصوف في بداية الحركة الصوفية تقريبا.
إن التصوف الإسلامي الكلاسيكي هو محاولة الوصول إلى الطمأنينة الشخصية من خلال الوصول إلى التوحيد الحقيقي، هكذا كتب أحد رواد الاستشراق في أوروبا، والصوفية تعكس، بفضل طقوسها العملية الضاربة بجذورها في تعاليم القرآن وبمواقف المسلم المختلفة تجاه العالم، فمن المتصوفة زهاد خاصموا الدنيا، ومجاهدون في إعلاء كلمة التوحيد، ووعاظ في التوبة غير متهاونين، ومبتهلون يتغنون بنهج الله، وأصحاب أنظمة معقدة في الفلسفة الكلامية، ومحبون غابوا في الجمال الخالد، وفي كل ذلك فإن هدف المتصوفة هو العودة إلى يوم كان الله وحده، قبلما يخلق الخلائق من عدم ويهبهم الحياة والحب والعقل ليقفوا أمامه في نهاية الزمان مقرين به ربا.
وللصوفيين مساهمات وآثار لغوية أشار إلى بعضها بولص نويا الذي تحدث عن مغامرات الصوفيين اللغوية فقد أعطوا اللغة كثير من معاني الصدق والخبرة، ومن مؤلفات الصوفيين الأوائل لا يتضح ثراء التعبير فحسب، بل يظهر كذلك عمق الأفكار الذي يزداد بعدا برسوخ الخبرة، تلك الخبرة التي تفوق الوصف تعبر عنها أشعار صوفيي القرن العاشر أو بعض أشعار المفكر الصوفي الحلاج في كلمات رائعة الجمال.
ويعتبر خراسان في الجزء الشمالي الشرقي من الخلافة العباسية هي البلد الذي اكتمل فيه التصوف. وقد كانت لدى الصوفية نظريتا النقاء والبقاء من القضايا الأساسية في التصوف، اللذان تطور مفهومهما من مضمون النص القرآني، هذا النص الذي يعتبره المفكر الفرنسي لويس ماسينيون كلمة الله وأنه غير مخلوق، وأن قدمه من وجود الله، وكان القرآن لكل مسلم وللصوفي خاصة قاموسه الجامع بلا منازع، ومرجع كل علومه، ومفتاح تأملاته في الكون.
وقد اهتم علماء أوروبا أيما اهتمام بالصوفيين المسلمين، وليس هناك عالم من علماء الإسلام في العصور الوسطى لاقى اهتماما منهم مثل الغزالي، فهناك ترجمات كثيرة لأعماله إلى لغات غربية عديدة، كما تدور المناقشات منذ عشرات السنين حول شخصية الغزالي الحقيقية، وفيما إذا كان فكره نابعا من ذاته أم أنه مجرد إخلاص لجماعة المسلمين بقبول الحقائق الموجودة ببساطة.
الطريقة الصوفية
إن الطريق لدى الصوفية في مجمل الأديان هي صورة لتلك المراحل والخطوات نحو التوجه إلى الله، والتقسيم الإسلامي للطريق الصوفي هو شريعة، وطريقة، وحقيقة، الطريقة أي الدرب الذي يسلكه الصوفي، وتعرف بأنها الطريق الذي يتفرع من الشريعة لأن، الشارع الواسع يسمى شرعا والفرع منه يسمى طريقا، وهذا الاشتقاق يبين أن الصوفية يعتبرون أن طريق التربية الصوفية هي درب من طريق الشريعة الذي يجب على كل مسلم أن يسلكه، وينسب إلى النبي قوله: "الشريعة أقوالي، والطريقة أعمالي، والحقيقة أحوالي".
أما المقام فهو حالة دائمة يستطيع المرء بالجهد أن يبلغ منها درجة معينة، فالمقام ينتمي إلى الأعمال أما الأحوال فهي نعمة معطاة، لا يمكن اكتسابها أو ردها، وكلمة حال تستخدم في لغات العالم الإسلامي الحديثة بمعنى النشوة والمجد، والمقامات هي المراحل التي يصل إليها السالك على درب الزهد والأخلاق، ولها تقسيمات مختلفة، تبين كيف كان يختلف تسلسل المقامات، وهي: الإيمان، والخوف، والطاعة، والرجاء، والمحبة، والألم، والتوكل، وقيل أن المقامات الثلاث الأخيرة سميت التحير ثم الافتقار ثم الاتصال، إضافة إلى وجود مقامات أخرى، لكن يظل أهمها مقامات الندم والتوكل والفقر، وهي التي تؤدي إلى السعادة أو إلى الجوانب المختلفة لنعمة الحب أو إلى المعرفة طبقا لشغف المريد وحالته الروحية، والمريد الذي يمشي في طريق الصوفية يحتاج إلى من يرشده في سلوك الطريق الروحي لينتقل به بين المقامات المختلفة، ويدله على الطريق إلى الغاية.
الدين نصيحة
يعتبر حديث الرسول "الدين النصيحة" محببا لدى الصوفية، لأنهم يرون أن المراقبة المستمرة للمريد شرط ضروري للتقدم الفعلي، فربما يقرأ المرء كل الكتب على مدار ألف عام فلا يصل إلى شيء لو لم يكن هناك شيخ يرشده ويثق فيه، ويعد المقام الأول على الطريق هو مقام التوبة، ويعتمد ذلك على مجاهدة دائبة للنفس، وللضمير وللشهوات، وكان هذا الموضوع محببا لدى الصوفية، ولم يملوا أبدا من تحذير تلامذتهم من مكائد النفس وفتنتها التي لا تكمن في الشهوات الجسدية فقط بل تتخفى أيضا في ثياب الرياء والورع المزيف، التي لابد للمريد أن يراقبها ويتخلص منها، إضافة إلى مقام التوكل، فقد كان المسلمون يستخدمونه دوما تعبيرا عن حسن الظن، وهو تعبير له وقع غريب على أذن المحدثين وهو يعني الثقة المطلقة في فضل الله، إضافة إلى مقام القدرة على الشكر، والإحساس بالخوف والجراء، والمحبة والفناء، إذ يقول الغزالي :" الحب بدون المعرفة مستحيل، فالمرء لا يحب إلا من يعرف".
أما الصلاة لدى الصوفية هي في الشريعة عبادة، وفي الطريقة قرب، وفي الحقيقة وصال، والدعاء لا يقل أهمية عن الصلاة لديهم إذ يقول أحد الصوفية الأوائل: "أن أسلب الدعاء أفدح من أن أسلب الإجابة"، ومن أروع الجوانب في علم النفس الصوفي في الإسلام هو المنظور الذي يناقش الصوفية من خلاله قوى الشر المتمثلة في الشيطان، ففي بعض الدوائر الصوفية هناك محاولة لإنصاف الشيطان، والواضح أن تلك المحاولة قد بدأها الحلاج (عالم صوفي) التي تجعل الشيطان أكثر المخلوقات وحيدا مما منعه من السجود لآدم.
وأخيرا فإن درجة الولاية في الصوفية لا يتم الوصول إليها إلا بلطافة اللسان، وحسن الأخلاق، وطراوة الوجه، وسخاء النفس، وقلة الاعتراض، وقبول العذر، والشفقة على جميع الخلائق، أخيارهم وأشرارهم، و تعتبر أعلى مراتب الأولياء القطب، أو الغوث يحيط به ثلاثة نقباء وأربعة أوتاد وسبعة أبرار وأربعون يسمون أبدال وثلاثمائة أخيار وأربعة آلاف من الأولياء المحققين.
كاتبة جزائرية مقيمة في الاردن
الكتاب:الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف
المؤلف: آنا ماري شيميل
الناشر:منشورات الجمل، ألمانيا، 2006
519 صفحة