استخبارات محمد
من هم استخبارات "محمد " وكيف كان يستخدمهم ؟ وهل كانت بعض القبائل العربية تعمل بالتجسس لصالحه ؟ ومن هم الجواسيس ؟ وماذا يعني ذلك للدعوة إلى الإسلام
كل من قرأ كتب السيرة النبوية بتدبير وإمعان أيقن أن محمداً مع ما عنده من ذكاء وما له من ألمعية , كانت له عيون مبثوثة وجواسيس منتشرة , منها خاصة ومنها عامة , ومنها سرية ومنها علنية , خصوصاً بعدما هاجر إلى المدينة حيث أصبح له من يهودها أعداء يكيدون له أنواع المكايد , ومن أتباعه منافقون يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ويتربصون به الدوائر , بما قالوا وما فعلوا , فتأخذهم الحيرة وتستولي عليهم الدهشة فينكرون ويعتذرون
إن كتب السيرة مشحونة بالروايات التي تذكر شيئاً كثيرا من هذا , فإن كانت هذه الروايات صحيحة , فأن فيها دلالة قاطعة على أن محمداُ كان له عيون وجواسيس سريين لا يعلم بهم غيره , وإلا فمحمد لا يعلم الغيب , فقد جاء في القرآن : ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) (1) , وفيه أيضاً : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) (2) قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والضار , حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب , ورابحاً وخاسراً في التجارات , ومصيباً ومخطئاً في التدابير , إن أنا إلا عبداً أرسلت نذيراً وبشيراً وما من شأني إني أعلم الغيب (3) , وها نحن نورد لك ههنا أمثلة من الروايات التي هي إن صحت دلت دلالة قاطعة على أن محمداً كانت له تشكيلات استخبارية مدهشة
(1) قصة إرجاف المنافقين في غزوة تبوك : ففي السيرة الحلبية عند الكلام على غزوة تبوك قال : وكان اجتمع جمع من المنافقين في بيت سويلم اليهودي , فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً , والله لكأنهم ( يعني الصحابة ) غداً مقرنون في الحبال ؛ يقولون ذلك إرجافاً وترهيباً للمؤمنين , فقال رسول الله عند ذلك لعمار بن ياسر : أدرك القوم فإنهم قد احترقوا , فاسألهم عمّا قالوا , فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا , فانطلق إليهم عمار فقال لهم , فأتوا رسول الله يعتذرون إليه وقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب , فأنزل الله تعالى : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كمنا نخوض ونلعب ) (4) الآية وقد أورد الزمخشري في الكشاف هذه القصة على غير هذا الوجه , فذكر أن الذين قالوا هذا القول كانوا في الجيش الزاحف إلى تبوك مع محمد عند مسيره لغزو تبوك لا في بيت سويلم اليهودي , قال : فأطلع الله نبيه على ما قالوا , فقال : احسبوا على الركب , فأتاهم لهم : قلتم كذا وكذا , فقالوا : يا نبي الله لا , والله كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك , ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر (1) وسواء كانوا في بيت سويلم أم كانوا مع محمد في الجيش فإن القضية واحدة بالنسبة إلى ما نحن فيه
(2) قصة فقد ناقته : قد رويت هذه القصة في موضعين في غزوة تبوك وفي غزوة بني المصطلق , ولعل ذكرها في غزوة بني المصطلق ناشئ من خلط الرواة كما يقول صاحب السيرة الحلبية , وخلاصة هذه القصة أن ناقة محمد ضلّت ففقدت في غزوة تبوك , فقال رجل من المنافقين الذين خرجوا نعه ليس لغرض إلا الغنيمة : (( إن محمداً يزعم أنه نبي وأنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته )) , فقال رسول الله . إن رجلاً يقول كذا وكذا , وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله , وقد دلني الله عليها , إنها في شعب كذا وكذا , وقد حبستها شجرة بزمامها , فانطلقوا حتى تأتوني بها , فذهبوا فوجدوها كذلك فجاءوا بها (2)
قال: ولما سمع بذلك بعض الصحابة واسمه عمارة بن حزم كما في سيرة بن هشام , جاء إلى رحله لمن به : والله لعجب في شيء حدثناه رسول الله عن مقالة قائل أخبره الله عنه , وذكر المقالة , فقال له بعض من في رحله : إن هذه المقالة قالها فلان ( يعني شخصاً في رحله أيضاً اسمه زيد بن اللصيت كما في سيرة ابن هشام ) قالها قبل أن تأتي , فقال عمارة : إليَّ عباد الله , إن في رحلي داهية وما أشعر , ثم ألتفت إلى زيد بن اللصيت وقال له : أي عدو الله أخرج من رحلي ولا تصحبني , فطرده من رحله (3)
العباس صاحب استخبارات محمد
كانت للعباس حالة خاصة مع محمد قبل النبوة وبعدها , فإنه لم ينكر عليه الدعوة كسائر أعمامه ولم يعاده ولم يؤذه كما عاداه وآذاه عمه أبو لهب , وكان محمد كثيراً ما يجلس إلى عمه العباس ويسايره , كما دل على ذلك ما جاء في السيرة الحلبية عند الكلام عن أصحاب بيعة العقبة لما خرجوا إلى مكة يريدون الحج وهي حجتهم التي بايعوا النبي فيها بيعة العقبة , قال : وكان معهم كعب بن مالك , والبراء بن معرور , فكانوا ( أي المسلمون منهم ) يصلون وهم في طريق حجهم إلى بيت المقدس , لأن القبلة إذ ذاك كانت إلى بيت المقدس , ولم تحول إلى الكعبة إلا بعد الهجرة كما هو معلوم , ولكن البراء بن معرور قد ارتأى رأياً من عنده فخالفهم وصار يصلي إلى الكعبة , وهم يصلون إلى بيت المقدس , فلما قدموا مكة قال البراء بن معرور لكعب بن مالك : يا ابن أخي انطلق بنا إلى بيت المقدس , قال كعب بن مالك : فخرجنا نسأل عن رسول الله وكنا لا نعرفه لأنا لم نره قبل ذلك , فلقينا رجل من أهل مكة فسألناه عن محمد فقال : أتعرفانه ؟ قلنا : لا , قال : فهل تعرفان عمه العباس بن عبد المطلب ؟ قلنا : نعم , وكنا نعرفه لأنه كان يقدم علينا المدينة تاجراً , قال : دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس , قال : فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله معه , فسلمنا حين جلسنا إليه , فقال رسول الله للعباس : هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال : نعم , هذا البراء بن معرور سيد قومه , وهذا كعب بن مالك , فقال رسول الله : الشاعر ؟ قال : نعم , إلى آخر القصة (1) فمن هذا نفهم أن محمداً كان يكثر مجالسة العباس وأن العباس كان يكثر الجلوس إليه , ولم يكن أحد يجالسه من كفار قريش لا من أعمامه ولا من غيرهم
فالعباس إنما كتم إسلامه ليتم له ما يريده من التجسس لمحمد لأنه إذا كان في الظاهر كافراً كسائر قريش كان كواحد منهم مأمون الجانب عندهم , يخالطهم في مجتمعاتهم ويجالسهم في أنديتهم , وبذلك يكون عيناً لمحمد عليهم , بخلاف ما إذا أظهر إسلامه فإنه حينئذٍ يكون في نظر كفار قريش كسائر المسلمين عدواً من أعدائهم يجاهرونه بالعداوة ويبتعدون عنه ولا يخالطونه , ولذلك أبقاه محمد في مكة لما هاجر إلى المدينة , ولم يدعه يظهر إسلامه ويهاجر معه , حتى أن العباس أراد بعد الهجرة مراراً أن يظهر إسلامه ويهاجر إلى المدينة فمنعه النبي من ذلك , ففي السيرة الحلبية قال : وكان ( أي العباس ) كثيراً ما يطلب الهجرة إلى رسول الله , فيكتب له مقامك بمكة خير لك , قال : وفي رواية : استأذن العباس النبي في الهجرة , فكتب له : يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه , فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة , فكان كذلك (3) فهذا هو سبب كتمه إسلامه وهذا سبب بقائه في مكة , وإلا فلو كان سبب ذلك هو كما قالوا من أنه يخشى ضياع أمواله المتفرقة في قريش لما طلب الهجرة مراراً وهو يعلم أن أمواله تضيع إذا هاجر وأظهر الإسلام
يتبع
(1) السيرة الحلبية , 3/ 74 0
(2) المصدر نفسه 0
(3) المصدر نفسه 0
(4) السيرة الحلبية , 3/ 102 0
(1) سورة النمل , الآية : 65 0
(2) سورة الأعراف , الآية : 188 0
(3) الكشاف , تفسير الآية 188 من سورة الأعراف 0
(4) سورة التوبة , الآية : 65 , السيرة الحلبية , 3/ 131 – 132 0
(1) الكشاف , تفسير الآية 65 من سورة التوبة 0
(2) السيرة الحلبية , 3/ 134 0
(1) السيرة الحلبية , 3/ 21 0
(2) السيرة الحلبية , 3/ 22 0
(3) السيرة الحلبية , 2/ 259 0
(4) السيرة الحلبية , 2/ 31 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للشاعر والأديب العراقي – معروف الرصافي 0
|