حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/printthread.php 16 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$archive_pages - Line: 2 - File: printthread.php(287) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(287) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 287 eval
/printthread.php 117 printthread_multipage
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval
Warning [2] Undefined array key "time" - Line: 2 - File: printthread.php(211) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/printthread.php(211) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/printthread.php 211 eval



نادي الفكر العربي
القاموس الفلسفي - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: عـــــــــلــــــــــوم (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=6)
+--- المنتدى: فلسفة وعلم نفس (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=84)
+--- الموضوع: القاموس الفلسفي (/showthread.php?tid=11069)

الصفحات: 1 2 3


القاموس الفلسفي - طيف - 04-30-2007

الالف

الاكاديمية

الأكاديمية
هو الاسم الذي كان يُطلَق على المدرسة التي أسَّسها أفلاطون، نسبة إلى المكان غير البعيد عن أثينا الذي كان يعلِّم فيه تلاميذه (حدائق البطل الأسطوري أكاذيموس).



ويمكننا هنا التمييز بين:

- الأكاديمية القديمة، التي قادها بعد وفاة أفلاطون ابن أخته سْبِفسِبوس، ومن بعده كسينوكراتِس. وعقيدة هذه المدرسة كانت أقرب إلى الفيثاغورية، فلعبت دورًا هامًّا في تعليم الرياضيات والفلك، حيث كان المذهب الأفلاطوني يعلَّم فيها على أساس علم العدد.

- الأكاديمية الوسطى (أركِسيلاس، 316-241 ق م)؛ وقد تأثرت بمذهب الشك.

- الأكاديمية الجديدة (كارنياذِس، 215-126 ق م، وفيلون اللاريسي، إلخ)؛ وقد تطورت مع تطور الرواقية، ووقفت موقفًا مناوئًا من كلٍّ من مذهب الحقيقة الرواقي ومن الاحتمالية التي سبقتْها.

وفي الفترات اللاحقة، شكَّلت الأكاديمية مذهبًا انتقائيًّا قوامه الأفلاطونية والرواقية والأرسطية وغيرها من المدارس. وفي الفترة الواقعة بين القرنين الرابع والخامس الميلاديين، قرَّت الأكاديمية نهائيًّا على مذهب الأفلاطونية الجديدة (فلوطرخُس الأثيني). وقد أغلقها الإمبراطور البيزنطي يوستِنيانوس في العام 529. وفي عصر النهضة تأسَّستْ في فلورنسا أكاديمية (1459-1521) كافحت، اعتبارًا من المواقف الفكرية الأفلاطونية، محاولات تأويل السكولاستية المسيحية لمذهب أرسطو، كما عملت على ترجمة مؤلَّفات أفلاطون وشرحها.

***

ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

تعريب: أكرم أنطاكي

مراجعة وإضافات: ديمتري أفييرينوس


القاموس الفلسفي - طيف - 04-30-2007

ابن رشد



ابن رشد (1126-1198)



لا شك أن ابن رشد هو أحد كبار الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية. وقد ترك للإنسانية مآثر علمية جليلة استفادت منها بلاد الغرب التي تنعم الآن بحضارة راقية؛ إذ كان لابن رشد وغيره من علماء العرب والمسلمين فضلاً كبيرًا في بناء قاعدة تلك الحضارة. فقد استمد الغرب الكثير من التراث العربي الإسلامي – ذلك التراث الذي مازال طلاب العلم الغربيون ينهلون منه في جامعاتهم وفي مجالات بحوثهم ودراساتهم. وقد بحث ابن رشد كثيرًا في الفلسفة، ولكنه لم يهمل الحقول المعرفية الأخرى، فعكف على القراءة والكتابة؛ إذ يُروى عنه أنه لم ينقطع عن القراءة والكتابة إلا في ليلتين: إحداهما كانت يوم وفاة والده، والثانية كانت ليلة زواجه! وقد ألَّف ابن رشد في الفيزياء والفلك والطب والفلسفة وغيرها.[1] ولقد صدق المؤلِّف المعروف جورج سارتون عندما قال في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم:

إن ابن رشد كان من أكابر فلاسفة الإسلام. ولقد أثَّر على فلاسفة أوروبا بفلسفته أكثر من أرسطو نفسه. ودون ريب، فإن ابن رشد هو مؤسِّس الفكر الحر: فقد فتح أمام علماء أوروبا أبواب البحث والمناقشة على مصاريعها؛ لذا فإنه أخرجها من ظلمات التقييد إلى نور العقل والتفكير.[2]

ولقد طغى نشاط ابن رشد الفلسفي على شهرته المرموقة وثقافته الفياضة في العلوم الأخرى، مثل الطب والفلك. وقد ذكر جورج سارتون في الكتاب نفسه:

إن شهرة ابن رشد في عالم الفلسفة كادت أن تحجب منجزاته في الطبيعيات. على أن ابن رشد كان يُعتبَر في الحقيقة من أكبر الأطباء في عصره. فقد ألَّف نحو عشرين كتابًا في الطب، بعضها تلخيصات لكتب جالينوس، وبعضها مصنفات ذاتية، وقد تُرجِمَ أكثرها إلى العبرية واللاتينية؛ وأشهرها كتاب الكليات في الطب، وهو موسوعة طبية في سبعة مجلدات، ترجمه إلى اللاتينية الطبيب بوناكوزا من جامعة بادوا في سنة 1255، وطُبِعَ مرات عديدة مضافًا إليه كتاب التيسير لابن زهر.[3]

نتيجة ذلك أن ابن رشد قد اشتهر شهرة عظيمة بين الأوروبيين في مجالين أساسيين من المعرفة، هما الطب والفلسفة؛ ولكن لن ننسى جوانبه الفكرية والثقافية الأخرى التي لم تكن أقل إشراقًا.[4]

***

ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي في قرطبة بالأندلس، وعاش في الفترة بين 520-595 هجرية (1126-1198 م)؛ ويسمِّيه الإفرنج Averroès. كان ينحدر من سلالة من المتبحِّرين والقضاة اللامعين[5]: فجد ابن رشد وسميُّه كان قاضيًا صنَّف في الفقه، وله فتاوى بنوازل عصره ذات مكانة عالية. وقد تسلَّم والد ابن رشد أيضًا القضاء؛ لكن لِما شُهِرَ به جده ولِما حظي به من مكانة، وكيما يُميَّز عنه، يضاف في العادة إليه لقبُ "الحفيد" ويضافُ إلى جدِّه لقب "الجد".[6]

زار ابن رشد مدينة مراكش عاصمة الموحدين مرات، كانت أولاها، فيما يبدو، سنة 548 هـ (1153 م)، أيام عبد المؤمن بن علي. ويبدو أن ابن رشد كان منذ ذاك الحين على صلات طيبة بآل زهر. ولعل انصراف ابن رشد عن التكسب بالطب هو الذي زوى عنه منافسةَ آل زهر وعداوتَهم وأكسبه صداقتَهم. وقد توثقت صلةُ ابن رشد بأبي مروان ابن زهر، فاتفقا على أن يؤلِّفا معًا كتابًا جامعًا في الطب يضع ابن زهر "جزئياته" أو الجانب العملي منه.[7] وقد وفى ابن رشد بما كان الطبيبان قد اتفقا عليه ووضع كتاب الكليات (557 هـ – 1162 م)، ولكن ابن زهر لم يجد من وقته المملوء بالتطبيب ما يوفِّره على وضع الكتاب المطلوب، فوضع لابن رشد كتابًا آخر اسمه التيسير في المداواة والتدبير.[8]

وفي سنة 548 هجرية، قدَّمه ابن طفيل إلى أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الذي يُعَدُّ المؤسِّس الحقيقي لدولة الموحدين.[9] وكان الفيلسوف ابن طفيل ذا تأثير على هذا السلطان، إذ كان السلطان يعتمد عليه في جلب العلماء والحكماء إلى بلاطه؛ وكان بين هؤلاء الفيلسوف ابن رشد، وكان لا يزال في دور الشباب. وقد وصف لنا أحد تلامذة ابن رشد المقابلة الأولى التي جرت لأستاذه مع هذا السلطان، جاعلاً صيغة الكلام على لسان ابن رشد نفسه. قال:‏

لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب، وجدت عنده أبا بكر ابن الطفيل، فمدحني أبو بكر أمامه. ثم سألني [السلطان] عن اسمي وأسرتي، وقال لي:‏ "ما هو رأي الفلاسفة في السماء، هل هي حادثة أم قديمة؟" فخفت واعتذرت، وأنكرت اشتغالي بالفلسفة. فأدرك أمير المؤمنين ما اعتراني من الخوف، فالتفت إلى أبي بكر [ابن طفيل]، وأخذ يحادثه في ذلك، ويذكر له أقوال أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، وما قال أهل الملَّة في الردِّ عليهم، حتى تعجَّبتُ من علمه وسعة إطلاعه. ومازال يتلطف في كلامه حتى هدأ روعي، وتكلمت بما حضرني من ذلك وأبديت رأيي.[10]

بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ إذ إن ابن رشد أخذ يتردد من ذلك الحين على قصر السلطان ويلتقي بابن طفيل. وذات يوم دعا ابن طفيل ابن رشد، وقال له ما مفاده إن أمير المؤمنين شكا إليه ما يجده في أسلوب أرسطو وترجمته من الصعوبة والغموض، وأنه يريد رجلاً يشرح هذه الكتب. ومما قاله ابن طفيل لابن رشد:

إنك أقوى منِّي عزمًا، فعليك بكتب أرسطو. وأعتقد أنك ستأتي عليها كلِّها، لأني أعرف سموَّ عقلك، ووضوح فكرك، وتجلدك. أما أنا فإن سنِّي واشتغالي بخدمة الأمير وصرف عنايتي – كل ذلك يمنعني من الإقدام على هذا الأمر.[11]

لما طعن ابن طفيل في السن، حلَّ ابن رشد محلَّه في الطبابة للخليفة في العام 578 هـ (1182 م). بيد أن ذلك لم يكن ليؤدي إلى انقطاع الصلة بين السلطان والفيلسوف.[12] وبهذا نستطيع أن نعتبر ابن رشد "شارح" المعلِّم الأول أرسطو، وأكبر الفلاسفة الشرَّاح أثرًا في الغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين.[13]

ولقد بالغ سلطان الموحدين يعقوب المنصور في إكرام ابن رشد بعد وفاة والده. ولكن الدهر أبى أن ينعم بال الحكيم ابن رشد؛ إذ سعى به أعداؤه إلى الأمير، ورموه عنده بالزندقة والمروق، فنفاه وسائر الفلاسفة من أرضه. ثم عاد الأمير إلى نفسه، فاستدعاه إلى مراكش واعتذر إليه، وظاهر نعمته عليه. ولكن الفيلسوف ما لبث أن توفي بمراكش سنة 595 هجرية[14] – 1198 ميلادية[15].



مختصر فلسفة ابن رشد

تدور فلسفة ابن رشد على قِدَمِ العالم وعلم الله وعنايته والمعاد وحشر الأجساد. فعنده أن العالم مخلوق وأن الخلق خلق متجدد، به يدوم العالم ويتغير، وأن الله هو القديم الحقيقي، فاعل الكل وموجِده، والحافظ له، وذلك بتوسط العقول المحرِّكة للأفلاك. وعنده أن الله عقل ومعقول معًا، وأن علم الله منزَّه عن أن يكون علمًا بالجزيئات الحادثة المتغيرة المعلولة أو علمًا بالكلِّيات التي تُنتزَع من الجزئيات. فكلا العلمين بالجزئيات والكليات حادث معلول؛ أما علم الله فعلم يوحِّد العالم ويحيط به. فيكفي أن يعلم الله في ذاته الشيءَ ليوجد ولتدوم عناية الله به وحفظُه الوجود عليه.[16]

وعنده أن العقل الفعَّال، الذي يُفيض المعقولات على العقل الإنساني، أزلي أبدي. والعقل الإنساني، بحكم اتصاله بالعقل الفعَّال وإفاضة هذا العقل عليه، أبدي هو الآخر. أما النفس فصورة الجسم، تفارقه وتبقى بعده منفردة. وأما الجسد الذي سيُبعَث، فهو ليس عين الجسد الذي كان لكلِّ إنسان في الحياة، وإنما هو جسد يشبهه، وأكثر كمالاً منه.

ويرى ابن رشد أن يعمل الإنسان على إسعاد المجموع، فلا يخص شخصه بالخير والبر، وأن تقوم المرأة بخدمة المجتمع والدولة، كما يقوم الرجل. والمصلحة العامة، في نظره، هي مقياس قيم الأفعال من حيث الخير والشر، وإن كان العمل خيرًا أو شرًّا لذاته. والعمل الخلقي هو ما يصدر عن عقل وروية من الإنسان. وليس الدين عنده مذاهب نظرية، بل هو أحكام شرعية وغايات خلقية، بتحقيقها يؤدي الدين رسالته، في خضوع الناس لأوامره وانتهائهم عن نواهيه.[17]

وانطلق ابن رشد في آرائه الأخلاقية من مذهبَي أرسطو وأفلاطون، فقال بالاتفاق مع أفلاطون بالفضائل الأساسية الأربع (الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة)، ولكنه اختلف عنه بتأكيده أن فضيلتي العفة والعدالة عامتان لكافة أجزاء الدولة (الحكماء والحراس والصناع). وهذه الفضائل كلها توجد من أجل السعادة النظرية، التي هي المعرفة العلمية الفلسفية، المقصورة على "الخاصة". وقد قَصَرَ الخلود على عقل البشرية الجمعي الذي يغتني ويتطور من جيل إلى آخر. وقد كان لهذا القول الأخير دورٌ كبير في تطور الفكر المتحرِّر في أوروبا في العصرين الوسيط والحديث. وأكد ابن رشد على أن الفضيلة لا تتم إلا في المجتمع، وشدَّد على دور التربية الخلقية، وأناط بالمرأة دورًا حاسمًا في رسم ملامح الأجيال القادمة، فألحَّ على ضرورة إصلاح دورها الاجتماعي في إنجاب الأطفال والخدمة المنزلية. وقد بسط ابن رشد أهم آرائه الأخلاقية من خلال شروحه على الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو وجوامع السياسة لأفلاطون.[18]

مؤلَّفات ابن رشد

1. في الطب:‏ ينحصر اهتمام ابن رشد في الطب بعلم التشريح، وآلية الدورة الدموية عند الإنسان، وتشخيص بعض الأمراض، ووصف بعض الأدوية لها. كما ذكر ابن رشد في عدة أماكن من مؤلَّفاته أن الجدري لا يصيب الإنسان أكثر من مرة واحدة؛ وهذا ما توصل إليه الطب الحديث. كما فهم فهمًا جيدًا وظيفة شبكية العين. وهناك قول مأثور عن ابن رشد: "مَن اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله." ونذكر فيما يلي المؤلَّفات الطبية المأثورة عنه:

- كتاب الكليات في الطب

- تلخيص كتاب الحميات لجالينوس

- تلخيص أول كتاب الأدوية المفردة لجالينوس‏

- تلخيص النصف الثاني من كتاب حيلة البرء لجالينوس

- كتاب في الفحص

- مقالة في اتصال العقل بالأسنان

- مراجعات ومباحثات بين ابن طفيل وبين ابن رشد في رسمه للدواء في كتابه الموسوم بـالكليات

- مسألة في نوائب الحمى

- مقالة في حميات العفن

- مقالة في الترياق

2. في الفلك:

- مقالة في حركة الفلك

- شرح كتاب السماء والعالم لأرسطوطاليس

3. في الحيوان: كتاب في الحيوان.

4. في الطبيعيات:

- جوامع كتب أرسطوطاليس في الطبيعيات

- تلخيص كتاب الطبيعيات لنيقولاوس

- شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس

- تلخيص كتاب القوى الطبيعية لجالينوس

5. في المنطق:

- كتاب الضروري في المنطق

- تلخيص كتاب البرهان لأرسطوطاليس

- مقالة في العقل

- مقالة في التعريف في صناعة المنطق

- مقالة في اتصال العقل المفارق بالإنسان

6. في النفس:

- شرح كتاب النفس لأرسطوطاليس

- تلخيص كتاب المزاج لجالينوس

7. في الفقه:

- كتاب المقدمات في الفقه

- كتاب نهاية المجتهد في الفقه

في الفلسفة:

- تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطوطاليس

- تلخيص كتاب الأخلاق لأرسطوطاليس

- كتاب تهافت التهافت (رد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي)

- شرح كتاب القياس لأرسطوطاليس

- مسألة في الزمان

- مقالة في فسخ شبهة من اعترض على الحكيم

- مقالة في الرد على ابن سينا

- مسائل في الحكمة

متفرقات:

- كتاب التحصيل

- شرح الأرجوزة المنسوبة إلى الشيخ الرئيس ابن سينا في الطب

- شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس

- تلخيص كتاب العلل والأعراض لجالينوس

- تلخيص كتاب التعرف لجالينوس

- كتاب منهاج الأدلة في علم الأصول

- كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال

- مقالة عن المتصلين

- كتاب عن البرهان لأرسطوطاليس عن ترتيبه للقوانين.[19]

وقد اهتم ابن رشد بالحركة وملازَمتها للزمن في الأجسام، وملازَمتها للفراغ، ومعنى الميل. وقد قادت تلك الأفكار إلى علم الديناميكا. واعترف كولومبوس، مكتشف أمريكا، بخطِّ يده، أنه كان لمؤلَّفات ابن رشد الفضل الكبير في وصوله إلى أمريكا؛ وقد أورد رينان ما يثبت هذه الحقيقة.[20] وأضاف روم لاندو:

على الرغم من أن بعض العلماء الإسبان تعوَّدوا أن ينعتوا فلاسفة الغرب المسلمين الكبار بـ"الإسبان"، فقد كانوا كلهم في الحقيقة الواقعة عربًا، بدليل أن أُسَرَهم كانت قد نشأت في الأصل في الشرق الأدنى، ثم ارتحلت إلى إسبانيا، في حين نشأت أُسَرُ قلة منهم في مراكش. وكان أشهرهم على الإطلاق ابن رشد، المعروف في الغرب باسم Averroès.[21]

سارعت البلاد الأوروبية، منذ القرن الثالث عشر الميلادي، إلى تعلم فلسفة ابن رشد، فاندفع الكثيرون إلى ترجمة مؤلِّفاته في هذا المجال، وانصرف الآخرون إلى دراستها والتعليق عليها. وإنْ كان اسم ابن رشد كاد أن يُنسى في البلاد العربية والإسلامية مدة سبعة قرون، فقد ظل صداه يتردد في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر الميلادي. وإذا كان أثره في الثقافة العربية والإسلامية قد بقي ضئيلاً، بل كاد أن يكون معدومًا، فإن تأثيره كان قويًّا نافذًا في تطوير الثقافة الغربية والفكر الأوروبي الحديث.



تمثال ابن رشد في قرطبة

يقول محمد كامل عياد في مقالة بعنوان تأثير ابن رشد على مرِّ العصور قدَّمها في مهرجان ابن رشد الذي عُقِدَ في الجزائر:

هكذا انتشرت حوالى منتصف القرن الثالث عشر مؤلَّفاتُ ابن رشد بين الباحثين الأوروبيين، وشاعت آراؤه في أوساط المثقفين، وتغلغلت فلسفتُه في الجامعات، وبالأخص جامعة باريس. كان أكثر الأساتذة الذين سُمِحَ لهم بتدريس فلسفة أرسطو يعتمدون في الدرجة الأولى على شروح ابن رشد الذي اشتهر باسم "الشارح".

وقد امتازت طريقة ابن رشد في الشرح على غيرها، لأنه كان يتناول النصَّ بالإيضاح، فقرةً فقرة، ويفسِّر كلام أرسطو تفسيرًا دقيقًا، ويحلِّل معانيه تحليلاً عميقًا. فكان يضع لهذه الغاية من الشروح ما هو صغير ومتوسط وكبير. فهو إما أن يلخِّص، أو يوضح باختصار، أو يسهب في التفسير ويستطرد في التعليق. وهذه الطريقة التاريخية ملائمة لحاجات الطلاب، ومفيدة في التعليم؛ ولذلك نالت استحسان الجميع.[22]

حسان الكاتب




***





[1] علي عبد الله الدفَّاع، العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية، ص 95-96.

[2] عن المصدر السابق، ص 94.

[3] عن المصدر السابق، ص 93.

[4] خير الدين الزركلي، الأعلام، طب 3، مج 6، ص 212.

[5] مجموعة من المؤلِّفين، عبقرية الحضارة العربية، منبع النهضة الأوروبية، بترجمة عبد الكريم محفوض، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1972.

[6] سهيل زكار، مائة أوائل من تراثنا، دمشق 1982.

[7] عمر فروخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، ص 646.

[8] طبقات الأطباء، 2: 67.

[9] أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، ص 363.

[10] المعجِب في تلخيص أخبار المغرب، نقلاً عن جميل صليبا وكامل عياد في مقدمة حي بن يقظان، ص 22.

[11] عن المصدر السابق.

[12] تيسير شيخ الأرض، ابن طفيل، طب 1، دار الشرق، بيروت 1961.

[13] حسان بدر الدين الكاتب، الموسوعة الموجزة، دمشق 1971، الجزء الأول، ص 23-24.

[14] أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، ص 363.

[15] خير الدين الزركلي، الأعلام، مج 6، ص 212.

[16] الموسوعة العربية الميسرة، القاهرة 1965.

[17] راجع: الموسوعة العربية الميسرة والموسوعة الفلسفية المختصرة وتاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون لعمر فروخ، ص 658-681.

[18] معجم علم الأخلاق، بترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو 1984.

[19] ابن أبي أصيبعة، عيون الأطباء.

[20] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية.

[21] روم لانداو، الإسلام والعرب.

[22] علي عبد الله الدفَّاع، العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية.





القاموس الفلسفي - طيف - 05-01-2007



أرسطو - 384-322 ق م

يُعتبَر أرسطو (أو أرسطوطاليس كما كان يدعوه العرب)، إلى جانب أفلاطون وسقراط، واحدًا من أهم فلاسفة الإغريق على الإطلاق. ولد في العام 384 ق م في مدينة إسطاغيرا في مقدونيا، وتوفي في العام 322 في خَلْكيس، التي هاجر إليها بعد أن أُجبِر على مغادرة أثينا وقضى فيها أيامه الأخيرة. كان والده طبيبًا لدى البلاط المقدوني. أما فيليبُس ملك مقدونيا فقد اتخذ منه مربيًا لابنه الاسكندر (الذي سيُعرف في التاريخ بالاسكندر الكبير و/أو الاسكندر ذي القرنين).
في العام 367 أضحى أرسطو من تلامذة أفلاطون، ومن بعدُ مريده الأثير. وقد بقي على هذه الحال عشرين عامًا. لكنْ بعد موت الفيلسوف الإلهي، تمايز التلميذ عن عقيدة أستاذه. لذا نراه، وقد أن أنهى في البلاط المقدوني تعليمه للاسكندر، يعود، بموافقة هذا الأخير، إلى أثينا ليؤسِّس فيها مدرسته الفلسفية الخاصة، تلك التي عُرِفَتْ بالليكيون le Lycée (نسبةً إلى معبد كان يقع إلى جوارها ويدعى معبد أبولون الليكيوني – "مروِّض الذئاب"). وهناك (في مدرسته) كان يعطي، بعد الظهر، لِمَن شاء الاستماع إليه، دروسه العلنية السهلة الإدراك، أي الظاهرية exotériques؛ أما في الصباح، وفقط لتلاميذته المختارين (الذين أصبحوا يُعرَفون بعدئذٍ بالـ"مشَّائيين"، لأنهم كانوا يتلقون تعليمهم وهم يتمشون)، فقد كان يلقِّنهم، وهو يدرج معهم في الحديقة، دروسه المجرَّدة الصعبة الإدراك، أي الباطنية ésotériques. وكانت هذه الأخيرة فقط هي ما وصلنا من أعماله.
إن ما تركه أرسطو من مؤلَّفات كان موسوعيًّا وضخمًا جدًّا (تنسب أساطيرُ العصور القديمة إليه ما يربو عن الأربعمائة مؤلَّف، وصلنا منها بشكل شبه كامل فقط 47 مؤلَّفًا، بالإضافة إلى مقاطع متفرقة من مائة أخرى) – تلك المؤلَّفات التي نميِّز من بينها، بالإضافة إلى خماسيته الشهيرة التي عُرِفَتْ بـالأورغانون Organon، مجموعة تتعلق بالعلوم النظرية، من جانب، وأخرى ذات علاقة بالعلوم التطبيقية، من جانب أخرى. أما الأورغانون، فهو يعطينا أسُس المنطق الصوري من خلال ما عُرِفَ بنظرية البرهان، وخاصة منه ما سمِّي بعدئذٍ بالقياس syllogisme.

ونتوقف هنا قليلاً، قبل أن نبدأ عرضنا المختصر لفكر أرسطو وأعماله، للتمعُّن بعض الشيء في ذلك المقتطَع أعلاه من لوحة مدرسة أثينا للرسام الإيطالي رافائيل، الذي يبيِّن أفلاطون (إلى اليسار) وأرسطو (إلى اليمين)، وهما يسيران جنبًا إلى جنب يتناقشان، حيث الأول (أي أفلاطون) يشير بإصبعه إلى الأعلى، بما يؤكد على االجانب المثالي لفلسفته التي كانت تبحث عن الحقيقة في أعماق النفس وفي الأعالي، بينما يشير الثاني (أي أرسطو) إلى الأسفل، بما يؤكد على جوهر فلسفته الأكثر قربًا من الواقع ومن الإنسان. لأن هذا كان جوهر الخلاف بين المعلِّم وتلميذه الأثير، الذي سنحاول التوسع قليلاً في شرحه من خلال ما يلي:
1. العلوم النظرية: وهي تلك التي جمعها أرسطو بشكل أساسي (كما وردت في إصدار القرن الأول ق م) تحت بند الفيزياء، المقرونة إلى الميتافيزياء التي تبعتْها، والتي كانت الغاية منها البحث النزيه عن الحقيقة. وهي تشهد على فكر أصيل ومتميِّز لفيلسوفنا، الذي كان ابتعد عن أستاذه. حيث نراه ينتقد مفهوم المثال، وخاصةً منه مفهوم العدد، لأنه يتجاوز، من منظوره، الواقع التجريبي. كذلك نراه يرفض المسبَّقات الأفلاطونية (وخاصةً منها نظرية التذكُّر)، معيدًا للفرد بُعده الواقعي وكرامته الأونطولوجية. فالعلم – على حدِّ قوله – لا يوجد إلا ككلِّيات، أي كخواص مشتركة بين الأفراد. والناس هم الذين يضفون على هذه الخواص تلك الصفات التي تجرِّدها النفس كمفاهيم متدرجة (وفقًا لأجناسها وأنواعها).
لأننا إذا استقصينا الكائن الفرد نجده عرضة للتغير الدائم؛ وبالتالي، نلاحظ أنه يحقق في نفسه صفاتٍ كانت من قبلُ مجرد صفات افتراضية: مما يعني أنه يوجد وسيط بين اللاوجود وبين الوجود. وهذا ما ندعوه بـالوجود بالقوة، أو لنقل تلك القدرة الساعية إلى التفعُّل التي تعطينا، عبر فعلها، الكائن الذي نرى. فالمادة هي، إذن، من هذا المنطلق، ما ينجم عن القدرة التي تتخذ لها صورة من خلال الفعل. وتكون الصورة (الشكل)، بالتالي، هي المبدأ المنظِّم للمادة الذي يعطيها معناها: لأن المادة هي إحدى العلل (الأسباب المادية) التي يؤكد عليها أرسطو لتفسير بنية الكائن. ونتوسع هنا قليلاً فنأخذ، على سبيل المثال، صخرة الرخام التي يمكن اعتبارها، من منظوره، المحرِّض المادي للتمثال الذي سينجم عنها بعد نحتها؛ فنجد أن الباعث الشكلي هو الفكرة التي ستحدِّد شكل هذا التمثال (أي التصوُّر الذي في ذهن النحات)، بينما العلَّة الفاعلة هي الأداة المباشرة التي ستؤدي إلى تغيير قطعة الرخام وتحويلها إلى تمثال (أو لنقل ضربات الإزميل)؛ أما العلَّة النهائية فهي الغاية التي من أجلها يُصنَع التمثال (كتلك الرغبة في الربح المادي، مثلاً، و/أو حب الفن، ليس حصرًا).
ولأن الكائنات تسعى جميعًا سعيًا كاملاً إلى التحقُّق، نراها تتوزع وفق تسلسل رتبي يتناسب مع إتقان شكلها. مثلاً: إذا افترضنا أن النفس هي الباعث الشكلي للأجسام الحية، فإن الكرامة الأونطولوجية للأحياء تتناسب مع نفوسها التي قد تكون نباتية (كالنباتات)، أو حسِّية (كالحيوانات)، أو ناطقة (وهي الصفة التي تميِّز الكائن البشري عن سواه).
حيث هناك علَّة، أو لنقل أصل، لجميع الحركات (والمقصود بـ"الحركات" هنا جميع التغيرات الكمِّية و/أو النوعية التي تؤثر في جميع الكائنات في الكون). وبالتالي، لما كان من غير الممكن تلمُّس ماهية العلَّة عبر التتبُّع المباشر لمعلولاتها – لأن الأمر يوجِب دائمًا في هذه الحال التوقف عند نقطة معينة – فإن المنطق يقودنا إلى استنتاج وجود محرِّك أول primum mobile، سرمدي في حدِّ ذاته؛ محرِّك هو الفعل المحض والمجرَّد الذي يتمتع بجميع الصفات ويبلغ حدَّ الكمال. ونصل هنا إلى ما سمِّي بـ"إله أرسطو"، الذي هو ذلك الفعل المحض، غير المعرَّض للتغيير، والمحرِّك كلَّ الحركات في الكون، وأهمها تلك الحركة العقلية التي يمكن اعتبارها أرقى أشكال الحركة. ونشير هنا إلى أن فعل العقل الإلهي في الكون ليس مباشرًا، وإنما هو يفعل كنموذج مطلق وعلَّة نهائية تمارس جاذبيتها على الكائنات طرا.
2. العلوم التطبيقية: وهي التي تتضمَّن، من منظور أرسطو، الأخلاق والسياسة.
ونستطرد هنا قليلاً لنشير إلى أن الغرب الذي عرف أرسطو عن طريق الفلاسفة العرب، قد جعل منه، من بعدُ، عن طريق القديس توما الأكويني، جزءًا لا يتجزأ من الفكر المسيحي. فقد كان القديس توما يرى في أرسطو "الفيلسوف الكامل" le Philosophe والممثِّل الحقيقي للـفلسفة الخالدة Philosophia perennis – هذا العرش الذي تربَّع عليه الفيلسوف لفترة طويلة، حيث كان يقال للشهادة: "قال أرسطو!" Aristotles dixit!. وقد لازمتْه هذه الصفة حتى عصر النهضة ومجيء ديكارت، حين بدأ يُعاد النظر في بعض تعاليمه. وما بدأ يُعاد النظر فيه كان، أولاً، ذلك المتعلق بالفيزياء، التي كان فهمُه لها، استنادًا إلى مستوى علوم عصره، افتراضيًّا بالكامل، الأمر الذي لم يعد يتفق تمامًا مع نتائج التجربة. وإعادة النظر هذه تعود أيضًا إلى أن التعاطي مع عقيدته أضحى، على مرِّ السنين، بشكل عام، جامدًا ومتزمتًا وعقيمًا. لكن، رغم كلِّ شيء، يبقى أرسطو (وما يزال إلى الآن) أحد أهم المفكرين الذين كان لهم أكبر الأثر في الفكر الإنساني على مرِّ العصور.
في التحليلات الأولى والتحليلات الثانية، التي تشكِّل الجزء الثالث من الأورغانون، درس أرسطو المقولات الضرورية – والعلم، كما يفهمه، هو المعرفة الواضحة بهذه المقولات – كما درس شروط صحة البراهين، محصيًا بصورة خاصة مختلف أنواع القياس. وعلى الرغم من أنه، كما يصحُّ القول، لم يكن هو الذي اكتشف هذا النوع من الاستدلال ذا الشكل المُجبِر، إلا أنه حاول وضعه كأكمل نظام ممكن من خلال تطهيره من كلِّ مظهر وهمي.
ففي التحليلات الأولى وضع أرسطو الأسُس النظرية لمختلف أشكال الاستدلال الإسنادي – تلك التي تسمح بالتوصل إلى النتيجة انطلاقًا من عرض أولي، وعن طريق الحجة "الثانوية" التي تشكل الوسيط الضروري. لكن، بمقدار ما يتخذ العرض عنده شكلاً إسناديًّا (من نوع آ هو ب) – الأمر الذي لم يعد مقبولاً لدى علماء المنطق المعاصرين – تتجلَّى لنا اليوم (على حدِّ قول ج. برنهاردت) "محدودية" هذه النظرية، "تمامًا كما هي الحال اليوم بالنسبة لرياضيات إقليدس".
أما التحليلات الثانية، فقد تناولت بالدرس الطريقة التدريجية التي تتشكل بها المعرفة، مبتدئةً حتمًا من الحسِّ، لتصل منه إلى الإدراك العقلي (الاستنباطي أو الحدسي) عن طريق المنطق العام والخيال.
لذلك، كان للـتحليلات، بلا ريب، عبر نظريتها الاستنتاجية المُحكمة، مكانتها الاستثنائية الخاصة في تاريخ الفلسفة؛ حيث، كما قال كانت بعد حوالى ألفي سنة: " لم يحدث، منذ أيام أرسطو إلى يومنا هذا، أيُّ تقدم في المنطق الصوري." لأنه وإن كان بعضهم يرى في منطق أرسطو منطقًا متشنجًا، ساهم ربما في تأخير بدايات العلم الحقيقي من جراء ما عوَّل عليه من أهمية فائقة للتجريد على حساب الرصد والتجربة، فإن ما نلحظه في الحقيقة هو أننا لا نجد مثل هذا التعقيد المنطقي المبالغ إلا عند أصحاب علم الكلام اللاحقين. لأنه يجب أن لا ننسى إطلاقًا أن الاستنتاج المنطقي لم يكن يشكِّل، بنظر أرسطو نفسه، كما هو واضح من مؤلَّفاته، إلا جانبًا من جوانب العلم – الذي نتلمَّس أيضًا، بالمقابل، وجهه التجريبي في العديد من مؤلَّفاته الأخرى (كـتاريخ الحيوان، وفي الكون والفساد، وفي السماء، إلخ).
ويعتقد بعض النقاد المعاصرين أيضًا أن كتاب الأخلاق النيقوماخية (وهو كتاب الأخلاق الذي كتبه أرسطو لابنه نيقوماخوس) هو المؤلَّف الوحيد الذي كتبه حول هذا الموضوع، وذلك رغم أن الكتاب لم يُنشَر إبان حياته، إنما نُشِرَ لاحقًا على يد ابنه استنادًا إلى حواشٍ كان أرسطو قد وضعها، ربما، على بعض دروسه العامة. أما الكتب الأخرى التي تُنسَب إليه وتتعلق بهذا الموضوع، كأخلاق أوذيموس والأخلاق الكبرى ومقالة في الفضائل والرذائل، فقد وضعها ربما، من وجهة نظرهم، بعض تلاميذه.
لكن سواء صحَّ هذا الافتراض أم لم يصح، يبقى المهم أن أرسطو، الذي، وإن كان يبدو متأرجحًا في أخلاقياته بين مفهوم ينطلق من فلسفة السعادة ومفهوم آخر تعقُّلي، كان حريصًا دائمًا على أن يستند إلى التجربة العامة لمختلف أنواع البشر وأن لا يتوه في المجرَّدات.
لأن الجميع يتفق أن الغاية من الحياة العملية، أو لنقل الخير الأسمى، إنما هو بلوغ السعادة. ولكن، ما هي هذه السعادة؟ إنها ليست قطعًا تلك المتمثِّلة في الملذات العابرة، ولا تلك الناجمة عن الاستغراق في التأمل (الأفلاطوني) في خير مجرَّد "بحد ذاته"، إنما هي تلك السعادة التي ندركها انطلاقًا من العقلية الجوهرية للإنسان؛ الأمر الذي يجعل من خير الإنسان " فعالية محصورة به حصرًا بسبب كون النفس التي تحييه هي نفس عاقلة" (الكتاب الأول). وهنا يجب التمييز ما بين الفضائل المكتسَبة، الناجمة عن العمل العقلي، التي يمكن تطويرها عن طريق التعليم dianoétiques، والفضائل الأخلاقية éthiques (الناجمة عن العادة).
في الكتاب الثاني من الأخلاق يوضح أرسطو الفارق بين الفضيلة الأخلاقية والعادة: لأن الفضيلة ليست، إذا صحَّ القول، مجرد فعل، إنما هي "شيء مكوَّن" (فنحن نصبح عادلين عندما نتصرف بشكل عادل)؛ شيء يتألف من جانب إرادي، يحدِّد الغاية، ومن جانب عقلاني، يحدِّد الوسيلة. من هنا جاء ذلك التعريف الأرسطي القائل بأن "الفضيلة هي حالة مكتسَبة إراديًّا، ترتكز، فيما يتعلق بنا، على القياس؛ حالة يحدِّدها العقل بما يتناسب مع سلوكية الإنسان المتَّزن."
أما الكتاب الثالث فيحلِّل الفعل الممارَس لكي يحدِّد ذلك التعريف كعادة موافقة، أي مقترنة بالمنطق الصحيح؛ ما يعني واجب التأكيد على مسؤولية الإنسان. وهذا ما يتعارض مع المفهوم السقراطي القائل بأن "لا أحد شرير بمحض اختياره".
أما الكتابان الرابع والخامس فيصفان الفضائل الأخلاقية الخاصة (كالاعتدال، والصراحة، إلخ)، مع التأكيد تأكيدًا ملحوظًا على مفهوم العدالة التي يمكن أن تكون إما موزعة أو مصلحة. بينما، فيما يتعلق بالفضائل المكتسَبة الناجمة عن العمل العقلي، فهي تلك الفضائل الخمس التي يعددها أرسطو في الكتاب السادس: العلم، والفن، والتعقل، والفكر، والحكمة، والتي تعرِّف معًا، وكلُّ واحدة منها على حدة في مجالها، غاية الخير وصورته.
ويُعتبَر الكتاب السابع تمهيدًا لما سيتم بحثه في الكتاب العاشر: ففيه يعيد الفيلسوف الاعتبار لمفهوم محدَّد للَّذة كأساس للسعادة، لكن بشرط أن تستند إلى العقل.
أما الكتابان الثامن والتاسع فهما مخصَّصان لدراسة مفهوم الصداقة – تلك التي يدرسها الفيلسوف، في مختلف أشكالها واحتمالاتها، كفضيلة من الفضائل الأساسية للإنسان (كـ"حيوان سياسي")، والمرتبطة بمفهوم العدالة: لأنه ليس بوسع الإنسان أن يتفتح تفتُّحًا كاملاً إلا عن طريق الاتصال بالآخرين.
ونصل إلى الكتاب الأخير (الكتاب العاشر)، الذي يتعمق في دراسة مفهوم اللذة، مبرهنًا على أنها، إن استندت إلى كمال الفعل، فإنه من الممكن أن ترافق مختلف وظائف النفس، بما فيها تلك الأكثر سموًّا. لذا فإنه لا يمكن فصلها عن الفضيلة ولا عن السعادة. ونلاحظ هنا وكأن تحليل الفيلسوف بدأ يميل إلى نوع من التعقُّلية (الأمر الذي انتقده بعضهم كشكل من أشكال التناقض لديه)، حيث يؤكد أرسطو على أن المرء لن يجد السعادة الأكمل إلا من خلال تأمل الحقيقة، تلك التي، بفصلنا عن أحداث هذا العالم، تجعلنا نتذوق الغبطة الكاملة أو الإلهية. لكن، لما كانت الغبطة لا تتحقق بالكامل إلا في الألوهة، فإن النشاط الأخلاقي يصبح ضروريًّا للإنسان لكي يلطِّف من شهواته وينصرف تحديدًا إلى الحياة السياسية.
ومن هذا المنطلق، نجد بأن كتاب الأخلاق النيقوماخية يتطابق مع الميتافيزياء كما يتطابق مع السياسة. وعلى الرغم من أنه يقدم عمومًا فكر أرسطو تقديمًا غير جذاب (مكثَّف تكثيفًا مبالغًا فيه أحيانًا، أو مسهب أكثر من اللازم أحيانًا أخرى)، يُعتبَر هذا العمل أساسيًّا لما نتلمس فيه من إرادة في تقديم أخلاق حقيقية على مستوى الإنسان – حتى حين يتوجَّه إلى جمهور من المواطنين الذين اعتادوا على ممارسة الفضيلة.
أما في السياسة الذي كتبه بعد أن درس، على حدِّ قوله، دساتير المدن اليونانية والدول "البربرية" آنذاك، فيؤكد أرسطو على تلك المقولة التي تعتبر الدولة شكلاً أعلى من الحياة الاجتماعية. فهو، من هذا المنطلق، يعتبرها سبَّاقة للفرد وللأسرة، بمقدار ما في وسعها الاكتفاء بذاتها وتحقيق غايات تهمُّ الأفراد والأُسَر، وتتجاوزهم في نفس الوقت. ونتذكر مقولته الشهيرة بأن الإنسان "حيوان سياسي".
وإبان دراسته لعناصر الدولة، يبرِّر أرسطو وجود الرقِّ نتيجة الفروق الطبيعية بين البشر والمتطلَّبات التقنية للإنتاج. ولما كان بعضهم يُسترَقُّ من جراء الأسْر، يصل في النهاية إلى تلك النتيجة التي تعتبر الفرق بين الإنسان الحرِّ والعبد كالفرق بين الفضيلة والرذيلة. ثم، من خلال استعراضه للعلاقات والنشاطات الأُسرية، يدرس أرسطو كيف يمكن للمرء أن يغتني بشكل طبيعي (أي بشكل مناقض للرِّبا الذي يشجبه)، كما يدرس مختلف أوجه السلطة داخل التنظيم الأُسري: حيث إن كانت سلطة الزوج على زوجته تشبه السلطة الموجودة في قلب حكومة جمهورية، فإن سلطة الأب على أبنائه تشبه تلك القائمة في الملكية.
ويعارض أرسطو المفاهيم "الشيوعية" لأستاذه أفلاطون، المتعلقة بالعلاقات والارتباطات العاطفية بين الأهل وأولادهم، فيعتبر أن ما يحدِّد هذه العلاقات إنما هي الطبيعة نفسها، من جهة، وقواعد التربية (فهاهنا يأتي دور الدولة في تربية مَن يُفترَض فيهم أن يصبحوا مواطني المستقبل)، من جهة أخرى.
والفضيلتان الفعليتان للمواطن الحق هما الطاعة، من جهة، والمقدرة على القيادة، من جهة أخرى؛ لأن ما يحدِّد هاتين الصفتين هو مساهمته الإيجابية في صنع العدالة وفي القضاء.
ويحدِّد أرسطو ثلاثة أشكال للحكومة استنادًا إلى شكل ممارسة السلطة – التي هي دائمًا في نظره واقع الحكومة – التي يمكن أن تكون فردية، أو تمارسها مجموعةٌ صغيرة أو كبيرة: أي المَلَكية أو الأرستقراطية أو الجمهورية، مؤكدًا أن لكلٍّ من هذه النماذج السلطوية وجهها الفاسد الذي هو، على التوالي، السلطة المستبدة، والأوليغارخية، والديموقراطية – وجميعها منافٍ للطبيعة. لذا فإن الفيلسوف لا يفضل شكلاً حكوميًّا محددًا على آخر، إنما يعتبر أن بإمكان كلٍّ منها أن يتناسب مع خواص الشعب.
وأخيرًا، نجد الفيلسوف وكأنه يستبق زمانه، فيتحدث عن الأشكال الثلاثة للسلطة، التي هي، كما حدَّدها، الاستشارية والإدارية والعدلية، فيهيِّئ لما سيعرِّف به مونتِسكيو بعد ألفي عام، ونسمِّيه اليوم بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. أما الهيمنة الإمبريالية لأمة على أخرى، فإنها لا تبرَّر في نظر أرسطو إلا حين تكون الأولى متفوِّقة بالطبيعة على غيرها، كحال يونان الذي من واجبه "تحضير" الأمم الأخرى.
بعض مؤلَّفات أرسطو الهامة الأخرى: الفيزياء، في السماء، في الكون والفساد، تاريخ الحيوان، أعضاء الحيوان، سلالة الحيوان، في الروح، الميتافيزياء، دستور أثينا، الشعرية، البلاغة.
***
ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.
تعريب: أكرم أنطاكي.
مراجعة: ديمتري أفييرينوس.


القاموس الفلسفي - طيف - 05-01-2007


أفلاطون (428 ق م – 348 ق م)

حياته:
هو أرسطوقليس، الملقَّب بأفلاطون بسبب ضخامة جسمه، وأشهر فلاسفة اليونان على الإطلاق. ولد في أثينا في عائلة أرسطوقراطية. أطلق عليه بعض شارحيه لقب "أفلاطون الإلهي". يقال إنه في بداياته تتلمذ على السفسطائيين وعلى كراتيلِس، تلميذ هراقليطس، قبل أن يرتبط بمعلِّمه سقراط في العشرين من عمره. وقد تأثر أفلاطون كثيرًا فيما بعد بالحُكم الجائر الذي صدر بحقِّ سقراط وأدى إلى موته؛ الأمر الذي جعله يعي أن الدول محكومة بشكل سيئ، وأنه من أجل استتباب النظام والعدالة ينبغي أن تصبح الفلسفة أساسًا للسياسة. وهذا ما دفع فيلسوفنا للسفر إلى مصر، ثم إلى جنوب إيطاليا، التي كانت تُعتبَر آنذاك جزءًا من بلاد اليونان القديمة. وهناك التقى بـالفيثاغوريين. ثم انتقل من هناك إلى صقلية حيث قابل ديونيسوس، ملك سيراكوسا المستبد، على أمل أن يجعل من هذه المدينة دولة تحكمها الفلسفة. لكنها كانت تجربة فاشلة، سرعان ما دفعته إلى العودة إلى أثينا، حيث أسَّس، في حدائق أكاديموس، مدرسته التي باتت تُعرَف بـأكاديمية أفلاطون. لكن هذا لم يمنعه من معاودة الكرة مرات أخرى لتأسيس مدينته الفاضلة في سيراكوسا في ظلِّ حكم مليكها الجديد ديونيسوس الشاب، ففشل أيضًا في محاولاته؛ الأمر الذي أقنعه بالاستقرار نهائيًّا في أثينا، حيث أنهى حياته محاطًا بتلاميذه.

فلسفته:
أوجد أفلاطون ما عُرِفَ من بعدُ بطريقة الحوار، التي كانت عبارة عن دراما فلسفية حقيقية، عبَّر من خلالها عن أفكاره عن طريق شخصية سقراط، الذي تمثَّله إلى حدِّ بات من الصعب جدًّا، من بعدُ، التمييز بين عقيدة التلميذ وعقيدة أستاذه الذي لم يخلِّف لنا أيَّ شيء مكتوب. هذا وقد ترك أفلاطون كتابةً ثمانية وعشرين حوارًا، تتألق فيها، بدءًا من الحوارات الأولى، أو "السقراطية"، وصولاً إلى الأخيرة، حيث شاخ ونضج، صورة سقراط التي تتخذ طابعًا مثاليًّا؛ كما تتضح من خلالها نظريته في المُثُل، ويتم فيها التطرق لمسائل عيانية هامة.
تميِّز الميتافيزياء الأفلاطونية بين عالمين: العالم الأول، أو العالم المحسوس، هو عالم التعددية، عالم الصيرورة والفساد. ويقع هذا العالم بين الوجود واللاوجود، ويُعتبَر منبعًا للأوهام (معنى استعارة الكهف) لأن حقيقته مستفادة من غيره، من حيث كونه لا يجد مبدأ وجوده إلا في العالم الحقيقي للـمُثُل المعقولة، التي هي نماذج مثالية تتمثل فيها الأشياء المحسوسة بصورة مشوَّهة. ذلك لأن الأشياء لا توجد إلاَّ عبر المحاكاة والمشاركة، ولأن كينونتها هي نتيجة ومحصلِّة لعملية يؤديها الفيض، كـصانع إلهي، أعطى شكلاً للمادة التي هي، في حدِّ ذاتها، أزلية وغير مخلوقة (تيميوس).
هذا ويتألف عالم المحسوسات من أفكار ميتافيزيائية (كالدائرة، والمثلث) ومن أفكار "غير افتراضية" (كالحذر، والعدالة، والجمال، إلخ)، تلك التي تشكِّل فيما بينها نظامًا متناغمًا، لأنه معماري البنيان ومتسلسل بسبب وعن طريق مبدأ المثال السامي الموحَّد الذي هو "منبع الكائن وجوهر المُثُل الأخرى"، أي مثال الخير.
لكن كيف يمكننا الاستغراق في عالم المُثُل والتوصل إلى المعرفة؟ في كتابه فيدروس، يشرح أفلاطون عملية سقوط النفس البشرية التي هَوَتْ إلى عالم المحسوسات – بعد أن عاشت في العالم العلوي - من خلال اتحادها مع الجسم. لكن هذه النفس، وعن طريق تلمُّسها لذلك المحسوس، تصبح قادرة على دخول أعماق ذاتها لتكتشف، كالذاكرة المنسية، الماهية الجلية التي سبق أن تأمَّلتها في حياتها الماضية: وهذه هي نظرية التذكُّر، التي يعبِّر عنها بشكل رئيسي في كتابه مينون، من خلال استجواب العبد الشاب وملاحظات سقراط الذي "توصل" لأن يجد في نفس ذلك العبد مبدأً هندسيًّا لم يتعلَّمه هذا الأخير في حياته.
إن فنَّ الحوار والجدل، أو لنقل الديالكتيكا، هو ما يسمح للنفس بأن تترفَّع عن عالم الأشياء المتعددة والمتحولة إلى العالم العياني للأفكار. لأنه عن طريق هذه الديالكتيكا المتصاعدة نحو الأصول، يتعرَّف الفكر إلى العلم انطلاقًا من الرأي الذي هو المعرفة العامية المتشكِّلة من الخيالات والاعتقادات وخلط الصحيح بالخطأ. هنا تصبح الرياضيات، ذلك العلم الفيثاغوري المتعلق بالأعداد والأشكال، مجرد دراسة تمهيدية. لأنه عندما نتعلَّم هذه الرياضيات "من أجل المعرفة، وليس من أجل العمليات التجارية" يصبح بوسعنا عن طريقها "تفتيح النفس [...] للتأمل وللحقيقة". لأن الدرجة العليا من المعرفة، التي تأتي نتيجة التصعيد الديالكتيكي، هي تلك المعرفة الكشفية التي نتعرَّف عن طريقها إلى الأشياء الجلية.
لذلك فإنه يجب على الإنسان - الذي ينتمي إلى عالمين – أن يتحرر من الجسم (المادة) ليعيش وفق متطلبات الروح ذات الطبيعة الخالدة، كما توحي بذلك نظرية التذكُّر وتحاول البرهنة عليه حجج فيدون. من أجل هذا يجب على الإنسان أن يعيش على أفضل وجه ممكن. فمعرفة الخير هي التي تمنعه من ارتكاب الشر. ولأنه "ليس أحد شريرًا بإرادته" فإن الفضيلة، التي تقود إلى السعادة الحقيقية، تتحقق، بشكل أساسي، عن طريق العدالة، التي هي التناغم النفسي الناجم عن خضوع الحساسية للقلب الخاضع لحكمة العقل. وبالتالي، فإن هدف الدولة يصبح، على الصعيد العام، حكم المدينة المبنية بحيث يتَّجه جميع مواطنيها نحو الفضيلة.
هذا وقد ألهمت مشاعية أفلاطون العديد من النظريات الاجتماعية والفلسفية، بدءًا من يوطوبيات توماس مور وكامبانيلا، وصولاً إلى تلك النظريات الاشتراكية الحديثة الخاضعة لتأثيره، إلى هذا الحدِّ أو ذاك. وبشكل عام فإن فكر أفلاطون قد أثَّر في العمق على مجمل الفكر الغربي، سواء في مجال علم اللاهوت (اليهودي والمسلم والمسيحي) أو في مجال الفلسفة العلمانية التي يشكِّل هذا الفكر نموذجها الأول.

مؤلَّفاته:
المأدبة أو "في الحب": يبيِّن هذا الحوار، الذي جرى تأليفه في العام 384 ق م، كيف أن ولوج الحقيقة يمكن أن يتم بطرق أخرى غير العقل، وليس فقط عن طريقه: لأن هناك أيضًا وظيفة للـقلب، تسمح بالانتقال من مفهوم الجمال الحسِّي إلى مفهوم الجمال الكامل للمثال الجلي.
والقصة هي قصة الشاعر أغاثون الذي أقام في منزله مأدبة للاحتفال بنجاح أول عمل مسرحي له. وفي هذه المأدبة طُلِبَ من كلِّ المدعوين، ومن بينهم سقراط، أن يلقوا كلمة تمجِّد إله الحب – وخاصة أريستوفانيس الذي طوَّر أسطورة الخنثى البدئية. ويقوم سقراط، انطلاقًا من تقريظ الجمال، بمحاولة لتحديد طبيعة الحب، متجنبًا الوقوع في شرك الجدال، متمسِّكًا فقط بالحقيقة. فيستعيد كلمات ديوتيما، كاهنة مانتيني، للتأكيد على أن الحب هو عبارة عن "شيطان" وسيط بين البشر وبين الآلهة؛ لأنه في آنٍ معًا كابن للفقر (أو الحاجة) – بسبب كونه رغبة لما ينقصه – وابن للثروة – بسبب كونه "شجاعًا، مصممًا، مضطرمًا، و... واسع الحيلة" – فإنه (أبا الحب) يحاول دائمًا امتلاك الخير والهناءة بمختلف الطرق، بدءًا من الفعل الجنسي الجسدي وصولاً إلى النشاط الروحي الأسمى. فـالديالكتيكا المترقِّية ترفعنا من حبِّ الجسد إلى حبِّ النفوس الجميلة، لتصل بنا أخيرًا إلى حبِّ العلم. لأنه، وبسبب كونه رغبةً في الخلود وتطلعًا إلى الجمال في ذاته، يقودنا الحبُّ الأرضي إلى الحبِّ السماوي. وهذا هو معنى ما سمِّيَ فيما بعد بـالحب الأفلاطوني، الذي هو الحب الحقيقي، كما يوصلنا إليه منطق المأدبة. إن أهمية هذا الحوار – الذي هو أحد أجمل الحوارات – لم تتدنَّ خلال تاريخ الفلسفة كلِّه: حيث نجد صداه، مثلاً، في العقيدة المسيحية للقديس أوغسطينوس، الذي كان يعتقد بأن "كلَّ فعل محبة هو، في النهاية، حب للإله".
فيدون أو "في الروح": يدور هذا الحوار في الحجرة التي كان سقراط ينتظر الموت فيها. لأن الحضور، وانطلاقًا مما كان يدَّعيه بأن الفيلسوف الحقيقي لا يخشى الموت، يدعو المعلِّم لكي يبرهن على خلود النفس. وهنا، يجري بسط أربع حجج أساسية:
الحجة الأولى، التي تستند إلى وجود المفارقات، تقول إنه، انطلاقًا من الصيرورة المستمرة للأشياء، ليس في وسعنا فهم شيء ما (النوم مثلاً) دون الاستناد إلى نقيضه (اليقظة ليس حصرًا). ولأن الموت يبيِّن الانتقال من الحياة الدنيا إلى الآخرة، فإنه من المنطقي الاعتقاد بأن "الولادة من جديد" تعني الانتقال منه إلى الحياة. وبالتالي، إذا كانت النفس تولد من جديد، فإن هذا يعني أن التقمص حقيقة واقعة.
أما الحجة الثانية، فهي تستند إلى تلك الأفكار التي ندعوها بـالذكريات. لأن ما نواجهه في العالم الحسِّي إنما هو أشياء جميلة، لكنها ليست هي الجمال. لذلك ترانا نحاول تلمس هذا الأخير من خلال تلك الأشياء، التي، باستحضارها، تعيدنا حتمًا إلى لحظات من الحياة فوق الأرضية كانت روحنا فيها على تماس مباشر مع الطهارة.
وتقول الحجة الثالثة إنه يمكن شَمْلُ كلِّ ما في الوجود ضمن مقولتين اثنتين: المقولة الأولى تضم كلَّ ما هو مركَّب (وبالتالي ممكن التفكك) أي المادة؛ والمقولة الأخرى التي تشمل ما هو بسيط (أي لا يمكن تفكيكه)، كجزء مما هو مدرَك، أي الروح.
وعندما يلاحظ كيبيوس بأن سقراط، الذي برهن على إمكانية انتقال الروح من جسم إلى آخر، لم يبرهن على خلود هذه الأخيرة في حدِّ ذاتها، يجيبه سقراط من خلال عرض مسهب، يتطرق فيه إلى نظرية المُثُل، حيث يبيِّن في نهايته أن الروح لا تتوافق مع الموت لأنها من تلك العناصر التي ليس بوسعها تغيير طبيعتها.
وينتهي الحوار بعرض طويل لمفهومي العالم العلوي والمصير الذي يمكن أن تواجهه النفس: حيث ترتفع النفوس الأكمل نحو عالم علوي، بينما ترسب النفوس المذنبة في الأعماق السفلى. وتكون كلمات سقراط الأخيرة هي التي مفادها بأنه مدين في علمه لأسكليبيوس (إله الطب والشفاء) – من أجل تذكيرنا رمزيًّا بأنه يجب علينا شكر الإله الذي حرَّره من مرض الموت.
الجمهورية أو "في العدالة": يشكل هذا الحوار، المجموع في عشر كتيبات تمت خلال عدة سنوات (ما بين أعوام 389 و369 ق م)، العمل الرئيسي لأفلاطون المتعلِّق بـالفلسفة السياسية.
يبدأ سقراط بمحاولة تعريف العدالة استنادًا إلى ما قاله عنها سيمونيدِس، أي "قول الحقيقة وإعطاء كلِّ شخص حقه". هذا التعريف مشكوك في ملاءمته، لأنه يجعلنا نلحق الضرر بأعدائنا، مما يعني جعلهم، بالتالي، أسوأ وأظلم. كذلك أيضًا يستبعد تعريف السفسطائي ثراسيماخوس الذي قال بأن "العدل" هو ما ينفع الأقوى.
ونصل مع أفلاطون إلى التمعُّن في مفهوم الدولة العادلة – تلك التي تعني "الإنسان مكبَّرًا" – القائمة على مشاعية الأملاك والنساء، اللواتي لا يكون التزاوج معهن انطلاقًا من الرغبات الشخصية، إنما استنادًا لاعتبارات النسل – تلك المشاعية الخاضعة لمفهوم التقشف الصحي، أي المعادي للبذخ؛ تلك الدولة القائمة على التناغم والمستندة إلى فصل صارم بين طبقاتها الأساسية الثلاث التي هي: طبقة الفلاسفة أو القادة، وطبقة الجنود، وطبقة الصنَّاع – والتي هي على صورة التوازن القائم بين المكونات الثلاث للنفس الفردية. ونلاحظ هنا، من خلال العرض، أن الطبقة الدنيا (أو طبقة الصنَّاع) لا تخضع لمتطلَّبات الملكية الجماعية لأنها لن تفهمها انطلاقًا من مستوى إدراكها.
ويفترض سقراط أنه على رأس هذه الدولة يجب وضع أفضل البشر. من هنا تأتي ضرورة تأهيلهم الطويل للوصول إلى الفهم الفلسفي للخير الذي يعكس نور الحقيقة وينير النفس، كما تنير الشمس أشياء عالمنا (استعارة الكهف).
ذلك لأن الظلم يشوِّه، بشكل أو بآخر، كافة الأشكال الأخرى من الدول، التي يعدِّدها أفلاطون كما يلي: الدولة التيموقراطية (التي يسود فيها الظلم والعنف)، الدولة الأوليغارخية (حيث الطمع الدائم واشتهاء الثروات المادية)، الدولة الديموقراطية (حيث تنفلت الغرائز وتسود ديكتاتورية العوام)، وأخيرًا، دولة الاستبداد، حيث يكون الطاغية بنفسه عبدًا لغرائزه، وبالتالي غير عادل.
وأخيرًا فإن هذا المفهوم نسبي لأن العدالة لن تتحقق بالكامل، كما تصف ذلك أسطورة إرْ، إلا في حياة مستقبلية أخرى: حيث النفوس، وقد حازت على ما تستحقه من ثواب أو عقاب، تعود لتتجسد من جديد، ناسية ذكرى حياتها الماضية.
***
قائمة بالحوارات الأفلاطونية الأخرى:
- هيبياس الكبير
- هيبياس الصغير
- إيون
- بروتاغوراس
- دفاع سقراط
- كريتون
- ألكيبيادِس
- خارميدِس
- مينيكسينِس
- مينون
- أفتيديموس
- كراتيلِس
- فيدروس
- ثيئيتيتِس
- بارمنيدِس
- السفسطائي
- السياسة
- كريتياس
- فيليبوس
- القوانين
*** *** ***
ملاحظة: تمت ترجمة هذا النص من قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.
تعريب: أكرم أنطاكي
مراجعة: ديمتري أفييرينوس






القاموس الفلسفي - نبيل حاجي نائف - 05-01-2007

إنك تقوم بعمل ضروري وهام جداً , وهو يحاج لجهد هائل .

نتابع معك هذه الموسوعة الضرورية لكل مفكر يريد أن يتعرف على عالم الفكر

تحية وشكر لكم


القاموس الفلسفي - طيف - 05-03-2007

Array
إنك تقوم بعمل ضروري وهام جداً , وهو يحاج لجهد هائل .

نتابع معك هذه الموسوعة الضرورية لكل مفكر يريد أن يتعرف على عالم الفكر

تحية وشكر لكم
[/quote]

أستاذي الكريم (f)
نحاول اشعال شمعة تنير المعرفة ونقتبس من بعض المواقع المحجوبة على النت لتعم الفائدة والاستفادة لمن لايستطيع دخول هذه المواقع

شكرا لكم واسعدني مروركم الكريم

------------------------------------------------

ابن عربي (560-638 هـ/1165-1240)

ابن العربي ذروة سامقة من ذروات التصوف في الإسلام. ولد في مرسية، جنوب إسبانيا، وتوفي في دمشق. وفي هاتين الواقعتين الجغرافيتين البسيطتين، المتعلقتين ببداية حياته ونهايتها، وحدهما إشارة إلى تلك السيرورة الغنية والقَدَر المركَّب للتأهيل والسلوك الروحيين اللذين كابدهما ذلك الرجل الخارق بين الأندلس والمقاطعات الشرقية للعالم الإسلامي آنذاك.

وكما يشير بوضوح اسمُه الكامل – أبو بكر محمد بن العربي (المختصر عادة إلى "ابن عربي") الحاتمي الطائي – كان، بوصفه ينتسب إلى قبيلة طيء، عربيًّا قحًّا. وقد بدأ سلوكه متقيِّدًا بالشريعة والسنَّة، لكن ميله الصوفي الفطري وسلوكه الروحي قرَّباه إلى حدٍّ كبير من النمط الشرقي، الفارسي بخاصة، من الروحانية، ألا وهو التشيع، على حدِّ ما يذهب إليه المستشرق هنري كوربان. فمع أنه لم يتشيَّع رسميًّا قط، وبقي متسنِّنًا حتى وافته المنية، فإن العقيدة التي استكمل بناء أركانها مع نضجه العقلي–الصوفي، استنادًا إلى خبراته الرؤيوية الخارقة في "عالم المثال"،[1] كانت شديدة التساوُق مع روح الإسلام الشيعي الفارسي. ودليلنا على ذلك أن ابن عربي وجد العدد الأكبر من مريديه وخلفائه في إيران الشيعية وبين أبناء الباطنية الشيعية الإسماعيلية. وحتى اليوم، تشكِّل إلهيات ابن عربي، إلى جانب – أو بالتأليف مع – إلهيات السهروردي القتيل (شيخ الإشراق) أساس النظر العقلي، الحِكَمي–العرفاني، لطالبي المعرفة المسلمين الفرس. والحق أن لقبه "محيي الدين" يتألق بقوته الحية عندما يُنظَر إليه بمقتضى الدور الذي لعبه في صيرورة التكوين التاريخي للإسلام الإيراني. ومن ألقابه الأخرى الشهيرة "الشيخ الأكبر"[2] الذي يقدِّم ابن عربي بوصفه من أعظم مشايخ الصوفية، إنْ في الروحانية السُّنية أو في الروحانية الشيعية.

إن ابن عربي، عبر العمق الفريد لخبرته الصوفية، المتميِّزة بوفرة من الصور "العينية"، وأسلوبه العويص في عرض عقيدته، ولغته المبهمة عن قصد، هو من الصوفية الذين تستعصي عقائدُهم على أيِّ عرض مبسَّط. لذا فإن المقاربة المدرسية المعتادة بطريق العرض المنهجي (الحياة، الأعمال، الأفكار) تكاد تكون هنا بلا طائل يُذكَر، إذ تختزل بحرًا خضمًّا إلى سبخة راكدة. إن كلَّ واقعة من وقائع حياة الشيخ الأكبر الخارجية تتصف بقيمة رمزية تُحيل إلى جانب معيَّن من جوانب خبرته الصوفية أو الرؤيوية، بينما كلُّ جانب من جوانب خبرته الصوفية نفسها مترع بالمعاني الروحية الباطنية. فجميع هذه العناصر تندرج بذلك في كلٍّ عضوي واحد متماسك. ومن ثَمَّ فلن نتمكَّن في هذا المقام إلا من تقديم نبذة موجزة عن حياة ابن عربي الخارجية–الداخلية، وذلك بمَفْصَلَتها تعسفيًّا إلى ثلاثة أطوار كبرى:

التأهيل العقلي والروحي للشيخ في الأندلس؛
خبرة الحب في أثناء طوافه حول الكعبة؛ و
مرحلة نضجه الصوفي–الميتافيزيائي.
1. الأيام الأولى في الأندلس

تلقَّى ابن عربي تعليمه الإسلامي المبكر في ذلك المركز العقلي والروحي الكبير الذي كانتْه إشبيلية، التي جاءها وعمره آنذاك لا يتجاوز الثمانية، وأقام فيها حوالى ثلاثين سنة. هناك كرَّس نفسه، على بعض أكابر علماء المدينة، لدراسة العلوم النقلية: القرآن، الحديث، فقه الشريعة، الكلام والفلسفة. وقد كانت إشبيلية أيضًا من أهمِّ مراكز التصوف، يقيم فيها عددٌ من مشاهير مشايخ الصوفية. وهكذا فقد انجذب ابن عربي، انجذابًا جدَّ طبيعي، إلى سلوكهم ورياضاتهم وتعاليمهم. ولدى بلوغه العشرين، كان مكتمل الإدراك لطبيعة "بعثته" الروحية الفريدة، ودخل طريق الصوفية دخولاً لا رجعة عنه.

ومما يستلفت النظر بصفة خاصة، في هذا الصدد، لقاؤه مع الوليَّة الشيخة فاطمة القرطبية، التي ظهرت له في الرؤيا محاطة بهالة سماوية. كان يشعُّ من شخصها باستمرار جوٌّ من الجمال الباهر، بحيث كانت تترك لناظرها انطباعًا بأنها لم تتخطَّ عقدها الثاني، على ما يروي ابن عربي؛ فكلما مَثُلَ الفتى محمد بين يديها تعذَّر عليه ألا تحمرَّ وجنتاه حياءً في حضرتها. وقد قالت له فاطمة: "أنا أمك الإلهية"، معترفة به ابنًا روحيًّا. وبذلك، بوصفه واحدًا من مريديها المقرَّبين، بويِع بأول أسرار الطريقة. وإنه لذو مغزى أن مبايعته بطريقة التصوف تمَّتْ عبر خبرة حبٍّ روحي من هذا المستوى؛ إذ إن أولى خبراته في الحبِّ تدل سلفًا على إلهيات المحبة التي بسطها ابن عربي فيما بعد في مكة طائفًا حول الكعبة الشريفة.

وبوصفه فتى أمرد، اعتنق ابن عربي حياة الدَرْوَشة، وطفق يقوم بسياحات طويلة في إسبانيا وشمال أفريقيا – قرطبة، ألمرية، تونس، فاس، مراكش – حيث اجتمع إلى كبار مشايخ التصوف فيها. وتجدر الإشارة، بصورة خاصة، إلى زيارته لقرطبة، حيث كان بينه وبين ابن رشد، الفيلسوف المشَّائي الكبير، ممثِّل التيار الأرسطي الصحيح في الفلسفة الإسلامية، لقاءٌ عجيب. فالمقابلة التي تمَّت بينهما بمبادرة من ابن رشد كانت حاسمة الأهمية لكلا الصوفي الشاب والفيلسوف الكهل، من حيث إنها ألقت الضوء على التبايُن والتعارض بين طريق النظر العقلي المنطقي وبين طريق الخيال العرفاني، مما كان لا بدَّ له من أن يؤدي إلى انشعاب الفكر الإسلامي برمَّته فيما بعد. زِدْ على ذلك أن واقعة أنه كانت للصوفي الشاب اليدُ الطولى على الفيلسوف المشَّائي في تلك الحادثة، تاركًا مُناظرَه في النهاية مُفحَمًا، تجيز لنا وضع إصبعنا بدقة على الفيصل بين عقيدة ابن عربي وبين خبرته الصوفية، فيتبيَّن لنا كيف يجتمع التصوف كحياة والعقيدة المعبِّرة عنه واحدهما إلى الآخر في الإدراك الروحي. فالأمر لم يكن مجرَّد غلبة التصوف على الفلسفة؛ إذ إن خبراته الصوفية الرؤيوية كانت وثيقة الصلة إلى حدٍّ كبير بنظر عقلي بالغ الدقة، متَّكئة عليه ومدعِّمة له على حدٍّ سواء. فابن عربي صوفي كان، في آنٍ معًا، معلِّمًا حقيقيًّا في الفلسفة، في شقَّيها المشَّائي والأفلاطوني، بحيث إنه استطاع – أو بالأحرى، كان لا بدَّ له – أن ينظِّر لخبراته الروحية في عقيدة كلِّية تشمل الكون بأسره، كما سنحاول أن نبيِّن بإيجاز، فيما يتعلق ببنيان إلهياته في وحدة الوجود التي ستكون لنا عودة إليها في سياق المادة.

2. حول الكعبة

وفيما هو يدنو من منتصف الثلاثينيات من عمره قرَّ ابن عربي على مغادرة مسقط رأسه إلى الأبد. وقد حضَّه جزئيًّا على اتخاذ هذا القرار الوضع الديني–السياسي المقلقَل في المغرب الإسلامي (الأندلس وشمال أفريقيا)، حيث لم يدعْ تزمُّت العلماء و"فقهاء الرسوم" وتعصُّبهم مجالاً لبسط أيِّ منظور لاهوتي جديد، ولكن بخاصة بسبب رؤيا رآها في العام 1198 في مرسية، حيث أمره طائر يطير حول العرش الإلهي المحمول على أعمدة من نور بشدِّ الرِّحال فورًا نحو مشرق العالم الإسلامي. وبذلك بدأ الطور الثاني من حياته الخارجية–الداخلية الممتد من العام 1200 حتى العام 1223: 23 سنة من التجوال في الشرق الأدنى، حتى حطَّ الرحال أخيرًا في دمشق.

في العام 1201 – وكان له من العمر آنذاك 36 سنة – زار ابن عربي للمرة الأولى مكة المكرمة، وفيها نزل في ضيافة أسرة فارسية أصفهانية شريفة. ولقد كان ربُّ الأسرة نفسه شيخًا صوفيًّا هاجر من إيران إلى الحجاز وشغل منصبًا رفيعًا في مكة.

وبحسب رواية ابن عربي نفسه، كانت لهذا الشيخ الفارسي بنت اسمها نظام، فتاة باهرة الجمال، ذات باع عقلي وخبرة روحية عميقة؛ وسِحْرُ لَحْظِها، وحلاوة منطقها، وتواضع هيئتها اللطيف، كما يقول، كانت من العظمة بحيث إن حضورها كان يفتن كلَّ من يجلس في حضرتها. وهكذا وقع ابن عربي في حبِّها من فوره. وقد عبَّرت نفسُه المفتونة عن هذه الخبرة في ديوانه الشهير ترجمان الأشواق.

يبدو ترجمان الأشواق من حيث الظاهر، أي لدى قراءته قراءة سطحية، وكأنه مجموعة قصائد غزل عادية مفعمة بصور عشقية دنيوية. والواقع أن غالبية العلماء والفقهاء فهموه على هذا النحو؛ وهو أمر أتاح لمن كانوا دومًا في ارتياب من صحة تعاليم ابن عربي إسلاميًّا ذريعةَ رميه بالفساد الأخلاقي. لكنهم، باتخاذهم، هذا الموقف من قصائد الديوان، فضحوا جهلهم بأن صورة الفتاة الفارسية الجميلة نظام، إذ ترتقي من عالم الأجسام إلى البُعد الرؤيوي أو "الخيالي" للوعي، تتحول إلى تجسيد عيني للـ"أنثى الأزلية"، وتصبح صورة متجلِّية للـ"حكمة الخالدة" sophia æterna، بما يشبه بياتريتشه، حبيبة دانتي في الكوميديا [الإلهية]. والديوان كلُّه، بهذه المثابة، هو التعبير الغزلي لإنسان سورِر بـ"دين الحب"، أو بما يدعوه هنري كوربان البُعد "الحِكَمي" sophianic للحب.

وبقصد توضيح هذه المسألة كتب ابن عربي نفسه شرحًا مطوَّلاً على الترجمان. وهذا المصنف ذو أهمية باطنية قصوى، من حيث إنه يلقي ضوءًا على واحد من المبادئ الأساسية الحاسمة في تعاليم ابن عربي: التأويل، الذي يعني حرفيًّا "إرجاع الشيء إلى أوَّله".[3] وهو يشير، اصطلاحًا، إلى طريقة معينة لتعليل شيء، مهما كان المرئي منه على السطح، وسواء كان نصًّا كاملاً أو مقطعًا أو عبارة أو حتى كلمة واحدة، بالرجوع إلى معناه "الخام"، غير المرئي على السطح.

يُفهَم من ذلك أن استعمال التأمل لم يكن، من أيِّ وجه من الوجوه، مقتصرًا على شرح قصيدة غزلية، بل على العكس؛ إذ بعدما يرسخ المبدأ كان يتيح منهاجًا تفسيريًّا ذا تطبيق واسع مَرِن لكلِّ المهتمين باستنباط المعاني الباطنة المكنونة في أعماق نصٍّ معين. ولقد استعمل ابن عربي المنهاج في تأويل القرآن الكريم والحديث الشريف. والواقع أن كافة التعاليم التي صاغها ابن عربي في النصف الثاني من حياته تُعتبَر ثمرة تطبيق مبدأ التأويل على القرآن والحديث اللذين كان يستنبط معانيهما "الباطنة" في ضوء خبراته الرؤيوية.

ولقد توارث مبدأ التأويل عدد من مشايخ الصوفية والعارفين الكبار في العصور اللاحقة. وفي التشيُّع احتل التأويل المنزلة الأرفع في التأمل الفلسفي، بحيث إنه أصبح سمة نوعية من سمات البنيان العقلي الشيعي برمَّته وخاصية من خاصياته الأساسية.

على أنه لا بدَّ لنا من أن نشير هنا إلى أن التأويل لم يكن عند ابن عربي مجرَّد مسألة تفسير لغوي، لفظي، بل كان يتسم بمغزى أونطولوجي. فعنده أن كلَّ ما هو موجود في عالم الحسِّ يستر في أعماقه الأونطولوجية حقيقة باطنة، الأمر الذي يعني أن كلَّ ما في الوجود تجلٍّ خاص. بعبارة أخرى فإن كلَّ شيء صورة ظاهرة يتجلَّى فيها الحق غير المرئي؛ وعالم الوجود الخارجي ("عالم الشهادة") ليس على الحقيقة إلا صورة ظاهرة على السلَّم الكوني لعالم الغيب، يتجلَّى من خلالها الحق باسمه "الباطن"، برهةً إثر برهة، عبر صور لا نهاية لها من التعيُّنات.

3. نضج التعاليم

يُنسَب إلى ابن عربي عددٌ ضخم من المؤلَّفات (200 ونيف على الأقل)، تتراوح بين المقالات القِصار والرسائل التي لا تتجاوز بضع صفحات وبين المصنفات الضخمة المؤلَّفة من آلاف الصفحات. وبين مؤلَّفاته يُعتبَر اثنان منها بخاصة جليلان بحق، إذ يشتملان على تعاليمه على أكمل وجه – وثانيهما خلاصة للأول: الفتوحات المكية وفصوص الحِكَم.

رُسِمَت الخطوط العريضة للـفتوحات وبُدِئَ بتدوينها بمناسبة زيارته الأولى لمكة في العام 1201، وانتُهِيَ من وضعها في دمشق بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا في العام 1237. والفتوحات، التي كثيرًا ما تُدعى "إنجيل باطن الإسلام"، عبارة عن "موسوعة" للتصوف بحق، تتناول – وإنْ بغير ترتيب اتباعي – نظريات في الإلهيات والكونيات، وخبرات صوفية، وعلومًا باطنية متنوعة، ورؤى وتأملات.

غير أن زبدة تعاليمه في الإلهيات، قولاً واحدًا، محتواة في الفصوص الذي ألَّفه في العام 1229 قبل وفاته بعشر سنين. وهو مصنف صغير بالقياس إلى الفتوحات، لكنه واسع بما لا يقاس في مبناه ومعانيه. ففيه نجد نظرية ابن عربي في النبوة، حيث يوصَف كلُّ نبي، وَرَدَ ذكرُه في القرآن أم لم يَرِدْ، بدءًا من آدم، في علاقاته بالأسماء والصفات الإلهية التي يختص بها، ويظهر في مقامه "الروحي" الفريد. وفي آخر سلسلة الأنبياء نجد نبيَّ الإسلام الذي يؤوِّل ابن عربي شخصيته في ضوء الحديث: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة." وإن سلسلة الشروح على الفصوص التي كتبها مريدوه وأتباعه[4] تشكِّل وحدها تاريخًا للحكمة في حدِّ ذاتها. والعرض التالي لأسُس تعاليمه مستمَد أساسًا من الفصوص.

التأويل

يحتل ابن عربي في تاريخ التصوف منزلة إمام مذهب ما يُعرَف اصطلاحًا باسم وحدة الوجود. و"وحدة الوجود" موقف صوفي محدَّد هو نتاج للتطبيق الأونطولوجي لمبدأ "التأويل" السابق ذكره من خلال الخبرة الصوفية. والتأويل، كما ألمعنا، يبدأ كمنهاج في التفسير اللفظي، يذهب من ظاهر تعبير لغوي متوغلاً إلى باطن معناه. وهو، إذ يطبَّق أونطولوجيًّا، يشي بكونه منهاج عرفان إلهي ينطلق من ظاهر الأشياء إلى باطنها. والتأويل الأونطولوجي للبنيان الباطن للوجود يتم عبر سلوك الصوفي سلسلة من مراحل الخبرات الكشفية، تتصف كلُّ مرحلة منها برؤيا وجودية معينة.

إن منطلق السيرورة برمَّتها هو عالم الأجسام، كما يُرى بعين الإنسان العادي الذي يرى الكثرة الأونطولوجية في كلِّ مكان ولا شيء غير الكثرة. فهو لا يعرف العالم الجسماني إلا على هذا النحو؛ فيه توجد الأشياء متشعِّبة إلى ما لا نهاية، بما فيها هو، حيث كلُّ موجود قائم بذاته ومختلف في الأساس عن سواه. إنه لا يستطيع أن يرى الوحدة التي تكتنف الكثرة إلا بالعقل المجرَّد ("التوحيد الإرادي"). وعالم الوجود ليس في نظره إلا صعيدًا واحدًا من الصور والألوان، لا شيء وراءه أو فيما يتعدَّاه.

غير أن ابن عربي، عبر تطبيق التأويل الأونطولوجي، يمضي إلى ما يتعدى الأفق الأونطولوجي والعقلي للبشر العاديين ("العوام")، فيما يتعدى الظاهر؛ إذ إنه على يقين بأن للحقيقة بُعدًا أونطولوجيًّا هو الباطن، هو حصرًا ما ينبغي الغوص فيه. لكن هذا يتطلب سلوك طريق روحي معين؛ وإلا فإن البُعد العميق الملازم لـ"باطن" الحقيقة التي يتم السعي إليها لا ينفتح أبدًا.

الفناء

في نظر ابن عربي لا يستطيع الإنسان العادي رؤية الحق في صوره المتنوعة بسبب التفرُّع الأصلي لوعيه إلى ذات وموضوع؛ إذ إن الذات المتميِّزة عن الموضوع، أي الأنيَّة، مصنوعة بحيث إنها لا تتعرف في عالم الظواهر إلا على تكتلات من الأشياء المتكثِّرة بوصفها موضوعات عديدة للمعرفة. بذلك فإن على المرء، لكي يتخطى صعيد الكثرة الأونطولوجية، أن "يمحق" وعي أنيَّته. وإن السلوك الروحي الشاق، المحفوف بالأهوال، باتجاه هذا المقصد يقود المرء أخيرًا إلى اختبار ما يصطلح عليه الصوفية بـالفناء. و"الفناء"، اصطلاحًا، يعني اضمحلال الأنية، وينطوي على تلاشي عالم الوجود بأسره؛ إذ إنه حيثما لا توجد أية ذات عارفة لا يوجد، بالتالي، أيُّ موضوع معروف. والفضاء المطلق الذي يتحقق فيما يتعدى تفرُّع الوعي البشري إلى ذات وموضوع يتراءى بوصفه حقيقة سابقة على الوجود في لاتعيُّنها الغيبي؛ وابن عربي يدعوها الأحدية.

و"الأحدية"، المشتقة من الاسم الأحد، نفيٌ كلِّي غير مقيَّد لجميع الأشياء دون استثناء؛ وهي "الغيب المطلق" قبل أن يتجلَّى في شكل محدَّد، واللاتعيُّن قبل أن يتعيَّن، واللامصوَّر قبل أن يتصوَّر في صورة معيَّنة. وحتى الله، باعتباره نسبيًّا، هو واحد من الصور المتعيِّنة للأحدية المطلقة.

بذلك لا يدرك الصوفي الذي بلغ حال "الفناء" إلا الأحدية، فيرى الأحدية في كلِّ شيء، ولا شيء سواها. وفي حالة الإدراك الإلهي هذه يتحول العالم بأسره إلى "الأحد" بدون أدنى أثر للتصوُّر أو للتعيُّن. تلكم هي، بالمصطلح الصوفي، وحدة الشهود، التي كان الحلاج أبرز ممثِّليها. لكن الصوفي، كما يُحاجِج ابن عربي، ينبغي ألا يتوقف عند هذا الشوط من الخبرة الصوفية؛ إذ مَن لا يرى إلا الأحد، مَن يرى العالم برمَّته راجعًا إلى حالة أونطولوجية من اللاتمايز التام، مازال ناقص الإدراك. على الصوفي الكامل أن يخطو خطوة أخرى ليصبح ذا العينين، أي الإنسان القادر بحق على رؤية عالم الوجود بوصفه الجامع بين الضدَّين: الوحدة والكثرة. وإن حال الحقيقة هذه تتحقق بالخبرة في حال البقاء التي تتخطى حال الفناء.

من الواضح بأن الكثرة، في هذا السياق، تشير إلى البعد الظواهري للوجود، عالم الأشياء الظاهرة المتعيِّنة في تنوع لانهائي؛ إلا أن من الجليِّ أيضًا أن الكثرة، كما تتحقق في خبرة "البقاء"، ليست "الكثرة" بوصفها ضد "الوحدة". ولعل في وسعنا تقريب "الجمع بين الضدَّين"، الذي نحن في صدده، إلى الأذهان – على الرغم من تعذر ذلك – بالقول إن "ذا العينين"، بالمصطلح الصوفي، هو القادر على رؤية الحق في الخلق والخلق في الحق؛ أو باستعمال استعارة أثيرة إلى ابن عربي، في وسعنا القول إن "ذا العينين" هو القادر على رؤية المرآة والصور المنعكسة فيها، حيث الحق والخلق يلعبان، على التناوب، دور المرآة ودور الصور المعكوسة. إن رؤية الكثرة الملوِّنة للأشياء الظاهرة ليست، كما هي لدى العامة، "حجابًا" أونطولوجيًّا يحول دون رؤيته الحق المحض في حالة لاتعيُّن قصوى. كذلك لا تحول رؤيةُ "الأحد" دون ظهور الكثرة؛ فعلى العكس، يتمِّم كلُّ واحد منهما الآخر في إظهار البنيان الكلِّي للحقيقة، من حيث إنهما وجهاها الأصليان: الوحدة تمثِّل مظهر الإجمال والكثرة مظهر التفصيل. ومادمنا لا ندرك على هذا النحو جدلية العلاقة بين الوحدة والكثرة، في فعل معرفة إلهي–أونطولوجي، فإننا نبقى محرومين من رؤية كلِّية للحقيقة كما هي عليه حقًّا.

التجلِّي

إن ما حاولنا أن نترسَّمه لتوِّنا في بسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لـ"وحدة الوجود". فهي مذهب خاص يقوم على رؤيا إلهية يختبرها الصوفي بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة. والمصطلح الدال على هذا التفاعُل هو التجلِّي، الذي يُدعى بـالتعيُّن أيضًا.

وبالنسبة إلى تأرجح الوعي بين حالي "الفناء" و"البقاء"، يمضي "الأحد" المطلق تدرُّجًا، متحولاً إلى الكثرة الظاهرية، عبر فعل تجلِّيه وتعيُّنه؛ وبعبارة أخرى، ثمة في الوحدة نزوع أصلي أو ضرورة أونطولوجية، أو نوع من الطاقة المبدعة، التي يرمز إليها الأمر الإلهي كُنْ، والتي يطلق عليها ابن عربي اسم الحب أو المحبة. فعالم الوجود بأسره يُعتبَر بهذه المثابة ثمرة ما يسميه ابن عربي النَّفَس الرحماني.

جدير بالذكر هنا أن أول مظاهر الطاقة المبدعة للوحدة هي "الوحدة" نفسها؛ أي أن بنيان الوحدة، في حدِّ ذاته، ذو بعدين، ويحمل بهذه المثابة اسمين اثنين: الأحد والواحد. وهاتان الكلمتان المشتقتان من الجذر نفسه ليستا مترادفتين في لغة ابن عربي الاصطلاحية، حيث "الأحد" هو الوحدة المحضة – حقيقة الوجود في حالة لاتعيُّن مطلقة، بينما "الواحد" هو حقيقة الوجود نفسها في طور تبدأ فيه بالتوجُّه إلى الظهور.

بذلك يكون "الأحد" هو الوحدة فيما يتعدى جميع التعيُّنات وجميع الصفات؛ وبالتالي، فهو عصيٌّ على أيِّ علم، إنسانيًّا كان أم إلهيًّا. وبلغة الإلهيات يمكن وصف الأمر بالقول إنه حتى الله عندئذٍ لا يعرف نفسه، وإن وعي الله لنفسه لا يظهر إلا عند عبور وصيد الواحدية. "الأحد" بهذه المثابة غيب؛ بل هو الغيب المطلق أو غيب الغيب.

أما "الواحد"، على العكس، فهو الوحدة مضافةً إليها الصفات. وهذه الصفات المنطوى عليها في الوحدة تتحقق بوصفها أعيانًا ثابتة أونطولوجية، تُقابِل "مُثُل" أفلاطون. وهذه "الأعيان الثابتة" تعيِّن الصور التي تتمخض عنها الطاقة المبدعة للحقيقة المطلقة باستمرار ("تجديد الخلق مع الأنفاس"، بتعبير ابن عربي)، أي عن أشياء عالم الظواهر عند المرحلة التالية من التجلِّي الإلهي.

تلكم هي الخطوط العريضة لسيرورة "تجلِّي" المطلق، كما انكشفت لابن عربي، بدءًا من غيب الغيوب نزولاً حتى عالم الشهادة. وأهم نقطة يجدر الوقوف عندها في هذا الصدد هي أنه، بمقتضى ميلها الباطن الذاتي، تتفتَّح الوحدة – أو بدقة أكبر، تتحول – إلى الكثرة عبر سيرورة متدرِّجة من التجلِّي. فعلى الوحدة، بالضرورة حتمًا، أن تتجلَّى في صور ظاهرية؛ بعبارة أخرى، فإن الله لا يستطيع إلا أن "يخلق". فالمطلق لا يستطيع أن يستغني عن عالم الظواهر، مثلما أن هذا الأخير لا يستطيع أن يبقى إلا بفعل تجلِّي المطلق.

يبقى أن عقيدة ابن عربي لا تزال مدار جدل كبير. فلقرون طوال ظلَّ العديد من الفقهاء – وعلى رأسهم ابن تيمية – يعتبرون الشيخ الأكبر زنديقًا و"ماحي الدين".[5] لكنْ على الرغم من هذا النقد الدائم، تخلَّلت عقائدُه التصوف اللاحق برمَّته؛ وحتى الصوفية الذين لم يوافقوه على مذهبه لم يتورَّعوا عن إدراج دقيقِ تعريفاته في تصانيفهم. وتأثيره هو الذي يضفي على الآداب الصوفية، ولاسيما الشعر المقروض في حلقات الدراويش، تجانسه في المعنى والمبنى.

***

ديمتري أفييرينوس

-----------------
[1] مصطلح غنوصي المنشأ وجد فيه كوربان المكافئ العربي للمصطلح اللاتيني mundus imaginalis.

[2] المكافئ العربي للمصطلح اللاتيني Doctor Maximus الذي يُطلَق على آباء الكنيسة من اللاهوتيين الكبار.

[3] في اللغة: "أوَّل الشيء" رجَّعه؛ ويقال "أوَّل الله عليك" أي ردَّ عليك ضالتك وجمعها لك؛ و"أوَّل الكلام" دبَّره وقدَّره وفسَّره؛ و"أوَّل الرؤيا" عبَّرها.

[4] أكثر من مئة بحسب المرحوم عثمان يحيى.

[5] كذلك يتهمه مفكِّرون (أو بالأحرى "مكفِّرون") معاصرون، منهم فضل الرحمن، برمزية "شبه جنسية"، ويزعمون أن عقيدته تلغي التمييز بين الخير والشر. وقد مُنِعَتْ الفتوحات المكية أكثر من مرة في مصر، كان آخرها في العام 1979.





القاموس الفلسفي - طيف - 05-03-2007



فريدريش إنغلز (1820-1895)



فيلسوف واقتصادي ألماني. ولد في بريمن في سويسرا، وتوفي في لندن، حيث أرسله والده ليدير معملاً كان يمتلكه في مدينة مانشستر، فاكتشف حقيقة الأوضاع العمالية، مما دفعه إلى التعاون الوثيق مع صديقه ماركس الذي التقى به في باريس في العام 1844 والذي أسَّس معه الأممية الأولى في العام 1864.

لم تكن مساهمة إنغلز في العمل المشترك مع ماركس بالأمر القليل: فقد سبق ماركس في فضح قانون المنافسة، وكان أول من وضع أسُس نظرية مادية للمعرفة. من أهم مؤلَّفاته التي كتبها بمفرده الأنتي دوهرينغ، حيث حلَّل دور العنف في التاريخ وسلَّط الأضواء عليه، مبيِّنًا كيف يساعد العنف في إصلاح الخلل القائم بين البنية الفوقية السياسية والبنية التحتية الاقتصادية من خلال النضال ضد مقاومة الطبقات الاجتماعية التي تمثل النظام القديم؛ ومؤلَّفه أصل العائلة والملكية الفردية والدولة، حيث درس أصول العائلة، محاولاً تطبيق الماركسية على معطيات عصره الأنثروبولوجية.

أهم مؤلَّفاته: الأنتي دوهرينغ (1876)؛ أصل العائلة والملكية الفردية والدولة (1884)؛ لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية (1886)؛ إلخ.




القاموس الفلسفي - طيف - 05-07-2007




المعلِّم إيكهرت (حوالى 1260-1327)



لا ريب في أن للمعلِّم إيكهرت منزلة على حدة في تاريخ التصوف العالمي. فالمسائل التي طرحها الحكيم الريناني المتألِّه والتأويلات التي أتاحها هي عينها القضايا الكبرى التي شغلت التصوف، النظري والعملي، حول شَخْصَنَة الإله وطبيعة علاقته بالعالم وبالنفس الإنسانية. صحيح أنه تأثر لاهوتيًّا بتوما الأكويني، وصحيح كذلك أن إلهياته استمرار لنهج روحيٍّ أفلاطوني يمر من ألبرتوس الكبير وتييري الفرايبرغي، لكنه نسيج وحده من حيث دفعُه إلهياته حتى تخومها القصوى – تخوم العدم الصوفي التام الذي يشكل "مادة" الإله نفسها – ومن حيث ترجمتُه إلى لغة العوام خبرةً أراد لها أن تلبي حاجاتِ مستمعين متعطشين إلى الروحانية، كما يظهر من مواعظه بالألمانية، حيث جرأة العباراتِ الظاهرةِ التناقضِ تؤلِّف تأليفًا خلاقًا بين الخبرة الداخلية والفلسفة العالِمة – تأليفًا جلب عليه، في الوقت نفسه، تكفير الفقهاء واتهامهم له بالزندقة.

راهب واعظ أمام محكمة التفتيش

انضم إيكهرت، المولود في هوخهايم (تورنغه) في أسرة من صغار الأشراف، إلى رهبنة "الإخوة الواعظين" (الدومنكان) في إرفورت، ثم ذهب مبعوثًا إلى كولن لمتابعة تحصيله. وقد جرى تأهيلُه اللاهوتي في جوٍّ مشبع بالروح الأفلاطونية السارية في نهج ألبرتوس الكبير (الذي ربما تتلمذ عليه). وحوالى العام 1293، عُيِّن محاضرًا في دير القديس يعقوب في باريس، ثم قبل حلول العام 1298، رئيسًا لدير إرفورت ونائبًا رعويًّا عن مقاطعة تورنغه. وفي العام 1300 عاد إلى التدريس في باريس، حيث شرع يُساجِل ضد أفكار الفرنسسكاني دَنْس سكوتُس. أغلب الظن أنه طُرِدَ من فرنسا في تموز من العام 1303. وبعد تعيينه في بداية العام 1304 نائبًا رعويًّا عن إقليم ساكس الجديد، حضر بصفته هذه في العام 1307 مجلس ستراسبورغ الكنسي، حيث كُلِّف، إلى ذلك، النيابةَ الرعوية العامة عن مقاطعة بوهيميا. وعندما قرر مجلس بليزانس (1311) تجديد الدراسات في الرهبنة الدومنكانية، أُرسِل إيكهرت مرة ثالثة إلى السوربون، حيث كرَّس نفسه غالبًا للشروح على الكتب المقدسة. وفي العام 1314، نجده مرة أخرى في ستراسبورغ، حيث تولَّى إدارة المدرسة studium الدومنكانية وانهمك في عمل رعوي، وعظي وإرشادي، في عدة أديرة للراهبات الدومنكانيات. وفي العام 1324، عادة إلى كولن، حيث ترأس المدرسة العامة وواصل تعليمه بين الراهبات، من دومنكانيات وغيرهن.

بُعيد ذلك اصطدم بهاينريش الفرنبورغي، رئيس أساقفة كولن، الذي كان يضمر العداء للدومنكان، مفضلاً عليهم الفرنسسكان صراحةً. ومنذ نهاية العام 1324، حامت شكوكٌ حول سُنِّية آراء إيكهرت، مما اضطره إلى تدبيج دفاع أول عن مذهبه. لكن الزائر الحَبري نكولاوس الستراسبورغي، الدومنكاني واللاهوتي الذائع الصيت، دافع عنه بقوة. عندئذٍ عهد رئيس أساقفة كولن بالقضية إلى قاضيين من ديوان التفتيش يبدو أنهما كانا قليلي الإنصاف، أحدهما دومنكاني والآخر كاهن في الكاثدرائية. وإبان صيف العام 1326، وضع هذان قائمة أولى من 49 عبارة "مريبة" لاهوتيًّا مقتطَفَة من مصنفات إيكهرت ومواعظه. وقد أجاب عنها إيكهرت في 26 أيلول، طاعنًا في أهلية قاضيي كولن، رافضًا عددًا من العبارات الواردة في القائمة باعتبارها ملفقة، وشارحًا عبارات أخرى شرحًا سُنيًّا. بُعيد ذلك وجَّه إليه قاضيا التفتيش قائمة جديدة من 52 عبارة، مشابهة جزئيًّا للعبارات السابقة، أجاب عنها الجواب نفسه. وفي الـ24 من كانون الثاني، رفع إيكهرت استئنافًا إلى الكرسي الرسولي وأعلن في 13 شباط احتجاجًا عامًّا ورسميًّا بسُنيَّته.

ومع أن محكمة كولن رفضت استئناف إيكهرت في 22 شباط، فقد أحيلت القضية إلى أفينيون، حيث كان البابا يوحنا الثاني عشر مقيمًا آنذاك؛ فذهب إيكهرت إلى هناك للدفاع عن نفسه. ويبدو أنه توفي فيها. وبعد مناقشات طويلة، يبدو فيها أن القضاة اشتغلوا على قوائم العبارات المرسَلة من كولن، وليس على مؤلَّفاته، حُكِمَ على إيكهرت بعد وفاته بمقتضى مرسوم In argo dominico الصادر في 27 آذار 1329، الذي حرَّم نشر 28 من العبارات المنسوبة إليه، وفيه جاء: "لقد أراد أن يعلَم أكثر مما يجوز." وهذا المرسوم، المُرسَل إلى رئيس أساقفة كولن، لم يُنشَر رسميًّا إلا ضمن نطاق صلاحية أبرشيته الكنسية.

مؤلَّفات إيكهرت

تتوزع المصنفات التي خلفها إيكهرت إلى مجموعتين متميزتين: المؤلَّفات اللاتينية والمؤلَّفات الألمانية. أما الكتابات اللاتينية، المخصصة للاهوتيين المحترفين، فهي ذات طابع نظري واصطلاحي، وذات شكل فقهي توماوي ملحوظ؛ لكنها تمتاز بأنها بقلم إيكهرت مباشرة وتقدم قاعدة مأمونة دقيقة لتأويل فكره. أهمها: رسالة في الصلاة الربانية، شرحان على سِفْر الأحكام (يشك بعضهم في صحة نسبة الشرح الثاني إلى إيكهرت)، مسائل باريسية (هي ذكريات عن خلافات مدرسية)، شروح على الكتاب المقدس (أسفار التكوين والخروج والحكمة والجامعة والإنجيل بحسب يوحنا) تتسم بتأويل مغرق في الرمزية والمجاز والميتافيزياء، 58 موعظة، وبضعة مقاطع أخرى.

وأما المؤلَّفات الألمانية، التي كُتِبَتْ باللغة الألمانية الوسطى العليا المتأخرة Spätmittelhochdeutsch، فلا تضم إلا ثلاث رسائل كتبها إيكهرت مباشرة: حوارات حول التمييز الروحي، التي ألقاها في إرفورت قبل العام 1298؛ كتاب بندكتوس Liber Benedictus، المسمَّى هكذا بحسب الكلمة الأولى للنص، الذي كُتِبَ من أجل ملكة هنغاريا أغنِس بعد العام 1308، وهو يضم رسالة في العزاء الإلهي وفي شرف الإنسان؛ وأخيرًا رسالة موجزة في الزهد، لم يُعرَف تاريخُ كتابتها، ولم تتأكد صحةُ نسبتها إلا في القرن العشرين. أما ما تبقى من المؤلَّفات الألمانية فلا تعدو كونها ملحوظات (ينوف عددها على الستين) دوَّنها مستمعون في أثناء إلقاء المواعظ؛ وبالطبع، لا تجوز الثقة التامة في أصالة نسبتها.

اللاهوتي الصوفي

مؤلَّفات إيكهرت عسيرة على الفهم. فالكتابات اللاتينية تتسم بخاصية ميتافيزيائية، وأسلوبها الفقهي التوماوي عويص للغاية. ومع ذلك، فإن فكر إيكهرت ليس نظريًّا بحتًا: إنه مسكون بالهواجس الروحية ويحاول أن يطاوِل أسُس الخبرة الصوفية نفسها ويشملها. فكما قال الباحث راينر شورمن: "إذا كانت المؤلَّفات اللاتينية تمهِّد الطريق فإن المؤلَّفات الألمانية تدعونا إلى السفر." وبهذا الخصوص فإن إيكهرت يعاني من لغة عصره الفنية المغرقة في الاصطلاح. أما الكتابات الألمانية فهي تستعمل لغةً ما تزال في طور التشكل، لغة عملية جدًّا وغير مؤهلة بعدُ بما يكفي للتعبير عن الحقائق الروحية.

قلما يستعمل إيكهرت لترجمة معطيات الخبرة الصوفية الرمزَ المألوف عند أقرانه، بل يستحسن اللجوء إلى عبارات شديدة التناقض ظاهريًّا؛ وهذه العبارات، إذ تعزل أحد مظاهر الحقيقة وتُبرِزه، تصير شديدة الخطورة والتضليل إذا أُخِذَتْ على محمل الحرف، ولم تُفهَم في سياقها الطبيعي، وفي ضوء الخبرة الداخلية، كما جرى حصرًا لمحرِّري مرسومُ الإدانة.

من الألوهة إلى الله

مذهب إيكهرت عبارة عن تأملات في الوجود، الذي، مأخوذًا في مطلقيَّته، يتماهى مع الله. ويميز إيكهرت تمييزًا دقيقًا بين الألوهة Gottheit وبين الله Gott. فالألوهة هي الذات الإلهية المطلقة، واجبة الوجود بذاتها، المتعالية على الأسماء والصفات والعلاقات، والتي لا نستطيع أن نقول فيها شيئًا غير أنها أحدية مطلقة؛ وبالتالي لا يجوز لنا أن نتكلم عليها إلا بلغة لاهوتية سلبية، بحيث إن مصطلحات، من نحو "الوجود" و"الخير"، كما نستعملها في اللغة البشرية، لا تصح عليها. أما الله، على العكس، فهو الألوهة بوصفها داخلة في علاقة. فهي تقيم أولاً علاقة أولى داخلية وضرورية مع ذاتها، تفضي إلى انبثاق الأقانيم الإلهية للثالوث؛ والأقانيم تفيض فيضًا مستمرًّا من الذات الإلهية وترجع إليها. كذلك فإن الألوهة تصير الله عبر علاقة ثانية، خارجية، هي علاقة الخلق. وبحسب عبارة إيكهرت (التي يتقاطع فيها مع مذهب الشيخ الأكبر ابن عربي)، ليس الله إلهًا إلا بوجود المخلوقات؛ فلو لم تكن لما كان.[1]

الخلق: سمة إلهية وعدم الوجود

يرتبط التصور الإيكهرتي للخلق بثيمة محورية عند أفلاطون هي ثيمة النموذج البدئي archetype ("العين الثابتة"، بحسب ابن عربي). فالله يعلم منذ الأزل، في كلمته، "أعيان" الخلق كافة. والخلق هو الفعل الإلهي الذي يمر عبره بعضُ هذه الكائنات من عالم الأعيان المثالي إلى عالم الظواهر. كل مخلوق فهو كائن مزدوج: موجود بالقوة في الله، وموجود بالفعل في العالم. وهكذا فإن كلَّ مخلوق، من حيث ارتباطُه بنموذجه أو عينه الثابتة في العلم الإلهي الكلِّي، يحمل نوعًا من "السمة" الإلهية التي هي شرفه الأصلي. ولكن من منظور آخر، فإن الفارق الجذري بين الكائن غير المخلوق وبين الكائن المخلوق هو من السعة بحيث إن هذا الأخير، قياسًا إلى الله، يمكن أن يوصف بالعدم. وهنا يقترب إيكهرت من الفيدنتا الهندوسي الذي ينكر على "المخلوق" أيَّ وجود مستقل عن برهمن ويصفه بـ"الوهم" māyā.

أعماق النفس

تسمح ثيمة النموذج البدئي لإيكهرت برفع شرف الإنسان على أساس مكين. فهو، ككلِّ الصوفية، ينظر إلى النفس الإنسانية كواقع مركَّب، فيه أقاليم ومناطق. وفي سرِّها الأعمق تُستودَع عينُها الأزلية (آتمن ātman الفيدنتا) التي تربطها إلى الذات الإلهية. وإيكهرت مرارًا ما يشير إلى هذه النقطة المركزية للنفس بمصطلحات من نحو "الكُنْه" أو "النور" أو "الشرارة". وهو يشدد على أن هذا السر متوجِّه بكلِّيته إلى الله، ويسميه أحيانًا "العقل". وعن "كُنْه" النفس هذا يقول إيكهرت في إصرار شديد إنه "غير مخلوق وغير قابل للخلق"!

وهكذا فإن النفس، متحدةً بالله عبر مركزها، تشارك مشاركة فاعلة ومنفعلة في حياة الثالوث الإلهي. ففيها يولد الكلمة ولادةً متجددة من الآب، في الوقت الذي تولد هي مع الكلمة من الآب. وهذه النظرات واحدة من قمم التصوف الإيكهرتي، لكنها أيضًا من أصعب جوانبه.

نفي المتعدِّد

يرى إيكهرت أن السلوك الصوفي محكوم هو الآخر بثيمة النموذج البدئي، كما وبرؤية دورية، أفلاطونية هي الأخرى. فالنفس تصدر أصلاً عن الوحدة الإلهية، لكن الخلق يضعها في القلب من عالم الكثرة، وعليها أن تستخلص نفسها منه من أجل أن ترجع إلى الوحدة. وهذا يقتضي حالاً جذرية من "الفقر"، تستغني فيه النفسُ عن الخلق كلِّه: عليها أن تزهد في كلِّ إرادة خاصة تفصلها عن الله؛ وعليها أن تتخطَّى العناصر المخلوقة كلَّها، بما فيها طبيعة المسيح البشرية بوصفها مخلوقة؛ وعليها أن تتخطَّى الصور، لا بل أدق الآثار التصورية التي يمكن أن ترسب فيها. ويجب عليها أن تبلغ إلى حالة من الزهد المطلق، بحيث لا يبقى فيها أثرٌ لرغبة، حتى في الخير. وهكذا تفنى النفس، فتنكفئ على ذاتها في حركة يطلق عليها إيكهرت اسم "الانطواء". وهي، إذ تتعالى على الكون المخلوق عبر "اختراق" حقيقي، تبلغ عينها (أو نموذجها البدئي) في مركزها، وتلتحق فيه بأحدية الذات الإلهية، محققة نوعًا من عدم التمايز عن الله، نوعًا من "التألُّه". وبهذا يتوصل إيكهرت إلى نظرية أفلاطونية أصيلة، متماسكة، في الاتحاد الصوفي.

ما بعد إيكهرت

لم يكن لمرسوم التكفير في حقِّ إيكهرت غير مدى محدود، فلم يحُلْ دون انتشار مؤلَّفاته؛ وجميع مريدي المعلِّم اعتبروه إدانة في حقِّ مذهب سُنِّي لم يُفهَم حقَّ فهمه. وهذا الانتشار يؤكده العدد الذي لا يستهان به من المخطوطات، ولاسيما للمؤلَّفات الألمانية (أكثر من 200 مخطوطة للمواعظ). وقد دافع عن مذهبه ودققه ونَشَرَه خليفتاه، الصوفيان الدومنكيان الكبيران يوهان تويلر (حوالى 1300-1361) وهاينريش سوسو (حوالى 1295-1366). وقد واصل الفلمنكي يان فان رويسبروك (1293-1381) العمل على الثيمات الأساسية للمذهب الإيكهرتي في تأليف شخصي أصيل.

يبقى أن نقول إن علامة كبيرًا في بوذية زِنْ، جمع العلم إلى الخبرة، هو د.ت. سوزوكي، وضع كتابًا بيَّن فيه نقاط التقاطُع بين البوذية ومذهب إيكهرت الصوفي. واللاهوتي الإنجيلي رودولف أوتو (مؤلِّف الكتاب المرجعي الحرام) خصَّص جانبًا كبيرًا من كتابه تصوف الشرق وتصوف الغرب للتمعن في نقاط الافتراق والوحدة بين مذهب شنكرا الأدفيتي وإلهيات إيكهرت. وكذلك فعل اللاهوتي الروسي المرموق فلاديمِر لوسكي حين بيَّن أن نظرية المعرفة عند إيكهرت تتقاطع مع اللاهوت "السلبي" (كما نجده عند ذيونيسوس الأريوباغي وغيره) الذي يُعَد من المصادر الأساسية للتصوف المسيحي المشرقي. وإن مقاربة مماثلة، تبيِّن التطابق بين مذهب إيكهرت و"وحدة الوجود" الأكبرية، وبينه وبين التصوف الإسلامي إجمالاً (ولاسيما نظرية الجنيد والحلاج في "وحدة الشهود")، لا بدَّ أن تكون مصدر إغناء كبير للخبرات الروحية المعاصرة.








القاموس الفلسفي - طيف - 05-07-2007




شري أوروبندو (1872-1950)

هو اليوغاني والفيلسوف والشاعر الكبير أوروبندو غهوسِّه Aurobindo Ghose الذي انصرف، بعد اطِّلاع واسع على ثقافة الغرب وحياة سياسية نشطة تستهدف إجلاء الإنكليز من الهند، إلى دراسة عميقة للأبعاد الروحية النقلية للحياة الثقافية والروحية للهند.

تأليف بين ثقافتين

ولد شري أوروبندو في مدينة كلكتَّا في 15 آب 1872، ثالث أبناء د. كرشنادهَن غهوسِّه Krishnadhan Ghose، الطبيب البنغالي المعجب أيَّما إعجاب بالثقافة البريطانية، فحمل الصبي اسمين: الأول بنغالي هو أوروبندو (اللفظ البنغالي للكلمة السنسكريتية Aravinda التي تعني "لوتس")؛ والثاني إنكليزي هو أكرويد. تلقَّى، شأنه شأن شقيقيه، تربية إنكليزية خالصة، مع أن جدَّه كاليبراساد غهوسِّه Kaliprasad Ghose ظلَّ على وفائه للثقافة الهندية.

في العام 1879، عُهِد بالأشقاء الثلاثة (ولد بعده للأسرة بنتٌ وصبي) إلى أسرة في مانشستر، بدأ في كنفها يتعلَّم اللاتينية. وفي العام 1885، دخل مدرسة القديس بولس في لندن، حيث درس بصفة خاصة الإغريقية وتاريخ أوروبا وعدة لغات أوروبية، ونمَّى موهبته الشعرية. ثم ما لبث في العام 1889 أن سجَّل نفسه في كنغز كوليدج في كمبردج، وانتسب إلى جمعية للطلاب الهنود، متخليًا بعيدئذٍ عن اسمه الإنكليزي. لقد كان والده يُعِدُّه للخدمة المدنية الهندية موظفًا؛ لكنه أخفق في امتحان ركوب الخيل؛ كما أنه كان في الواقع يبدي مشاعر قومية لا تتوافق مع تلك الخدمة.

تنبَّه إلى مواهبه جيمس س. كوتُّن، شقيق معاون حاكم البنغال الأسبق، ومهاراجا بارودا، فغادر إنكلترا في العام 1893 ودخل في خدمة ولاية بارودا. وهناك سرعان ما تعاون سرًّا مع هيئة تحرير مجلة هندوبراكاش Induprakash ("نور الهند") ذات الاتجاه القومي. كان يرى تقصيرًا في نشاط "مؤتمر عموم الهند" (تأسَّس في العام 1885) الذي كان، منذ بداياته، يسعى إلى إلهام الإدارة الإنكليزية إصلاحاتٍ نافعة للبلاد. من هنا فقد رأى ضرورة تجديد ثقافة الأمة الهندية وتراثها الروحي. ومنذئذٍ عكف على دراسة المنقولات السنسكريتية والبنغالية الكبرى، المستبعَدة من دراساته السابقة. ولم يجعله هذا المسعى يتنكَّر لمكتسباته من الثقافة الأوروبية، بل كرَّس فكره للبحث عن تأليف أعلى يمكن لخير ما في الثقافتين أن يشكل عنصرًا فيه، ومن شأن العنصر الهندي فيه أن يردَّ للهند وعيها الذاتي وعزَّتها.

ناضل سياسيًّا في التنظيمات السرية الناشطة من أجل الاستقلال، وبخاصة في جمعيات موطنه البنغال، غير مستنكف، على خلاف مع غاندي، من اللجوء إلى العنف عند الضرورة. وبعد حركة الاستنكار الكبرى التي نجمت عن تقسيم البنغال في العام 1905، قام أوروبندو بجولات سياسية فيها، وترأس إدارة الجامعة القومية البنغالية، وشارك في تحرير جريدة باندي ماتارَم Bande Mātāram ("حَيِّ على الأم"، التي هي الوطن والنفس) التي سُمِّيَت كذلك اقتباسًا من أول كلمتين من نشيد كتبه الشاعر والمفكر القومي بنكِم تشاندر تشاترجي Bankim Chandra Chatterjī كان أضحى نشيد البنغاليين القومي. في العام 1907، تعرَّض أوروبندو للملاحقة، مما اضطره إلى ترك "جامعته". وفي تلك الأثناء أيضًا عانى مؤتمر عموم الهند من أزمة حادة. وقد اعتُبِر أوروبندو آنذاك محسوبًا، إلى جانب الماراثي تيلاك، على الجناح المتطرف.

يعود إلى تلك الفترة بدءُ ممارسته العملية للرياضات اليوغية التي زوَّدته برباطة الجأش والطمأنينة الداخلية. وفي العام 1908، اتُّهِم بالتخطيط لنشاطات إرهابية واعتُقِل. ولقد تعمَّق في هذه الاهتمامات في فترة السنة التي قضاها في السجن بين المجرمين والتي انقطع في أثنائها إلى ممارسة اليوغا والقراءة والعمل الأدبي والتأمل في الـفيدا والـأوبنشاد والـبهغفدغيتا.

هكذا حوَّلت الحكمة الهندية الخالدة الشاب "الإنكليزي" الملحد، المؤمن بالحداثة، إلى عاشق من عشاق الله – الله بذاته في ذاته – فصار يأتمر بأمره، ليس بواسطة رؤى، لكن عبر الشعور بحضوره في كلِّ شيء وبقوَّته في دخيلة نفسه.

في العام 1910، إذ تعرَّض للاعتقال مرة أخرى، ذهب خُلسة إلى تشاندرناغور (الفرنسية آنذاك)، ومنها في قارب إلى مستوطنة بونديشيري الفرنسية حيث استقر نهائيًّا. وهناك تخلَّى جهرًا عن كلِّ نشاط سياسي مباشر، وحتى العام 1914 عن كلِّ نشاط علني ونَشْر، حيث أسَّس معتزَلاً كرَّسه لتنمية تعاليمه الروحية ونشرها، مع بقائه ساهرًا على الشؤون السياسية للهند "من بعيد". وبعد فترة انضمت إليه زوجه وعدد من مريديه وأصدقائه. وفي العام 1914 أسَّس مع صديقه الفرنسي بول ريشار وحلقة صغيرة من المريدين مجلة آريا Arya (التي أصبحت لسان حال تعاليمه الروحية والفلسفية) وباشر نشر مؤلَّفاته. لقد استطاع إبان تلك السنوات أن يؤلِّف بين الخبرات الروحية للماضي ويحقق ما كتب عنه فيما بعد في تأليف اليوغا: "[...] لن يكون تلميذ اليوغا راضيًا ما دام لم يضم إلى تصوره الخاص جميع الأسماء والصور الأخرى للألوهة [...]، ما دام لم يلحم جميع التعاليم في تناغم الحكمة الأزلية."


وقد ترجمت كتاباتِه إلى الفرنسية السيدة ريشار (ميرا ألفاسا)، التي ما لبثت أن غادرت بونديشيري، لتعود وتستقر فيها في العام 1920 وتصبح شريكة شري أوروبندو ورفيقته الروحية في عمله بتنظيمها جماعة المريدين في الآشرم، وتُعرَف منذ ذاك بلقب "الأم". واعتبارًا من العام 1926، تسلَّمت "الأم" الإدارة الفعلية للآشرم، فيما قرَّر أوروبندو أن يعتزل العالم في خلوة دائمة، لا يقطعها كلَّ عام إلا عددٌ محدود من الظهورات العلنية (درشن darshan) في مناسبات احتفائية خاصة.



ولدى وفاته في بونديشيري في 5 كانون الأول 1950 – تلك الوفاة التي لم يصدِّقها مريدوه والتي لا تستبعد في نظرهم استمرار حضوره الروحي بينهم – دُفِن في باحة في البناء المركزي للآشرم في مقام (سمادهي samādhi) يؤمُّه الزوار حتى اليوم للتبرُّك.





فكره "الفلسفي": الحقيقة الإلهية كامنة في الذات الإنسانية

تهيمن فكرة "التأليف" synthesis على رؤيا شري أوروبندو الفلسفية برمَّتها، حيث تتلاقى الاختبارات الجزئية للحقيقة كافة، كما وعلى إلهامه الشعري وعلى شروحه على النصوص الخالدة للحكمة الهندية. هو ذا يقول:

[...] ثمة حقيقة واحدة، هي حقيقة الوجود بأسره، أعظم وأكثر سرمدية من جميع تشكُّلاتها وتجلِّياتها. إيجاد هذه الحقيقة والحياة فيها، وتحقيق أكمل تجلٍّ وتشكُّل ممكن بها، هو سرُّ الكمال، سواء كان ذا كيان فردي أو مشترك. هذه الحقيقة موجودة في باطن كلِّ شيء، وتمنح كلَّ شيء تشكُّلاته وقوة كيانه وقيمة وجوده.

إن المقبوس السابق من كتاب الحياة الإلهية لأوروبندو يلخِّص إلى حدٍّ ما حكمته النظرية. لقد استفاد من الثقافة والعلم الأوروبيين مفهومَ التطور البيولوجي، ومن الحكمة الهندية الأنطولوجيا والإلهيات. وهذه تقول بوحدة الوجود، أو كلِّية الوعي الذي هو الأرضية المشتركة للوقائع المادية والنفسانية لعالم الظواهر أو العالم البشري كافة. فـ"التطور الروحي"، أو تطور الوعي، هو الإطار المركزي لفهم فكر أوروبندو. وإن مصطلح وعي consciousness مصطلح غني ومعقَّد عنده. فالوعي، في الأونطولوجيا الأوروبندية، محايث immanent للعالم، مبطون في الأشياء كلِّها، يشارك في مراتب الوجود المختلفة بطرق مختلفة، في المادة الجامدة ظاهريًّا كما في الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية والإنسانية الفائقة – وهو يتعالى عنها جميعًا في الوقت نفسه.

إن sachchidānanda – حرفيًّا، أعلى مراتب "الوجود والوعي والغبطة" – يُعرَف أيضًا بالمطلق. وهذا المطلق هو "حقيقة الحقائق"[1] التي تحيط بكلِّ الحقائق الجزئية وتفصح عن نفسها خصوصًا عبر العقل الإنساني، وينبغي لها أن تفصح عن نفسها أبهى فأبهى بتطور هذا العقل تصاعديًّا.[2]

إذًا فالوعي، بحسب أوروبندو، حاضر في الإنسان، وبالتالي، ناشط فيه من خلال مراتبه الذهنية. فالذهن الفائق Supermind يتوسَّط بين سَتشتشيدانندا وتعددية العالم. والذهن الأرفع Overmind ينوب مناب الذهن الفائق. أما الذهن الكشفي Intuitive Mind، فهو نوع من الوعي القلبي يميِّز الحقيقة إبان اللوامح الطارئة، وليس في الإحاطة الشاملة. الذهن المتنوِّر Illumined Mind يبلِّغ الوعي بالرؤيا، فيما يبلِّغه الذهن الأعلى Higher Mind من خلال الفكر التصوري. والذهن عمومًا يستدمج الواقع عبر المدرَكات المعرفية والعقلية والذهنية، وليس من خلال الرؤيا المباشرة، وإن يكن الذهن مفتوحًا كذلك على الدرجات العليا للوعي، من حيث إنه موجَّه أساسًا نحو الذهن الفائق الذي يشترك فيه بالاشتقاق. والـبسيخي Psyche هي الشكل الواعي من النفس الذي يجعل التطور من الجهل إلى النور ممكنًا. الحياة هي الطاقة الكونية التي تُستقبَل الألوهة من خلالها فتتجلَّى. والمادة، على كونها المستوى الأدنى في تراتبية أوروبندو في تجلِّي الوعي، فهي غير قابلة للاختزال إلى مجرد الجوهر المادي، لكنها تعبير عن سَتشتشيدانندا في صورة أكثف.

الألوهة إذن، بحسب أوروبندو، فاعلة في مراتب الوجود كافة، عبر تطور صاعد في الطبيعة، يرتقي من الحجر إلى النبات، من النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان، حيث تفصح عن نفسها في وعيه، وينبغي أن تفصح عن نفسها بامتلاء أعظم مع تنامي هذا الوعي وتطوره. فلما كان الإنسان في الوقت الحاضر يبدو وكأنه المدماك الأخير على هرم التطور الصاعد، فإنه يعتبر نفسه النقطة النهائية لهذا التطور، متوهِّمًا استحالة أن يوجد ما يعلو عليه على مستوى الكرة الأرضية. إنه مخطئ في ذلك لأنه، في طبيعته المادية بمجملها، ما يزال حيوانًا – حيوانًا مفكرًا وناطقًا، إنما حيوان في عاداته وغرائزه الجسمانية. من الواضح، والحالة هذه (إذا سلَّمنا أن التطور سيرورة متواصلة لا نهاية لها)، أن الطبيعة لا يمكن أن تكتفي بنتيجة ناقصة كهذه، وهي، بالتالي، لن تألو جهدًا في تكوين كائن يكون من الإنسان في المستقبل ما هو الإنسان اليوم من الحيوان – كائن سيكون بشريًّا من الخارج، لكن وعيه سيرتقي عاليًا فوق الذهن المحدود وعبوديته للوهم[3]، مايا māyā.

إن النظرة التراتبية إلى الوعي أو الروح يجب أن تُرى أيضًا من منظور سيرورة يشاهَد فيها العليُّ بوصفه كائنًا وصائرًا إلى التجلِّي على مستويات الوجود جميعًا. إن الوعي يتحرر من خلال قانون داخلي يوجِّه التطور. ويشاهَد التطور الروحي كسلسلة من العروجات من الوجود المادي، الجسماني، صعودًا حتى الوجود الذهني الفائق Supramental Existence، نتمكَّن من خلالها من بلوغ كياننا الحق وتحقُّقنا.

اليوغا وسيلة يمكن بها للدفع التطوري أن يستعين بالجهد الإنساني. ففي حين ينحو التطور نحوًا بطيئًا غير مباشر، يعمل اليوغا عملاً سريعًا ومباشرًا. التطور ينشد الألوهة من خلال الطبيعة، فيما اليوغا يستمسك بالألوهة بوصفها متسامية على الطبيعة.

إن الغاية القصوى للوجود الأرضي للإنسان هي التحقق بالوعي الكلِّي، ضمن الشروط الخاصة بكلِّ فرد. من هنا ليس ثمة، بنظر أوروبندو، عقيدة دينية أو فلسفية عالمية ينبغي للإنسان أن يكون عبدًا لها. لقد كان همُّ أوروبندو الأول "جعل الحقيقة فاعلة في النفس البشرية". وفي سبيل هذه الغاية وضع أسُس "يوغا متكامل" Integral Yoga مرن (بمعنى أنه يلائم خصوصية كلِّ فرد)، غير مصمَّم للزاهدين في الدنيا، بل يستهدف تحويل الحياة البشرية الأرضية "ههنا في الفرد والمجتمع" بعمل "متكامل" على الذات. وهو يُدعى كذلك لأنه يسعى إلى استدماج زبدة الطُرُق القديمة وسيروراتها، مؤلِّفًا بين مناهجها وثمارها في منظومة واحدة؛ وهو "متكامل" أيضًا بمقدار ما يصبو إلى تحول تام للوعي وللطبيعة، ليس للفرد وحسب بل للإنسانية ككل وللكوسموس بأسره.

وعلى غير بعض طرق اليوغا في الماضي، لا ينشد اليوغا المتكامل الخلاص من دورة الولادة والموت، بل ينشد إطلاق الطاقات الكامنة في الإنسان من عقالها،[4] بما يحوِّل الحياة والوجود بأسره، بالألوهة، للألوهة، وعبر الألوهة. العروج إلى الألوهة هو محلُّ التشديد في غالبية طرق اليوغا المتَّبعة، بينما العروج إلى الألوهة ليس في اليوغا المتكامل إلا الدرجة الأولى، من حيث إن الغاية الحقيقية هي "تنزيل" الوعي الجديد الذي تم بلوغه بواسطة ذاك العروج واستعماله لـ"رَوْحَنَة" العالم. على المرء، بحسب شري أوروبندو، أن ينفتح على الوعي الإلهي "الذهني الأرفع" supramental بما يصنع منه إنسانًا فائقًا قادرًا على النهوض بنظام جديد للحياة في العالم، يحوِّل المؤسَّسات البشرية المحتضرة إلى "أشكال حرَّة" من القوة والمحبة والعدالة. فكان التشديد في تعاليمه على "رَوْحَنَة" عالم الظواهر والنشاط الإنساني ككل، بواسطة نشوء نخبة روحانية منظَّمة تمتد لتلامس البشرية بأسرها، شأنها شأن الخميرة في العجين.[5] ولقد وضع شري أوروبندو أسُس عقيدته في مؤلَّفات رائعة ما تزال حتى اليوم مصدر إلهام لمفكرين كثيرين في مجالات الفلسفة والتاريخ واليوغا والخبرة الروحية إجمالاً.[6]


[1] نستعير هذا المصطلح من مذهب ابن عربي.

[2] "حقيقة الحقائق" هذه كامنة في النصوص القديمة، إنما ممتزجة فيها بحقائق "ظرفية" مشروطة بالزمان وبالمكان، كما وبالعصور وبالشعوب التي تعاملت مع هذه النصوص. ولقد وجدها أوروبندو عند هيراقليطس، في الـفيدا، في الـأوبنشاد، وفي الـغيتا؛ وهي تظهر في هذا النصِّ الأخير بوصفها الغاية النهائية للعمل وللمعرفة وللمحبة.

[3] يقول أوروبندو بهذا الصدد في ساعة الله: "الإنسان كائن في حالة انتقال وليس كائنًا نهائيًّا. ذلك لأن فيه، وفيما بعده، ترتقي مراحل مشعة تتسامى نحو إنسانية متفوِّقة إلهية."

[4] ليس المقصود بهذا "الإطلاق"، من أيِّ وجه من الوجوه، عبودية المرء لميوله ومنازعه، بل هو يعني "تفتحًا"، توجِّهه المحبة والمعرفة، للحقيقة الإلهية الهاجعة في أعماق كيانه. جاء في كتاب أوروبندو تأليف اليوغا: "لا شيء يمكن تلقينه للذهن ما لم يكن مختبئًا كمعرفة كامنة في النفس المتفتِّحة للمخلوق. وعلى النحو ذاته، ليس كلُّ كمال في مستطاع الإنسان الظاهر تحقيقه إلا تحقيقًا للكمال الأزلي للروح فيه."

[5] يجتمع مريدو وأنصار ومؤيِّدو نظرة شري أوروبندو إلى التطور الروحي وطريقته اليوغية في جماعات عبر العالم أجمع، أشهرها تلك التي باشرت، بإشراف "الأم"، بناء أوروفيل Auroville، المدينة القريبة من بونديشيري التي صُمِّمت لتجسِّم مثال أوروبندو عن إنسانية متحوِّلة، والمعتزَل في بونديشيري حيث أقام أوروبندو نفسه مدة أربعين عامًا. وهذه الأماكن ناشطة في مجالات التربية الحديثة، وهي ترمي، على هَدْيٍ من فكر المعلِّم، إلى نشر المعرفة العلمية الدولية وإلى بلوغ الصحة البدنية والنفسية عبر سلوكيات حياتية صحية.

[6] تحوي مؤلَّفات أوروبندو جانبًا كبيرًا من المعرفة الروحية التي وُهِبَها في سلوكه اليوغي وتقدِّم عرضًا مفصَّلاً للفلسفة الروحية واليوغا، وتشتمل على تأويلات دقيقة للفيدا والأوبنشاد والـغيتا، وتتناول روح الحضارة والثقافة الهنديتين، وتستلهم الطبيعة وتدرس تطور التجربة الشعرية، وترسم ملامح تقدُّم المجتمع الإنساني نحو مستقبله الإلهي، ويخيِّم عليها المنحى التأليفي الشامل الذي تتكامل فيه الرؤى الجزئية للحقيقة في رؤيا كونية كلِّية. نذكر منها بالأخص: الدورة الإنسانية، مثال الوحدة الإنسانية، رسالة الثقافة الهندية، الحياة الإلهية، تأليف اليوغا، بالإضافة إلى عدد كبير من الرسائل في اليوغا والقصائد والمسرحيات والقصص القصيرة.







القاموس الفلسفي - طيف - 05-08-2007

حرف الباء

البوذية


البوذا (536-456 ق م) والبوذية


هو سِدْهرتا غَوْتاما Siddharta Gautama، الملقَّب بالبوذا Buddha ("المتنوِّر")، مؤسِّس البوذية، وواحد من أعظم الحكماء في كلِّ الأزمنة والبلدان.



البوذية، ككلِّ عقيدة باطنية، لا تندرج في إطار أيٍّ من التصانيف الغربية للفكر الفلسفي المدرسي. فهي ليست دينًا ولا فلسفة بالمعنى الغربي لهذين المصطلحين، إنما بالأحرى مسلك باطني ("طريقة" بالمصطلح الصوفي) يستهدف تحقيق "الهوية المطلقة" فيما يُعرَف بالـنرفانا. وهي تقوم على عقيدة رحبة ومُحكمة التماسُك في بسطها ومنطقيَّتها.

كلمة "بوذية" مشتقة من لقب بوذا – وهو مصطلح لا يشير إلى شخص معيَّن بقدر ما يشير إلى التحقق بدرجة عليا من الوعي: البوذا هو المتنوِّر، هو الكائن المتحقِّق بأسمى درجات الإشراق الروحي. أما الإنسان الذي كان تجسيدًا رفيعًا لهذه الدرجة فهو الأمير الهندي سدهرتا غوتاما.[1] وتخبرنا السِيَر الشريفة أن سدهرتا غوتاما ولد سليلاً لطائفة المحاربين النبلاء (كشَتْريا kshatriya) بالقرب من كَبيلافَسْتو حوالى سنة 563 ق م. وقد أضفت الأسطورة زخارف كثيرة على سيرة حياته التي لا يُعرَف عنها نسبيًّا إلا القليل.

عاش سدهرتا في مستهلِّ حياته عيش الأمراء في قصر والده. وفي السادسة عشرة اقترن بياسودهارا Yasudhara التي أنجبتْ ابنهما راهولا Rahula. وتذكر السِّيَر أيضًا أن والده أبقاه في القصر وأحاطه بالشبان وبالشابات فقط، لكي يمنع عنه رؤية البؤس البشري – إلى أن أصرَّ ذات مرة على الخروج وصادف في طريقه، على التوالي، شيخًا مسنًّا ومريضًا وميتًا ثم ناسكًا متوحِّدًا. نبَّهه الثلاثة الأُوَل إلى الألم الذي يكتنف الوجود البشري، فيما أبصر في رابعهم إشارة إلى رسالته في الحياة.

على أثر هذه الرؤيا التي زلزلتْ كيانه، غادر الأمير قصره المنيف، هاجرًا زوجه وابنه، متخليًا عن أملاكه، عازفًا عن حياة الترف واللهو، طالبًا المعرفة. وإذ تنسَّك، شرع في صحبة نسَّاك (سامنا sāmana) آخرين يفتش عن علاج جذري للألم الشامل. وعندما أخذ عنهم كلَّ ما كان بوسعهم أن يعلِّموه غادرهم، مواصلاً طريقه بمفرده. وقد فرض في البداية على نفسه تقشفات وإماتات بدنية ونفسية، سرعان ما هددتْ حياته بخطر الموت. لكنه، إذ أدرك الغرور المقنَّع الذي ينطوي عليه الإفراط في الزهد، أقلع عنه، مكتشفًا "طريقًا وسطًا"، "يقع بين الحدَّين المتطرِّفين ويتخطَّاهما معًا"، على حدِّ تعبير الفيلسوف البوذي كرستمس همفريز. ثم اقتعد موضعًا تحت شجرة (عُرِفت منذئذٍ بشجرة بودهي Bodhi – "الحكمة") قرب غايا Gaya، مستغرقًا في تأمل عميق موصول. وقد ارتقى بوعيه مراتب الوجود مرتبة مرتبة، واتسعتْ رؤياه، حتى إذا حلَّ الهزيع السابع من الليل ولج، فجأةً، عالم النور الخالص، واجِدًا ضالَّته التي طالما فتش عنها، مكتشفًا المغزى الأسمى من الكون والحياة، ودخل حيًّا في الـنرفانا: صار جيفَن موكتا jivan-mukta، أي "منعتقًا في الحياة"، بالمصطلح الهندوسي. إنه التنوُّر! لقد صار سدهرتا الأمس "بوذا"، "المتنوِّر"، أو بالأحرى "تحقَّق" بطبيعته الأصلية.

أدرك البوذا، إذن، بملء وعيه، أن الحياة تنطوي على الألم، وأن الألم بالمرصاد لكلِّ مَن لا يزال أسير عجلة سمسارا samsāra، عجلة الولادات والميتات؛ أدرك أن ما من شيء دائم في هذه الدنيا، وأن كلَّ شيء فيها إلى زوال. فالإنسان غير المتحرِّر داخليًّا "لاذات" (أنـَتـْما anatma) غير مطمئن، يعود شقاؤه إلى جهله وتعلُّقاته الناجمة عن رغبته التي لا ترتوي. الرغبة هي علَّة الألم، ولا زوال للألم إلا بإخماد نارها المستعرة. وقد صاغ البوذا هذه العلَّة فيما دعاه بـ"الحقائق النبيلة الأربع" في الألم، ألا وهي:

حقيقة الألم: الألم متأصِّل في الحياة كما يفهمها الإنسان العادي؛
حقيقة علَّة الألم: أصل الألم هو الرغبة؛
حقيقة التغلُّب على الألم: يكون التغلُّب على الألم بإخماد الرغبة؛


حقيقة الطريق المؤدي إلى التغلب على الألم: وهو الطريق المثمَّن الشُّعَب؛ وهذه الشعب هي:
أ‌. الفهم السليم: رؤية الحياة كما هي عليه، بالانسجام مع خصائصها الثلاث، الألم والتغيُّر واللاذاتية، والأخذ بالحقائق النبيلة الأربع (وجود الألم وعلَّته والتغلُّب عليه والطريق إلى ذلك بالسير على "الطريق الوسط").

ب‌. التفكير السليم: تجرُّد التفكير من الغلاظة والتعصُّب تجاه البشر وكلِّ أشكال الحياة.

ت‌. الكلام السليم: الكلام اللطيف وقول الحق وسرد الأحداث الجارية بدقة وبأمانة.

ث‌. العمل السليم: السلوك بحذاقة وبرأفة، واجتناب المجهود العنيف أو العقيم.

ج‌. العيش السليم: على مسلك المرء في العيش ألا يتسبب في إلحاق الأذى بالنفس أو بأيٍّ من الكائنات، وأن يُعِدَّ المرءَ لميتة كريمة، لائقة بإنسانيته.

ح‌. الاجتهاد السليم: تحقيق الكمال بنبذ الصفات الوضيعة الذميمة والتخلُّق بالخصال الرفيعة الحميدة.

خ‌. النظر السليم: تنمية الانتباه الداخلي ومراقبته، وكذلك العطف والرحمة، الناتجين عن الاتكال على النفس والحِلْم.

د‌. التركيز السليم: التأمُّل حتى بلوغ ذروة الكشف العقلي – الحكمة.

وإذ امتلأ البوذا الجديد بالرحمة على العالم، عزم على نقل النور والخلاص الذي انكشف له الطريقُ إليه إلى بني الإنسان. لقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره عندما شرع في تعليم عقيدته، الـدهرما Dharma، وثابر على ذلك طوال ما تبقى من حياته، مثالاً حيًّا على الحكمة المطمئنَّة والطيبة اللامتناهية، إلى أن وافاه الأجل في الثمانين.

لقد أوصى البوذا، من أجل بلوغ غاية الحياة، باتِّباع شريعة أخلاقية رفيعة، هي انعكاس مباشر للناموس الأخلاقي المدوَّن في سريرة الإنسان. إن منهجه يقوم، بدون أن يُلمِع إلى وجود أيِّ إله،[2] على التأمل والرياضة العقلية أكثر منه على الزهد. وإننا لنقع في العقيدة البوذية على عناصر هندوسية عديدة، الأمر الذي يؤكد على عدم التعارض بين ظاهر الهندوسية والبوذية إلا بمقدار ما يختلف ظاهر منقول عن باطنه. ولم يكتفِ البوذا بتعليم العقيدة وحسب، بل أسَّس "رهبنة" الـسَنْغها sangha التي أوْكَلَ إلى أفرادها (الـبهِكشو bhikshu) مهمة نَشْرِ البشارة البوذية في العالم.[3] ولقد لاقت البشارة نجاحًا عظيمًا، وانتشرت البوذية في الهند بعد قرنين من موت غوتاما ورهبانه الأوائل في عهد آشوكا Ashoka، ذلك الملك العظيم الذي راعتْه الفظائعُ التي ارتكبتْها جيوشُه الغازية، فتحوَّل، وهو في أوج فتوحاته وانتصاراته، إلى البوذية، معتنقًا إياها ومتعمِّقًا فيها، وصار من أنبل الوجوه الإنسانية التي مثَّلتْ لها عبر التاريخ. وظلت البوذية مزدهرة في الهند حتى بعد مرور 1500 سنة على دخول مؤسِّسها في الـبَرينـِرفانا parinirvāna ("الانطفاء التام").

البوذية في نقائها الأصلي، بما هي طريقة باطنية تأملية، عقيدة مُحْكَمة، تقوم على منطق عملي لا يفسح للعاطفة إلا مجالاً ضيقًا للغاية. وبما أن الشعب الهندي يتميَّز بشفافية الشعور وبعاطفة ثرَّة، وكان ذا ميل فطري إلى الإلهيَّات والمُدارَسة النفسية، فقد شقَّ تيارٌ جديدٌ طريقَه وسط العالم البوذي في القرن الأول الميلادي، حتى توطَّد أخيرًا منهجان اثنان: منهج الجنوب (ويدعى كذلك هينيانا Hinayāna، "المركبة الصغرى"، أو تهِرَفادا Theravada)، الذي اعتبر نفسه – وما يزال – حاميَ العقيدة في صورتها الخام؛ ومنهج الشمال (مهايانا Mahāyāna، "المركبة الكبرى")، الذي تلوَّنتْ البوذية بتأثيره بلون جديد، أدرج فيها بُعدًا "بهكتيًّا"، تعبُّديًّا، وأبْرَزَ أهمية التأملات الميتافيزيائية. ومع الانتشار الجغرافي للبوذية، تفرَّعتْ عن هذين المنهجين أغصانٌ عديدة متنوعة.

ففي القرن الثالث ق م دخلت البوذية الصين، ومنها امتدت إلى كوريا (372 م)، ثم إلى اليابان (552 م)؛ كما تسرَّبتْ بعضُ المؤلفات البوذية إلى التيبت في حوالى القرن الخامس الميلادي. ومن سيلان (شري لنكا)، التي ما تزال منذ أكثر من اثنين وعشرين قرنًا معقِل منهج الجنوب، اكتسحتْ البوذية بورما (450 م)، ثم كمبودجيا. وفي القرن السابع بلغت سيام (تايلاند)، حيث أصبحت دين الدولة الرسمي. واليوم، ما تزال البوذية حية، رغم أن عمرها "التاريخي" تخطَّى القرون الخمسة والعشرين. وإن تسرُّبها إلى الغرب، الذي ناسبتْه عقلانيَّتُها الرصينة، في ازدياد مطَّرد.

يتركز مجهود البوذية برمَّته في قدرة الإنسان على الانعتاق من عجلة الولادات والميتات التي تلقي به في هوة الألم. ولأنه ما من إله شدَّه إلى هذه العجلة (سمسارا) فليس خلاصُه منوطًا بأحد سواه. لا مكان في البوذية للصلوات وللقرابين التي يعتقد أهل الظاهر أن بالإمكان، من خلالها، استنزال رأفة إله غاضب أو شفقته. وبذلك تعود إلى الإنسان كرامتُه ومنزلتُه اللائقتان به ككائن فاعل في هذا الوجود. و"كهنة" البوذية مدرِّسون للـدهرما وليسوا أبدًا "وسطاء" بين الإنسان والحق. ولأن البوذية لا تقدِّم نفسها بوصفها "وحيًا مُنزَلاً" فإنها لا تفرض أية عقيدة بعينها، إنما، بالأحرى، تقترح "تعليلاً" منطقيًّا وموضوعيًّا للإوالية المسؤولة عن ألم الإنسان وعبوديته.

كل علَّة فهي تحتِّم معلولاً،ً يصير بدوره علَّة لمعلولات متلاحقة (ناموس كرما karma)، وما من تدخُّل، أيًّا كان مصدرُه، يمكن أن يجعل الواقع على غير ما هو عليه. لا شيء في البوذية يدعى "خطيئة" أو "إثمًا"، بمعنى إساءة تثير سخط "رب" أو "إله"؛ لكن كلَّ فعل خاطئ، أي في غير محلِّه، يقود إلى الألم. لقد أصاب كرستمس همفريز، إذ قال: "المرء يعاقَب بـخطاياه، وليس عليها."

لئن كانت البوذية تمنح الإنسان قدرة مذهلة، وتلقي على عاتقه المسؤولية التامة عن مصيره وخلاصه،[4] إلا أنها، في الوقت نفسه، تنفيه كشخص أو "أنا"[5] بالمفهوم العطالي للمصطلح. فالأنيَّة ego، من وجهة النظر البوذية، ما هي إلا ملتقى طرق لمؤثِّرات خاضعة للتحول الدائم. وربما رأى بعضهم في هذه الفكرة، للوهلة الأولى، تناقضًا أساسيًّا في الديالكتيكا البوذية. غير أن الأنيَّة بنظر البوذي (كما بنظر أيِّ صوفي مشرقي) ليس لها وجود في ذاتها، شأنها في ذلك شأن العالم. فمع أنهما موجودان في الواقع على صعيدهما الخاص فإنهما، في المطلق، وَهْم، لأن وحدَه المطلق موجود بذاته. لذا على المرء، كي يكون "حقيقيًّا"، أي يحيا في الحق وبالحق، ألا يكون محدودًا بشيء، مقيَّدًا به، وألا يتَّكل على أيِّ كائن آخر أو ظرف خارجي – وبعبارة أخرى، عليه أن يكون كلِّيًّا. وهذا قطعًا ينفي عنه الشكلانية والاسمية. إن كلَّ ما نصادفه أو نكتشفه في أنفسنا، وفي كلِّ ما تقع عليه حواسُنا من العالم، مقيَّد وزائل، وبالتالي "غير حقيقي" بالمعنى البوذي للكلمة.

ما تزال البوذية، حتى الساعة، تبدو لنا مجرَّد منهج ماديٍّ، خلو من أيِّ مضمون روحي؛ لكنها ليست كذلك في الواقع، من حيث إن المرء، متى أخمد في نفسه لهيب الرغبة الذي يستمد وقوده من تماس الحواس مع الأشياء، وأطلق أنيَّته من تقوقعها على نفسها، وتملَّص بذلك من الدوران مع عجلة الولادات، عاش "حالة" النرفانا. إن وعي فراغ الأنيَّة الزائفة وفراغ الأشكال من أية ماهية دائمة هو السبيل إلى تحقيق الانعتاق. والسلوك في هذا السبيل ليس بالأمر السهل على الإطلاق؛ إذ إنه يتطلب مجهودًا جبارًا، ويقظة للوعي متواصلة، وسبرًا عميقًا للنفس، يخترق الفكر الذي يُتخطَّى إلى الوعي الكلِّي.

ولئن صح أيضًا أن البوذية تعلِّم أخلاقية ما فهي في مآل الأمر ليست بالمنهج الأخلاقي. فالأخلاق فيها ليست غاية في حدِّ ذاتها، إنما هي موطئ قدم مبدئي على "درب" النيرفانا وأول خطوة؛ لكنها خطوة لا معنى لها إلا بمقدار ما تمهِّد للغاية القصوى. إن النظرة البوذية الثاقبة إلى الوجود لتثير الإعجاب حقًّا، وعمقها في "التحليل النفسي" للدوافع التي يلقي انحرافُها بالإنسان في هوة الجهل، وإقصاؤها، ككلِّ طريقة باطنية مستقلة عن الظاهر، كلَّ الفروق الاجتماعية والعرقية والعقائدية – كلُّ ذلك يحملنا على الوقوف طويلاً عند صرحها الشامخ متأمِّلين، خاشعين.

أحاديث بوذاوية

هاكم الآن بعض الأحاديث المأثورة عن البوذا، استقيناها من مصادر مختلفة، غير مراعين في ذلك أيَّ ترتيب أو تبويب:

- لا تفتِّشْ عن ملجأ إلا في نفسك.

- حرِّر نفسك من القيود كما تخرق السمكة شبكة الصياد.

- لا في السماء، ولا في عَرض البحر، ولا في كهف جبلي، ولا في أيِّ مكان من العالم، يستطيع المرء أن يهرب من سيِّئ فِعالِه.

- كما أن الشمعة التي أطفأتْها الريحُ لا تُعرَف هويَّتُها، كذلك الحكيم المطمئن الذي تحرَّر من الفكر والجسم لا تُعرَف هويَّتُه.

- الطريق الوسط يجيء بالمعرفة والفهم، يجيء بالرؤيا الداخلية، ويقود إلى الطمأنينة والحكمة، إلى اليقظة، إلى النرفانا.

- الحكيم المطمئن، الحرُّ من وجهات النظر المبنية على أشياء رآها وسمعها، يتحرَّر من وزر حمله، فلا يعود خاضعًا للزمن، وبذلك يتخطَّى الرغبة والزهد معًا.

- متى سيطر المرءُ على شيء ما، عليه ألا يقيس نفسه إلى الآخرين، مادحًا أو قادحًا، بأيِّ وجه من الوجوه.

- الإنسان الكامل لا يهتم بكيفية نشوء العالم، فلا يعتبر من الزمان إلا الحاضر، ولا يجعل من الولادة في أيِّ عالم من العوالم همَّ قلبه.

- صالح، طالح... انفعالات كهذه تنجم عن التداعيات والانطباعات الفكرية. أما متى تمَّ تخطِّي هذه التداعيات الفكرية لا يعود ثَمَّ تمييز بين مفهومي مُلِذٍّ وغير مُلِذٍّ.

- بعض المتديِّنين يجزم: "الحقيقة هي كيت وكيت؛ أعرف؛ أرى!"، ظانًّا أن كلَّ شيء يتوقف على اعتناق الدين الصحيح؛ لكن متى عرف الإنسان حقًّا لم يعد بحاجة إلى دين.

- كما النحلة تجمع الرحيق دون أن تؤذي الزهرة، كذا يفعل الحكيم وهو بين الناس.

- لا تتعلق بالمُلِذِّ ولا بالمؤلم؛ ففي فقدان المُلِذِّ وفي اقتناء المؤلم ألم.

- الصراع لا يُلطَّف بالكراهية؛ الصراع يتوقف بالمحبة – هذا ناموس أزلي.

- لو لم يكن ثمة ما لا يولَد، ما لا أصل له، ما لم يُخلَق، ما لا شكل له، لما وُجِدت إمكانية النجاة من عالم الولادة والخلق وذي الشكل.

- الأفكار العقيمة مرض وقرحة وشوكة. ومتى تمَّ تخطِّي الأفكار العقيمة كلِّها، حُقَّ للإنسان أن يدعى "مفكرًا صامتًا"؛ والمفكر، الحكيم، لا يخضع للصيرورة.

لقد تعرضت البوذية، مع تزايد انتشارها، إلى مؤثِّرات عديدة عدَّلتْ قليلاً من منهجها. ولكن، أليس من العجب أنها حافظت بعد خمسة وعشرين قرنًا على حيوية روحية متميِّزة؟ أما لقاؤها التاريخي مع العقلية والروحانية الصينيتين فكان مصدرًا لتلاقُح روحيٍّ خصب، أثمر عما سُمِّي ببوذية تشآن Tsh’an (كلمة مشتقة من كلمة دهِيانا dhyāna السنسكريتية التي تعني "التأمل") في الصين وبوذية زِنْ Zen في اليابان، اللتين تتميَّزان بجرأة وقوة فريدتين وتعبِّران عن نضج روحي مذهل. فهذان المنهجان يقترحان إمكان القيام بقفزة مباشرة نحو النرفانا بتحدي المنطق الفكري الصارم، وتحطيم طغيان الفكر والكلمات، بما يفضي إلى يقظة مباغتة (ساتوري satori).



يبقى أن نشير إلى الرقة والجمال الرائعين اللذين يدين بهما الفنُّ والثقافة إجمالاً للبوذية، سواء في الهند وآسيا خصوصًا، أو في الحضارة الإنسانية جمعاء عمومًا.