نادي الفكر العربي
سلامآ... خليل حاوي - نسخة قابلة للطباعة

+- نادي الفكر العربي (http://www.nadyelfikr.com)
+-- المنتدى: الســـــــــاحات الاختصاصيـــــة (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=5)
+--- المنتدى: لغـــــــة وأدب (http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php?fid=78)
+--- الموضوع: سلامآ... خليل حاوي (/showthread.php?tid=27521)

الصفحات: 1 2


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005


أسبوع مر على ذكرى رحيل خليل حاوي في 7 حزيران 1982

رحل.. بكل بساطة لأن قلبه كان أرهف من أن يرى حبيبته تغتصب أمام عينيه...

فاختار أن يغمض عينيه للأبد...


حبيبته كان اسمها بيـروت...





سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[CENTER]نهر الرماد


ليالي بيروت


في ليالي الضِّيقِ والحرمانِ

والريحِ المدوِّي في متاهاتِ الدروبْ

مَن يُقَوِّينا على حَمْلِ الصليبْ

مَن يَقينا سَأمَ الصَّحْراءِ,

مَن يَطْرُدُ عنَّا ذلك الوحشَ الرَّهيبْ

عندما يزحَفُ من كَهفِ المغيبْ

واجِمًا محتَقِنًا عبرَ الأزقَّهْ,

أَنَّةٌ تُجْهِشُ في الريحِ, وَحُرْقَه,

أعينٌ مشبوهَةُ الوَمضِ

وأشباحٌ دَميمَهْ.

ويثورُ الجنُّ فينا

وتُغاوينا الذنُوبْ

والجَريمهْ:

"إنَّ في بيروتَ دنيا غيرَ دنيا"

"الكَدحِ والمَوتِ الرتيبْ"

"إنَّ فيها حانةً مسحورةً,"

"خمرًا, سريرًا مِن طيوبْ"

"للحيارى"

في متاهات الصحارَى,

في الدهاليزِ اللعينَهْ

ومواخيرِ المدينَهْ

(...)

مَن يقوِّينا على حملِ الصليبْ

كيف نَنجُو مِن غِواياتِ الذنوبْ

والجَريمَهْ?

مَن يقينا وهلةَ النَّوْمِ

وما تَحملُ مِن حُمَّى النَّهارْ.

أين ظلُّ الوردِ والرَّيْحانِ

يا مِروحَةَ النوْمِ الرَّحيمَهْ?

آهِ مِن نومي وكابوسي الذي

ينفُضُ الرُّعْبَ بوَجْهي وَجَحيمَهْ

مُخدعي ظلُّ جدارٍ يتداعى

ثُمَّ ينهارُ على صَدْري الجِدارْ

وغريقًا ميِّتًا أطفو على دَوَّامةٍ

حرَّى ويُعميني الدُّوارْ

آهِ والحقْدُ بقلبي مِصهرٌ

أمتَصُّ, أجترُّ سمومَهْ

ويدي تُمسِكُ في خِذْلانها

خَنجَرَ الغَدرِ, وسُمَّ الانتِحارْ,

رُدَّ لي يا صُبحُ وجهي المستعارْ

رُدَّ لي, لا, أي وجهٍ

وجحيمي في دمي, كيف الفِرارْ

وأنا في الصبحِ عبدٌ للطواغيتِ الكبارْ

وأنا في الصبحِ شيءٌ تافهٌ, آهِ من الصبحِ

وجَبْروتِ النَّهارْ!

أَنَجُرُّ العمرَ مشلولاً مدمًّى

في دروبٍ هدَّها عبءُ الصليبْ

دون جدوى, دون إِيمانٍ

بفردوسٍ قريبْ?

عمرُنا الميِّتُ ما عادتْ تدمِّيه الذنوبْ

والنيوب

ما علَيْنا لَوْ رَهنَّاهُ لدى الوحشِ,

أو لدى الثعلَبِ في السوقِ المُريبْ

ومَلأنَا جَوفَنا المَنْهومَ

مِنْ وهجِ النُّضار

ثُمَّ نادَمنا الطواغِيتَ الكبارْ

فاعتَصَرْنا الخمرَ من جوعِ العَذارى

والتَهمْنا لحمَ أطفالٍ صغارْ,

وَغَفوْنا غَفْوَ دُبٍّ قُطُبيٍّ

كهْفُه منطمِسٌ, أعمى الجِدارْ [/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[CENTER]الناي والريح


بعد الجليد

في الصومعهْ


بيني وبينَ البابِ أقلامٌ وَمِحْبرةٌ,

صَدًى متأفِّفٌ,

كُوَمٌ من الوَرَقِ العتيقْ.

هَمُّ العبورِ,

وخطوةٌ أو خطْوتانِ

إلى يقين البابِ, ثمَّ إلى الطريقْ





كذبٌ,




دَمي ينحَرُّ, يشتمني, يَئنُّ:

إِلى متى أزني, وأبصِقُ

جَبهتي, رِئَتي

على لقبٍ وكرسيٍّ

أُضاجعُ مومياءْ?

أنا لستُ منكمْ طغمةَ النسَّاكِ

واللحمَ المقدَّدَ في خلايا الصومعَهْ

لن يستحيلَ دمي إلى مصْلٍ

كذبتُ, كذبتُ,

جرُّوني إلى الساحاتِ, عرُّوني

اسلخوا عنِّي شِعَارَ الجامعَهْ



***


ولربَّما ماتَتْ غدًا

تلكَ التي يبسَتْ على اِسمي

ومصَّ دماءَها شَبحِي

وما احتفلتْ بلذَّاتِ الدماءْ,

ماتَتْ مع النايِ الذي تهواهُ

يسْحَبُ حزنَهُ عَبْرَ المساءْ

ومع الورودِ متى التوَتْ

بيضاءَ, ينسجُ عُرسهَا ثلجُ الشتاءْ

طولَ النهارِ

مدى النهارْ

تنحلُّ في عَصَبي جِنازَتُها

يحزُّ النَّايُ فيهِ

وما يزيحُ عنِ القرارْ:

ماتَتْ وما احتفلتْ وما عَرَفَتْ

رَفَاهَ يدٍ تُظلّلُها ودارْ.



الرِّيح




طولَ النهارِ

مدى النهارْ

رَبّي متى أَنشقُّ عن أُمِّي, أَبي

كُتُبي, وصومَعَتي, وعَن تلكَ التي

تحيا, تموتُ على انتظارْ

أطأُ القلوبَ, وبينها قلبي,

وَأَشرَبُ من مراراتِ الدروبِ بلا مرارَهْ,

ولعلَّ تخصِبُ مرة أُخرى

وتعْصِفُ في مدى شَفَتِي العِبارَهْ.

دربي إلى البدويَّةِ السمراءِ

واحاتِ العَجينِ البكرِ,

والفجواتِ أَوديةِ الهجيرْ,

وزوابعِ الرملِ المريرْ.

تعصَى وليْسَ يَرُوضُها

غيرُ الذي يتقمَّصُ الجَمَلَ الصَّبُورْ

وبقلبهِ طفلٌ يكوِّر جنَّةً,

غيرُ الذي يقتاتُ من ثَمَرٍ عجيبْ:

نِصْفٌ من الجنَّاتِ يسقطُ في السلاَلْ

يأْتي بلا تَعَبٍ حلالْ

نصْفٌ من العَرَقِ الصَّبيبْ.

اَلشوكُ ينبتُ في شقوقِ أظافِري

اَلشوكُ في شفتيَّ يمرجُ باللهيبْ

... في وجهها عَبَقُ الغريزةِ

حين تصْمتُ عن سؤَالْ

... نهضَتْ تلمُّ غرورَ نهدَيْها

وتنفضُ عن جدائلها حكاياتِ الرمالْ,

تحدو, تدورُ كما أُشيرُ بإصبعِي

ولربَّما اصطَادَتْ بُروقًا

في دهاليزي تمرُّ وما أَعي

وبدونِ أَن أُملي الحروف وأَدَّعي

تحدو, تدورُ, تزوغُ زوبعَةً طروبْ

وأَرى الرياحَ تسيحُ; تنبعُ

من يدَيْها:

منبعَ الريحِ المعطَّرةِ الجنوبْ

ومنابعَ الريحِ الطَّريَّةِ والغضوبْ

للريحِ موسمُها الغضوبْ.

***


وحدي مع البدويةِ السمراءِ

كنتُ مع العِبارَهْ

في الرملِ كنتُ أَخوضُ

عَتْمَتهُ ونارَهْ

شربُ المراراتِ الثقالِ

بلا مرارَهْ.

***


ريحٌ تهبُّ كما تشيرُ عبارتي

للريحِ موسمُها الغضوبْ,

للريحِ جوعُ مَبارِدِ الفولاذِ

تمسحُ ما تحجَّرَ

من سياجات عتيقَهْ

ويعُود ما كانت عليهِ

التربةُ السمراءُ في بدء الخليقَهْ

بكرًا لأوَّلِ مرَّةٍ تشهَى

بحضنِ الشمسِ, ليلُ الرعدِ

يوجعُها وتَسْتَمْري بروقَهْ

ماذا سوى أَرضٍ تَعُبُّ

الحلْمَ, تُنبِتُهُ كرومًا والكرومُ

لها شروشُ السنديانِ,

لها عروق السنديان

وَرَفَاهُ فيءِ البيلسانْ,

ماذَا سوى عَقْدِ القبابِ البيضِ

بيتًا واحدًا يزهو بأَعمدةِ الجباهْ

يزهو بغاباتٍ من المُدُنِ الصَّبايا

لِين أَرصفةٍ وَجَاهْ

أَيصحُّ عَبْرَ البحرِ تفسيخُ المياهْ?

***


وأرى, أَرى الطَاووسَ يُبْحِرُ

في مراوحِ ريشهِ,

نشوانَ يبحر وهو في ظلِّ السياجْ

ويظُنُّ أَنَّ الوردَ والشِّعْرَ المنمَّقَ

يسترانِ العَارَ في تكوينهِ والمهزلَهْ

في صدره ثديانِ

ما نبتَا لمرضعَةٍ

ولا للعَانسِ المُسْترجلَهْ

ثديانِ يأْكلُ منهما عسلاً

ويحصدُ منْهما ذهبًا وعاجْ

لو يستحقُّ صلبتُهُ

ما شأنهُ بصَلِيبِ إيمانٍ

يسوقُ لجُلْجُلَهْ

وكَّلْتُ ريحَ الرملِ

تعْجنُهُ بوحلةِ شارعٍ أَو مزبلَهْ

هو والسياجْ

وطيوبُ ثديَيْهِ وما حصَداهُ

من عَسلٍ وعاجْ

في موسم الريحِ الغضوب

مَسْحُ السياجات العتيقة في العقولِ

وفي الدروبْ

[/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[CENTER][B]بيادر الجوع


الكهف


وعرفتُ كيف تمطُّ أَرجلها الدقائقُ

كيف تجمد, تستحيل إلى عصورْ

وغدوتُ كهفًا في كهوف الشطِّ

يدمغ جبهتي

ليلٌ تحجَّر في الصخورْ

وتركتُ خيل البحر تعلكُ

لحم أحشائي

تغيِّبه بصحراءِ المدى

عاينتُ رعب زوارقٍ

تهوي مكسَّرة الصدى,

عبثًا يدوِّي عبر أقبيتي الصدى

يلقي على عينيَّ ليل جدائلٍ

في الريح تُعولُ, تستغيثُ, وترتمي

غبَّ انسحاب البحرِ

يرسب في دمي

سمك مواتٌ,

بعض أثمار معفنة, قشورْ

ويدي تميع وتنطوي في الرملِ

ريحُ الرمل تنخرها,

وتصفر في العروقْ

ويحزُّ في جسدي وما يدميهِ

سكِّين عتيقْ,

لو كان لي عصبٌ يثورْ

ربَّاهُ كيف تمطُّ أَرجلَها الدقائقُ

كيف تجمدُ, تستحيلُ إلى عصور [/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005



[CENTER]متعب أنت وحضن الماء..
مرج دائم الخضرة ، نيسان ..
أراجيح تغني ، وسرير ..
مخملي اللين ، شفاف حرير ..
وبنات الماء مازلن..
على الدهر صبايا..
ربما كان لديهن ..
قوارير من البلسم ..
أعشاب ، تعازيم عجيبة ..
تمسح التحفير عن وجهك..
تسقيه غوى سمرته الأولى المهيبة، لون لبنان وطيبة ".
متعب ، دوامة عمياء ..
هذا اللولب الملتف حولي ..
ذلك التيار دوني والدوار..
متعب .. ماء .. سرير
وتلمست حديد الجسر
كان الجسر ينحل ويهوي صور تهوي واهوي معها
أهوي لقاع لاقرار [/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005


[CENTER]"اخلعوا هذي الوجوه
المستعارة "
خلقت من جلد حرباء كريه"




نحن لم نلبس ولم نخلع وجوه ؟!


نحن من بيروت مأساة خلقنا

بوجوه وعقول مستعارة

تولد الفكرة في السوق بغيا



ثم تقضي العمر في لفق البكارة[/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[CENTER]يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدّت لهم جسرا وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرقٍ
الى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيدْ

" سوف يمضونَ و تبقى "
" صنماً خلّفه الكهّان للريحٍ "
" التي توسِعُهُ جَلداً و حرقاً "
" فارغَ الكفّينِ، مصلوباً، وحيدْ "
" في ليالي الثلجِ والأفقُ رمادٌ "
" ورماد النار، والخبز رمادٌ "
" جامدَ الدمعةِ في ليلٍ السهادْ "
" ويوافيك مع الصبحٍ البريدْ : "
" .. صَفحةُ الأخبارِ .. كم تجترّ ما فيها "
" تُفلّيها .. تعيد ..! "
" سوف يمضونَ و تبقى "
" فارغَ الكفّينِ، مصلوباً، وحيدْ "

إخرسي يا بومة تقرعُ صدري
بومة التاريخِ منّي ما تريدْ ؟
في صناديقي كُنوزٌ لا تَبيدْ :
فرحي في كلّ ما اطعمت
من جوهر عمري،
فرحُ الأيدي التي أعطتْ وإيمانٌ و ذكرى،
إنّ لي جَمراً و خمْرا
إنّ لي أطفال اترابي
ولي في حبّهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أنّ لي عيد الحصادْ،
يا معادَ الثلجِ لن أخشاكَ
لي خمرٌ وجمرٌ للمعاد[/CENTER]


سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[CENTER]الكلاسيكية المستحدثة[/CENTER]

بقلم خليل حاوي

نشأ مذهب الكلاسيكية المستحدثة في فرنسا، وفيها تطوّر واكتملت صيغته، فصار تعبيراً عن العقليّة الفرنسية المتميّزة بالنظام والوضوح والتركيز، واستجابة لرغبة تنبع من صميم الحالة السياسية المضطربة النازعة إلى الاستقرار والخضوع لثقة المراجع الثابتة. يستند هذا المذهب إلى اعتقاد راسخ بوجود مبادئ ثابتة تنتظم عملية الخلق الشعري، ووجود معايير مطلقة للحكم على الشعر، وتُستمدّ جميعاً من تراث القدامى وبخاصة فن الشعر لأرسطو.

وليست محاكاة القدامى، كما يقول بوالو (1636 - 1711) واجبة ضرورية لقدمهم بل لمراعاتهم قوانين العقل والطبيعة. ويترتّب على ذلك أن يُحاكي الشاعر الحقائق العقلية وهي عامّة كليّة، وأن يُهمل أعراض الأشياء وخصائصها الفردية. كما يجب عليه أن يُعرّي أحداث التّاريخ من لواحق الزمان والمكان والتفاصيل الجزئية، ويلتزم قانون الاحتمال ليضبط انطلاق الخيال فيجعله لا يتطرّف، وكلّ تطرّف يعارض اعتدال العقل. وعليه أن يستبعد من الشعر كل ما يسيء إلى اللياقة في مجتمع يسوده الذوق الأخلاقي. ويلحظ أنّ الشرط الأخير يعبّر عن نزعة محافظة لا تتردّد في الجمع بين الدعوة إلى الطبيعة والتقيّد بأحكام المجتمع.

أمّا الأنواع الأدبية فقد تعيّنت طبيعتها واستقرّت في قوالب جامدة ومتمايزة. كان على المأساة أن تراعي الوحدات الثلاث وقانون الاحتمال والمعاني الرفيعة والعبارات الفخمة، وأن يحدَّد بناؤها في فصول خمسة، ويكون موضوعها حدثاً من الأحداث التاريخية الجليلة. وتفترق عنها الملهاة بموضوعها المستمدّ من واقع الحياة وعباراتها البسيطة، وتجنّبها للتضخيم والمبالغة. ويشترط عدم مزج الملهاة بالمأساة، فالحزن لا يمتزج بالضحك ولا الدمع بالفرح.

ويرى دعاة الكلاسيكية المستحدثة أنّ الشعر يقتضي موهبة طبيعية. لكنّهم يُخضعون الموهبة لمجموعة من قوانين الفنّ، والسبّب أنّه لا يمكن التوسّع بالموهبة. أمّا غاية الشعر فهي التعليم الأخلاقي ووسيلته الإمتاع، لأنّ كلّ ممتع مقنع. لقد ظنّ أولئك الدعاة أن استناد مذهبهم إلى مبدأين ثابتين هما العقل والطبيعة يجعله مذهباً ثابتاً، وكانوا يعرّفون العقل بالملكة العليا في النفس تضبط الخيال، وتكبح جماح العاطفة وتفرّق بين الوهم والحقيقة.

غير أنّه كان ميسوراً لمن يحاول معارضة المذهب، البرهان على خطأ بعض المبادئ التي ينطوي عليها، ومنها إهمال الدور الذي يجب أن يلعبه الخيال والعاطفة في الكشف عن أسرار النفس والتعبير عنها، وأنّه ليس من عمل الشاعر تقرير الحقائق، وليست الإشاحة عن الأوهام في صالح فنّه. وكان أوّل المعترضين على الكلاسيكية المستحدثة الشاعر كورناي (1606 - 1684) الذي تجرأ على أن يعطي الشاعر حق الاستناد إلى التجربة الذاتية في تفسير فنّ الشعر لأرسطو. وكان لا يتردّد في مخالفة أرسطو متى وجد ذلك ضرورياً، فيضيف، مثلاً، الإعجاب إلى الخوف والشفقة في وظيفة المأساة، أو في مخالفة شارحيه من الكلاسيكيين المستحدثين، فيؤكّد أنّ أرسطو يجعل الإمتاع غاية الشعر وليس التعليل كما تقرّر لدى أولئك الشارحين. وكان هدف كورنيه تحويل المحاكاة إلى قاعدة مرنة تجعل من أرسطو مصدراً يُستشار، وليس مرجعاً لتشريع متعسّف متحجّر.

وافق كورنيه وتابعه كثيرون، نذكر منهم سانت ايفرمون (1610 - 1703) الذي شدّد على نسبية القواعد الأرسطية، وأنكر وجود قوانين مطلقة تصحّ على الشعر في كلّ زمان ومكان، وساءه أن تصبح المحاكاة نقلاً آلياً للتفاصيل الخارجية في صياغة الشعر الكلاسيكي القديم.

الكلاسيكية المستحدثة في الأدب الإنكليزي

كانت فرنسا في القرن السابع عشر بؤرة حضارية كبرى تشعّ منها تيّارات الفكر والشعر وتعمّ أوروبا. وكان التأثير الفرنسي يتزايد في إنكلترا بعد عودة الملكية إليها وتوثّق العلاقات الشخصية المباشرة بين البلدين. فانتشر الأدب الفرنسي في الطبقة الإنكليزية المثقفة وكثر تقليده وعُدّت معايير الكلاسيكية المستحدثة مصدر ثقةً في قضايا الشعر والنقد. غير أنّ شاعراً كبيراً وناقداً كبيراً هو جون درايدن )1631 - 1700) حاول أن يخالف العرف الشائع ويضع مذهباً يفترق عن المذهب الكلاسيكي المستحدث من بعض الوجوه. لقد أراد درايدن أن يستند الحكم النقدي إلى النظر في العناصر التاريخية وحياة العصر. وأراد المحاكاة أن تكون استلهاماً لروح الشعر القديم وليست نسخاً لتفاصيله الخارجية وخضوعاً لقواعد عديدة صارمة مُستمَدَّة منه. يجب ألا يُفرض على الشاعر إلاّ الحدّ الأدنى من القوانين التي بدونها لا يكون شعر ولا نقد.

وتظهر أصالة درايدن في دفاعه عن شكسبير (1564 - 1616)، ونقض التهم التي ألصقها به دعاة الكلاسيكية المستحدثة، وأهمّها أنّ عبقريته بربريّة لا تستطيع الإبداع في حدود القواعد التي تعصم الشاعر من الفوضى واللامعقول، وأنّه أفاد من القدامى وقصّر عن مجاراتهم وبلوغ شأوهم في مدارج الكمال الفنّي.

يعترف درايدن أنّ شكسبير أفاد من القدامى، ولكنّه لم يُحاكهم محاكاة التابع للمتبوع، بل وثق بعبقريته واستنطق طبيعته وطبيعة الحياة في عصره، فأبدع جديداً وتفوّق بجديده على التراث القديم. ولئن رفض شكسبير التقيّد بوحدة المكان والزمان، فإنّ القدامى أنفسهم أغفلوا الأولى ولم يراعوا الثانية إلاّ في حالات نادرة. ويكون درايدن قد برّر أصالة شكسبير وبرهن في الوقت نفسه، على أنّ مفهوم الكلاسيكيين المحدثين للمحاكاة لا يستند إلى معرفة صحيحة لفن القدامى، كما أنّه يفرض على الشعر قواعد نافلة جامدة ليس لها من طبيعة الشعر ما يبرّرها.

ويرى درايدن أنّ ما يُدعى عادة بالحبكة، أو وحدة الحدث في مسرحيات الكلاسيكيين المستحدثين، بسيطة إلى حدّ يجعلها تفتقر إلى التنوّع فتقع في فتور يبعث على السأم. ولما كانت المسرحية محاكاة حيّة للطبيعة الإنسانية كان الانتظام الصارم والتشدّد في الصياغة يفقدانها صفة الحيوية والتفجّر. وكانت من ثمّ المأساة الملهاة في مسرح شكسبير واجبة بحكم المشاعر المتغيّرة وحالات النفس المعقّدة حيث يمتزج الحزن بالفرح. وكلّ حالة تكمل الأخرى ولا تنقضها. أمّا العقد التحتية [الثانوية] فتُفيد في التنوّع، ولا تضرّ بالوحدة، لأنّها تخضع للحدث المحوري والتصميم العام. ويعتمد درايدن منهجاً تجريبياً يولي العناصر التاريخية اهتماماً كبيراً في تبرير ما يُداخل مسرح شكسبير من عوامل الغيب واللامعقول، مرجعها جميعاً في المعتقدات السائدة في البيئة والعصر.

النقد بعد درايدن

اتّسع نطاق النقد بعد درايدن اتساعاً جعله يفيد من مجالات ثقافية متعدّدة. وفي بدء القرن الثامن عشر دُرست الكلاسيكية المستحدثة في أبعاد أكثر وضوحاً، الأمر الذي جعل تأثيرها يتأصّلُ ويشيع حتى يصبح السنّة الأدبية النقدية المتّبعة. غير أنّ بوادر المعارضة التي كانت تعمل منفصلة أخذت تتجمّع وتتّحد وتمهّد السبيل لرفض الكلاسيكية المستحدثة رفضاً نهائياً حاسماً. وكان من أهمّ المؤثّرات الاهتمام الزائد بمؤلَّف لونجينوس في الجليل. لقد حمل هذا الناقد لهب العاطفة والانطباعية إلى عصر العقل، وأسبغ عليهما حرمة كلاسيكية تستند إلى مقامه الكلاسيكي. ويتردّد صدى لونجينوس في مذاهب النقد جميعاً في القرن الثامن عشر، وبخاصة مذهب أديسون (1672 - 1719). وقد صاحب ذلك تعرّف أوثق بالتراث والفنّ الإغريقيين واستعداد متزايد لتذوّق الآداب غير الكلاسيكية كالشعر العبري والأغاني الشعبية القديمة وتذوّق آثار تشوسر (1344 - 1400) وشكسبير وميلتون (1608 - 1674).

وتدفّقت موجات جديدة من فرنسا تحثّ على البحث الحرّ وتطبيق المناهج التاريخيّة النفسيّة على مسائل النقد وعلى البحث الجمالي في الشعر والفنون الأخرى. وأخذ النقد يتّجه إلى شرح الشعر وتذوّقه، وأعيد النظر في مبدأ المحاكاة والمبادئ الأخرى التي قرّرتها الكلاسيكية، فأعطي الشعر مجالاً للتحرّر من القواعد الشكليّة الجامدة، كما أعطيت الأهمية الكبرى للعبقريّة الأصيلة المبدعة وانطلاقاتها العفوية في عالم الطبيعة والخيال.

وكان يتحدّى المقاييس الكلاسيكية المستحدثة وعي بوجود مقاييس نسبية وبقيمة النظرة التاريخية التي تأخذ عنصري البيئة والعصر بعين الاعتبار في عملية النقد والتقييم. وكان من اتّساع النظرة النقدية أن ساعدت على دراسات عميقة في شعر شكسبير كان لها أثر عميق في تطوير النقد وتغذية المعارضة المزايدة للكلاسيكية المستحدثة. وكانت هناك قوى عاطفية تثور بوجه العقل ومنها القصّة والملهاة العاطفية وشعر المقابر وعقيدة روسو (1712 - 1778) في المتوحش النبيل.

نأتي إلى طاقة عقلية كبرى هو صموئيل جونسون (1709 - 1784) الذي كان نقده من العوامل الفعّالة في تهديم النقد العقائدي ، مع العلم أنّه المدافع الأخير عن المذهب الكلاسيكي المستحدث في طور احتضاره.

يهدف جونسون في آثاره النقدية جميعاً إلى بثّ روح التذوّق الصحيح ويتوسّل إلى ذلك بتحسين المناهج النقدية، فيشير إلى نقائص معيّنة في النقد المعاصر. كان يرفض منهج النقد المستند إلى الذوق الذي يحتفل بالصفّات الجمالية وحدها. فالجمال بالنسبة إليه ليس المعيار الأكيد للقيم الأدبية، لأنّه صفة غامضة نسبية تختلف باختلاف العقول واختلاف الأزمنة، وهو لذلك معضلة لا تقبل الحلّ. ويتّهم بعض النقّاد المعاصرين بأنّهم يمدحون أو يذمّون دون قراءة ما ينقدون، ثم يهاجم النقّاد الذين يضخّمون الأخطاء التافهة.

يريد جونسون أن يرسي النقد على أسس متينة تتّجه إلى العقل ووظيفته. وفي رأيه أنّ مهمّة النقد تقرير المبادئ ورفع الرأي إلى مرتبة المعرفة، والتمييز بين وسائل الإمتاع التي تستند إلى استنتاج منطقي، وتلك الأناقات التي لا يمكن شرحها أو تسميتها، والتي تأسر الخيال بالغبطة دون أن ندرك مصدرها. ويكون على النقد أن يُحرّر الحكم الأدبي من الجهل ومن نزوات الخيال، وأن يُرسي القيم على أسس عقلية منطقية. يريد من الناقد أن يرفع مشعل العقل ولا يذهب إلى أبعد من مرامي أشعّته. ويستند جونسون إلى لونجينوس في تقريره أنّ الآثار الأدبية التي تثبت على الزمن يستحق احترامها، لأنّ ثباتها دليل قاطع على أنّها تلائم ملكاتنا وترضي الطبيعة الإنسانية العامّة. ويكون الزمن المعيار الأفضل للحكم على الأدب، وليس الذوق الجمالي الذي مارسه بعض معاصريه من النقّاد.

كان جونسون من الأوائل الذين مارسوا المنهج التاريخي في النقد. وكان يؤكّد على ضرورة مقارنة الشعر بحالة العصر الذي يوجد فيه، وذلك لاعتقاده أنّ هناك علاقة صامتة بين الآثار الأدبيّة والتراث الحضاري المتراكم عبر العصور.

ينكر جونسون على الكلاسيكية المستحدثة ما تلزم به الشعر من محاكاة القدامى، ومن تقيّد بالقواعد المستمدّة من تراثهم، ويؤثر عنه القول: لا يمكن للإنسان أن يكون عظيماً بالمحاكاة. ولئن كان يحترم إلى حدّ ما التراث الكلاسيكي فإنّه يثور على محاكاة أنماطه في عبودية واجترار وهو في الوقت نفسه يهاجم الذين يهملون التراث ويعتمدون اعتماداً تاماً على العبقرية الطبيعية. وإذا كانت المحاكاة للقدماء تعجز عن جعل الشاعر عظيماً، فعلى الشاعر في القرن الثامن عشر أن يفعل ما فعله شكسبير، فينظر بعينيه ويعبّر عن الصور التي يراها. هذا ما مكّن شكسبير من أن يُعطي ذخيرة من المعرفة تفوق ما أعطاه المتأخّرون فأغنى بلاده وعصره وبثّ فيهما روح الجدّة والابتكار. إنّ من يطمح إلى الحصول على احترام الإنسانية عليه أن يملك القدرة على الابتكار في التصميم والإنجاز، فإمّا أن يكون التأثير جديداً وإمّا أن تكون وسائل إحداثه جديدة. فالشهرة لا تمتد وتثبت طويلاً ما لم تسعفها الطبيعة وما لم يسعفها الفنّ.

بعد أن رفض جونسون مفهوم الكلاسيكية المستحدثة للمحاكاة اقترح نظرية في الشعر تستند إلى الطبيعة، كلمة السرّ والفكرة المسيطرة في القرن الثامن عشر، وكانت هي والعقل حقيقة واحدة، قوانينها قوانينه، ثابتة راسخة تسيطر على القضايا المادية والروحية معاً. وأخطر تلك القوانين النظام والتناسب والملاءمة والوضوح. وقد كانت جميعاً نتيجة حتمية لاستناد جونسون إلى قوانين الطبيعة والعقل وتغليب العام على الخاص والكلّي على الجزئي، فيقول مثلاً إنّ شكسبير في تصويره الطبيعة الإنسانية لم يُثبت سوى صفاتها الأساسيّة العامّة، وإنّ شخصياته تمثّل نماذج عامّة مجرّدة من كلّ صفة فردية عرَضية. ولا يستطيع الشعر أن يُحصي التفاصيل الدّقيقة التي تميّز فرداً عن آخر، دون أن يخسر بساطة الرفعة التي تملأ المخيّلة. ولا يستطيع أن يشرح المزايا الخفيّة الكامنة في طبيعة الأشياء دون أن يخسر قدرته العامّة على إشباع العقل عن طريق استعادة العقل لمفاهيمه العامّة.






سلامآ... خليل حاوي - skeptic - 06-14-2005

[B][CENTER]الرومنطيقية

[B]كما رآها خليل حاوي

كانت العصور التي تقدّمت عصر الرومنطيقية توفّر للأدب إطاراً موضوعياً من مسلّمات الفكر ومعطياته الاجتماعية الكونيّة، وفي مقدّمتها فكرة الثبات في طبائع الأشياء واستقرار الأشياء على نظام مرتبي يتدرّج من الجماد إلى اللّه ويتوسّطه الإنسان لما في طبيعته الثنائية من عنصر الألوهة وعنصر المادّة. وكان من المفترض أن يسيطر على المجتمع نظام طبقي يعكس نظام الكون ويماثله. ولئن أفاد الملوك من هذا الافتراض فاستندوا إليه في ترسيخ حقهم الإلهي واستبدادهم، فقد ظلّت تُداخله صفة التصوّر المثالي لما يجب أن يتحقّق في الواقع. وقد عرفت تلك العصور آثاراً أدبية كثيرة نتجت من التوتّر بين التصوّر المثالي وامتناع الواقع عن مطابقته. ومَثَلُنا عليه ذلك الصراع على السلطة بين حزب الملك وحزب أرموند والبنات الشريرات في مسرحية [شكسبير] الملك لير. ويقضي اللّه بالعدل في الأخير فينصر الملك على المتمرّدين ويثبّت أركان ملكه ونظامه. غير أنّ المسرحيّة تكشف كذلك عن احتقار الحزب المتمرّد للنظام المثالي احتقاراً لا تلغيه هزيمته ولا انتصار الملك.

وكان العقل أداة الأدب في تصوّر النظام والتعبير عنه، وفي ضبط الشعور وتوجيهه، والعقل لا يخضع خضوع الشعور والإحساس للاختلاف والتغيّر، وبذلك تمّت للأدب شروط الموضوعية في الأداة والموضوع والدلالة، فكان موضع اهتمام عام يتخطّى فوارق الذوق والثقافة والبيئة.

وكان من المسلّم به في تلك العصور أنّ العقل ملكة عليا في الإنسان، تنهض به عن طبيعة الحيوان إلى طبيعة الملائكة، وأنّ الخيال يناقض العقل، فيعبّر عن الشهوة ويشيع الشرور والعواطف المشوّشة، وأنّه يتلقّى الوحي من الشيطان فيظنّه وحياً سماوياً.

وتستمر الحياة والأدب على هذه الحال إلى أواسط القرن الثامن عشر، ثم يأخذ التفاوت يتعاظم بين الواقع والمثال، فيفرغ المثال من معناه إلى حدّ لم يعد يُستفاد منه ما يُستفاد عادة من أسطورة قديمة. نمت الطبقة الوسطى واشتدّ نفوذها بنموّ الصناعة والتجارة، وانحطّت الملكية والأريستوقراطية، وكانتا من قبل مصدر السيادة والقوّة، وشاعت المفاهيم الديموقراطية وانتهت إلى غايتها في الثورة الفرنسية وفي دعوة غودوين (1562 - 1633) إلى مجتمع أمثل تشيع فيه فوضى خيّرة سعيدة، ويحكم فيه الفرد ذاته بذاته.

وحلّت محلّ النظام الموضوعي دعوات متعدّدة مختلفة لكنّها كانت تتلاقى وتجتمع على مبدأ أساسي يقرّر "أن تحقيق الفرد لذاته هدف ينبع من صميم الديموقراطية"، وكان غودوين وروّاد الرومنطيقية من دعاته.

وأطلّ عصر جديد يرفض النظام الطبقي واستناد الدولة إلى عقيدة دينية، ويلحّ في طلب المساواة وحكم الشعب لنفسه بنفسه. كذلك انزاحت الصفات والمراتب القديمة عن عالم الطبيعة فاستجدّت ظواهره وتغيّرت قيم أشيائه. وبعد أن تحطّم النظام، بإطاره الموضوعيّ، راح الشاعر يبحث عن مبدأ للنظام في عالم ذاته ويحاول أن يكتشف فيه طريقاً توصله إلى اللّه. أصبح الفرد محور الشعر الرومنطيقي والمجتمع بما هو مجموعة أفراد، وليس متّحداً تنتظمه الطبقات. فكان النظام الذي أقرّه الشاعر الرومنطيقي مستمداً من عالمه الداخلي ومن ثقته بالخيال أداة فضلى في الكشف عن الحقائق وفي التعبير عنها. ليس بالعقل والتعقّل الذاتي نستطيع الوصول إلى اللّه، بل بحدس الذات لذاتها، مصدر جميع المعارف ومبدئها.

وبديهي أن تنتج من هذه النظرة الجديدة في المجتمع والكون أوضاع نقدية جديدة ومعايير نقدية جديدة تستهدف الدفاع عن الشعر الرومنطيقي وسبر أسراره وتوضح دقائقه. ونال الخيال في مفهومه الجديد أصفى تعبير وأدقّ صيغة في مذهب كولريدج (1772 - 1834) فكان يرى فيه ملكة الشاعر العليا، ووسيلته الوحيدة التي تُحطّم وتُذيب لتُوحِّد وتبدع، أو تُسبغ على أشياء الواقع المألوف صفات الغرابة والمثال.

بهذه الوسيلة حاول الشاعر الرومنطيقي أن يُعيد النظام والصور المنسجمة المتناغمة إلى عالم لم يعد يمدّه كما أمدّ شكسبير وبوب بأشكال جاهزة مكرّرة. ولمّا كان المجتمع الإنساني قد استحال إلى أرض خراب وفوضى وجفاف روحي وجحيم فقد تحتّم على الشاعر أن يتّجه إلى عالم الطبيعة يستمدّ منه معاني الخير والصفاء والتكرار المنتظم الأزلي ويستعيض بها عن فساد المجتمع وتقلّب الحياة وزوالها. غير أنّ الرموز الطبيعية ظلت تفتقر إلى إطار موضوعي عام يجعل مراميها قريبة واضحة. ومن أمثلة سوء الفهم للشعر الرومنطيقي مقالة في نقد [قصيدة كولريدج] (البحار القديم) ترى في (القصيدة أغرب حكاية عن الديك والثور). وللتغلّب على هذه الصعوبة انتهج الشاعر [الرومنطيقي] منهجين مترابطين أحدهما استخدام صور مستمدة من التأثيرات الحسيّة، والآخر استخدام مجموعة من الألفاظ القيمية. وكان على الصور والألفاظ أن تتساند وتتداخل لتؤلّف إطاراً موضوعياً عاماً يقيم عليه الشاعر عالمه الذاتي. إنّ الصور المستمدّة من الطبيعة مشتركة صاحبت تراث الإنسان وتجسّدت فيه. وكانت ولا تزال مجالاً للتأثّر المباشر والملاحظة العامّة. وقد أثبت لها الشاعر قيماً رمزية فعدّ الوردة مثلاً رمزاً لنوع خاص من الجمال، والجبال رمزاً للتشوّف والرفعة. كذلك استعان في السيطرة على الفوضى وتأكيد نظام مثالي ثابت بصور انطباعية كانت أعمّها وأرحبها صورة النور، رمزاً للإشراق، والرؤيا المتعالية، وعمل الخيال، ومثالاً يتسامى إليه الشاعر. وقد عُدّت الشمس والقمر والنجوم كائنات مقدّسة وصوراً للنّور في ينابيعه الأزلية; فكتب كيتس (1795 - 1821) قصيدة في إله الشمس، هيبيريون، وأخرى في إنديميون، الكائن البشري الذي أحاله حبّه للقمر إلى روح خالدة. وكانت النجمة، في نظره، رمزاً للثبات والبقاء. وقد أفاد من هذا الرمز صديقه شلي (1792 - 1822) فتصوّره يستحيل بعد موته إلى نجمة ثابتة خالدة. وتهيمن صورة النّور على قصيدة تنيسون (1809 - 1892) (الذكرى). ولما كانت نجوم المساء تغيب لتشرق من جديد في غسق الفجر جعل منها الشاعر رمزاً لانبعاث الإيمان بعد انطوائه. وتلي صور النور في الأهميّة والقيمة صور الأشكال الطبيعية، وقد عدّت أسباباً فعّالة في إصلاح النّفس وتصفيتها وإخصابها.

أمّا الألفاظ القيمية فكانت وسيلة الشاعر في تأكيد نظام ثابت موضوعي من القيم المطلقة كالجمال والحق والحرية، كذلك كانت وسيلته في تأكيد حنينه الأكبر وتعاليه على ذاته. وتعبّر الألفاظ في هذا المجال عن القوّة والقدرة والرهيب والجليل. ثم كان على الألفاظ القيمية، وهي مجرّدات، أن تتفاعل مع الصور الانطباعية الحسيّة تفاعلاً يمدّها بالحيوية والحركة ويربطها بعالم الواقع. وينتج عن تفاعل الألفاظ والصور وتآلفها إطار موضوعي يحيط بعالم الشاعر وينتظم رموزه فيزيح عن مراميها كثافة الالتباس والغموض. هكذا استطاع الشاعر الرومنطيقي أن ينطلق من ذاتية عدّها محور الوجود، إلى موضوعية في نظرته إلى الوجود وفي دلالة رموزه. غير أنّ الصور الحسيّة كانت في الغالب، جزئية جامدة لا قدرة لها على النماء والتطوّر فكانت وافية بأغراض القصيدة القصيرة غير وافية بأغراض القصيدة الطويلة. ومعلوم أنّ رؤيا الشاعر الرومنطيقي كونية المدى، وأنّ غرضه تأكيد القيم المطلقة وتوفير المجال لتفاعل الألفاظ القيمية والصور الانطباعية، وهذه جميعاً تستتبع نظم القصائد الطوال.

كان على الشاعر إذن أن يكتشف صوراً بنائية كليّة للقصيدة الطويلة تتّسع لأغراضها المتعدّدة بقدر ما تسيطر على معانيها وصورها الجزئية، فتكون عامل انطلاق بقدر ما تكون عامل انضباط. وهذه الصور موفورة في التراث الإنساني وفرة الصورة الانطباعية. وكان أكثرها شيوعاً في الشعر الرومنطيقي صورة الرحلة في الزمان، رمزاً لحياة الإنسان وصورة الحب بما هو اتحاد ذاتين وتسامٍ بهما إلى عالم المثال.

يعبّر روّاد الرومنطيقية، في أفضل آثارهم عن اعتقاد راسخ بوجود مبدأ للنظام والثبات في الكون، وعن اتحاد الفرد بحقيقة تتخطى عالمه الذاتي. وقد يكون اتحاد الذات بالمطلق غبّ الإشراق، كما في [قصيدة] The Prelude لوردسورت (1770 - 1850) أو بالمثل العليا للحياة بعد الموت كما في (أدونيس) [لشلي] أو اتحاد ذاتين في الحب، كما في ([ليلة] سانت أجنس) [لكيتس] أو ما يشبه الاتحاد من تنبّه في حياتنا الحاضرة إلى الحقيقة التي قرّرها كولريدج:

He Prayeth best who loveth best
All things both great and small

غير أنّ الرؤيا الكونيّة والتأكيد على القيم المطلقة أخذا يتضاءلان في الشعر الرومنطيقي ويحلّ محلّهما التعبير عن التفسّخ والانحلال. وقد انتهى هذا التحوّل إلى غايته في أواخر القرن التاسع عشر. ويبدو التدرّج إلى الانحلال والتفسّخ واضحاً في تطوّر الشعر الرومنطيقي من وردسورث إلى طومسون (1859 - 1907).

كانت الرحلة في قصيدة The Prelude رمزاً لانتصار الفرد على بحر التجارب وتساميه إلى آفاق من الجلال الروحي لا تتناهى، حيث تتجلّى له وحدة الحياة في الكون فينجذب إليها ويتّحد بها. وفي شعر تنيسون وبراوننغ (1812 - 1889) تعبير عن رحلة يتخلّلها بعض النّـور وبعـض الأمـل بلقـاء بعـد فـراق والوعـد بالوصـول إلى غـاية مـرجوّة. أمّا فــي شـعر آرنولـد (1822 - 1888) فالرحلة سياحة عمياء تستضيء بأمل غامض دامس لا يشير إلى هدف ولا يطلب غاية. لقد انحلّت الرؤيا الكونيّة وانحلّت معها وحدة الوجود فتمزّقت روابط المحبّة والانسجام، وأصبح النّاس جزراً متباعدة تفصل بينها بحار مالحة لا يُسبر غورها، بل حطاماً يسوقها التيّار فما تلتقي إلاّ لتفترق، دون أن يهدم اللّقاء عزلتها المغلقة، ودون أن يوجعها الفراق. إنها تعاني جحيم الانحلال والتفسّخ وتغوص في ليل رهيب هو ليل المدينة كما يتصوّره طومسون، إنّه ليل الموت في الحياة، دون الأمل بالانبعاث.




سلام عليك وقد عبرت جسر الموت حيآ خفيفآ(f)





سلامآ... خليل حاوي - حسان المعري - 06-14-2005

ومن ينسى صاحب قصيدة الجسر الذي صنع لهم من أضلعه جسرا وطين يعبرون إليه وعليه ؟!

(f)