المراكز البحثية الاستراتيجية في العالم الغربي ظاهرة طبيعية جدا في وسط ثقافي يعلي من أهمية البحث والدراسة والتقصي .. واستفادة صناع القرار من تلك الابحاث والدراسات أمر طبيعي ايضا نتيجة ايمان هؤلاء بأن القرار الصحيح هو ما يبنى على دراسات وابحاث علمية معقمة لا بناء على ارتجال لحظي ومزاج شخصي بحت للقائد الملهم ! ..
على الصعيد الفكري قدمت العديد من مراكز البحث العلمي ابحاثا هامة اغنت الفكر الانساني ( كمثال دراسات منظمة The International Crisis Group التي قدمت ابحاثا ودراسات رصينة جدا حول التيارات الاسلامية في العالم العربي) ..
اذن .. كيف يقرأ الاسلاميون عمل تلك المنظمات والمراكز البحثية ؟ ..
لنأخذ نموذجا على ذلك تقرير منظمة راند الأخير الذي اصار جدلا كبيرا في الاسواط الثقافية الاسلامية ..
بالطبع لن ادخل في جدل حول طبيعة تلك المنظمة وهويتها الفكرية وتبعيها السياسية ( ولي بالتأكيد ملاحظات وانتقادات عليها) .. ما يمهني حقا هو : ماذا قالت عن الاسلاميين ؟ وماذا قال الاسلاميين عنها ؟ .. وهل نقد الاسلاميين لتقارييها صحيح أم أنه مفتعل يعكس الصورة النمطية للآخر ؟ ..
صدر تقرير مؤسسة راند الأخير بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) وهو استمرار لتقارير سابقة آخرها التقرير الشهير الذي حمل عنوان (اسلام حضاري ديمقراطي) والذي نشرت ترجمته العربية الكاملة في أكثر من موقع ..
أثار هذا التقرير الأخير (بناء شبكات مسلمة معتدلة) جدلا كبيرا من قبل التيار الاسلامي، وكان موضوع نقاشات ومقالات كثيرة في مواقع ومنتديات اسلامية ، وقد اخترت كنموذج لتلك القراءات الاسلامية مقال نشره موقع اسلام اون لاين بقلم شخص وصف بأنه (المحلل السياسي بشبكة إسلام أون لاين.نت) : جمال عرفة، وغني عن البيان بأن موقع اسلام اون لاين يعبر عن الخط الموصوف اعلاميا بالتيار الاسلامي الوسطي المعتدل، ومرشده الفكري والروحي هو يوسف القرضاوي:
http://www.islamonline.net/servlet/Satelli...-News/NWALayout
يؤكد جمال عرفة في مقاله بأن هدف راند ومن يقف وراءها هو ببساطة شديدة جدا (محاربة الإسلام والمسلمين) دون أن ندرك بأي معنى يفهم جمال عرفة أن هدف هذا التقرير هو محاربة الاسلام والمسلمين ؟ وكيف ؟ وما مراده بتلك الحرب وطبيعتها من وجهة نظره وعن أي اسلام يتحدث اصلا (السني أم الشيعي أو الصوفي أم الحركي أم الحداثي) ؟..
ويؤكد جمال عرفة بأن امثال تلك الدراسات هي المسؤول عما يصفه بـ (إشعال الصراع بين السنة والشيعة" و"العداء للسعودية) هكذا !!! .. ومجددا لا نفهم ما علاقة (العداء للسعودية ) بمحاربة الاسلام والمسلمين ؟! وهل السعودية هي المكون الثقافي والاجتماعي للمسلمين من وجهة نظره ؟ .. وهل العلاقة بين السنة والشيعة من وجهة نظر (المحلل السياسي ! جمال عرفة ) سمن على عسل حتى يفسدها تقرير منظمة راند بخبث ودهاء !؟ .. وهل الصراع السني الشيعي (وعمره اليوم أكثر من عشرة قرون ) هو نتاج مراكز البحث الامريكي وعلى رأسها منظمة راند ؟! ..
وفي حين يؤكد تقرير راند على خطورة ما يسميه (الفكر الاسلامي المتطرف) وهي عبارة يفهم منها القارئ ذلك الفكر الذي يؤمن بالعنف والتطرف ( ومثاله فكر القاعدة مثلا) فان جمال عرفة يقرأ في تلك العبارة أن تقرير راند يشن هجوما على الفكر الاسلامي ككل !! ويصفه بالتطرف جملة وتفصيلا ! ..
ولعل أكثر الافكار التي اثارت الجدل والصخب في تقرير راند هو تأكيد التقرير على ضرورة تأييد التيارات الاسلامية المعتدلة فقط، ولتحديد طبيعة التيار المعتدل يقترح تقرير راند مقاييس ومعايير تعاسد على معرفة المعتدل وهي عبارة عن 11 سؤلا وردت في الصفحة 69من التقرير الاساسي، وهذه ترجمة شبه حرفية لها نقلتها من مقال منشور في مجلة البيان الاسلامية لباسل الخفاجي:
1- هل يتقبّل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن؛ فهل مارسه أو تقبّله في الماضي؟
2- هل تؤيد الديمقراطية؟ وإن كان كذلك؛ فهل يتم تعريف الديمقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟
-3 هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً؟
-4 هل هناك أية استثناءات في ذلك (مثال: ما يتعلق بحرية الدين)؟
- 5هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟
-6 هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟
-7 هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟ وهل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضِّلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريع علماني؟
-8هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على حقوق كحقوق المسلمين تماماً؟
- 9هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟
- 10هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم (كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟
- 11هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير مذهبية؟
والطريف في الأمر أن ترجمة المحلل السياسي جمال عرفة لها كان فيها شيئا من التصرف غير العلمي وغير الاخلاقي !! عاكسا الصورة النمطية المشوهة في العقل الاسلامي السياسي لمفهوم الديمقراطية وحقوق الانسان، ولفكر الآخر غير الاسلامي، مما يدل على موقف التحيز المسبق ضد الآخر، فالسؤال الثاني المتعلق بالايمان بالديمقراطية يصبح بعبارة جمال عرفة على الشكل التالي (هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟) دون أن نفهم ما علاقة الشذوذ بالديمقراطية من وجهة نظر المحلل السياسي جمال عرفة ؟ واين وردت تلك العبارة في نص التقرير ؟ .. أما السؤال عن حقوق الانسان المعترف بها دوليا فيصبح عن (حقوق الانسان الغربية !) في حين يتختفي تماما سؤال تقرير راند عن (هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على حقوق كحقوق المسلمين تماماً؟) ليكتفي المحلل السياسي بسؤالي تولي المناصب العليا وبناء المعابد ...
ويخلص المحلل السياسي ! جمال عرفة بعد عرض تلك المعايير والمقاييس الى القول - وهنا زبدة المقال كله - :
(إن من يقرأ هذه اللائحة من الأسئلة يدرك على الفور أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي لا يعبر إلا عن المصالح الأمريكية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيداً عن الإسلام تحت دعوى الاعتدال العالمي. إننا أمام محاولة لإعادة تعريف مفهوم الاعتدال داخل المجتمع المسلم بحيث لا يستند التعريف من الآن فصاعداً إلى مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة) ..
اذن فالمحلل السياسي عرفة ينتقد تلك المعايير التي عرضها تقرير راند، ويرى فيها تمييعا للاسلام وابعادا للمسلمين عن الاسلام، وانها لا تعبر عن حقيقة الاسلام والوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة ! .. وهنا .. يحق لنا أن نسأل هذا المحلل السياسي .. ومن يوافقه من الاسلاميين الوسطيين المعتدلين :
هل تنطوي تلك المعايير على أخطاء خطيرة تكفي لجعل الاسلام المعتدل اسلاما امريكيا ؟ ..
هل ترون أن العنف وفق ما مارسه اتباع القاعدة وطالبان هو سلوك اسلامي اصيل وأن الدعوة الى نبذه ورفضه هو خروج على الاسلام وانحراف عن الدين ؟ ..
هل ترون أن الديمقراطية وفق مفهومها المؤسساتي المعاصر القائم على التعددية السياسية والمشاركة الشعبية وتداولية السلطة تشكل تناقضا حقيقيا مع الاسلام ؟..
هل تعتقدون أن الاعتراف بالحقوق الدينية والانسانية للاقليات الدينية والمذهبية التي تعيش بين ظهراني المسلمين هي دعوة تجانب الاعتدال و تتناقض مع (مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة) ؟..
هل تعتقدون أن منظومة حقوق الانسان وفق تعريفها العالمي، وكما عبر عنها الاعلان العالمي لحقوق الانسان منكر شرعي يتعارض مع الاسلام الصحيح ؟ ..
هل تعتقدون أن الدعوة الى اقرار حق الانسان في تغيير دينه (بما في ذلك حق المسيحي نفسه في أن يصبح مسلما) هي دعوة مريبة مشبوهة يرفضها الاسلام ؟ ..
قد تكون المطالب الاشكالية بالتقرير هي اقرار حق غير المسلم في تولي مناصب سياسية عليا، أو تجاوز مبدئ تطبيق الشريعة، ولكن السؤال هو: هل من ينادي بتلك المطالب من العلمانيين العرب وغير المسلمين العرب هم اشخاص متأمركين وعملاء للغرب ومارينز ثقافي على حد تبعير عتاولة المحللين السياسين الاسلاميين ؟ ..
باختصار: هل يرفض الاسلاميون تلك المعايير المقترحة للاعتدال الاسلامي لأنها تتناقض بالفعل مع الاسلام أم لأنها مقترحات امريكية ؟ ..