الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. نحمده و نشكره إذ أخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، و أمرنا بالقصد و نهانا عن الإسراف، و جعلنا سواء في الانتفاع بما أفاء علينا من الطيبات و الخيرات، و حثنا على التعاضد و التساند، و لم يميز عربياً على أعجمي إلا بالعمل الصالح و التزام حدود العدالة و إحقاق الحق و كفاح الشر و الطغيان.
و بعد .. فهذا كتاب "رأس المال" للكاتب الأشهر كارل ماركس نضعه بين أيدي خاصة المثقفين من قراء العربية الراغبين في البحث العلمي العميق و في الدرس الرصين لشتى المسائل و المذاهب الاقتصادية من مراجعها الأصلية حتى يكونوا أدنى إلى فهمها و إدراك حقيقتها. و الكتاب- على ما انعقد الإجماع من جانب الأنصار و الخصوم- أدق تحليل علمي للنظام الرأسمالي من حيث نشأته، و أهمية الدور الذي لعبه في التقدم، و المتناقضات التي ينطوي عليها و التي تمهد لاختفائه ليحل محله نظام أرقى منه (1). لهذه العوامل و غيرها أصبح رأس المال إنجيل الفلسفة الاشتراكية، و مرشد الحركات العمالية الرصينة في أنحاء العالم.

و قد ترجم الكتاب إلى مختلف اللغات و تناوله العلماء بالنقد و التحليل. و مما يلفت النظر أنه ظهرت له ترجمة روسية طيبة في سان بطرسبرغ في العام 1872 أي بعد خمس سنوات من ظهوره بالألمانية؛ و نفذت النسخ المطبوعة كلها و عدتها ثلاثة آلاف في فترة وجيزة، و ذلك في روسيا القيصرية التي يحدثنا التاريخ أنها كانت دولة استبدادية رجعية و غير ذات نظام ديمقراطي أو دستور مستنير.
كانت حياة ماركس سلسلة طويلة من الكفاح المرير (2) في سبيل ما آمن به و كرس حياته للدفاع عنه. غير أن هذه الجهود المضنية لم تثنه عن البحث و الدرس و و أخيراً صدر الجزء الأول من كتابه "رأس المال: نقد للاقتصاد السياسي" (1867) و قدمه للناس قائلاً "إن هذا المؤلف الذي أقدم الآن للجمهور المجلد الأول منه استمرار لكتابي "نقد للاقتصاد السياسي" المنشور عام 1859 (3)". و لقد تلقفه الكثيرون من الاقتصاديين و العلماء بالنقد و التحليل، و برغم ما تعرض له من تأييد و استنكار إلا أن النظرية التي صاغها المؤلف اعتبرها الجميع فتحاً جديداً و ثورة جديدة في عالم الفكر. و إليك ما جاء في مقال نشر بعدد مايو 1872 من مجلة European Messenger (4) :
"تنحصر القيمة العلمية لمثل هذا البحث في الكشف عن القوانين الخاصة التي تنظم نشأة نظام اجتماعي معلوم و وجوده و تطوره و فناءه و حلول نظام آخر أرقى منه محله. هذه في الحقيقة قيمة كتاب ماركس". و في سنة 1872 ظهرت الطبعة الثانية مصدّرة بمقدمة عرض فيها المؤلف لبعض ما قيل في الكتاب. و لكن لم يمتد به العمر ليتمتع بلذة إعداد الطبعة الثالثة إذ في 14 مارس من العام 1883 مات ذلك المفكر الجبار الذي اضطر خصومه أنفسهم أن يحنوا الرأس إجلالاً أمام عظمته (5).
ليس كتاب "رأس المال" بالسهل قراءة، فهو صعب في حد ذاته لأنه يعالج بحثاً نظرياً مجرداً غاية في الصعوبة. و فضلاً عن هذا فالفهم التام له يستلزم إلماماً واسعاً بالمذاهب الاقتصادية و الآراء الفلسفية السائدة في وقت كتابته، و هذه الظاهرة لا يلبث القارئ أن يلمسها واضحة بارزة في الإشارات الوافرة في المتن و الحواشي إلى المتقدمين و المعاصرين لماركس من كتّاب الاقتصاد و السياسة و الفلسفة مما يكشف لنا بجلاء عن عمق الرجل و نزاهته العلمية (6). و من الصعاب التي تواجهنا كذلك الأسلوب الذي اتبعه حيث يبدو غريباً في نظر الكثيرين من قراء اليوم، بل أن بعض معاصريه لقي منه عنتاً. و أخيراً و ليس آخراً فالمؤلف يستعمل بعض المصطلحات الفنية في معان مختلفة مما قد يدعو إلى حيرة القارئ (7).
يتحدث الكتاب عن انقسام المجتمع إلى أغنياء و فقراء و يذهب إلى أن الدولة لا تعدو كونها لجنة تنفيذية لإدارة شؤون الطبقة الحاكمة و تأييد سلطانها. و هذه آراء غير جديدة و لم يبتكرها ماركس. غير أن الجديد في فلسفة الرجل نظرته إلى تطور التاريخ الإنساني من حيث أنه سلسلة من صراع طبقات ذي صبغة اقتصادية و سياسية في نفس الوقت. هذه الفكرة عن التطور التاريخي لا تجدها مبسوطة بوضوح و تحديد في "رأس المال" و إن كانت الأساس الذي يقوم عليه، و إن كانت كذلك حجر الزاوية في الفلسفة الماركسية. و نستطيع أن ندرك جوهر هذه النظرية في تفسير التاريخ من مؤلفات ماركس الأخرى .."في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى عنها، و هي مستقلة عن إرادتهم. و علاقات الإنتاج هنا تطابق مرحلة محدودة من تطور المادية في الإنتاج، و المجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع و هو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية و السياسية و التي تطابقها أشكال محدودة من الشعور الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية و السياسية و الروحية في الحياة. ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم. بل أن وجودهم هو الذي يعين شعورهم. و عند بلوغ مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية في المجتمع نراها تصطدم مع علاقات الإنتاج القائمة أو علاقات الملكية بالتعبير القانوني، و بذا تتحول هذه العلاقات إلى أغلال تقيد تطور قوى الإنتاج و هنا تبدأ فترة انقلاب اجتماعي"(8).
أنكر البعض مادية ماركس هذه إلا أن موقفهم منها راجع إلى قصورهم عن إدراك معناها. فهي ليست مادية بمعنى أنها تستبعد فعل العقل بل أنها تبحث عن الحقيقة في عالم الناس و الأشياء لا في عالم التصورات و الآراء. و ليس من الصواب أن نعد العوامل الاقتصادية المؤثر الوحيد في تطور التاريخ البشري، أو نعتبر تصرفات الناس مبعثها الدوافع الاقتصادية البحتة. إن تطور قوى الإنتاج يثير مشاكل على الناس أن يجدوا لها حلاً مناسباً. حين تشير مدرسة ماركس إلى الحادث الاقتصادي فإنها تعده الأول من حيث الزمن، و لكن لا يلبث بعد ذلك أن يبدو أثر التغيرات السياسية و الاجتماعية حتى في الموقف الاقتصادي. هذه هي النظرية في وضعها الصحيح و ليست كما تتراءى لمجرد النظر السطحي (9)، و إذا ما استوعبناها كاملة و ضح إلينا ما يهدف إليه ماركس في كتابه "رأس المال" و ذلك لأنها مفتاح بقية آرائه، و ما نظريته عن القيمة الفائضة و نقده للاقتصاديين الكلاسيك إلا تطبيق لها في ميدان الفكر الاقتصادي.
يستهل ماركس كتابه بالحديث عن السلع و النقود. و لعل هذا الفصل –باعترافه شخصياً- أصعب ما في الكتاب. و تنحصر النتيجة التي يصل إليها في أن قيمة السلع تتوقف على مقدار ما يبذل في إنتاج السلع من عمل، و هو يقصد بذلك عملاً إنسانياً متجانساً مجرداً. و هذا المقدار هو ما يلزم في ظل أحوال اجتماعية معلومة. فكأن هذا الأخير العامل الوحيد الذي يمكن أن يؤثر في قيمة أي سلعة. و قد هوجمت هذه الفكرة بشدة و قال الناقدون أن نفقة إنتاج السلعة تتضمن عناصر أخرى كالتضحية بالمتعة الحاضرة و كالمخاطرة إلى جانب العمل المبذول. غير أن عبقرية ماركس نبدو في ناحية أخرى. لقد أخذ عن الاقتصاديين الكلاسيك أمرين: "أولهما" أن قيمة السلعة تتوقف على ما يتكلفه إنتاجها من عمل، و "ثانيهما" ميل الأجور إلى الهبوط نحو مستوى الكفاف Subsistence Level. و هنا نجد ماركس يستخلص من هذه العنصرين نظريته أو كشفه المبتكر عن القيمة الفائضة. و خلاصة هذا الرأي أن كافة الأدوات و الوسائل التي تستخدم في الإنتاج –عدا قوة العمل- لا تخلق شيئاً، و لكن العامل وحده هو الذي ينتج أكثر مما هو ضروري لعيشه، غير أنه لا يتناول سوى القدر اللازم لبقائه و تكاثره، أما الباقي فيستولي عليه صاحب رأس المال الذي يشتري قوة العمل. هذه القيمة الفائضة مصدر الريع و الفائدة و الربح، و تحقيقها راجع إلى المزايا الاقتصادية المترتبة على التعاون و تقسيم العمل.
تلك هي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب الذي نقدم ترجمته إلى القراء. و يلاحظ أن ماركس يستشهد بالأحوال السائدة في إنجلترا و في هذا يقول "و موضوع الدراسة في المؤلف الحالي طريقة الإنتاج الرأسمالية ثم علاقات الإنتاج و التبادل الملائمة لهذه الطريقة، و إنجلترا البلد الذي اتخذت فيه هذه العلاقات المظاهر الخاصة بها" (مقدمة الطبعة الألمانية الأولى). و فضلاً عن هذا وجد مادة وفيرة في المصادر الرسمية البالغة الأهمية كتقارير مفتشي المصانع و لجان استخدام الأطفال و التقارير عن الصحة العامة، و هذا إلى جانب الإحصائيات الدقيقة. و للكتاب مزية هامة من حيث كونه عرضاً للتطور الصناعي في تلك الدولة، كما أن الفصول الخاصة بيوم العمل و الآثار المتباينة على الانقلاب الصناعي- هذه قد يكون فيها ما يرشدنا في المحاولات التي يراد بها تحسين أحوال العمل و الطوائف العاملة، و بذا يتسنى لنا أن نتجنب مواطن الزلل.
و نحن إذ نقدم هذه الترجمة العربية نعتذر عما قد يكون بها من نقص نرجو أن يتداركه سوانا أو يوجه أنظارنا إليه فنتقبل النصح شاكرين. و نود أن نعتذر كذلك عن إغفالنا إيراد ثبت المصادر التي رجع إليها المؤلف مكتفين بذكره إياها في الحواشي. و أخيراً نرجو القارئ أن يغفر لنا بعض أخطاء الطباعة و قد صححناها في ختام كل جزء على حدة. و لا يسعنا كذلك إلا أن نعبر عن عميق شكرنا إلى حضرات الأفاضل أصحاب مكتبة النهضة المصرية لمعاونتهم القيمة في إخراج هذا الكتاب في ثوبه العربي، و هم الذين لا يضنون بالتشجيع الكامل لما فيه إذكاء الحركة الثقافية. و كذلك نثني على "مطبعة الشبكشي" صاحبها و عمالها الذين تجملوا بالصبر و بذلوا ما بوسعهم من جهد في طبع الجزء الأول طبعاً أنيقاً.
و إنا لنتوجه إلى العلي القدير بالحمد و الثناء أن أعاننا على ترجمة هذا السفر الذي يعد من أمهات المؤلفات الاقتصادية في الغرب، و نضرع إليه سبحانه و تعالى أن يهدينا سواء السبيل و أن يوفقنا إلى المساهمة بمجهودنا المتواضع في تزويد المكتبة العربية بنفائس زميلتها الغربية و نحن في هذه المرحلة من النهضة العلمية المباركة بالشرق العربي.

راشد البراوي
كلية التجارة- جامعة فؤاد الأول
القاهرة في أول يناير سنة 1947

[line][ne]
(1) يرى الماركسيون على اختلاف طوائفهم و شيعهم أن الاشتراكية نظام المستقبل. و قد ظهرت أخيراً نظرية للكاتب James Burnham تنكر هذا الاحتمال و تذهب إلى أن "المنظمين" هم الطبقة الحاكمة في المجتمع الذي يقوم على أنقاض الرأسمالية و الذي يرتكز في الوقت ذاته على ملكية الدولة لأدوات الإنتاج (راجع كتاب "The Managerial Revolution" للكاتب المذكور).
(2) راجع الفصول التي عقدناها عن حياته في كتابنا "النظام الاشتراكي" (طبعة 1946).
(3) مقدمة المؤلف للطبعة الألمانية الأولى.
(4) وردت هذه الفقرة في مقدمة المؤلف للطبعة الألمانية الثانية.
(5) مقدمة فريدرك إنجلز للطبعة الألمانية الثالثة.
(6) كان ماركس "ذا ضمير حي في عمله فلا يذكر قضايا أو أرقاماً إلا إذا أثبت صحتها من المصادر الأصلية و حواشي مؤلفاته مليئة بأسماء مؤلفين مجهولين لأنه – على حد رأيه- يقر العدل التاريخي و يعطي كل إنسان حقه" (راجع كتابنا: "النظام الاشتراكي" ص 85-86).
(7) و من أمثال ذلك عبارات manufacture, manufacurer, value, use-value, exchange-value الخ (المقدمة التي كتبها Eden & Cedar Paul في ترجمتهما للكتاب طبعة Everymans`s Library ج1 ص 24-26).
(8) "A Contribution to the Critique of Political Economy", Preface (Selected works,Vol I, P 356).
(9) راجع المقدمة بقلم G. D. H. Cole (طبعة Everymans`s Library ج1 ص 13 و ما بعدها)، الفصول التي عقدها كول أيضاً عن هذا الموضوع في كتابه "What Marx Really Meant?" و انظر كذلك في الفصل الحادي من كتابنا "النظام الاشتراكي" ص 103 و ما بعدها. و راجع أيضاً الجزء الأول من "مختارات من مؤلفات ماركس" ص 381-382، 391-392.

charles de gaulle 78 · 01-26-2009, 09:39 AM

الباب الأول
السلع و النقود

الفصل الأول
السلع

(1) عاملا السلعة: القيمة الاستعمالية و القيمة (جوهر القيمة، حجم القيمة) :
تبدو ثروة المجتمعات التي يسودها الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج "تراكماً واسع النطاق من السلع" (1) ، و وحداته التي يتكون منها عبارة عن السلع الفردية. و لهذا نرى لزاماً علينا أن نستهل بحثنا بتحليل السلعة. و نلاحظ أولاً أن السلعة شيء خارج عنا أي يستطيع بما له من خواص أن يقضي الحاجات الإنسانية المختلفة الأنواع، و هي حاجات لا تختلف ماهيتها سواء أكان مصدرها المعدة أم الخيال (2) . و لا يعنينا في هذا المقام الكيفية التي يتحقق بها إشباع هذا الشيء لهذه الحاجات سواء بالطريق المباشر كوسيلة للعيش، أو غير المباشر كوسيلة للإنتاج.
و الشيء النافع كالحديد و الورق و ما إليهما يجوز النظر إليه من وجهتي الكيف و الكم، فهو مجموع خواص كثيرة و بذا تتعدد وسائل الانتفاع به. و مهمة التاريخ أن يكشف عن مختلف منافع الأشياء (3) ، و وضع مستويات المعايير التي يقرها المجتمع لبيان مقادير هذه الأشياء النافعة. و يرجع تفاوت هذه المعايير إلى اختلاف طبيعة الأشياء التي يراد قياسها من جهة، و إلى العرف من جهة أخرى. إن منفعة الشيء تجعله "قيمة استعمالية" (4) . و لكن هذه المنفعة ليست شيئاً قائماً مستقلاً بذاته، إذ نظراًَ لأن خواص السلعة هي التي تعينها فإن المنفعة لا وجود لها منفصل من تلك الخواص. و على ذلك فالسلعة ذاتها كالحديد و القمح و الماس قيمة استعمالية أو إحدى الطيبات، و صفتها هذه مستقلة عن مبلغ العمل اللازم للانتفاع بصفاتها النافعة. و عندما نبحث عن موضوع القيم الاستعمالية كذرينات من الساعات و ياردات من القماش أو أطنان من الحديد، فإننا نسلم دائماً أو نعترف بتعيينها الكمي quantitative. و تهيئ القيم الاستعمالية للسلع موضوع دراسة خاصة هي علم السلع (5) . و القيمة الاستعمالية لا تتحقق أو يكون لها وجود فعلي إلا بالاستعمال أو الاستهلاك. و القيم الاستعمالية كذلك هي كل ما تحتويه كل ثروة مهما كان الشكل الاجتماعي الذي تبدو فيه هذه الثروة. و أكثر من ذلك فإن القيم الاستعمالية في المجتمع الذي نحن على أهبة البحث فيه، هي كذلك المستودعات المادية للقيمة التبادلية.
و تبدو القيمة التبادلية من أول نظرة نسبة كمية أي النسبة التي يمكن بها تبادل القيم الاستعمالية من نوع ما بغيرها من نوع آخر (6) ، و هي نسبة تتغير حسب ظروف الزمان و المكان. و بذلك تبدو القيمة التبادلية شيئاً عرضياً و نسبياً تماماً، و يترتب على ذلك أن هذه القيمة (القيمة الحقيقية) الكامنة في السلع تتراءى كأنها تناقض في التعبير (7) . و جديراً بنا أن ننظر إلى الأمر بطريقة أقرب إلى التحديد.
لنفرض أننا نبادل سلعة ما و لتكن ربعاً من القمح بكمية قدرها س من البوية السوداء، ص من الحرير، ع من الذهب الخ، و بعبارة أخرى نبادلها بسلع أخرى أشد النسب اختلافاً. فبدلاً من أن تكون للقمح قيمة تبادلية واحدة نجد له قيماً عدة. و لما كانت س من البوية السوداء، ص من الحرير، ع من الذهب يمثل كل منها القيمة التبادلية لربع من القمح، ترتب على هذا أن س من البوية السوداء، ص من الحرير، ع من الذهب – بوصفها قيماً استعمالية يجب أن تكون قابلة للتبادل قيماً بينها أي يكون كل منها مساوياً للآخر. و من ذلك نستخلص أمرين: أولهما أن القيم التبادلية الحقيقية لسلعة ما متساوية كل منها بالنسبة للأخرى، و ثانيهما أن القيمة التبادلية يجب أن تكون الطريقة التي تعبر عن شيء تحتويه السلعة أو تكون الشكل الذي يبدو به هذا الشيء، و إن كان متميزاً عن السلعة.
و إذا فرضنا أن سلعتين كالقمح و الحديد فإن نسب تبادلهما مهما كانت هذه السلع يمكن أن نمثلها دائماً بمعادلة تكون فيها كمية ما من القمح مساوية لكمية ما من الحديد. فمثلاً قد تكون المعادلة هكذا: ربع من القمح يساوي س هندريدويت (Hundred Weight) من الحديد. فما الذي تدل عليه هذه المعادلة؟ إنها تدل على أنه في شيئين مختلفين و هما ربع من القمح، و س هندريدويت من الحديد يوجد شيء مشترك بينهما بمقادير متساوية. و على ذلك فهما مساويان لشيء ثالث يختلف عنهما من حيث الجوهر. و إذن يجب إرجاع كل منهما، من حيث كونه قيمة تبادلية، إلى هذا الشيء الثالث.
و لعل مثلاً هندسياً بسيطاً قد يزيد الأمر وضوحاً. فالمعلوم أنه لإمكان حساب مساحات الأشكال المستطيلة و موازنتها بعضها ببعض نعمد إلى تقسيمها مثلثات. و لكن مساحة المثلث يمثلها شيء مخالف للشكل المنظور فهي تساوي نصف القاعدة في الارتفاع. و بالطريقة ذاتها يجب أن يكون في المستطاع التعبير عن القيم التبادلية بعبارات مشتركة بالنسبة إليها جميعاً. و هذا الشيء المشترك لا يمكن أن يكون أية خاصية هندسية أو كيماوية أو طبيعية للسلع، إذ هذه الخواص إنما تسترعي انتباهنا من حيث أنها تؤثر في منفعة هذه السلع أي تجعلها "قيماً استعمالية" و لكن تبادل السلع عملية تتميز بالتجرد التام عن القيم الاستعمالية. و إذن فالقيمة الاستعمالية الواحدة صالحة كأي غيرها على شريطة توافرها بالقدر الكافي. أو كما يقول Barbon "إن أي نوع من السلع صالح كالآخر إذا تساوت القيم، و ليس هناك اختلاف أو تمييز بين الأشياء المتساوية القيمة. فما قيمته 100 جينيه من الرصاص أو الحديد (8) ذو قيمة تسري كما للشيء الذي قيمته 100 جينيه من الفضة أو الذهب". فالسلع من حيث كونها قيماً استعمالية ذات صفات مختلفة، و من حيث كونها قيماً تبادلية لا تزيد عن كونها مقادير مختلفة و بذا لا تحتوي مطلقاً على ذرة من القيمة الاستعمالية.
حين نسقط من الحساب القيم الاستعمالية للسلع لا يتبقى لدينا إلا خاصية واحدة مشتركة بالنسبة إليها جميعاً و هي خاصية كونها منتجات عمل. و لكن حتى منتج العمل نفسه قد تعرض للتغيير في أيدينا. و إذا كنا بواسطة عملية التجريد هذه نتجاهل قيمة هذا المنتج الاستعمالية فإننا نتجاهل أيضاً العناصر و الأشكال المادية التي تجعله قيمة استعمالية. فهو لا يعود بنظرنا مائدة أو بيت أو غزلاً أو أي شيء نافع، و تزول كافة الصفات التي بها يؤثر في حواسنا، و لا يعود منتج عمل النجار أو البناء أو الغزّال، أي ثمرة نوع مخصوص من العمل الإنتاجي. حين تزول الصفة النافعة لمنتجات العمل تزول كذلك الصفة النافعة للعمل المتجسم في هذه المنتجات، و النتيجة أن تختفي كذلك مختلف الأشكال المادية للعمل، و لا يعود في الإمكان تمييز أحدها عن الآخر. و ترجع جميعها إلى نوع متماثل من العمل الإنساني و هو العمل الإنساني المجرد المعنوي.
و لنبحث الآن هذا المتخلف من منتجات العمل. إنه لا يتبقى إلا ذلك الكلي الغير مادي المذكور آنفاً، و يراد بذلك قوة عمل إنساني بغض النظر عن طريقة البذل. و كل ما يهم الآن في منتجات العمل هو أن قوة عمل إنساني قد بذلت في إنتاجها، و أن قوة عمل إنساني مخزونة فيها. و بوصفها بلورات لهذا الجوهر الاجتماعي المشترك بالنسبة إليها جميعاً فإنها تكون قيماً- أي قيم سلع.
في النسبة التي تم بها التبادل بين السلع بدت قيمتها التبادلية كشيء مستقل تماماً عن قيمتها الاستعمالية. فإذا أغفلنا القيمة الاستعمالية لمنتجات العمل لوصلنا إلى قيمة هذه المنتجات كما عرفناها آنفاً. و في الواقع إن قيمة السلع هي العنصر المشترك الذي يكشف عنه الغطاء في نسبة التبادل أو القيمة التبادلية للسلع. و كلما تقدم بنا البحث سنوضح أن القيمة التبادلية هي الشكل الوحيد الذي تبدو به قيم السلع أو الذي يمكن أن نعبر بها عنها. و الذي يعنينا الآن البحث في طبيعة أو شكل القيمة منفصلة عن هذا. إن القيمة الاستعمالية أو الشيء النافع ذو قيمة لأنه يتضمن عملاً إنسانياً. فكيف نقيس هذه القيمة؟ واضح أن يكون ذلك بمقدار العمل أي المادة التي (؟؟؟) } النص الأصلي غير واضح. ملاحظة المنضد{ القيمة. و تقاس كمية العمل ذاتها بمدته، و هذا الأمر (؟؟؟) يحسب بالأسابيع و الأيام و الساعات.
و لما كانت قيمة السلعة يعيّنها مقدار العمل المبذول أثناء إنتاجها، لهذا قد يتراءى للبعض أنه كلما زاد خمول العامل و قلت خبرته زادت قيمة السلعة التي ينتجها لأنه يستنفذ في إنتاجها مقداراً أكبر من الوقت. و لكن الذي يخلق جوهر القيمة عمل إنساني متجانس أي بذل قوة عمل متجانسة. و المجموع الكلي لقوة عمل المجتمع كما يتمثل في القيمة الإجمالية لكافة السلع التي ينتجها المجتمع يحسب هنا ككتلة متجانسة من الطاقة الإنسانية على العمل و إن كان مكوناً من وحدات مفردة لا عداد لها. و كل وحدة من وحدات قوة العمل تماثل الأخرى من حيث أن لها خواص متوسط قوة العمل الاجتماعية. و وقت العمل اللازم في ظل أحوال اجتماعية معينة هو ما يُحتاج إليه لإنتاج سلعة في الظروف العادية و بالدرجة العادية من المهارة و الحدة السائدتين في ذلك الوقت. فإدخال الأنوال البخارية ربما خفض إلى النصف العمل اللازم لنسج كمية معلومة من الغزل. و كان الناسج الفردي يحتاج إلى نفس مقدار الوقت كما كان الحال قبل استخدام القوة البخارية في صناعة النسيج، و لكن منتج ساعة من عمله في ظل الأحوال القديمة كان يمثل منتج نصف ساعة من متوسط العمل الاجتماعي في عهد الأحوال الجديدة، و بذلك صارت قيمته نصف ما كانت عليه من قبل. فالذي يعين حجم القيمة الاستعمالية إنما هو مقدار تحتويه من العمل اللازم في أحوال اجتماعية معينة أو من وقت العمل الاجتماعي اللازم لأنتاجها (9) . و كل سلعة مفردة يمكن اعتبارها في هذا المقام كعينة متوسطة تمثل جنسها كله (10) و إذن فالسلع التي تحتوي على مقادير متساوية من العمل أو التي يمكن إنتاجها في نفس الوقت تكون ذات حجم واحد من القيمة. فالنسبة بين قيمتي سلعتين تماثل النسبة بين فترتين من وقت العمل الضروري الذي يستغرقه إنتاجهما "إن السلع من حيث كونها قيماً ليست سوى مجموعات معينة من العمل المتجمد Congealed" (11) .
يظل حجم قيمة أي سلعة ثابتاً إذن إذا ظل وقت العمل اللازم لإنتاجها ثابتاً، و لكن الأخير يتغير تبعاً لأي تغيير في إنتاجية العمل، و هذه الإنتاجية تحددها ظروف مختلفة مثل المقدار العادي من مهارة العمل، و حالة العلم، و مدى تطبيقه العملي، و التنظيم الاجتماعي للإنتاج، و مدى و طاقة وسائل الإنتاج، ثم الأحوال الطبيعية. و لنضرب مثلاً يوضح ذلك. فمقدار معين من العمل قد تمثله 8 بوشل من القمح في الفصل المناسب، 4 بوشل في الفصل الغير مناسب، و بنفس المقدار من العمل تستخرج من المنجم الغني كمية من المعدن الخام أكثر منها في حالة المنجم الفقير. فندرة الماس على وجه الأرض راجعة إلى أن كشفه يتطلب في المتوسط قدراً كبيراً من وقت العمل، و بهذا يتمثل لنا عمل كثير في حيز أو نطاق ضيق. و يشك يعقوب أن الذهب يشترى بقيمته الكاملة، و ينطبق نفس الشيء على الماس. و قدر إشفيج أن الإنتاج الكلي من الماس بمناجم البرازيل خلال الثمانين عاماً المنتهية سنة 1823 لم يحقق ثمن إنتاج عام و نصف عام من مزارع السكر و البن في نفس البلاد مع أن الماس تطلب عملاً أكثر و إذن مثّل قيمة أعظم. و في حالة المناجم الغنية يؤدي نفس القدر من العمل إلى إنتاج كمية أكبر من الماس مما يهبط بقيمة الأخير. و لو أمكن بإنفاق مقدار قليل من العمل أن نحول الكربون إلى الماس لكانت قيمة الأخير أقل من الطوب. و على وجه العموم كلما زادت إنتاجية العمل، قل الوقت اللازم لإنتاج السلعة، و نقص مقدار العمل المتمثل فيها و هبطت قيمتها، و بالعكس كلما قلت إنتاجية العمل زاد مقدار وقت العمل اللازم لإنتاج السلعة، و ارتفعت قيمتها تبعاً لذلك. و هكذا نرى أن قيمة السلعة تختلف اختلافاً مباشراً حسب العمل المتمثل فيها، اختلافاً عكسياً تبعاً للإنتاجية.
و من الممكن أن يكون الشيء قيمة استعمالية دون أن تكون له قيمة و هذا هو الشأن حيث لا تكون منفعة الشيء للإنسان راجعة للعمل. و من أمثلة هذا الهواء و الأرض العذراء و المراعي الطبيعية الخ. و قد يكون الشيء نافعاً و ثمرة عمل إنساني دون أن يكون سلعة. فأي امرئ يشبع حاجياته المباشرة بنتاج عمله يخلق في الواقع قيمة استعمالية و لكنه لا يخلق سلعاً. أما إذا شاء إنتاج الأخيرة فعليه أن ينتج قيماً استعمالية للغير أي قيماً استعمالية اجتماعية. و أخيراً لا يمكن أن تكون للشيء قيمة بغير أن يكون ذا منفعة. فإذا كان الشيء عديم المنفعة كان العمل المتمثل فيه عديم الفائدة كذلك، و عمل من هذا القبيل لا يمكن أن يحسب عملاً بالمعنى الحقيقي، و بذلك لا يستطيع أن ينتج قيمة.

(2) الصفة المزدوجة للعمل الذي تتضمنه السلع:
رأينا في البداية أن السلعة مركبة من شيئين و هما القيمة الاستعمالية و القيمة التبادلية، ثم اتضح بعد ذلك أن العمل من حيث تعبير القيمة عنه، يكتسب خواص تختلف عن تلك التي يتميز بها العمل بصفته منتج قيم استعمالية. و قد كنت أول من أوضح و ناقش هذه الصفة المزدوجة للعمل المتجسم في السلع (12) . و نرى لزاماً علينا أن نولي الأمر قدراً أعظم من الدقة إذ على إدراك هذا يدور فهم الاقتصاد السياسي.
لنضرب مثلاً بسلعتين كرداء و عشر ياردات من التيل، و نفرض أن قيمة الأول تساوي ضعف قيمة الثانية بمعنى أنه إذا كانت الياردات العشر من التيل = و فإن الرداء = و2.
و الرداء قيمة استعمالية و يشبع حاجة مخصوصة، و لا بد لإنتاجه من نوع خاص من النشاط الإنتاجي، و طبيعة هذا النشاط يعينها الهدف منه و طريقته في العمل و مادته و وسائله و نتيجته. و العمل الذي تتمثل منفعته هكذا في القيمة الاستعمالية للمنتَج أو للعمل الذي يبدو على هذا النحو من جعل منتجه قيمة استعمالية، نقول إن هذا العمل تطلق عليه عبارة "العمل النافع" الموجزة. و من وجهة النظر هذه ينظر إلى العمل دائماً من حيث أثره أو نتيجته أي من حيث أنه منتج للمنفعة. و كما أن الرداء و التيل قيمتان استعماليتان مختلفتان من حيث الكيف فكذلك الحال بالنسبة إلى شكل العمل الذي ينتجهما على التوالي ( و هما الحياكة و النسيج) و لو أن هذين الشيئين قيمتان استعماليتان متفاوتتان من حيث النوع، و لولا أنهما تبعاً لذلك منتجا شكلين من العمل النافع مختلفين من حيث النوع، لما أمكن أن يواجه أحدهما الآخر كسلع. إننا لا نبادل الأردية بمثلها، كما أننا لا نبادل قيمة استعمالية بأخرى من نفس نوعها.
و في المجموع الكلي من القيم الاستعمالية المختلفة أو السلع يتجسم مجموع كلي من أشكال متفاوتة بالمثل من العمل النافع. و يمكن تقسيم أنواع العمل النافع إلى أجناس و أنواع فرعية و فصائل، ذلك أن هناك تقسيماً اجتماعياً للعمل. و تقسيم العمل هذا ضروري لإنتاج السلع و لو أنه بالعكس ليس من الصحيح أنه لا يوجد تقسيم اجتماعي للعمل في حالة عدم وجود إنتاج السلع فإنا نلقى بين المجتمعات البدائية في الهند تقسيماً اجتماعياً للعمل و لكن منتجات إنتاج هذه المجتمعات لا تصبح سلعاً. و لدينا مثال أقرب إلينا من ذلك، و نقصد به وجود تقسيم منظم للعمل في كل مصنع و إن لم يكن السبب فيه تبادل المنتجات الفردية بين عمال المصنع. و إن المنتجات الوحيدة التي تقف كسلع إزاء بعضها البعض لهي المنتجات التي تنتجها مشروعات كل منها مستقل بدوره عن الآخر. علمنا إذن أن في القيمة الاستعمالية لكل سلعة يتجسم نشاط محدود المقدار و الهدف و إنتاجي، أو بعبارة أخرى يتجسم فيها عمل نافع. و لا تستطيع القيم الاستعمالية أن يواجه كل منها الأخرى على هيئة سلع إلا إذا احتوت على أشكال من العمل النافع مختلفة من حيث الكيف. ففي المجتمع الذي تتخذ منتجاته بوجه عام هيئة سلع أي في مجتمع من منتجي السلع، فإن هذه التفرقة النوعية للأشكال النافعة من العمل و التي تقوم بها مشروعات كل منها مستقل بدوره عن الآخر، تنمو و تتطور فتصبح نظاماً معقداً أي تقسيماً اجتماعياً للعمل.
إن الرداء يحقق الغرض منه سواء ارتداه الحائك الذي صنعه أم أحد عملاء ذلك الحائك، فهو في أي الحالتين يؤدي وظيفة القيمة الاستعمالية، كما أن العلاقة بين الرداء و العمل الذي ينتجه لا تتأثر إذا أصبحت الحياكة حرفة خاصة و فرعاً مستقلاً من التقسيم الاجتماعي للعمل. فقد دفعت الحاجة إلى الملبس بالإنسان إلى صنع الأردية قبل أن يصبح أي إنسان حائكاً بآلاف السنين. و لكن وجود الرداء و التيل و كافة مقومات الثروة المادية بخلاف ما تهبه الطبيعة، إنما يسببه نوع مخصوص من العمل الإنتاجي ذي الهدف المحدود أي العمل الذي يطابق بين هبات طبيعية مخصوصة و حاجات إنسانية مخصوصة. فالعمل بصفته خالق للقيم الاستعمالية و بصفته عمل نافع، شرط ضروري لوجود الإنسان؛ و هو بصفته مستقل عن أشكال المجتمع البشري عبارة عن ضرورة أملتها الطبيعة ذاتها على مر العصور إذ بدونه لا يمكن إجراء تبادل الماديات بين الإنسان و الطبيعة، و بكلمة واحدة تستحيل بدونه الحياة.
و القيم الاستعمالية كالرداء و التيل و السلع بوجه عام تتكون من عنصرين هما المادة و العمل. و حين نستبعد المقدار الكلي لمختلف أنواع العمل النافع المتجسمة في الرداء و التيل أو أية سلعة أخرى تبقى لدينا دائماً طبقة مادية سفلية قدمتها الطبيعة بغير معونة من الإنسان. و في أثناء عملية الإنتاج ليس للإنسان إلا أن يحذو حذو الطبيعة أي يغير أشكال المادة (13) . و أكثر من هذا فإنه يلقى المساعدة باستمرار من قوى الطبيعة في عمله هذا و هو تحويل أشكال المادة. و إذن يتضح لنا أن العمل ليس المصدر الوحيدة للقيمة الاستعمالية التي ينتجها، كما أنه ليس كذلك مصدر الثروة المادية الوحيد. و قد عبر وليم بتي عن ذلك بقوله أنه إذا كان العمل أب للثروة المادية فإن الأرض أمها.
و لننتقل الآن من موضوع السلعة من حيث اعتبارها شيء له منفعة إلى البحث في قيمة السلعة. فرضنا في المثل الذي أوردناه أن للرداء ضعف قيمة التيل، و على كل فهذا مجرد اختلاف من حيث الكم و لا يعنينا في هذا المقام. فإذا كان الرداء يعادل ضعف عشر ياردات من التيل من حيث القيمة، كان حجم قيمة عشرين ياردة مساوياً لحجم قيمة رداء واحد. و الرداء و التيل من حيث كونهما قيم من نفس الجوهر أي أنهما تعبيران موضوعيان لنفس النوع الواحد من العمل. و لكن الحياكة و النسيج نوعان من العمل يختلفان من حيث الكيف، و مع هذا فثمة نواح من الحياة الاجتماعية يقوم فيها المرء بالحياكة حيناً و بالنسيج حيناً آخر. و في تلك الحالة لا يكون هذان النوعان المختلفان من العمل سوى صور معدلة من عمل يقوم به نفس الفرد بدلاً من أن يكونا وظيفتين خاصتين و دائمتين لأفراد مختلفين، و هذا شبيه بكون الرداء الذي يصنعه الحائك في يوم و السراويل التي يصنعها في اليوم التالي صور مختلفة لنفس العمل الفردي. و واضح فضلاً عن هذا أنه في مجتمعنا الرأسمالي و طبقاً للتغييرات في الطلب على العمل قد يقوم قدر معلوم من العمل الإنساني على هيئة الحياكة مرة و النسج مرة أخرى. و لا مراء أن هذا التغير في شكل العمل قد يصحبه احتكاك و لكنه أمر لا بد منه برغم هذا. و إذا غضضنا النظر عن الشكل الخاص للنشاط الإنتاجي و تجاهلنا بالتالي منفعة العمل، فإن جوهر هذا النشاط الإنتاجي ينحصر في أنه بذل لقوة العمل الإنسانية. فالحياكة و النسج، برغم كونهما عملين إنتاجيين مختلفين من حيث الكيف، هما بذل لقوة الإنسان العقلية و أعصابه و عضلاته و أيديه الخ بطريقة إنتاجية، و بهذا المعنى يكون كلاهما عملاً إنسانياً. إنهما مجرد طريقتين مختلفتين لبذل قوة العمل الإنسانية. و بطبيعة الحال يجب أن تكون قوة العمل الإنسانية هذه على جانب كبير أو صغير من التطور و النمو قبل أن يكون في الإمكان بذلها بأشكال متفاوتة. و لكن قيمة أي سلعة تمثل عملاً إنسانياً غير مخصوص، و إنما تمثل عملاً إنسانياً ذا طابع عام. و كما أنه في المجتمع البورجوازي يقوم القائد العام أو المصرفي بدور كبير بينما يؤدي "النفر" دوراً صغيراً (14) ، فكذلك الشأن بالنسبة للعمل الإنساني. فهو بذل لقوة عمل بسيطة مما يتوافر للمتوسط في العامل العادي بدون نمو خاص في ملكاته و مواهبه. إن متوسط العمل البسيط يختلف بلا شك من حيث صفته من بلد إلى آخر و من عصر ثقافي إلى آخر، و لكنه ثابت في أي جماعة معلومة. أما العمل الحاذق فنوع من العمل البسيط مضعّف أو أكثر حدة و كثافة، بحيث أن مقدار أصغر من العمل الحاذق مساو لكمية أكبر من العمل البسيط، و أظهرت التجربة أن من الممكن دائماً إرجاع العمل الحاذق إلى أساس من العمل البسيط. و سواء كانت السلعة منتج أشد أنواع العمل حذقاً فإن في الإمكان معادلة قيمتها إلى قيمة منتج العمل البسيط بحيث أنها تمثل مجرد مقدار محدود من العمل البسيط (15) . و النسب المتفاوتة التي يمكن طبقاً لها إرجاع أنواع العمل المختلفة إلى مستوى من العمل البسيط، تعينها عملية اجتماعية تجري من وراء ظهر المنتجين و تبدو بالنسبة لهم أمراً أقره العرف و التقليد. و سنعمل فيما يلي على تبسيط الأمر و ذلك بأن نعد كل نوع من قوة العمل قوة عمل بسيطة.
حين ننظر إلى الرداء و التيل كقيم فإننا نتجاهل الفوارق في قيمتها الاستعمالية. و بالمثل حين نبحث العمل المتجسم في هذه القيم نتجاهل الفوارق في نوع المنفعة، كتلك الفوارق بين شكلين مختلفين من العمل النافع كالحياكة و النسج. و كما أن القيم الاستعمالية، الرداء و التيل، ارتباطات بين الأعمال الإنتاجية ذات الهدف المحدود و هي القماش و الغزل على التوالي، بينما القيم رداء و تيل مجرد مجموعات متجانسة من عمل ليس فيه مميزات أو فوارق، فكذلك ترجع أهمية مجموعات ما تتضمنه هذه القيم من عمل إلى كونها بذل لقوة عمل إنسانية لا إلى كونها ذات علاقة إنتاجية بالقماش أو الغزل. إن الحياكة و النسج عناصر تشترك في إنتاج القيم الاستعمالية للرداء و التيل، و ذلك بسبب أن نوعي العمل النافع يختلفان من حيث الكيف، و لكنهما أجزاء في تكوين قيمة الرداء و قيمة التيل و ذلك من حيث إغفال صفتيهما النوعيتين كالحياكة و النسج و من حيث اشتراكهما في نفس الصفة و هي أنهما عمل إنساني.
و على كل ليس الرداء و التيل مجرد قيم بالمعنى العام، بل أنهما قيم ذات حجم محدود. و حسب الفرض الذي أوردناه يساوي الرداء ضعف قيمة عشر ياردات من التيل. فمن أين ينشأ هذا الاختلاف في حجم قيمهما؟ يرجع هذا الاختلاف إلى أن القطعة ذات الياردات العشر من التيل تنطوي على نصف العمل الذي يتضمنه الرداء، و معنى هذا أنه لإنتاج الرداء احتاج الأمر إلى بذل قوة عمل خلال وقت ضعف ذلك الذي تطلبه إنتاج التيل. و إذن بينما نجد في حالة القيمة الاستعمالية للسلعة يحسب العمل المتجسم فيها من ناحية الكيف فقط. فإنه يحسب في حالة حجم قيمة السلعة من حيث الكم فقط بعد إرجاعه إلى معيار من العمل الإنساني البحت و البسيط. و في الحالة الأولى نعنى بطريقة العمل و سببه، و في الحالة الثانية نعنى بمدة دوام العمل و أن نجيب على السؤال "إلى متى؟". و بما أن حجم قيمة السلعة لا يمثل إلا مقدار العمل المجسم فيها يتبع ذلك أن النسب الملاءمة لمختلف السلع لها قيم ذات حجم متساو. إذا ظلت القوة الإنتاجية (لأنواع العمل النافع المختلفة و اللازم لإنتاج رداء) بدون تغيير، لزاد الحجم الكلي لقيم عدد من الأردية تبعاً للزيادة في عددها. فلو كان رداء واحد يمثل عمل س من الأيام كان رداءان يمثلان عمل س2 من الأيام و هكذا. ثم لنفرض بعد ذلك أن مقدار العمل اللازم للإنتاج قد ضوعف أو نقص إلى النصف. فلو أنه ضوعف لأصبح الرداء الآن يساوي يساوي ضعف ما كان يساويه من قبل، و إذا أنقص إلى النصف ترتب على ذلك أن الردائين يساويان قيمة رداء واحد من قبل. و لكن الرداء في أي الحالتين يؤدي مهمته كما كان قبلاً، و العمل المجسم فيه من نفس الجودة السابقة. فالذي تغير إذن هو مقدار العمل المبذول في إنتاج الرداء.
و الزيادة في كمية القيمة الاستعمالية زيادة في الثروة المادية، فالرداءان أكثر من الرداء الواحد، و هما يكفيان لرجلين بينما الرداء الواحد يكفي شخصاً واحداً فقط. و مع هذا فقد تحدث الزيادة في تعداد الثروة المادية بينما يهبط حجم قيمة هذه الثروة. هذه الحركة المتناقضة مترتبة على صفة العمل المزدوجة. و القوة الإنتاجية بطبيعة الحال و في كافة الحالات هي القوة الإنتاجية للعمل المادي المجسم، و لكنها في الواقع الفعلي تعين فقط كفاية العمل الإنتاجي المقصود في فترة معلومة من الوقت. و هكذا يصبح العمل النافع مصدراً أكبر أو أصغر للمنتجات طبقاً لازدياد أو نقص قوته الإنتاجية. و من جهة أخرى لا يستطيع أي تغيير بذاته في القوة الإنتاجية أن يؤثر في العمل الذي يتمثل في القيمة. و لما كانت القوة الإنتاجية تنتمي إلى الشكل النافع المادي للعمل، لهذا لا يكون لها تأثير على العمل إذا اعتبرناه من الوجهة المجردة و مستقلاً عن شكله النافع المادي. ففي فترات الزمن المتساوية يولد نفس العمل أحجاماً متساوية من القيمة مهما كان مبلغ اختلاف القوة الإنتاجية. و لكن في الفترات المتساوية من الزمن يولد نفس المقدار من العمل مقادير متفاوتة من القيمة الاستعمالية فهذه تزداد بازدياد القوة الإنتاجية و تهبط بنقصها. و نفس التغيير في القوة الإنتاجية و الذي يزيد غلة العمل و بالتالي يزيد مقدار القيم الاستعمالية المتولدة عنها، يؤدي إلى نقص حجم قيمة هذه الكتلة الكلية المتزايدة إذا كان يقلل من المجموع الكلي لوقت العمل اللازم لإنتاج هذه الكتلة و العكس صحيح غاية الصحة كذلك.
إن جميع العمل الإنساني من الوجهة الفيسولوجية عبارة عن بذل لقوة عمل إنسانية، و على ذلك فبصفته عمل إنساني متجانس أو معنوي يخلق قيمة للسلعة. هذا من جهة، و من جهة أخرى كل عمل عبارة عن بذل لقوة عمل إنسانية في شكل مخصوص مقصود، و على ذلك بوصفه عمل نافع مادي يولد قيماً استعمالية (16) .
[line][ne]
(1) كارل ماركس Zur kritik der politischen Oekonomie برلين 1859 ص 4.
(2) "الرغبة تنطوي على الحاجة، و هي شهية العقل، و طبيعية كالجوع للجسم .. و يستمد معظم (الأشياء) قيمته من إشباع حاجات العقل" راجع Nicholas Barbon في A Discourse on Coining the New Money lighter in answer to Mr. Locke`s Considerations. لندن 1696 ص 2-3.
(3) "للأشياء فضيلة حقيقية (تعبير Nicholas Barbon الخاص به للقيمة الاستعمالية). إن خاصية المغناطيس التي تمكنه من اجتذاب الحديد لم تصبح ذات نفع إلا بعد أن أدت لكشف القطبية المغناطيسية". (A Discourse on Coining the New Money lighter in answer to Mr. Locke`s Considerations. لندن 1696 ص 16) .
(4) "تنحصر القيمة worth الطبيعية لأي شيء في صلاحيته لإشباع الضروريات أو خدمة أغراض الحياة الإنسانية" John Locke: Considerations on the consequence of the Lowering of Interest سنة 1691، مؤلفات لوك، لندن 1771 ج2 ، ص28. و في القرن السابع عشر استمر الكثير من المؤلفين الإنجليز يستعملون كلمة worth مقابل القيمة الاستعمالية و كلمة value للقيمة التبادلية.
(5) في المجتمع البورجوازي تسود "الخرافة القانونية" القائلة بأن لكل إنسان بصفته مشتر للسلع معرفة واسعة بها.
(6) "تنحصر القيمة في نسبة التبادل بين شيء و آخر، أي بين كمية معلومة من منتج و كمية معلومة من منتج آخر" Le Trosne: De L`Interet Social (Paris 1846 , P 889)
(7) "لا شيء يمكن أن تكون له قيمة حقيقية" Nicholas Barbon(A Discourse on Coining the New Money lighter in answer to Mr. Locke`s Considerations. لندن 1696 ص 16) ، أو كما قال بلتر : قيمة الشيء بمقدار ما يأتى به.
(8) Nicholas Barbon(A Discourse on Coining the New Money lighter in answer to Mr. Locke`s Considerations. لندن 1696 ص 53-57).
(9) "و قيمتها (أي ضروريات الحياة حين مبادلتها الواحدة بالأخرى تنظمها كمية العمل اللازمة بالضرورة لإنتاجها" Some Thoughts on the Interest of Money in general, and particularly in the public funds. و المصدر الذي اقتبسنا منه هذه العبارة (ص 36) غير معلوم مؤلفه و ليس على غلافه تاريخ، و قد نشر في لندن خلال عهد جورج الثاني. و يبدو من الدليل الباطني أن عام النشر ربما كان 1379 أو 1740.
(10) "جميع منتجات نفس الشيء الواحد تكون مجموعة واحدة تعين ثمنها الاعتبارات العامة دون مراعاة الظروف الخاصة" Le Trosne, op. cit. p6
(11) كارل ماركس Zur kritik der politischen Oekonomie برلين 1859 ص 6.
(12) كارل ماركس Zur kritik der politischen Oekonomie برلين 1859 ص 12-13.
(13) "إن الظواهر العالمية سواء منها ما أنتجته يد الإنسان أو ما تولد عن القوانين العالمية العامة في الطبيعيات تعطي جميعاً فكرة واحدة لا عن الخلق الفعلي و إنما فقط عن تعديل في المادة. فالتوحيد من الأشياء و الفصل بينها هما العنصران الوحيدان اللذان يمكن لذكاء الإنسان أن يكشفهما حين يحلل فكرة الإنتاج بما في ذلك إنتاج القيمة أو الثروة – سواء كان الأرض و الهواء و الماء تتحول في الحقول إلى حب، أو أن يد الإنسان تحول ما تفرزه الحشرة إلى حرير و قطيفة، أو أن قطعاً من المعدن تصنع منها ساعة" Pietro Verri, Meditazioni stilla economica politica (نشر لأول مرة سنة 1773 في طبعة كمتودي عن الاقتصاديين الطليان، القسم الحديث ج15 ص22). حين يتحدث فيري عن "القيمة" في القطعة التي اقتبسناها فإنه يقصد "القيمة الاستعمالية" و إن كان لا يدري نفسه إلى أي نوع من القيمة يشير في كلامه في ذلك النقد الموجه إلى الطبيعيين.
(14) Hegel: Philosophie des Rechts برلين 1840 ص250 بند 190.
(15) نرجو القارئ أن يلاحظ أننا هنا لا نناقش الأجور أو القيمة التي يحصل عليها العامل مقابل يوم عمل يؤديه، و إنما نبحث قيمة السلعة التي تنطوي على عمله في اليوم. إنه لا شأن لنا بالأجور في هذه المرحلة من البحث.
(16) و لإثبات أن العمل، و العمل لا غير، هو المقياس النهائي و الفعلي الذي يمكن به دائماً قياس قيمة السلع و موازنتها، كتب آدم سميث يقول: "في كافة الأوقات و الأماكن يجب أن يكون للمقادير المتساوية من العمل نفس القيمة للعامل. فإذا كان في حالة عادية من الصحة و القوة و النشاط و على قدر متوسط من المهارة، فإنه يجب أن يقدم دائماً نفس الجزء من راحته و حريته و سعادته" (Wealth of Nations الكتاب الأول، الفصل الخامس)، و من جهة أخرى يخلط آدم سميث هنا (لا في كل مكان) بين تعيين القيمة بواسطة مقدار العمل المبذول في إنتاج السلعة، و بين تعيين قيم السلع بواسطة قيمة العمل، و هكذا يحاول أن يثبت أن للمقادير المتساوية من العمل نفس القيمة دائماً. و من جهة أخرى لديه إدراكاً ضئيلاً للحقيقة التالية و هي أن العمل من حيث كونه مجسم في قيمة السلع لا يحسب إلا كبذل لقوة العمل، و لكنه لا يرى في هذا البذل أكثر من التضحية بالراحة و الحرية و السعادة بدلاً من أن ينظر إليه على أنه النشاط العادي من جانب المخلوقات الآدمية. و سلف سميث الذي سبق أن اقتبست منه يصيب الهدف خيراً منه حين يقول (نفس المصدر ص 29) "لقد شغل رجل واحد نفسه أسبوعاًَ في إعداد هذه الشيء الضروري للحياة ... و الشخص الذي يعطيه آخر بالتبادل لا يمكن أن يجد مقياساً لتقدير معادل صحيح أكثر من حسبان مقدار ما تكلف من عمل و وقت، و هذا في الحقيقة لا يزيد عن كونه تبادل بين عمل امرئ في شيء ما لوقت معين و بين عمل شخص آخر في شيء ما لنفس الوقت".

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	إذا كنت قد قرأت كتاباً "دسماً" في الأنثروبولوجي..من فضلك ضعه هنا	Narina	10	4,511	12-27-2010, 04:45 PM آخر رد: Narina
	رأس المال _ كارل ماركس / نسخة جديدة مميزة - 834 صفحة بحجم 12 ميجا	ali alik	0	1,116	05-19-2010, 01:39 AM آخر رد: ali alik
	الأجور والأسعار والأرباح لكارل ماركس	مجدي نصر	0	541	03-25-2010, 12:30 PM آخر رد: مجدي نصر
	هل أجد كتاب :"دفاعاً عن المادية والتاريخ" لصادق جلال العظم ؟	كوكب الأرض	7	3,086	05-31-2009, 01:01 PM آخر رد: بسام الخوري
	"حيرة مسلمة" ألفة يوسف	يجعله عامر	28	8,492	05-27-2009, 12:27 AM آخر رد: عصفور الصعيد