مفكرة الإسلام : صدر حديثا عن معهد المخطوطات العربية [التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/ الجامعة العربية] كتاب أبي زيد أحمد بن سهل البلخي [- 322هـ/ نحو 935م] «مصالح الأبدان والأنفس» بتحقيق الدكتور محمود المصري. والكتاب كما وصفه مؤلّفه «مقالتان»، الأولى في الطب بنوعيه السريري والوقائي [حفظ صحة البدن]، والثانية في الطب النفسي والنظري والسريري أيضاً [حفظ صحة النفس]. ونعرف أبا زيد البلخي من خلال كتابه «البدء والتاريخ» والذي يعالج [مثل الدنيوري والمسعودي] المسألة التاريخية من ضمن الزمان [الفلك] والمكان [البيانات الجغرافية والطبيعية].

وكان المستشرق كليمان هوار قد نَسَب الكتاب المذكور [البدء والتاريخ] إلى الطاهر بن المطهَّر المقدسي، بسبب خلل في مخطوطاته القديمة، لكن الأرجح أن يكون لأبي زيد البلخي، إذا قورن بمصالح الأبدان والأنفُس الثابتة نسبته للبلخي، ومن النواحي اللغوية والأسلوبية، والرؤية الفلسفية العامة. وقد ذكر ابن النديم في الفهرست، وياقوت في معجم الأدباء، عشرات الكتب الأخرى للبلخي، وقد ضاعت كلها، وإن عثر المتتبعون على عشرات النقول منها، ومن ذلك النقول عن كتابه [أو كتابيه] في السياسة، وكتابه في اختلاف الأمم أو أخلاقها استناداً إلى عوامل بيئية أو فلكية. وأبو زيد البلخي هو من أبناء الأجيال الثلاثة من العلماء الموسوعيين [بالمعنى اليوناني الكلاسيكي لذلك] في القرنين الثالث والرابع للهجرة [التاسع والعاشر للميلاد]، والذين جمعوا بين المعرفة بالعلوم النظرية والتطبيقية الموروثة عن اليونان والسريان [من خلال الترجمات]، والعلوم الإسلامية الناشئة، والذين حاولوا من خلال تلك المعرفة المزدوجة تبينة «علوم القدماء» بالتأويل والشرح والبسط والنقد والإضافة. وقد غلب على البعض منهم الطابع التطبيقي في الطب والهندسة والفلك والرياضيات، في حين غلب على البعض الآخر الاتجاه النظري في الفلسفة والكلام والعلم السياسي.

يتكون نص «مصالح الأبدان والأنفس» من مقالتين أو قسمين، الأول من جزأين: الجزء الذي يُعنى بالوقاية من الأمراض، والآخر الذي يُعنى بمداواة المرض. وأساس الطب اليوناني القديم يقوم على تشخيص معين لجسم الإنسان، وأنه يتكون من أمزجة أو أخلاطٍ أربعة: الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة. والتوسط بين هذه العناصر يحفظ على الإنسان صحته. أما المرض فينجم عن الاختلال لمصلحة أحد تلك العناصر. ومهمة الطبيب في حال حدوث المرض وبروزه في أحد الأعضاء أو في الدواخل، استنتاج ما هو العنصر الذي زاد أو نقص لمصلحة عنصر آخر، ومحاولة «تعديل المزاج» من طريق الحمية والأدوية. وهذا إن لم يكن سبب الاختلال حادثاً يقتضي اللجوء إلى العمل الجراحي.

وعمل أبي زيد البلخي في هذه «المقالة» من كتابه يظهر في «الطب الوقائي» أو كيفية الحفاظ على التوازن المزاجي أو توازن العناصر حتى لا يقع المرء في المرض. وبعض الوصايا التي يقدمها للأصحاء طريفة، ولا أصل لها في كلام القدامى. لكن بعضها الآخر نظري جداً، وهي تدل على أن الرجل لم يكن طبيباً، بل عرف الطب باعتباره جزءاً من ثقافة الفيلسوف.

أما المقالة الثانية من مقالتي الكتاب فتتعلق بالطب النفسي أو تدبير صحة النفس. وهنا تدخل نظرية الأمزجة أو العناصر المؤثرة في صحة النفوس مثل تأثيرها في صحة الأبدان. ففي النفس أربع قوى: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوية، والقوة أو المزاج الصفراوي. وسكون هذه القوة أو استقرارها، هو الذي يحفظ الصحة النفسية، ذلك إن لنفس الإنسان كما يقول البلخي، «صحة وسقماً، كما أن لبدنه صحة وسقماً. فصحة نفسه أن تكون قواها ساكنة، ولا يهيج به شيء من الأعراض النفسانية، ولا يغلب عليه كالغضب أو الفزع أو الجزع...». وهكذا فكما يكون الهم الأول في حالة الجسم حفظ صحته وقائياً، أو إعادتها إليه إذا فُقدت، فإن الهم للطبيب حفظ صحة النفس لدى الإنسان بالتوصية، فإذا فُقدت وسيطر عليه الغضب أو الكآبة أو الخوف أو اليأس، فينبغي الإقبال على معالجته، في شكلٍ يختلف عن معالجة البدن المصاب.