الرقيب الأول
عافت نفسي قراءة "المكتبة الخضراء للأطفال" بعد أن حفظت قصصها واحترفت إعادة رواية أحداثها، كما مللتُ قراءة "ألغاز المغامرون الخمسة" و"آرسين لوبين" بعد أن قرأت روايةً من روايات الكبار، كانت رواية "بائعة الخبز" لـ "كزافييه دي مونتابين".
اكتشفت مع بائعة الخبز لغةً جديدةً، أحداثاً مغايرة عن أجواء الألغاز البوليسية، شخصيات طيّبة، حنونة، مظلومة متمثّلة بالأرملة حنّة، وأخرى شريرة، قاسية، حاقدة كانت تحمل اسم جاك. لم أكن قد جاوزت الثانية عشرة من عمري. وبِقدر ما أضفت رواية بائعة الخبز من فرحة واستمتاع خلال قراءتي لها، كانت تسكب خوفاً جديداً في روحي. إذ من أين أحصل على روايات الكبار والمكتبة التي أحصل من خلالها على الألغاز والقصص، لا تبيع كتباً للكبار؟!
وكان لا بد من محاولة.
ديناران في جيبي، وشبه يأسٍ بوجود حكايا للكبار عند المكتبة المأهولة بالقرطاسية.
- عمو في قصص للكبار؟!
صاحب المكتبة يعرف نهمي في القراءة، ظنّ أني خجلتُ من طلب روايات عبير صراحةً فناولني إياها بصمتٍ مع ابتسامةٍ غريبةٍ لم أفهمها إلا فيما بعد. ناولني كتاباً بحجم الألغاز ولكن بعدد صفحات أكثر، أذكر الخط الأخضر الغامق تحت اسم روايات عبير، لم أكن قد رأيته قبلاً، ولم يعنِ لي شيئاً. عدت إلى للبيت ركضاً وحقيبة المدرسة على ظهري تقفز معي فرحاً، تسمعني وأنا أعد نفسي: لن أقرأ الألغاز بعد اليوم. روايات للكبار، وااااااااو المكتبة تبيع كتباً للكبار أيضاً
بدأت بالقراءة.
تبرهن أسماء المدن الأوروبية وأسماء الأبطال الغربيّة، أنني أقرأ روايات للكبار، تكبر الطّفلة التي كنتُها. تدور أحداث الرواية حول فتاة جميلة عمياء، يصدمها شاب بسيارته، يأخذها لبيتها، يجلس معها، تتحسّس وجهه، فتكتشف أنه تعرض لحادث، أو لحريق جعل من بشرة وجهه أشبه بكتلة تجاعيد غير متناسقة. أشفقتُ على البطل، وأوجعني عدم مقدرة الصبيّة على الرؤية.
مرّت الساعات سريعاً وأنا أقرأ، وكم كانت مفاجأتي حين قرأت أول قُبلةٍ بين البطلين، وبعدها كيف ضمّها بين ذراعيه حين خافت من صوت الرعد. أحببتُ ما قرأت، وخفت أن يراني أحد وأنا أحمل هذا الكتاب. خفت من خوفي، وكنتُ مثالاً صادقاً على :كاد المريبُ أن يقولَ خذوني، فوضعتُ الرواية في كتاب مادة العلوم، وكلّما مرّت أختي الكبرى بجوار غرفتي تراني أحمل كتاب المدرسة، فتظنُّ أنني أدرس. ساعة، ساعتان وربما يزيد وما زلت أحمل كتاب العلوم، بينما أنا أسبح بتفاصيل قصة حبِّ شائكة، استهوتني أن يكون البطل قبيحاً والبطلة عمياء، مأخوذة بالتفاصيل، أتخيّل نفسي كيف سأروي القصة لزميلاتي في غرفة الصّف، لذلك لم أنتبه إلا وأختي الكبرى تخطف مني كتاب العلوم وتقع على الأرض الرواية..!
ثوانٍ قليلة كان غضب أختي انتقل من الكذب حول الدراسة، إلى نوعيّة ومحتوى الرواية التي بين يدي، ومن عصبيّتها اكتشفت أن روايات عبير هي سلسلة روايات تُكتب للمراهقين، جميعها تدور حول قصص حب. عشرات الأسئلة قذفتها في وجهي سريعاً: من أين لكِ بالرواية؟، منذ متى تقرئين هذه المصائب؟، كم كارثة قرأتِ للآن؟، من هُن صاحباتك في المدرسة؟! لم أعرف كيف أجيب من الخوف، لم أعي إلا وهي تفتح الجارور الذي كنت أحتفظ بكتبي فيه، حملتْ كل ما عندي جميعاً: قصص المكتبة الخضراء، ألغاز الشياطين 12، ألغاز المغامرون الخمسة، آرسين لوبين، قصص الأنبياء، كتب هل تعلم، ورواية بائعة الخبز.
ورمت في وجهي حكمها: ما في قراءة من اليوم وطالع!
حملت معها كل ذكرياتي مع الألغاز، وحماسي لـ آرسين لوبين، لكن ما أوجعني حقاً رواية بائعة الخبز: لن تحرمني منها، أعرف سوف تعيد لي كل شيء دونها، فهي الوحيدة للكبار، كيف أقنعها أن بائعة الخبز ليس قصّة حب؟
تلك الليلة، لم تنم أختي إلا بعد أن أنهت قراءة بائعة الخبز، فكما توقّعت، لم تشعر بريبة إلا من تلك الرواية، وكانت أول كتاب تقرؤه وآخر كتاب للآن.
أعادت لي كل الكتب، ولكن بعد تهديد ووعيد باستمرار وتشديد المراقبة، ووعدٍ مني أن لا أقرأ روايات عبير، وأن أنتبه لدروسي.
وعدتُ ولم أفِ بوعدي، قرأت من روايات عبير ما فاق قراءتي للألغاز، لكني لم أكن أجرؤ على الاحتفاظ بالروايات، كنت أعيدها للمكتبة التي صارت تعطيني الرواية بأقل من نصف سعرها الأصلي، لأني أعيدها للمكتبة بعد قراءتها لأطلب غيرها!
الآن، كلّما ذكّرت أختي الكبرى برهاب الخوف الذي مارسته عليّ ضحكنا، وكم ضحكت حين أخبرتها أن مراقبتها لي، علّمتني عشرات الطرق في إخفاء قراءاتي ورواياتي.
أبتسم، حين أقرأ خبر منع كتاب أو محاكمة كاتب، أبتسم ألماً ربما أو سخرية، المنع لا يوّلد إلا مزيداً من رغبة في المعرفة، ومزيداً من فضول الاطلاع على ما مُنع.
شكراً أختي على حرصك، فبسببه قرأتُ وقرأتُ وقرأتُ وعشت تفاصيل عشرات القصص
شكراً أيها الرقيب، بسببك تعرّفت على كثير من الكتب الثمينة التي لولا قسوتك وربما جهلك وغطرستك ما عرفتها!
دمتم بود
(f):huh: