عبدالرحمن منيف.. وروايته الأولي التي لم تنشر في حياته
في عام 1970 كتب عبد الرحمن منيف رواية ام النذور مع الأعمال الأخري التي هي: (الاشجار واغتيال مرزوق، قصة حب مجوسية، حين تركنا الجسر، وشرق المتوسك) ولكن أم النذور لم يحالفها الحظ لتنشر في ذلك الوقت وبقيت تؤجل مرة بعد أخري، الي ان أعاد قراءتها في الفترة الأخيرة دون أي تعديل او ملاحظة عازما علي نشرها، لكن... كان الموت أسبق من أم النذور . واليوم وبعد مرور أكثر من عام علي وفاة الروائي الكبير تصدر رواية ام النذور عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تحمل سيرة من طفولته والتي هي أول أعماله التي كتبها لكن كانت الأخيرة التي تنشر وأفرغ فيها ذلك الحزن الدفين وقلق الموت والحياة بالنسبة لعالم الصغار.
أم النذور رواية ذلك الطفل في مواجهته الأولي مع الحياة خارج منزله وعالم الكتّاب حيث الشيخ زكي يعلم الأطفال وأداته الأساسية في التعليم هي العصاة التي يضرب بها بحجة التأديب والتعليم.الطفل الذي يسمع من اخوته الكبار عن ارهاب الشيخ زكي والذي يقول له الأهالي عند تسجيل كل طالب اللحم لك والعظام لنا :عندما دخلنا الي الكتّاب تدحرج الشيخ زكي نحونا، تدحرج مثل كرة الابتسامة تسبقه وبعد أحاديث لم أفهم إلا جزءا منها أمسكني أبي من أذني وجرني قليلا وهو يقول للشيخ:- مثل اخوته. اللحم لك والعظام لنا. هذه الكلمات التي تسبب لطفل قلقا وهاجسا تجعله يفكر ان يستعين بأم النذور الشجرة التي يعتبرها الناس في القرية مباركة وتحقق الأمنيات. أم النذور، هذه الشجرة المقدسة، حتي الآن اذا جلست النسوة في باحات البيوت، ايام الصيف والخريف وهبت ريح من جهة الغرب حاملة معها رائحة الرطوبة تتنسم كل امرأة رائحة أم النذور وتغمض عينيها وتتمني .
فكرت في الليل ان أنهض من فراشي لأضع خرقة في أعلي مكان من النذور، وأطلب الي الشيخ مجيب ان يمنع الشيخ زكي من ضربي. وتمنيت لو أمرض. او لو يمرض الشيخ. ثم تجرأت وقلت لو يموت .هذا الخوف الذي يستبد بالطفل سامح منذ دخوله الكتّاب ويجعله طفلا قلقا يطرح اسئلة وجودية في داخله وتحاصره الكوابيس وعصا الشيخ زكي وشتائمه: أسود.. يا أسود، وأنت يا ابن الداية، آه منك يا خنزير، أين هو ابن الأغا ؟ أنتم خنازير..... .ذلك الخوف الذي يجعل الجميع خاضعين لقوي الأساطير ولأوهام تجعلهم عاجزين عن المواجهة فيتحولون مثل أمه الخاضعة لوالده، كما لتلك المرأة التي تكتب الرقي او تحضر الأدوية المرة كالعلقم يرفضها الطفل بفطرته الصافية ويتمرد علي قوانين العادات والموروث ويدافع عن نفسه أمام الشيخ بل ويتجرأ ويشتمه ويضربه: كانت أفكاري مضطربة وقلبي يرتجف وفجأة وجدت نفسي اقف دون أن أفكر، وقفت ثم صرخت :
- لن تضربني، أبوك لن يضربني. أنا لم أقف. سامي لم يقف، لم يقف أحد، هذا كذاب، نحن لم نر اليماني، لن تضربني!. ولم يمهلني الشيخ، سمعت صوته يندلق علي مثل الرصاص:
- أخرس يا كلب، يا جرو أعور، سأدق عظامك، سأربيك اذا كان أهلك قد أساءوا تربيتك تعال !.وتقدم نحوي خطوتين..وقفت، كانت قبضتي تمسك بيت الجزو بشدة وفجأة وجدتني اصرخ: - لن تضربني، لو مت لن تضربني.. هكذا يواجه الطفل سامح جبروت الشيخ زكي ويرفض ظلمه وتسلطه وعناد والده ورفضه دخول المدرسة لأن الكتّاب برأيه أفضل.
تقول السيدة سعاد منيف زوجة عبدالرحمن كما كتب عبد الرحمن عن كتابه سيرة مدينة انه ليس سيرة ذاتية لكاتبه وان تقاطعت السيرتان بسرعة وجزئيا وفي بعض المحطات .
كذلك أم النذور، وأن التقت وتقاطعت ببعض الرؤي والصور التي اختزنها الطفل وسمع عنها، في سنيه الأولي، وفي محيط الكبار وممارستهم.
كتبت “أم النذور” في ،1970 ولم تنشر سوى في ،2005 بمعنى آخر ان مجموعة من نتاجات الراحل “عبد الرحمن منيف” وجدت طريقها الى التداول والتلقي، في حين تم تأجيل نشر “أم النذور”.. والملاحظ أن العديد من الكتابات العربية والعالمية خضعت للواقع نفسه، وهو ما لا يمكن أن يفسر الا من طرف المبدع أو الكاتب ذاته.. الا أننا بخصوص “أم النذور” يمكننا اعمال نوع من التفكير والتأويل، في محاولة لطرح المسوغات الأساس لتأجيل النشر، اذا ما ألمحنا لكون زوجة الراحل السيدة “سعاد منيف” أشارت في كلمة تقديمية موجزة، الى أن “منيف” كان عزم على نشر النص قبل وفاته، دون أي تعديل.
ان اعمال التفكير والتأويل كما سلف يرتبط بطبيعة المرحلة ثقافيا وفكريا، ذلك أن ما طبع فترة السبعينات من غليان سياسي، الى مصادرة الحريات، وفاعلية الحركات التقدمية، ألزم باقرار النصوص المواكبة للمرحلة، ذلك وجدت “شرق المتوسط” و”الأشجار واغتيال مروزق” قوة تلقيها، دون أن تحظى بذلك “قصة حب مجوسية” والأمر ذاته ينسحب على “شرق المتوسط ثانية”، علما بأن “منيف من الروائيين العرب الذين تخولهم صنعة الرواية، امكانات الابداع والانتاج مهما كانت قيمة المادة المتوفرة، فنص “أم النذور” لا ينطبع بخاصات المرحلة، ولذلك في تصوري تم تأجيل نشره. ومن ناحية ثانية، فاذا كان النص وليد السبعينات، فيندرج في باب السيرة الذاتية المحددة في مرحلة زمنية بعينها، واللافت أن العديد من الروائيين العرب أسسوا منطلقات القول الروائي من السيرة الذاتية، أو من توظيف عناصر ذاتية في الكتابة الروائية، مما يدعى اليوم ب “التخييل الذاتي”، أو من الغفل عن التحديد الأجناسي خوفا من الأوساط الاجتماعية التي يعيشون فيها.
* نشر الرواية
نشرت “أم النذور” غفلا عن التحديد الأجناسي، ولئن كانت أكثر من قرينة توحي بأن المعنى المنتج في هذه التجربة ذاتي صرف. واذا كان نص “عمان: سيرة مدينة” من النصوص التي تتداخل فيها سيرتان: سيرة المدينة وسيرة الكاتب، بحكم أن لا قيمة للفضاء في غياب من يشغله فان أفق التلقي الراهن يفترض التأسيس للقراءة الواعية من “أم النذور” بداية، وانتهاءا ب:
“عمان: سيرة مدينة”، مع العلم بأنه قد تكون ل “منيف” تجربة أخرى في هذا المسار لم يعلن عنها بعد.
هذا التأسيس يفضي الى تشكيل صورة عن الكاتب وتجربته في الوجود والحياة، خاصة أن الحقبة الزمنية المركز عليها في “أم النذور” هي الطفولة أصلا: من الولادة الى النشأة فالتمرد على الكتاب والالتحاق بالمدرسة. ومن الممكن أن يكون عبدالرحمن منيف، رسم لسيرته الذاتية تصورا تتكامل في ضوئه تفاصيلها مثلما حدث ل “جبرا ابراهيم جبرا” و”سليم بركات” بعيدا عن أن تفوتنا الاشارة الى كون جورجي أمادو حصر سيرته الذاتية فقط في مرحلة الطفولة، حيث وسمها ب “طفل من حقول الكاكاو”.
بيد أن النص الغائب في “أم النذور”: “الأيام” لطه حسين..ذلك أن القراءة المقارنة وبخاصة للجزء الأول تقود الى حصيلة من الاستنتاجات الدالة عن كون “أم النذور” كتبت تحت تأثير “الأيام”.. فمعاناة الطفولة الى أسئلة الحياة والموت، والتمرد على شيوخ الكتاب، قواسم مشتركة بين “الأيام” في جزئها الأول و”أم النذور”. وثمة أكثر من نص سيرة ذاتي يحاور “الأيام” بتمثلها “في الطفولة “عبدالمجيد بنجلون” أو بابداء موقف منها “أوراق” عبد الله العروي.
الاشارة الى كونه يمثل سيرة للطفولة، بعيدا عن الغفل الذي من شأنه خلق التباسات في سياق عملية التلقي.
*”أم النذور : رمزية الشجرة
تتشكل “أم النذور” من فصول تمتد من: 1 الى: ،17 يضعنا الفصل الأول أساسا أمام مشهد وصفي يحيل إلى الفضاء حيث مجرى الأحداث والوقائع، والملاحظ أن التحديد الدقيق بالاسم ينتفي عن الفصل والنص في شموليته، فالسرد في هذا الاستهلال يتعلق ب: الأشجار، النهر، الأزقة، الكتاب والشيوخ.. وهو ما يشير الى أن الأحداث بقدر ما ترتبط بوسط حضري فان الطابع القروي أهم علاماته.
“كانت أشجر الدلب الكبيرة تقوم على طرف زقاق
الشيخ مجيب، الى جانب النهر في أقصى الغرب، وكانت
بمكانها ذاك تحدد المدينة من هذه الجهة ..” (ص/5)
ان العنوان الذي وسم به النص السيرة يرتبط بالعلامات السابقة، حيث يقع التركيز على رمزية الشجرة متمثلة في “أم النذور” ..فدلالة الشجرة الى الأم تتحدد في العطاء: من الثمار الى الوقاية والشفاء..لذلك يلجأ اليها للتندر بتعليق الخرق.
فالعنوان في ضوء هذا، يدل وبعمق عن نوعية التفكير المهيمنة في الوسط الاجتماعي، والتي يسهم الشيوخ والفقهاء في انتاجها، وهي نوعية مميزة بالخرافي والأسطوري، كأن “أم النذور” سيرة ترصد نواة انبثاق الوعي في المجتمع العربي، وما يتطلبه من روح تمردية على ذلك، وفق ما تمثل في شخصية الطفل “سامح”:
“ يقول كثيرون ان الشجرة كانت تحمل ثمرا.. ويقولون ان
الشيخ لم يأكل الا من ثمرها، ويضيف أناس آخرون أنه منذ
السنة التي مات فيها الشيخ لم تعد تثمر، ويفسرون ذلك بأن
الشجرة حزنت وتحول ثمرها الى الداخل، الى جذورها، التي
تمتد بعيدا حتى تصل الى القبر داخل التكية” (ص/13)
ويشكل الكتاب ومن خلفه الشيخ، النواة الأساسية للرفض ..ذلك لأن الصورة التي تشكلت في ذهن “ الفتى / سامح “ منذ البداية، كون الكتاب مؤسسة للعقاب، وليس التعليم والمعرفة.. من ثم نشأ الوعي الرافض لهذه المؤسسة الذي يعد في الأساس وعيا رافضا للشيخ، كما أساليبه في الممارسة التعليمية، القائمة على الزجر والردع والاهانة. واذا كان الأب مثل الوسيط بين الشيخ والكتاب، فإن صورته تخلخلت في وعي الفتى، وهو يرى الى والده يحرض الشيخ على تعنيف ابنه وكأن لا فرق بين الصورتين : صورة الشيخ والأب .. انهما معا نتاج مجتمع ذكوري تقليدي يسهم في احباط الآخر كما ردم مسافة الحوار الفاعل والمنتج :
“ مثل اخوته ..اللحم لك والعظام لنا ..” (ص/24)
“ الله يخزيك يا مهبول يا ذيل الأفعى، أنت
قصبة فارغة، أنت حمار وأجرب، حتى
حمار السقا أفلح منك” (ص/43)
هذه الصورة نتاج المواجهة والرفض ستخلق في الفتى شخصية أخرى، شخصية ستلوذ الى الاحتماء بالأسطوري الخرافي مجسدا في “ أم النذور “بحثا عن الانتقام من الشيخ ..هنا نتدرج نحو نقلة ثانية، نقلة تساؤلية عن جدوى هذه الشجرة المكللة بالخرق ..انها نقلة وعي هدفها اختبار وامتحان السائد على أرضية الواقع:
“فكر في أم النذور، وانتابه الحزن .. أين خرقه
وماذا فعلت ؟” (ص/134)
ان اختبار الجدوى والفاعلية سيقود الى رفض آخر يرتبط بالعائلة ..هذه ممثلة في: الأب، الأم والاخوة.. بمعنى آخر رفض مؤسسة الأسرة، مادامت تساند شخصية “الشيخ زكي” في توجهاته..
من تم ستأتي لحظة الافراغ والتطهير، حيث يثير الفتى أسئلة تفوق وعيه وادراكه، ملتمسا من الأم اجابات دقيقة عنها:
“ما معنى أن يموت الانسان؟” ( ص/59)
“ أمي .. من خلق الله؟” (ص/104)
واذا كان الفتى رسم صورة عن الشيخ مستقبحة، فإنه يعمل النظر في تجديد صورة الأب، وكأن خاصاته من خاصاته وميزاته.. الشيء الذي ينم عن جذور مرجعية ثقافية فكرية موروثة عن الأب:
“كان أبي يحب التفكير والتأمل ..كان يستغرق في
التفكير فترات طويلة، ولكن ملامح وجهه لا تتغير
أبدا..انها ثابتة حازمة أغلب الأحيان ..ومن صفات
أبي أنه يحب الأمثال والحكمة ويحفظ منها الكثير”. ( ص/87)
اذا كان الكتاب والشيخ كما سلف النواة الأساس للرفض، رفض ما درج التعليم عليه سابقا فإن التغير والتحول التربوي الاجتماعي يتجسدان في الرغبة في الانتقال الى المدرسة باعتبارها البديل الحق للكتاب، واقتداء بما ينجزه الخال لأبنائه : أي من مؤسسة لتوليد العنف، الى ثانية قائمة على الحوار والتسامح والتعليم المنتج:
“ خالتي، لا أريد أن أذهب الى الكتاب، أريد
أن أذهب الى المدرسة ..” (ص/155)
“ اذن أذهب الى المدرسة..” (ص/204)
ان “أم النذور”، وبقدر ما ترسم سيرة طفولة “سامح”، تجسد واقع التعليم في العالم العربي.
من الكتاب حيث هيمنة الدرس الفقهي الديني مجسدا في مجتمع الشيوخ (على تناقضاتهم)، الى التحول نحو المدرسة بما هي المؤسسة البديل المنتجة لوعي مغاير ومفارق .. وتم انبثاق أفق التنوير.
من ناحية أخرى، فالسيرة تعكس مدى قوة شخصية الفتى التي كان الكل في حاجة اليها لتشكيل مجتمع آخر، مجتمع متحرر من الفكر الغيبي الأسطوري، نحو عقلانية موضوعية لا تزال مأمولة الى اليوم.
“أم النذور”: وعي المرحلة وطبيعة الكتابة
اقتضت طبيعة المرحلة كما ورد في التقديم تأجيل فكرة نشر “أم النذور” اذا ما ألمحنا لكون الآثار الروائية للراحل عبد الرحمن منيف نحت المسار الذي اقتضته المرحلة، وهو مطبوع بالروح الجمعية التي درج المجتمع العربي عليها تكوينا وتحولا، مما يفرض مسايرة التعبير لطبيعة التكوين والتحول، علما بأن نداء الفردية لم يكن عرف السبيل الى المجتمع العربي الموسوم بهاجس المنع والرقابة والحشمة..هذا المقتضى حتم الخوض في كتابة السيرة الذاتية بوعي ميكانيزماتها أثرا وتأثيرا، كما تمرينا على الروائية ..لكن بالغفل عن التحديد كما ذكرنا.
ان القصدية والايهام المعتمد من طرف “عبد الرحمن منيف”، قصد منهما ترسيخ مرحلة زمنية حددت في الطفولة أصلا، بما تحفل به من مخاوف وأحلام وصراعات وطموحات.
رواية ( أم النذور ) للراحل عبدالرحمن منيف
للتوء إنتهيت من قراءة رواية أم النذور للراحل عبدالرحمن منيف
كانت الرواية في الحقيقة رائعة جداً بحق كانت تحكي عن ذلك الطفل الذي تمرد من أجل خروجه من الكتّاب من أجل التحول للدراسة النظامية . ومع تعرض له كذلك من شيخ الكتّاب .
وعن أم النذور تلك الشجرة العتيقه التي يغازلها جميع سكان القرية كهولها وأطفالها ونسائها وبناتها سواء في السر والعلن عندما تقع لهم مشكله أوكارثه أو طلب عون من هذه الشجرة .
وعن التكية والشيخ مجيب . وعن الحاجه نعيمه
أشياء كثيره حوتها تلك الرواية الرائعه . والتي بحق تستحق القراءة وخصوصاً إذا كان كاتبها الفذ الراحل عبدالرحمن منيف .
mankoul