الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وهذا يجعلها تحافظ على ثوابت فى مصالحها الاستراتيجية. لكنها أيضا دولة ديمقراطية. تتداول فيها السلطة. الإدارة الجديدة فيها تسعى إلى تحقيق المصالح الاستراتيجية ذاتها، ولكن بوسائل مختلفة، حسب رؤيتها السياسية. إن تلاقت الرؤى أو تقاربت، كانت فرصة سانحة لدولة أصغر أن تعمق تحالفها مع الولايات المتحدة بما يخدم مصالحهما معا.
لا بد أن نفهم هذه الحقيقة إذا كنا نريد أن نمارس السياسة كسياسة، وليس كـ«ردح» دولى. لا بد أن نفهم هذا قبل أن ننظر إلى العالم الخارجى ونختار تحالفاتنا. وأى دولة فى العالم تحتاج إلى شبكة من التحالفات، تسعى من خلالها إلى تحقيق مصالحها. تركيا، على سبيل المثال، عضو فى حلف الناتو. وهى تستغل علاقتها القريبة بالولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا، وموقعها المتميز فى الناتو، لكى تدعم هدفا تحالفيا ثانيا هو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. هذه الشبكة من العلاقات تساعدها أيضا على دعم استقرارها فى منطقة حرجة. وتساعدها فى الحفاظ على وحدة أراضيها ضد رغبات الانفصاليين الأكراد. تركيا ذات امتداد إسلامى أيضا، وهى دولة علمانية. والحزب ذو المرجعية الإسلامية الذى يحكمها يصر أيما إصرار على مدنية الدولة. فهذا -داخليا- درع أمان له ضد تدخل العسكر. وهو -خارجيا- يدعم علاقته بحلفائه الغربيين بشكل لم يستطع القوميون الأتراك فعله. فكان نجاح حزب العدالة والتنمية فى تطوير علاقته التحالفية بأمريكا ذكاء سياسيا أسهم فى استقرار تركيا وتطورها الاقتصادى.
بدأت بإشارة مقتضبة إلى طبيعة الحكم فى أمريكا، ثم ضربت -عن قصد- مثلا بتركيا، التى يحلو للإسلامجيين المصريين التباهى بنموذجها، رغم أنهم لا يشبهون حزب العدالة والتنمية فى شىء، لا فى سلوكه ولا فى مبادئه ولا فى براجماتيته وفهمه المركب للسياسة الخارجية.
الآن أستطيع أن أصل إلى مصر، وعلاقتها بالولايات المتحدة والغرب. والسؤال بسيط، لكن لا مفر من إجابة السياسيين عنه: هل نريد علاقة متميزة مع الولايات المتحدة والغرب أم لا؟
يستطيع السياسى القومجى أو الإسلامجى أن يردد كلمات كبرى عن الإمبريالية العالمية والغطرسة الدولية. يستطيع أن يفعل ذلك كما فعلنا طوال عقود. أؤكد له أن الجماهير ستصاب «بالقشعريرة» إذ يذكرهم بالتاريخ «الدموى» للولايات المتحدة، بدءا من الهنود الحمر إلى الآن. ستصفق الجماهير طويلا، ستهتف بحياته وتحمله على الأعناق. وتهتف بالموت لأمريكا. لكنه مطالب -لكى نتعامل مع طموحه لقيادة مصر بجدية- بأن يقدم لنا منظومة بديلة من التحالفات، وأن يقنعنا بفائدتها لمستقبل أمتنا المصرية.
الاستقلالية، الندية، وغيرهما من التعبيرات لا تصلح كإجابة، لأن العلاقات الجيدة مع الدول الديمقراطية لا تعنى الاستغناء عن الاستقلالية ولا الندية ولا الدوائر المتداخلة. على العكس، العلاقات الجيدة، والمصالح المتبادلة، تستخدم كوسيلة ضغط. مرة أخرى، راجع ما صدرت به المقال من علاقات تركيا، وتذكر أن فرنسا وإيطاليا ودول شرق أوروبا ونمور آسيا والبرازيل والهند لم تفرط فى استقلاليتها رغم منظومة تحالفاتها التى تأتى العلاقة المتميزة مع الولايات المتحدة فى مركزها. تذكر أن الصين، قبل أسبوعين، خرجت عن الأعراف الدبلوماسية وناشدت الكونجرس حل أزمة سقف الدين المحلى حتى لا يتأثر الاقتصاد الأمريكى سلبا، لأنها تعرف أن من مصلحتها أن يكون الاقتصاد الأمريكى قويا.
لقد عشنا زمنا طويلا نتعامل مع السياسة كما نتعامل مع سلطنة الطرب. لكم عندى خبر سيئ: السياسة أقرب إلى الفيزياء. كلها معادلات قوى، بعضها منظور ومعلوم القيمة، وبعضها غير منظور ولا معلوم القيمة. السياسى الجيد هو الذى يقيم مقادير القوى -المادية والمعنوية أيضا- تقييما صحيحا ليحقق لوطنه أكبر مكسب.
أما أسوأ ما يفعله السياسى فهو أن يدرك قيم الأشياء، لكنه يجبن عن مصارحة شعبه بها. أولا لأنه لا يثق فى رجاحة عقل الناس، وثانيا لأنه منافق، يصيبهم بالتشويش، وثالثا، لأنه يأخذ من تحالفاته أبخس عائد، إذ يخشى حليفه تذبذباته ولا يثق فيه.
خالد البري