عندما ينام لا يرواده سوى حلم واحد، ان يخرج المصريون فى الصباح للتظاهر بميدان التحرير أو بأى مكان آخر ليكون بينهم،
ليس لأنه «ثورجى» أو مناضل سياسى، وليس لأنه «نشط» سيحمل أبواق المطالب الشعبية، بل لأنه «يسترزق» منها، يندس بين المتظاهرين حاملا الذرة المشوية او «السميط والدقة» او اى شىء آخر، وحين تقتضى الضرورة، يهتف كما يهتفون ويصرخ مثلهم، وهو لا يعرف معنى ما يقولون، ويعتبر المظاهرة «ناجحة، اذا ما عاد لغرفته بالبدروم وقد امتلأ جيبه بالقروش، فيدندن من السعادة «لو سألتك انت مصرى قولى ايه، قولى مصرى ابن مصرى و.. ابن مصر يبان عليه» لكن كثيرا ما كان يعود كسيرا خالى الوفاض، لأن المتظاهرين كانوا «قرديحى» من بتوع المطالب الفئوية.. «الوفد» عاشت ساعات «الغُلب» والفقر والبؤس مع حجازي وأسرته والفتاة العاجزة بطة التي تري العالم من حولها زحفا علي يديها وتحلم بعلبة كشري.
فى احدى المظاهرات، كان يهتف بحماس يردد شعارات حول الدستور والانتخابات البرلمانية، الحرية والعدالة الاجتماعية، أدهشنى أمره، فمظهره المتواضع وملابسه الرثة المتسخة لها دلالات اخرى، انتظرت قليلا وكانت المظاهرة تقارب على الانتهاء، وسألته عن مطالبه التى دفعته للتظاهر، ضحك فى سخرية وقال: «مطالب ايه، انا بياع، بعد ما بعت الذرة المشوى وجبرت، لقيت نفسى فاضى، قلت اهتف معاهم»، هكذا صارحني حجازي أحد أبناء مصر المطحونين، مثله كالآلاف، وروي لي حكايته، فهو يعيش مترقبا الموت فى اى لحظة تحت انقاض البيت الذى يستره وأسرته، بسبب قرار إزالة صادر له، ولكن أين يذهب هو وزوجته وأولاده الثلاثة وشقيقة زوجته «العاجزة» التى لا تتحرك إلا زحفا.
فى شوارع القاهرة الواسعة التى تضج بأضواء المحلات والبنايات العالية والمنخفضة، سرت معه، لنغادر الشوارع الكبرى الى شوارع اصغر، ثم حارة ضيقة فى قلب هذا الحى الشعبى بالقاهرة بشبرا الخيمة، كانت القمامة والحشرات الطائرة والزاحفة تغمر المكان، يتوسط الحارة منزل صغير من طابقين، جدرانه تشققت وواجهته تهالكت، هبطنا درجات عن مستوى الارض لنصل الى بدروم المنزل حيث يقيم «حجازى»، كانت هناك فتاة لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، تزحف على الارض وقد اقعدها الشلل عن السير والحركة الطبيعية فلم تعد ترى العالم إلا من بين الاقدام، وجهها لا يخلو من الجمال رغم نظرات البؤس المرتسمة عليه، رفعت رأسها لأعلى لتطالع وجوهنا عسى أن تعرف هويتنا، وقد ظنت أننا من الشئون الاجتماعية جئنا لمساعدتها، فانطلقت تحكى قصتها، غير أن حجازى قاطعها وأخبرها بهويتنا، فصمتت «بطة» او فاطمة، وبدت علامات خيبة الأمل على وجهها، وانزوت فى ركن من الغرفة بجانب السرير الوحيد بالمسكن.
تبادرنا بدرية زوجة حجازى قائلة: ربنا يخليهم بتوع المظاهرات، من ساعة اللى اسمها ثورة ما قامت، والحال ماشى شوية، أصلهم بيباتوا فى الميادين وبيجوعوا، وحجازى يروح يدور على اماكنهم كل يوم ولما يلاقيهم «يلبد» وسطهم، ويبيع لهم الأكل، وكله رزق من عند الله، وتصمت فى شرود وتضيف: كل اللى مخوفنى ان البيت يقع علينا، كل السكان مشوا خايفين على روحهم، بس احنا ارواحنا مالهاش تمن، ذنبهم إيه ولادى ينامون كل يوم مرعوبين وفاتحين عينهم خايفين السقف يقع على رأسهم، وكمان الباب مخلع زى مانتى شايفة، وبخاف من بلطجي يدخل يبهدل البنات بالليل، بفضل صاحية شوية وابوهم شوية، نعمل ايه ما فيش مكان تانى يلمنا، مستنين قدرنا، بس انا نفسى ولادى يكملوا تعليمهم، خايفة يقعدوا زى ما طلعت ايمان من الاعدادية، خليتها تشتغل فى البيوت عشان تساعدنا، بس ولاد الحرام حاولوا يضايقوها، فخليتها جنبى، نجوع آه بس ما حدش يمس شرفنا، وعندى أخوها إسلام فى أولى ثانوى وآية فى خامسة ابتدائى، نفسى تاخد دبلوم تجاره وتشتغل شغلانة كويسة تساعد بيها نفسها وكفاية ايمان اللى مش قادرة أجهزها.
ويعود حجازى ليكمل قصته مع الحياة: أنا عيان بالسكر، ومش لاقى تمن الأنسولين، فيه أيام كتير أرجع البيت وفى جيبى خمسة جنيهات، هيكفوا إيه ولا إيه، أصحى قبل مانزل استرزق اقف فى طابور العيش عشان ألحق كام رغيف من أبو خمسة صاغ، وفى يوم تعبت من الشمس والوقفة ورجعت فاضى، مراتى لطمت وصرخت، رحت اشتريتلها عيش بخمسة جنيهات بحالهم من العيش الغالى ابو نص جنيه، وكلناه حاف.
ويضيف حجازى: أنا بقيت أتمنى الموت، الموت ستر للفقراء اللى زينا، أنا بشوف الذل كل يوم عشان ألاقى لقمة العيش لولادى، كنت باخد مناديل شكك من صاحب الكشك القريب، وأبيعها فى المترو، وفى يوم طلعوا عليا شوية بلطجية وضربونى واخدوا المناديل، رجعت لصاحب الكشك وقلتله الحكاية، ماصدقنيش وفضل يضربنى بالحزام، وخلانى أكنس الشارع وأغسل السجاجيد بتاعة بيته بتمن المناديل، وبطّل يدينى شكك تانى، فكرت انتحر، لكن ربنا مش عايز الشر ليا ولولادى، ربنا بيقطع من هنا وبيوصل من هنا، قامت المظاهرات، وبقيت ألاقى رزقى فيها «وينظر الىّ بلهفة متسائلا: هى المظاهرات دى ممكن تخلص.؟
وتتدخل « بطة» شقيقة زوجته قائلة: آه والنبى يارب المظاهرت دى ما تخلصش، اصلى نفسى يشتريلى علبة كشرى كبيرة وأكلها وحدى.. تقاطعها ابنة شقيقتها آية وهى تهتف «كده يا خالتى مش هتدينى شويه.؟ وتستكمل بطة: لما ماتت أمى من كام سنة، ابويا اتجوز، وطردنى، عشان مش قادرة اساعد مرات ابويا، والناس شالونى من الشارع وجابونى عند اختى «وتحملق فى وجهى وكأنها تؤكد كلامها» أنا تولدت كويسه، بس اتشليت وأنا صغيرة، ومش معايا فلوس دلوقتى عشان أتعالج، أختى وجوزها بيصعبوا عليا، شايلين همى، أهو فيه ناس طيبة بتساعدنا، بس مش كتير، وجوز أختى عيان زى مانتى شايفة وفى رقبته كوم عيال.
ويحين موعد الغداء، فتقوم الزوجة بدرية «بفرش» قطعة من القماش المهلهل على الارض، وتضع فى وسطها طبق «ملوخية» وحيد، وبضعة ارغفة، ويبدو ان الملوخية جاء بها احد الجيران أو أهل الخير، ويهرول الموجودون بالبدورم لتناول الغداء وهم يدعونى بإلحاج لمشاركتهم الطعام، فيما تصيح الأم منبهة «خلو شوية لإيمان وإسلام زمانهم راجعين من المدرسة، وما تنسوش عمكم جمعة نفسه يدوقها من زمان».
وأسال حجازى عما يفهمه من المظاهرات التى يشارك بها كل يوم ومعنى شعاراتها، خاصه المناداة بالديمقراطية وقانون الغدر، فتجيب زوجته بدلا منه «احنا ما نعرفش حاجة عن الكلام ده بس الغدر وحش ولازم يكون فيه قانون عشان الغدر ده».
واسأله عن رأيه فى حكم العسكر وحكومة عصام شرف، فيقول «الجيش والشعب ايد واحدة، وطنطاوى ده راجل حبيبنا، بس الحكومة تحس بينا شويه وتبقى عال، البيت هيقع والرزق ضيق، والولاد عايزة تاكل وتتعلم، وبطة نفسها فى الكشرى وخمسة جنيهات تشترى بيهم شيبسي وعلبة عصير، وأنا حاولت أروح لبتوع الشؤن عشان يساعدوا بطة ومعرفتش، ربك الستار».
وهكذا، تتجمع مظاهرة وتنفض أخرى، يصرخ النشطاء ويتشدق الساسة بالوعود، تتغير الدساتير، ويتقلب علينا نواب ونوائب، وحال عم حجازي لا يتغير ولا تطوله يد تغيير أو ثورة.
اقرأ المقال الأصلي علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - حجازى الثورجى ينتظر الموت فى بدروم آيل للسقوط
http://www.alwafd.org/أسرة/86-مع%20الناس...آيل-للسقوط