[CENTER]


ابن حزم و الحب العذري



[/CENTER]

المعنى الحرفي الذي نستطيع أن نستخلصه من عبارة « الحب العذري » هو الحب للفتاة العذراء بحيث يدوم الحب مع عذريتها. و لكننا نجد أن الذين مسوا الحب من هذا البؤرة قد أضافوا إليه من الخيال و الحنان و الرقة و الإنسانية ما سما به إلى معان جديدة ترتفع على هذا المعنى الأصلي.. فجعلوا المحب ينشد الطهارة حتى لو لم تكن حبيبته عذراء.
و قصص العرب الخيالية أو الحقيقية عن قيس و لبنى أو المجنون و ليلى، هي من هذا القبيل. فإننا نجد حبيبين يتعاهدان على الوفاء. فيذكر كل منهما الآخر في قلبه و يجري اسمه على لسانه و تعود إليه ذكراه في رقة و حنان. وقد يلتقيان فلا يكون بينهما سوى الحديث. حديث القلب الذي تشرف عليه رقابة العقل لأن أحدهما مرتبط بزوج آخر يجب أن يجد الأمانة و العفة من زوجته حتى لو أحبت غيره.
و مثل هذا الحب يطلق الشعر. فقيس لبنى و مجنون ليلى كلاهما شاعر. و قد ورثنا عنهما أجمل الأشعار الخالدة في المعاني السامية للوفاء و الحنان.
و كلمة اللوعة هي إحدى الكلمات الحميمة في هذا الحب العذري. إذ هي تعني الشوق في ألم لذيذ. هو احتراق لا يلسع و لكنه يدفىء. و آلام المحبين هي لوعات قد يضنون منها و لكنهم يلتذون ضناهم. و هم على الدوام محسودون على لوعتهم و ضناهم.
و القليل من التأمل في الألم و اللذة، في الحب و اللوعة، يحملنا على الاعتقاد بأن كل ألم، إذا خف، يعود لذة. و كل لذة إذا اشتدت، تعود ألماً.
ألسنا نضحك من التجميش و نتألم من القرص؟

* * *
و الحب العذري أكثره بل كله لوعة، إذ هو في صميمه ألم لذيذ.
ذلك أن المحب يرتفع بحبه إلى التضحية. فهو يخشى على حبيبته أن تفتضح. بل هو يخشى عليها الخيانة لمن ارتبطت به إذا كانت متزوجة. أو يحب أن يصون كرامة عذريتها كما لو كان أخـاً أو أباً. فهو لذلك يألم و يحس اللوعة و لكنها يرضاها إيثاراً لحرمة حبيبته. و مثل هذا الحب يدوم طويلاً. بل هو يخلد طيلة عمر المحبين إذ هو نار لا تنطفىء أبدا. نار تضطرم دون أن تشتعل.

و نستطيع أن نصف هذا الحب بأنه فلسفي. من حيث أن الحكمة و التبصر و الحنان و سائر ما يتصل بهذه المعاني تسوده، كما أن لغته هي لغة الفن: شعر أو رسم أو لحن أو غناء، و من هنا عناية الإمام ابن حزم الأندلسي بهذا الحب. فقد أرسل له كتاباً يدعى « طوق الحمامة » . . و قد مات ابن حزم في سنة 456 هجرية و خلف لنا ثروة من الأدب و الفلسفة و الشعر. و لكن هذا الكتاب هو أجملها وإن لم يكن أثراها. و هو يعالج فيه سير المحبين و يقارن بين الحب المفاجىء و الحب بالمطاولة. و فضل التعفف و الوفاء. و الهجر و الغدر. بل إنه ليخص موت المحبين بفصل.

و هو ينكر الحب من نظرة واحدة و يقول عن نفسه: « و ما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل. و بعد ملازمة الشخص لي دهراً. و أخذي معه في كل جد و هزل ».

و هذا كلام حكيم يتبصر و ينأى عن رعونة الحب. ذلك أنه لا يحب وجهاً مشرقاً أو جسما منيفا. و إنما هو يحب بعد أن ينفذ إلى قلب حبيبته و يقرأ عقلها و يعشق شخصيتها. و كل هذا يحتاج على وقت لا تكفيه « نظرة
واحدة ».

و لذلك يرى ابن حزم أن الإنسان لا يستطيع الحب لاثنتين و يقول: « و أما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، و استطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة و معناها على الحقيقة. . . و هي على المجاز تسمى محبة، لا على التحقيق. و أما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه من أسباب دينه و دنياه. فكيف بالاشتغال بحب ثان؟ ».

و هو يذكر لنا وفاء زوجة يذكر اسمها و اسم زوجها على أنه كان يعرفهما فيقول أنهما كانا على حب عظيم. فلما مات الزوج « بلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة مات و جعلته آخر العهد به و بوصله. ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها ».

و يروي لنا ابن حزم قصة موجزة عن غرام موجز. و نحن نحس بعد أن نقرأها، كما كتبها بقلمه، أننا نود لو نسأله كيف رضي إمام الأندلس بروايتها. فهو يقول:

« حدثني ثقة من إخواني، جليل من أهل البيوتات، أنه كان قد علق في صباه جارية في بعض دور آله. و كان ممنوعا منها فهام عقله بها. قال: « فتنزهنا يومـاً إلى بعض ضياعنا بالسهلة غربي قرطبة مع بعض أعمامي. . . إلى أن غيمت السماء و أقبل الغيث. فلم يكن من الغطاء ما يكفي الجميع. فأمر عمي ببعض الأغطية فألقى علي و أمرها بالاكتنان معي. فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ و هم لا يشعرون. . و ياله من جمع كخلاء و احتفال كانفراد.. » و هو يحدثني بهذا الحديث و أعضاؤه كلها تضحك. و هو يهتز فرحاً على بعد العهد و امتداد الزمان ».

و قبل أن أترك ابن حزم يجب أن أنقل منه هذه الحادثة التي يرويها عن نفسه و كأنه قد انتشى بالذكرى التي تلهمه أجمل الكلمات و أبلغ المعاني. قال:

« و لقد ضمني المبيت ليلة في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي، مشهورة بالصلاح و الخير و الحزم، و معها جارية من بعض قراباتها من اللائي قد ضمتها معي النشأة في الصبا. ثم غبت عنها أعواماً كثيرة. و كنت تركتها حين أعصرت. و وجدتها قد جرى على وجهها ماء الشباب ففاض و انساب. و تفجرت عليها ينابيع الملاحة فترددت و تحيرت. و طلعت في سماء وجهها نجوم الحسن فأشرقت و توقدت. و انبعثت من خديها أزاهير الجمال فنمت و اعتمت.. و بت عندها ثلاث ليال متوالية. و لم تحجب عني على جاري العادة في التربية. فلعمري لقد كاد قلبي أن يصبو و يثوب إليه مرفوض الهوى، و يعاوده منسيّ الغزل. و لقد امتنعت بعد ذلك من دخول الدار خوفاً على لبي أن يزدهيه الاستحسان ».

* * *

و هذا الكتاب « طوق الحمامة » قد كان إيحاء جديداً للثقافة الأوروبية في القرن الحادي عشر. فقد كانت الأندلس في ذلك القرن القطر المتمدن الوحيد في أوروبا، و كان العرب الذين يقطنونها على اتصال بأقطار العالم العربي من سمرقند شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً. في حين كانت الثقافة الأوروبية لا تزال قروية لا تعرف شيئا عن التجارة العالمية التي تبعث الحضارة بتبادل السلع و تحيي الثقافة بالتبني للغريب من الأفكار و العادات.

و لذلك كانت الحرية الفكرية على أعلاها عند الأندلسيين و كانت الفنون كذلك على أتقنها، و كان الأوروبيين يأخذون من الأندلس علوماً و أداباً و فنوناً.

و كان « طوق الحمامة » هذا بعض ما أخذوا. فعرفوا منه الحب العفيف، الحب العذري، و ألفوا القصائد و القصص عن النبلاء الذين يخرجون لإنقاذ العذارى و حماية السيدات، و فشا من ذلك فن القصص الغرامي الخيالي الذي عم فرنسا في القرون الوسطى. و كان له طابعه، ليس في الأدب الفرنسي فقط، بل في الأخلاق الفرنسية، أخلاق الحب بين المتمدنين.

و هذا القصص الغرامي الذي فشا بإيحاء كتاب الإمام ابن حزم قد ارتفع بالشهوة الجنسية إلى الحب العفيف، و عين له أسلوب و جعل متعة الشباب و سعادة الجنسين، و نص فيه على حق كان ينكر من قبل بحكم العادات و التقاليد.




مصدر هذا المقال كتاب ’فن الحب و الحياة‘ للأستاذ سلامة موسى- منشورات مكتبة المعارف في بيروت.

تحية على الموضوع .

استمتعت بقراءة ( طوق الحمامة ) منذ عدة سنوات , واحببت ابن حزم بسببه حبا شديدا .

الكتاب يجمع بين رقة ووهج عاطفة الشباب , وبين حكمة وتعقل الشيوخ .

لذلك فمن يقرأه لابد ان يستفيد منه كثيرا .

كتاب ( روضة المحبين ونزهة المشتاقين ) للمتصوف الاسلامي ابن قيم الجوزية : كتاب رائع في موضوع الحب , وحجمه ثلاثة اضعاف حجم طوق الحمامة لمن اراد الاتزادة في موضوع الحب . واذا كان ابن حزم قد تكلم عن الحب بين الجنسين فقط , فإن روضة المحبين قد خرج عن هذا الاطار ليتكلم عن انواع الحب الاخرى ومن اعظمها حب الله .

ولذلك فهو كتاب جامع بل أجمع كتاب في رأيي قرأته عن هذا الموضوع .

شكرا مرة اخرى على الموضوع ياابراهيم .

أخي العزيز داعية:

أشكرك أولا لقبولك أن تتفاعل معي في هذا الموضوع و أشكرك لكلامك المشجع و لطفك الذي عهدته فيك دوما.

أنا أيضا هذه هي ثاني مرة أعجب فيها بإبن حزم الأندلسي. المرة الأولى كانت و أنا أقرأ كتاب للمستشرق الإنكليزي ألفرد غيّوم Alfred Guillaume و المشهور بترجمته لسيرة حياة الرسول لابن هشام و قد قرأت ذلك في كتاب له يتحدث فيه عن العرافة و الكهانة بين العبرانيين و الشعوب السامية القديمة و رؤية ابن حزم للتوراة مقارنا إياها بدراسات فيلهاوزن. أما الآن فهذه هي ثاني مرة أقرأ عن ابن حزم من واحد غير مسلم يظهر جانب فيه من جوانب الجمال.

أشكرك على اقتراحك لـ كتاب ( روضة المحبين ونزهة المشتاقين ) للمتصوف الاسلامي ابن قيم الجوزية و سوف أبذل كل ما في جهدي للحصول عليه و قراءته و ربما نتناقش فيه يوما ما.

المقال الذي أعجبك هنا يا صديقي ليس لي و لكن أنا قمت بنسخه يدويا من كتاب ’فن الحب و الحياة‘ للأستاذ سلامة موسى. كثيرا ما سمعت عن سلامة موسى كلام سلبي جدا.. نعم، أذكر هذه الأيام السوداء عندما كانت تصلني تلك الطرود من السعودية من رابطة العالم الإسلامي و لم يكن لديهم شيء إيجابي واحد ليقولوه عن سلامة موسى بل هذا كافر و ذاك زنديق إلى أن كفرونا في عيشتنا. كنت أحب أن أعرف رأيك في هذا المقال في ضوء ما قرأته أيضا في موقع إسلام أون لاين هنا:
http://www.islamonline.net/Arabic/history/...article40.shtml



ما رأيك في تقييمهم لسلامة موسى و أنت الآن قد قرأت ما كتبه سلامة موسى شخصيا عن حرية الفكر في الإسلام؟ و لعلمك جميع ما قرأته لسلامة موسى في الإسلام هو كلام إيجابي جدا و لا تدنوه أي نبرة سلبية لا من قريب أو بعيد. الرجل أراد لشرقه أن ينهض و يكون على نفس المستوى و يسبق مع العالم و لكن هناك من يريدون لنا أن نعيش في زمن زرع و حصد.

ما رأيك؟

(f)

"لم يترجم كتاب عربي إلى اللغات الأوربية المختلفة -باستثناء القرآن الكريم- مثل ما ترجم كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ وكتاب طوق الحمامة في الألفة والألاّف لابن حزم الأندلسي". انظر:
Arabica, Tome XXX (Paris 1981) pp.57-72

حمدي:

شكرا على تعليقك.. على فكرة، أنا مولع بكل دراسات Arabica و كل هذه الدوريات المعروفة و الغنية عن أي إطراء من جانبنا. لكن كنت أحب أن أعرف رأيك في رأي سلامة موسى في ابن حزم الأندلسي و تأييده له كمصلح سابق لزمانه يتمتع برقي و حرية فكر عجيبة.

شكرا على مشاركتك عموما. (f)

تحية ياابراهيم ...............

في موقع اسلام اون لاين- الرابط المذكور - ورد مايلي :

كان للروافد الفكرية المتنوعة لسلامة موسى -وليس من بينها أي رافد عربي أو شرقي- أثر في فكره وما طرحه من رؤى، حيث عبرت أفكاره عن حالة انبهار كامل بالغرب، ولدت حالة من الرفض لكل ما هو شرقي،

وانا في الحقيقة آخذ من كل شخص الايجابيات التي عنده واترك السلبيات , واكبر سلبية لكل متنور ( أو معظم لكي اكون دقيقا ومنصفا ) هي انهم يجهلون عن عمد حقيقة الثقافة الشرقية والاسلامية .................ويصرون الا يعرفونها الا من خلال ما كتب عنها , ولايقرأون عنها في المصادر والمرجعيات المعتمدة .

أنا مثلا لو أحببت نقد الالحاد بطلاقة وبصيرة فلابد لي - اذا اردت ان اتخصص في دراسة هذا الموضوع - ان اقرأ كتب داروين وجوليان هكسلي وليس مجرد ان أقرأ الردود عليهم او ان اشاهد حلقات مصطفى محمود ! صح ؟

التنويريون العرب قليل منهم من اطلع على الثقافة الاسلامية من مصادرها الاصلية .

هذا لايعني ان اقول لك ان سلامة موسى ليس له في العير ولا في النفير , لا ........هو شخص له وزنه , لكن له ايجابيات وسلبيت مثله مثل اي شخص مثقف آخر , والغلو في المثقفين لايتخلف فيرأيي الشخصي عن غلو مريدي الصوفية في مشايخهم , وعبارتهم مشهورة في ذلك :

كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل .

و :

من اعترض انطرد .

ودمتم طيبين .....................................

اقتباس:هذا لايعني ان اقول لك ان سلامة موسى ليس له في العير ولا في النفير , لا ........هو شخص له وزنه , لكن له ايجابيات وسلبيت مثله مثل اي شخص مثقف آخر , والغلو في المثقفين لايتخلف فيرأيي الشخصي عن غلو مريدي الصوفية في مشايخهم

كلام جميل جدا. (f)

اقتباس:كان للروافد الفكرية المتنوعة لسلامة موسى -وليس من بينها أي رافد عربي أو شرقي- أثر في فكره وما طرحه من رؤى، حيث عبرت أفكاره عن حالة انبهار كامل بالغرب، ولدت حالة من الرفض لكل ما هو شرقي،

تقدر تقول إنه بندول و يتأرج من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار و لكنه حتما سيستقر على حال. أنا مثلا و أنا طالب في الثانوية العامة كنت مغرم جدا بالأغاني الأجنبية و الفرق الأجنبية. و جاءت الفرصة و عشت وسط الناطقين بهذه الثقافات و تلك اللغات.. و لكن وجدت أني كلما اقتربت من الثقافة الغربية كلما تعلقت أكثر و أكثر بثقافتي الشرقية و لكن و أنا أدرس ثقافتي الشرقية أحتاج لمنهج دراسي منظم و هنا يمكن أن أستفيد مثلا من خبرة الدارسين الغربيين. لكن القالب يظل كما هو، أفلاحون لا أفلاطون :lol2:

:lol: