أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (1-5)
الحلقة الأولى: الحركات الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم
http://www.albasrah.net/ar_articles_2012...131212.htm
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (2-5)
الحلقة الثانية: حركة الإخوان المسلمين
http://www.albasrah.net/ar_articles_2012...151212.htm
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (4-5)
الحلقة الرابعة: حركة الإحياء الإسلامي وسيادة مبدأ الاتهام بالردة
http://www.albasrah.net/ar_articles_2012...181212.htm
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (5-5)
الحلقة الخامسة: إشكالية مقاربة النص الإسلامي مع انتشار العولمة/الأنسنة
http://www.albasrah.net/ar_articles_2012...191212.htm
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها
(3/ 5)
الحلقة الثالثة:
حركة ولاية الفقيه
مع ملحق فكري يؤصِّل لنشأة النظرية
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (3/ 5)
أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها
(3/ 5)
الحلقة الثالثة:
حركة ولاية الفقيه
مع ملحق فكري يؤصِّل لنشأة النظرية
استناداً إلى مقاطع منتخبة من الفصل السادس من كتاب (الردة في الإسلام)، المنشور في العام 1999، لمؤلفه حسن خليل غريب، سننشر خمس حلقات تعالج هذا الموضوع، وقمنا بتقسيمها إلى موضوعين رئيسين، وهما:
أولاً: التعريف بأهم حركتين بينها، وقسمناها إلى ثلاث حلقات:
-الحلقة الأولى: الحركات الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم:
-الحلقة الثانية: حركة الإخوان المسلمين
-الحلقة الثالثة: حركة ولاية الفقيه
ثانياً: القضايا الخلافية بين حركات الإسلام السياسي:
-الحلقة الرابعة: حركـة الإحياء الإسلامي وسيادة مبدأ الاتهام بالردة
-الحلقة الخامسة: إشكالية مقاربـة النص الإسلامي مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة
الحلقة الثالثة: حركة ولاية الفقيه
د – الشيعة الإثني عشرية تتبنَّى خط التنظيم الحزبي الإسلامي: يميِّز مرتضى المطهري (ت في العام 1399هـ=1979م) –أحد رجالات الثورة الإيرانية- خصائص الحركات الشيعية عن الحركات الإصلاحية السُنِّيَّة بما يلي: قلما يقتصر المحيط الشيعي على طرح الكلام عن الإصلاح أو النظريات الإصلاحية، وقلَّ ما بُحِثَت مواضيع حول: ما العمل؟ ولكن مع ذلك فقد ظهرت الشيعة في حركات إصلاحية، خصوصاً كحركات مضادَّة للديكتاتورية والاستعمار. وتكلم، في المقابل، علماء الدين السُنَّة عن الإصلاح، ولم يقودوا حركات ثورية في سبيله؛ وعلى العكس من ذلك قاد علماء الدين الشيعة الحركات الثورية من دون أن يطرحوا نظريات إصلاحية.
يعيد المطهري أسباب ذلك، فيقول: «هو ارتباط هذه القضية بالنظام الخاص (لرجال الدين الشيعة) و(رجال الدين السًنَّة). يقع جهاز رجال الدين السُنَّة-تقريباً- بيد الحكام الذين يعتبرونهم من (أولي الأمر)… فجهاز رجال الدين السُنَّة جهاز منتمٍ وتابع، والجهاز المنتمي والتابع لا يستطيع أن يقف ضد القوة التي ينتمي إليها… في حين أن جهاز رجال الدين الشيعي هو جهاز مستقل بحد ذاته. فمن الناحية المعنوية يتكئ على قدرة الله، ومن الناحية الاجتماعية يعتمد على قوة الناس، ولهذا السبب كان رجال الدين الشيعة، وعلى طول التاريخ، قوة تعارض وتحارب الظالمين».
من الواقعي أن يقف السُنَّة في صف الموالاة لنظام إسلامي كان يتبنَّى المذاهب السُنِّيَّة مذهباً رسمياً، وبشكل خاص في العهود العباسية والعثمانية، وأن يقف الشيعة في صف المعارضة لنظام لم يكن يعترف بمذهبهم. وتنقلب المواقف في العهد الفاطمي. ولو بقي المطهري حياً، بعد انتصار الثورة الإيرانية، لكان من المنطقي أن يقف في صف الموالاة للنظام القائم وليس في صف المعارضة. وإنه على العكس مما قاله المطهَّري فقد وقفت بعض الحركات السُنِّيَّة في صف الثورة ضد النظام السني، وقد مرَّت معنا وقائع في البحث تؤيد هذه النتائج.
وعلى العموم، يرى المطهري، أن الثورة هي من فضيلة (نهضات الأنبياء)، أي أنها تقوم على أساس الشعور الإلهي الذي نجد جذوره في أعماق الفطرة البشرية، وينبع من الضمير الباطني للإنسان. أما جذور الثورة فتنبت عندما تقع أحداث تصب في غير مصلحة الأهداف الإسلامية السامية.
تعود بداية التفكير الشيعي الإثني عشري بسلوك الخط التنظيمي الحزبي الديني إلى العام (1378هـ؟=1959م؟)؛ وقد كانت البداية في تأسيس حزب الدعوة الإسلامي-الشيعي في العراق، وانتقل إلى لبنان في النصف الثاني من الستينات من القرن20م. وكان قد تمَّ تأسيس الحزب على قاعدة شرعية أن يتسلّم العلماء الحكم ويقومون به، وأن يعتنوا بالسياسة والاقتصاد، وأن يطلبوا قيام دولة إسلامية عالمية.
ومن وسائل الحزب التنظيمية أن يجمع طالب العلم بين التحصيل الديني، وبين أنشطة حياة عادية؛ و يُعَدُّ هذا الجمع ضروري للدعوة وحزبها. فالداعي يقوم بنشاط التدريس الديني، ومشاركة الناس في أعمالهم، ومعايشة همومهم و قضاياهم. بالإضافة إلى ذلك، فقد تدرَّب أعضاء الحزب على العمل المسلَّح في أوائل السبعينات من القرن 20م؛ وتخرَّج منهم عدد من الإنتحاريين.
عمل حزب الدعوة، ومن بعده «حزب الله» -منذ أوائل الثمانينات من القرن20م- على بناء الشخصية الإسلامية التامة من خلال المدارس والحوزات، وإعداد «الملتزم الرسالي». ويتحصَّن المجتمع الإسلامي عندهم، أي مجتمع «الحكم الشرعي» العامل بولاية الفقيه « الإمام قائد الأمة»، بالمسجد أو بالنادي الحسيني.
وبسبب ندرة المعلومات عن حزب الدعوة، وبعد تأسيس حزب الله في أوائل الثمانينات، نحسب أن التنظيمين أصبحا تنظيماً واحداً، بحيث أصبح حزب الله وحيداً في الواجهة السياسية والعقائدية الشيعية. أما المنطلقات الأساسية لحزب الله: «هم أصحاب رسالة، والأساس في بنيتهم العقائدية هو القرآن الكريم. إذن، الرسالة التي يحملونها هي الرسالة التي يجب أن تعمَّ العالم، حتى تعيش الإنسانية مباديء وتشريعات وأخلاق القرآن … من هنا يتحدد نوع العمل، عمل تحكمه الرسالة ولا يحكمه الإنسان…».
فالإسلام ليس «رسالة تبشيرية فقط، وإنما رسالة تبشيرية ورسالة لإقامة مجتمع العدالة في الأرض»؛ لهذا تعمل جماعة حزب الله «من أجل مجتمع سياسي متجدد، ومستقل في هويته وشخصيته الحضارية؛ وهذا يفرض-بالتأكيد-حالة صراع مع كل التجمعات البشرية التي ترفض أن تتعامل مع الإسلام كرسالة للحياة»، وقد سبقت هذا الهدف «محطات تاريخية مذهلة جداً، وفيها ما يكفي لبناء مجتمع يحمل روحية الثورات…».
وفي سبيل العمل من أجل هذا الهدف، كما يقول أحد قادتهم: «نحن اليوم ندرس مشروعاً إسلامياً مبنياً على الفكر والرسالة؛ فالمشروع المطروح على العالم اليوم/ هو مشروع الأمة، دولة الإسلام الكبرى… نحن مقبلون على حالة وعمل توحيدي للشعوب في المنطقة… [وهناك] توجد كل الفرص لاستمرار وتوسيع هذا المشروع، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني بتصدير الثورة».
وعن قيادة المشروع، يقول: «فالقيادة تتمثل في الرسول وفي الأئمة المعروفين، وبعد الأئمة الفقهاء الأولين. وفي الوقت الحاضر نحن نعيش على غيبة الإمام المنتظر؛ فالقيادة في هذا العصر تتمثَّل في قيادة الفقهاء العدول».
أما كيف يمكن للدعوة الإسلامية -حسب وجهة نظر حزب الله- أن تعالج إشكاليات العلاقة بين المذاهب الإسلامية، ومع أصحاب الديانات السماوية الأخرى، ومع الأحزاب والحركات القومية؟
-حول العلاقات بين السُنَّة والشيعة: «نستطيع القول إن هناك حالة شكلية طائفية أو مذهبية، أكثر منها حالة اختلاف في خلفيات فكرية عميقة…بل نشعر بوجود حدود نفسية، ربما تعود في بعض الحالات إلى ابتعاد السًنَّة عن الشيعة في مجتمعاتهم، جغرافياً وتاريخياً …لكن أعتقد أن الزمن يَحِلُّ كثيراً من هذه المشاكل».
-وحول العلاقات مع أصحاب الديانات السماوية: «إذا كانت القضية قضية ما تعتبرونه انتقاصاً من كرامة المسيحي في نظام أهل الذمة، فيمكن عندئذ التفكير في هذا، من خلال إدارة الحوار في طبيعة الطرح الإسلامي في هذا الموضوع. وما حدث في التاريخ… هل كان مردُّه إلى الخط الإسلامي، أم إلى إساءة في التطبيق؟».
-وحول العلاقة مع الحركات القومية: «ربما كان بعض أسباب نجاح الحركات القومية في الساحة العربية –على الأقل- مرتبطاً بقضية التحرر من الاستعمار، ومن ضغط الاستبداد الذي كانت تمارسه الخلافة العثمانية». ومع ذلك: «لا نشعر أن القومية العربية –كإطار ومضمون- شيء واقعي. ولكن إذا وُجِدَت جماعات تفكر قومياً، فنحن لا نمانع أن نتعاون معها كمسلمين أو كإسلاميين في مواجهة الاستعمار …ولا يعني تعاونك مع أي فريق في مرحلة ما، أنك تعترف بشرعية فكرته…نحن نشعر أننا لا نستطيع في كل القضايا أن نقوم بها وحدنا».
كانت الدعوة إلى مركزية الدولة الإسلامية واضحة في بدايات مراحل تأسيس «حزب الله»، فالدين عند الله الإسلام؛ ولهذا قام الدعاة للحزب على حمل تابعيهم على تجاوز كل ما هو عائلي ووطني، ودعوا إلى الانتساب لله وحزبه من جهة، والإقرار بمركزية الثورة الإسلامية في إيران، كنواة لبناء الدولة الإسلامية، من جهة أخرى.
وقد شهد الحزب تحولات في مواقفه، فبعد أن اشترك في تظاهرة ترفع شعار (لا حاكمية إلا لله) ؛ وأخذت تحولات على المواقف تظهر –منذ أوائل التسعينات من القرن 20م –في اتخاذ مواقف سياسية جديدة، وذلك بالانخراط في المعركة الإصلاحية، والدعوة إلى ضمان الحريات السياسية والفكرية والإعلامية.
ومن الحاكمية لله تصبح القيم الإسلامية «قيم واقعية، وليست مثالية، ليست قيماً مطلقة، لأنه ليس في الحياة من مطلق…»؛ ويصبح الإسلام والمسيحية والماركسية «طروحات فكرية تتسع لجميع الناس! وكل فكر يمكن أن يقبله بعض الناس ويرفضه بعض الناس».
ملحق عن ولاية الفقيه مُستلٌّ من الفصل الأول من كتاب (نحو تاريخ فكري – سياسي لشيعة لبنان) لمؤلفه حسن خليل غريب، علماً أن البحث فيه أُنجِزَ في العام 1990. ولمن يريد الاستزادة يمكنه مراجعة الكتاب المذكور المنشور في أكثر من موقع الكتروني ومن أهمها مدونة (العروبة).
IV - الاتجاهـات السياسية في الفكر الشيعي
بقيت الاتجاهات الفكرية الشيعية موحَّدَة في مصادرها الأساسية، ولكن تباينت عندهم الاتجاهات السياسية حينما ساد -في مرحلتنا المعاصرة- تياران سياسيان يدافع كل منهما عن اتجاهاته بنصوص إسلامية عامة و بنصوص شيعية خاصة:
-التيار الأول و يُعرَف «بولاية الفقيه»؛
-أما التيار الثاني فهو التيار المحافظ الذي يرفض القول بهذه الولاية، ويستمر برفضه ما دام الإمام المهدي غائباً.
فما هي مضامين هذين التيارين ؟
-التيـار الأول:بناء الدولة الإسلامية على قاعدة ولاية الفقيه:
لقد طال غياب الإمام المهدي المنتظر، و بقي الشيعة في حال انتظار طويلة ملتزمين مبدأ التقية، يمارسون الشعائر الدينية الإسلامية، و يخضعون لسلطات لا يؤمنون بصلاحها. ولأنه «في عصر الغيبة كان الشيعة و فقهاؤهم مشرَّدين غالباً في شدة و تقية، فكانوا آيسين من رجوع الحكومة إليهم، ويرون كأنه بمنزلة أمر ممتنع»([1]). وقد انقرض ملك بني العباس، ولم يظهر أحد من أهل البيت يشير بالتقى، و يعمل بالهدى([2]). و قد أخذت مدة الانتظار تطول، و لطول المدة أخذت تتحول إلى تساؤلات عند بعض فقهائهم، فلجأ هؤلاء الفقهاء إلى اتخاذ مواقف بقيت إلى حد ما مجهولة و محصورة في نطاق ضيق، إلى أن وصلت إلى حدود الإعلان و النشر و المناقشة ثم إلى الدعوة جهراً؛ و كان أبرز ما انبثقت عنه تلك المرحلة هو الدعوة التي أقرت بجواز أن يتولى الفقيه مسئوليات الإمام في فترة غيابه.
رأى بعض رجال الدين الشيعة، وأبرزهم الخميني، أن عصر الغيبة الكبرى طال أكثر من ألف و مائتي عاماً تقريباً، و قد يطول أكثر من ذلك؛ ورأى أن للإسلام «أحكامه النظامية والسياسية وقوانينه الإدارية والعسكرية التي لا تزال صالحة للتطبيق على الحياة العامة من غير تحوير شعرة [ولا ينقصها إلا أنها] بحاجة ماسة إلى ضامن إجراء مبسوط اليد، نافذ الكلمة، مُطاع على الإطلاق [وإن الإسلام قد] فوَّض تولي أمور المسلمين إلى الفقهاء العدول[و] إن وظيفة الفقيه العارف بأحكام الشريعة هي النهضة والانتفاضة وإعلاء كلمة الله في الأرض والمجاهدة وتطهير أرض الله من أعداء الله»([3]).
أما في المرحلة التي جاءت بعد غيبة الإمام المنتظر، و هي مرحلة انتظار عودته، فيرى الخميني أنه ولدت دعوات مستمرة لفصل الدين عن الدولة وعن السلطة السياسية، وأن المستفيد من ذلك هو المستعمر الذي أراد فصلهما مع أن النبي محمداً، و الخلفاء الراشدين، قد مارسوا بأنفسهم شؤون سياسة البلاد، فالمستعمر يهدف من وراء دعوته «إلى إبعاد رجال الدين عن ساحة السياسة، وعن التدخل في شؤون الدولة إطلاقاً، لكي ينطلق عملاء الاستعمار في أعمالهم التعسفية…»([4]). وقد رأى الخميني، كذلك، أن بعض رجال الدين الشيعة قد خضعوا لهذه الدعوات؛ فهم برأيه يحتاجون إلى التقريع، و قد خاطبهم بقوله: «الدعايات الأجنبية هي التي بلغت بكم هذا المبلغ الهابط، وهيأت لكم هذا الوضع المخزي، وعرفتكم إلى الملأ الأعلى شرذمة رجعية مُتزمِّتة تجمَّعت في النجف وقم، وما شأنها والتدخل في سياسة البلاد»([5]).
يحصر الخميني أسباب التأخر في بناء الدولة الإسلامية في سببين اثنين: أولهما الاضطهاد الذي عانى منه الشيعة الشيء الكثير عبر التاريخ الإسلامي؛ أما الثاني فتآمر من المستعمر واستجابة من فقهاء الشيعة إلى فصل الدين عن السياسة. وهو إذ يحدد هذين السببين ويحصر المشكلة فيهما، ينسى أن مبدأ التقية قد وضعه الإمام جعفر الصادق-باني الأسس للعقيدة الشيعية ومن بعده ساد الاعتقاد بين فقهاء الشيعة بأن التقية هي من أسس المذهب لأن (من لا تقية له لا دين له)، وهل التقية إلا فصل للدين عن السياسة ؟
قبل أن يُحسم الجدل عند الشيعة حول هل يجوز لهم أن يؤسسوا دولة إسلامية ويمارسوا السلطة السياسية في زمن الغيبة أو لا يجوز، يرى الخميني أنه في تأخير تأسيس الدولة الإسلامية حتى ظهور الإمام مؤامرة على الإسلام و المسلمين. لكن مضمون الحكم وأسسه ليس موضوع جدل، و من هنا يرى الخميني أن القوانين «جاءت من عند الله لغاية تطبيقها على الحياة…[و ما على الولاة سوى] … تنفيذ الخطة القائمة من دون مدخلية لآرائهم الشخصية في…- سواءٌ الرئيس أم المرؤوس - التدخل في شؤون أحكام الله على الإطلاق…[و]…إن ولاة الأمر في الإسلام يتبعون الرسول الأعظم، و الرسول يتبع القانون الإلهي الحكيم»([6]).
تعرَّض مبدأ التقية عند الشيعة الإثني عشرية للنقد والتقريع والنقض من قبل عدد من رجال الدين الشيعة أنفسهم؛ وقالوا إنه أصبح بغير فائدة أو مغزى، ذلك، بعد أن عرفوا أن المستعمر هو المستفيد من التزام الشيعة به. والحل هو أن يفكَّ الشيعة ارتباطهم بمبدأ انتظار الإمام الغائب، لأن الانتظار مدة أكثر أصبح مسألة لا تجوز.
إن قناعة الخميني في وجوب بناء دولة إسلامية لتأمين مصالح المسلمين من خلال تطبيق الشرائع الإسلامية، كان من أهم الأسباب التي دفعت به لتحييد مبدأ انتظار ظهور المهدي، و إنه متى تأسست الحكومة الإسلامية على الفقهاء أن يتولوا السلطات الدينية والزمنية. فما هي الأسس العقيدية والسياسية التي يراها الخميني صالحة وقادرة على تشكيل نظام يدير شؤون المسلمين؟
يرى الخميني أنه من غير الجائز على المسلمين أن ينتظروا ظهور المهدي أكثر مما انتظروا. والسبب أن الإسلام يشكل مجموعة من القوانين التي جاءت من عند الله أولاً، ولأنه «لم يختلف أحد من المسلمين في ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية منذ الصدر الأول للإسلام([7]).
بعد أن اقتنع رجال الدين الشيعة الإيرانيون، بناء لنظرية الخميني في ولاية الفقيه، بخطأ اتباع مبدأ التقية من جهة، و عدم جواز انتظار ظهور الإمام المهدي إلى ما لانهاية من جهة أخرى، وجدوا أن الوقت أصبح مناسباً لإعلان الدولة الإسلامية، خاصة -كما يحسب منتظري-أنه «بعدما شملت عناية الله المسلمين في إيران الإسلامية، صار البحث في الحكومة الإسلامية بشؤونها المختلفة ضرورياً»([8]).
استناداً إلى ذلك لم يكن الاختلاف حول ضرورة تشكيل الحكومة أو عدم تشكيلها هو المشكلة في أثناء غياب المهدي المنتظر، وإنما أصبحت تتعلق في توفر الظروف المناسبة أو عدم توفرها، لهذا بعد أن أصبحت الظروف مؤاتية في إيران أصبح لزاماً على المسلمين-حتى في زمن الغيبة- ضرورة البحث عن الحكومة و فض الاختلاف «في نوعية تشكيلها، وفي الشرائط اللازمة في شخص الحاكم الإسلامي([9])؛لأنه إذا اجتمع فقهاء المسلمين في هذا العصر «وأجمعوا رأيهم لكان بوسعهم تشكيل حكومة إسلامية عادلة من غير ريب»([10]).
لكن البحث في الشرائط اللازمة للحاكم، و الشرائط المطلوبة لبناء الدولة الإسلامية يصبح غير ذي مضمون في الحالة التي يظهر فيها الإمام المنتظر، لأنه بظهوره -كما يحسب منتظري-«يغنينا من هذه الأبحاث العريضة»([11]). وكأننا بمنتظري لا يخرج عن دائرة المنطق التخميني، فلا اليقين ثابتاً عنده في مبدأ انتظار الإمام، و ليس يقيناً ثابتاً في نظرية ولاية الفقيه؛ فأيهما الجاهز للتطبيق فهو الأصلح للعمل بمقتضياته.
وهنا كيف تنظر الخمينية إلى الشرائط المطلوب توفرها في الحاكم الإسلامي في زمن الغيبة ؟
يرى المنتظري : «أن السيادة والحاكمية لله تعالى فقط، وبيده التشريع والحكم (إن الحكم لله). والنبي r أيضاً لم يكن له حق الحكم إلا بعد ما فوَّض الله إليه ذلك، ولم يكن يتَّبِع في حكمه إلا ما كان يُوحى إليه. والأئمة، أيضاً، قد انتُخِبوا من قبل النبي r بأمر الله تعالى بلا واسطة أو مع الواسطة، حتى إن الفقهاء في عصر الغيبة، أيضاً، نُصِبوا من قبل أئمتنا (ع) لذلك، و إلا لم يكن لهم حق الحكم. و ليس لانتخاب الناس أثر في هذا المجال أصلاً. فالحكومة الإسلامية ثيوقراطية محضة»([12]).
ولأنه لم يتعيَّن شخص الحاكم الإسلامي بالنص في عصر الغيبة، يحدد منتظري طريقة اختياره وشروطها، فهو يقول : «في عصر الغيبة إن ثَبتَ نصب الأئمة(ع)للفقهاء الواجدين للشرائط بالنصب العام بعنوان الولاية الفعلية، وإلا وجب على الأمة تشخيص الفقيه الواجد للشرائط وترشيحه وانتخابه، إما بمرحلة واحدة أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل صقع وناحية بعض أهل الخبرة، ثم يجتمع أهل الخبرة وينتخبون الفقيه الواجد للشرائط والياً على المسلمين»([13]). ولكن إن أشكل أو تعسَّر على الأمة انتخاب الإمام بسبب اتساع البلدان، فيمكن أن يتم الانتخاب على مرحلتين أو عدة مراحل([14]).
فانتخاب الحاكم الإسلامي خاضع لشرائط يجب أن تتوفر فيه، منها العلم والعدالة؛ وهما شرطان أساسيان «يجب توفرهما في شخص الزعيم الإسلامي:معرفته الكاملة بالقانون، وعدالته العامة بالتنفيذ»([15]).
لكن معرفة الحاكم الإسلامي بالقانون ليست معرفة وضعية، وتنفيذه له ليس خاضعاً لأية قاعدة وضعية؛ وإنما «الأمر الذي يتوافق العقل والشرع عليه:لا حكم لغير القانون، فلا أحد يحكم الآخرين، ولا الجماعة يحكمون هم أنفسهم، إنما القانون الإلهي يتصدى بتنفيذه الحاكم الإسلامي الذي جاء تعيينه من قبل الله، و المتوفر فيه الشرطان الآنفان (العلم والعدالة)»([16]).
فللفقيه الجامع للشرائط، الذي هو نائب للإمام، سلطة مُطلَقَة في أصول المعرفة الدينية، وله أيضاً السلطة المطلقة في المعرفة السياسية وتطبيق هذه المعرفة، فهو الذي يتولَّى «الزعامة الكبرى و الرئاسة العليا [وهو] المصدر للقيادة العليا الإسلامية… فالأمراء والقواد هم الممتثلون لأوامر الفقيه الشاغل لمنصب الزعامة، الواقع في قمة الحكم، والبقية مأمورون مؤتَمِرون [وهو] المخوَّل من قبل الله في إجراء الحدود»([17]).
يصف المظفر صلاحيات الفقيه بأنه: «نائب الإمام (ع) في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام…والراد عليه راد على الإمام، والراد على الإمام راد على الله تعالى وهو على حد الشرك بالله»([18]).
وللفقيه سلطات واسعة غير محدودة، أُعطِيَت إليه من الله تعالى، وهي -كما يراها الخميني : «إجراء الحدود وفصل قضايا الناس، والتصرف في بيت مال المسلمين، وفي شؤون المجتمع، والخلاصة: أن بيده أزمَّة الأمور كلها، الله أعطاه هذا الاختيار، وأوكل إليه أمر الأمة»([19]).
إن حاكماً إسلامياً بهذا القدر من الصلاحيات والسلطات المطلقة، والموكولة إليه من الله، كيف يرى القائلون بولاية الفقيه علاقته مع الفقهاء الآخرين ؟
يرى الخميني أن من واجب الفقهاء بما هم فقهاء، إذا كانوا في خارج السلطة، أن يجتمعوا ويتشاوروا ويفكروا في حلول لمشكل الأمة الإسلامية. أما إذا استولوا على السلطة فليوكلوها إلى أفراد صالحين حتى و إن لم يكونوا فقهاء، و لكن على أساس أن يكون للزعماء الرئاسة العليا، أما الآخرون فيكونون لهم مشاورين»([20]). ولكن الخميني يحدد علاقة الفقيه الموجود على رأس السلطة مع الفقهاء الآخرين، كما يلي : «إن ولاية الفقيه ليست مطلقة لتكون لكل فقيه الولاية على سائر الفقهاء في زمانه لينصب من يشاء منهم ويعزل من يشاء، وإنما له الولاية العامة دون هذه المرتبة»([21]).
وكيف يرى أصحاب نظرية ولاية الفقيه العلاقة بين الفقيه الوالي وبين الإمام ؟ وهل في هذه العلاقة تطابق كامل ومطلق، أم أن هناك ما يستدعي التمييز ؟
يرى الخميني أن هناك فرقاً بين الفقيه من جهة وبين النبي و الإمام من جهة أخرى؛ وإن «هذا الفرق يرجع إلى خصوصيات شخصية و ملكات ذاتية ليست تمس جوانب الزعامة في شيء»([22]). و يرى، أيضاً، أن الفقيه لا يداني النبي و الإمام فضيلة أو مكرمة. ولكن يرى من جانب آخر أن هناك حدوداً للتطابق بين النبي والإمام والفقيه، حيث يقول إن: «الزعامة المحدودة بحدود القانون لا يختلف مجال تنفيذها بالنسبة إلى النبيr والإمام (ع) والفقيه. إن الحكومة تكون للعالم العادل: نبياً أم إماماً أم فقيهاً عادلاً»([23]).
وهل يعني ذلك أن نصعد بالفقيه إلى مرتبة الإمام، أو النزول بالإمام إلى مرتبة الفقيه؟ هنا يعتقد الخميني أنه، باستثناء الفرق بالخصوصيات الشخصية والملكات الذاتية، «لا فرق بين الإمام و الفقيه في وظيفة القيام بإدارة شؤون المجتمع الإسلامي وفق القانون الإلهي العام»([24]).
ولا بد من الإشارة إلى أن للفقيه-من ضمن ولايته، إضافة إلى ولاية أمور الدين والدنيا-مهمة الأمانة على أموال المسلمين، وعلى أموال فقراء السادة من آل الرسول.
يهتم الشيعة اهتماماً خاصاً بأموال السادة، التي لها امتياز خاص وقد سُلِّمَت أمانتها للفقيه مباشرة من جهة، و إيداعها في فرع مستقل عن أموال بيت مال المسلمين من جهة أخرى. فحول هذه المسألة يقول الخميني : «إن صندوق الدولة الإسلامية ذو جوانب وفروع:فرع تتجمَّع فيه الأخماس، وفرع تتجمع فيه الزكوات، وفرع تتجمع فيه الخراجات وهلمَّ جرَّاً. فقد (تقرَّر) إعاشة فقراء السادة من آل الرسولr من صندوق الأخماس ترفقاً بمقامهم العلي أن يتناولوا من أوساخ الناس -كما في الحديث-و (تقرر) إعاشة سائر فقراء الناس من صندوق الزكوات»([25]). أما إذا زاد السهم المدفوع للسادة أو نقص، فقد «جاء في الأثر أن فقراء السادة إذا زاد السهم المدفوع إليهم عن كفاية عامتهم يردون الزيادة إلى الإمام، وإذا نقص يكمِّلهم الإمام من نفسه»([26]).
بعد أن قمنا بعرضٍ لمقومات نظرية ولاية الفقيه، لا بد من أن نتساءل:أين تلتقي ولاية الفقيه مع النظرية العامة في المعرفة عند الشيعة الإثني عشرية، على المستويين العرفاني، والاتجاهات السياسية وأين تفترق عنهما ؟
بما أن نظرية ولاية الفقيه التصقت، تاريخياً وسياسياً، بالخميني، فهي إذاً نظرية خمينية. واعتمدت في وجوب تطبيقها والعمل على هديها على المفاهيم التالية:
-لا يجوز انتظار المهدي المنتظر، وهو الذي طالت غيبته أكثر من ألف ومائتي عام، لأن غيبته قد تطول مدة مماثلة أو أكثر.
-للاستعمار مصلحة في فصل الدين عن الدولة، وانتظار المهدي لكي يقيم حكومة العدل هو منع رجال الدين من استلام السلطة.
-إن في الإسلام قوانين إلهية ثابتة لتنظيم شؤون الحكومة الإسلامية.
-إن الإسلام يواجه مشكلة تعيين أحد الفقهاء لتطبيق هذه القوانين.
أما بالنسبة إلى مبدأ ظهور المهدي فنجده في صلب نظرية المعرفة عند الشيعة، لأنه لا يجوز أن يطبِّق القوانين الإلهية سوى إمام معصوم، كي لا يقع الحاكم في أخطاء تضعف الثقة في التشريع الإسلامي. لذلك أصبح من الواجب انتظار ظهوره. أما النظرية الخمينية حول ولاية الفقيه فرأت في مسألة الانتظار ثغرتين:
-الثغرة الأولـى: حيث يرى الخميني أن الشيعة انتظروا الظهور مدة طويلة و كافية فأصبح من غير الجائز أن ينتظروا أكثر من ذلك. فأصبحت المشكلة و كأنها مسألة نفاذ صبر، وإذا كان ذلك كذلك فهناك احتمالان لتفسير موقفه هذا:
الأول: أن يكون نفاذ الصبر من الانتظار هو المشكلة فعلاً.
الثاني: أن تكون مسألة الانتظار متعارضة مع القوانين الإلهية، التي توجب تعيين إمام معصوم لتطبيق هذه القوانين، كما تنص عليه العقيدة الشيعية الإثني عشرية.
فإذا كان الاحتمال الأول هو الصحيح، فلماذا طال الصبر إلى مئات السنين ؟ أما كان من الأجدر التوفير على مصالح المسلمين الكثير من الوقت المهدور سدى بسبب نظرية الانتظار ؟
أما إذا كان الاحتمال الثاني هو الصحيح فكيف ينظر الخميني إلى إيمان الشيعة بوجوب ولاية الإمام المعصوم ؟
لا نصوص عند الخميني نستند إليها في التحليل، و إنما طريقنا الوحيد هو تفسير ما يقول، أي قراءة ما بين السطور، فإن ما يريد أن يقوله يُعبِّر عنه بنهج من المداورة و ليس المباشرة كما سنرى.
يرى الخميني، كما نحسب، أن النظرية الشيعية في وجوب ولاية الإمام المعصوم كأساس في نظرية الانتظار (انتظار الإمام المعصوم الغائب) لا تخلو من ثغرات، وأهمها:
-إن الله تعالى لو أراد أن لا يولِّي الحكم إلا لإمام معصوم لما كان عمل على تأخير ظهور المهدي مئات من السنين، و قد تطول المدة أكثر من ذلك؛ فلماذا الانتظار، إذاً؟ أليست نظرية الوجوب في ولاية الإمام المعصوم، كما يدل نفاذ الصبر عند الخميني، مسألة وهمية أو مستحيلة؟
فإذا كان يؤمن فعلاً بوجوب ولاية الإمام المعصوم، وأن ضرورة هذه الولاية ووجوبها منصوص عليه إلهياً، لكان من واجبه كشيعي أن ينتظر ظهور المهدي مهما طال الزمن، وإلا فإن نفاذ الصبر من انتظار تحقق أمر إلهي، هو الوقوع في معصية استعجال أمر الله الذي يكون قد عمل على تأخير الظهور لسبب لا يعلمه إلا هو. و لكن لشك في الإيمان حول نظرية الوجوب في ولاية الإمام المعصوم عجَّل بالتراجع عن ركن من أركان العقيدة الشيعية الإثني عشرية.
-يرى الخميني أن المستفيد من الانتظار هو المستعمر نفسه. و هنا نجد أن الخمينية تغلِّف ضعف إيمانها بنظرية ولاية الإمام المعصوم، و نظرية المهدية، مداورة وليس مباشرة، بقولها إن المستعمر هو المستفيد من الانتظار لأنه يريد أن يفصل الدين عن السياسة بإبعاده رجال الدين عن تسلُّم السلطات السياسية.
تطرح الخمينية هذا السبب لتبرير انقلابها، مداورة، على قواعد المعرفة الشيعية الأساسية، و هذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل كان الاستعمار، الذي يعنيه الخميني، موجوداً قبل العام 148هـ، حينما وضع الإمام الصادق مبدأ التقية ؟ و هل وضع هذا المبدأ ممالأة ومجاملة للوضع السياسي، الذي كان قائماً آنذاك ؟
وهل كان الاستعمار موجوداً في العام 260هـ-التاريخ الذي اختفى فيه الإمام محمد بن الحسن عن الأنظار- أو بعده بقليل ؟ وهل غير الفقهاء الشيعة هم الذين صاغوا نظرية انتظار الإمام المهدي ؟ وهل هناك أي شك بنواياهم السليمة عندما وضعوا هذه النظرية ؟ وهل أسهمت أية جهة معادية للشيعة في وضعها ؟
إن نظرية ولاية الفقيه هي انقلاب على أسس المعرفة الشيعية على الرغم من المنطق التبريري الذي حاول أن يوفِّق قواعدها مع أسس المعرفة الشيعية الأساسية حتى لا تبدو متعارضة مع تراث مئات السنين من الحجج الفقهية لبناء نسق معرفي للشيعة يتميَّزون به عن غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى.
إننا من الذين يرون ضرورة التجديد في الفكر الديني العام، ومنه الفكر الشيعي، وهذا التجديد هو مسألة مطلوبة بإلحاح؛ ومن هنا نرى أنه كان الأجدر بالخمينية ان تطرق باب التجديد مباشرة و ليس مداورة، و أن تطرقه بصورة شاملة و ليس بصورة جزئية؛ فالمدخل الجزئي للتغيير قد يردم ثغرات ليخلق ثغرات أخرى. ويأتي مُحاصَراً من اتجاهين: أولهما أنه لا يتوافق مع التيار المطالب بالتجديد الشامل، وثانيهما أنه لا يرضي التيار المحافظ. فسلبيات التجزيئية في التغيير تأتي بنتائج تفتيتية جديدة في داخل المذهب الواحد لتخلق أسباباً جديدة للصراع.
إنه بعد أن تشك الخمينية بركن من أركان المعرفة الشيعية من حيث إجازتها الخروج من مبدأ بدأت تتضح استحالته، و هو مبدأ انتظار ظهور المهدي؛ و من حيث تحميلها الاستعمار مسؤولية منع رجال الدين من استلام السلطة السياسية، تنطلق في عملية التنظير لمرحلة البناء الجديدة. فيقوم بناء السلطة السياسية الإسلامية-كما ترسمها نظرية ولاية الفقيه- على مسلَّمتين اثنتين:
-وجود الشرائع الإلهية الجاهزة للتطبيق.
-وإحلال الفقيه محل الإمام المعصوم و ذلك بإعطائه سلطات مطلقة، تصل إلى مصاف سلطات الإمام.
كل شيء جاهز للبناء الجديد، فلن يخشى المسلم، بعد تشكيل الحكومة الإسلامية، من أية مشكلة؛ فهو لن يخشى أن يواجه ظلماً ولا جوراً. فليس عليه إلا أن يُسلِّم مصيره إلى السلطات المطلقة، تشريعاً وسلطة سياسية، من دون نقاش أو جدال أو حتى من دون الحاجة إلى استخدام مقدراته العقلية إذا وُجِدَت، لأن كل شيء مرسوم بدقة متناهية؛ فإن ظُلِم المسلم في ظل هذه الحكومة فلخطأ من جنى يديه، وإن لم يواجه مشاكل فلأنه سلَّم أمره لسلطة الفقيه. وهل ما تقول به نظرية ولاية الفقيه إلا استحالة جديدة وانتظار جديد؟
فإذا كان صبر أصحاب نظرية ولاية الفقيه قد نفذ بعد ألف ومائتي عام، فكم هو مطلوب من أعوام الصبر كي تثبت نظرية ولاية الفقيه واقعيتها وصحتها وعدالتها ؟
-التيار الثاني:الاتجـاه المحافظ لا يُجيز الولايـة لغير الإمام المهدي المنتظر
ترى النظرية الشيعية المحافظة أن الولاية تبقى محصورة بالأئمة المعصومين؛ وعلى الشيعة انتظار عودة الإمام الغائب، الذي هو وحده مُكلَّف بتطبيق أحكام الله. ويُعدُّ هذا التيار الأساس في العقيدة الشيعية، فلماذا قمنا بدراسته كاتجاه ثان، إذاً ؟
لأن الأمر كذلك كان من منطق التسلسل أن ندرسه قبل أن نقوم بدراسة نظرية ولاية الفقيه، التي جاءت، زمنياً، بعده. لكن الأسباب المنهجية هي التي دفعت بنا إلى اتخاذ هذا المسلك.
لأن نظرية ولاية الفقيه لم تنل موافقة شيعية شاملة، ولأنها تشكل اليوم محوراً أساسياً في المناظرات الدائرة على الصعيدين الإسلامي العام و الشيعي الخاص، فقد وُجِّهت إليها انتقادات واسعة، و أحدثت حركة اعتراض في داخل الدائرة الشيعية، فانقسم الشيعة بين مؤيد لها و معترض عليها، فكان لا بد من أن نسلك الطريق المنهجي الذي سلكناه، وذلك لكي يطلع قارئ البحث على مضمون الإشكالية موضوع الجدال الدائر قبل أن يقرأ النقد الموجَّه إليها.
يعتقد فقهاء الشيعة الإثني عشرية، أساساً، أن النص على الإمام المعصوم من جهة، وانتظار ظهور الإمام الغائب من جهة أخرى، نابعان من الإيمان بوجوب تطبيق أحكام الشريعة الإلهية بواسطة إمام معصوم من آل بيت الرسول، و ذلك لكي يشكِّل ضمانة لمنع وجود فساد في التطبيق. ويعتقدون، أيضاً، أن كل راية حكم غير راية الإمام المعصوم هي راية بدعة و جور، بمعنى أن الإمام المنتظر لا يظهر إلا إذا امتلأت الأرض ظلماً و جوراً؛ فكل من يتصدَّى للمنكر و الجور فهو يخفف منهما و لا يستطيع إزالتهما إزالة تامة، فهو كمن يرقِّع الثوب البالي، فيطيل عمره بدل أن يمزقه، والذي يخفف من المنكر يؤخِّر ظهور الإمام الحجة.
فالخوئي (ت في أوائل التسعينات من القرن 20 م) -مرجع شيعي أعلى في النجف-مثلاً، لا يجيز القول والعمل بولاية الفقيه العامة، لضعف بعض الأحاديث التي استند إليها الخميني، و البعض الآخر يحسب أن الاستدلال بها لم يكن على الوجه الصحيح.
إذا كان الخميني قد أسَّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية على قاعدة نظرية ولاية الفقيه، فإن بعض العلماء الشيعة الإيرانيين وقفوا ضده، و حسبوا أن هذه النظرية تتعارض مع العقائد الشيعية، ولهذا فقد أصدر أحدهم فتوى دينية يُحرِّم فيها هذه النظرية، وقد جاء في الفتوى ما يلي:
«إن حق إعطاء تشكيل الحكومة الإسلامية عامة من قبل الله تعالى للشخص غير المصون من الخطأ، فمن الممكن أن يصدر الفقيه حكماً غير حكم الله، سهواً وليس عمداً، ومن الطبيعي والقطعي فإن طاعة هذا الحكم غير جائزة». ويضيف، إنه «في كل زمان يوجد عدد من الفقهاء. وإذا تقرَّر أن كل فقيه يشكل حكومة والشعب يطيعه، فإن الأمر سوف لا ينظم المجتمع الإسلامي بل سوف يؤدي إلى ظهور الفوضى في العالم الإسلامي…لأنه في نظر الفقيه فإن المطالب للإسلام و المسلمين مفيدة و واجبة، ومن وجهة نظر الفقيه الآخر مضرَّة وتنفيذها حرام ويجب منعها…ومن وجهة نظر الفقيه الثالث مخالفة لوجهة نظر الآخرين و يجب منعهما، وهكذا في نظر الفقهاء الآخرين. ومثلاً في وجهة نظري [طباطبائي قمي(*)] فإن فتوى ولاية الفقيه، و هذا التوسع والشمول والعمل بها، مضرّ بالإسلام، وهو ضربة للإسلام ووصمة عار لجبين الإسلام والشيعة»([27]).
يستند كل من التيارين، قياساً لمواقفهما من ولاية الفقيه، إلى المصادر الأساسية في العقيدة الشيعية، بينما يفترقان حول الموقف من مرحلة الغيبة:
فالقائل بضرورة الولاية في أثناء الغيبة يضيف إلى بناء المعرفة الشيعية السياسي واسطة رابعة تتمثل بالفقيه الذي يتولَّى السلطة السياسية في أثناء غياب الإمام؛ و هو أقل مرتبة من المصادر الأخرى فيما يختص بالخصوصيات و الملكات الذاتية، بينما يتمتع بالسلطات والصلاحيات نفسها لمن يفوقه في التراتبية.
أما التيار الثاني، أي الاتجاه المحافظ، فإنه لا يجيز أية ولاية سياسية في زمن الغيبة.
فالنظرية الشيعية، إذاً-كما يرى محمد أركون-تركِّز على أن السيادة التشريعية العليا «لا تنتمي إلا لله، ولا يمكن لها أن تجيء إلا منه، وذلك بوساطة النبي والولاية. هنا نجد الخميني يُحْدِث انقطاعاً مع النظرية الشيعية الكلاسيكية، التي تريد أن تُبقي الولاية حكراً على الأئمة، مما يعني تعليق ممارسة وظائفها طيلة فترة الغيبة (غيبة الإمام المنتظر).إن الخميني إذ يخلع الولاية على رجل الدين القانوني الثيولوجي (الفقيه) والمعاصر، فإنه يعيد إدخال ممارستها داخل التاريخ، و هو بالتالي يمحو كل الخلافات التي كانت قد أدَّت بالشيعة إلى أن تعارض السُنَّة بخصوص مسألة الإمامة»([28]).
من هنا لا بد من توجيه السؤال التالي: هل كانت نظرية ولاية الفقيه متأثرة بهدف الوصول إلى السلطة السياسية ؟
من الجائز أن يكون ذلك صحيحاً استناداً إلى أن الفكر السياسي هو جزء أساسي من النظرية العامة للمعرفة عند أي شعب من الشعوب، أو عند أي مجتمع أو جماعة دينية أو سياسية؛ وإن الفكر السياسي يتأثر بالعقيدة الفكرية العامة أو بالعقيدة الدينية، ويؤثِّر فيهما في حركة تفاعلية يغني فيها أحدهما الآخر.
و قد يكون ذلك صحيحاً استناداً إلى ما نعرفه من التاريخ الإسلامي، فيما له علاقة بين السلطات السياسية وبين العلماء والفقهاء، في سبيل أن يُدعِّم كل طرف مواقع الطرف الآخر. أما العلماء و الفقهاء فقد قاموا، في سبيل هذا الغرض، بدور مؤثر من خلال مناظراتهم الفقهية والكلامية لتقوية نفوذ عهد سياسي أو العمل على تهديم عهد آخر.
ولا بد من التساؤل، أيضاً، عما إذا كنا نستطيع أن نؤشِّر على محطة مهمة في تاريخ الشيعة والفرس، أو بمعنى أدق، العلاقة بين المذهب الشيعي والفرس. ففي هذا الجانب -يحسب مونتغمري وات- أن هذه العلاقة عرفت تطوراً مهماً من الزاوية السياسية والتاريخية والأكثر أهمية، عندما تحول المذهب الشيعي للإمامية، في العام 1502م =907هـ ، إلى دين رسمي للدولة الفارسية الجديدة، التي أنشأها الشاه اسماعيل (1501-1524م= 906-930هـ) الذي زعم أنه من نسل أحد الأئمة الإثني عشر، والموقع الدقيق السياسي الديني لشاه فارس في عهد الدولة الصفوية وغيرها لم يخضع لدراسة وافية، فالعوام يعتبرونه، في بعض الأحيان، مقدَّساً أو شبه مقدَّس وتجسيداً لأحد الأئمة الإثني عشر، وفي أحيان أخرى يُشار إليه على أنه ولي الإمام الغائب([29]).
بعد أن استعرضنا مستوى التحولات النظرية التي أحدثتها نظرية ولاية الفقيه في نظرية المعرفة العامة عند الشيعة: إجازتها شرعية الولاية السياسية للفقيه في زمن غيبة الإمام؛ وإلغاؤها مبدأ التقية بعد زوال أسبابه الموجبة في إيران. وهكذا تكون نظرية ولاية الفقيه قد ألغت مبدأين أساسيين تقوم عليهما نظرية المعرفة عند الشيعة الإثني عشرية.
لهذه الأسباب لن يكون هدف التغيير -كما نحسب- إلا هدفاً سياسياً يتطلع، بشكل أساسي، إلى استلام مقاليد الحكم في إيران لتطبيق الشرائع الإسلامية كما يراها أصحاب هذه النظرية من وجهة نظرهم المذهبية.
والحال فإننا نرى -بعد اطلاعنا على حركة الشيعة الفكرية و السياسية بشكل عام، وعلى مضامين هذه الحركة بشكل خاص-أنه من المفيد أن نستخلص بعض الاستنتاجات.
V - إستنتاجـــات
أصبح من الواضح أن للاتجاهات السياسية عند الشيعة الإثني عشرية علاقة مع أصول المعرفة عندهم. وليست هذه الأصول نظرية في الدين فحسب، وإنما هي نظرية في السياسة بمضامين دينية أيضاً؛ ويمكننا أن نوجز هذه المضامين بما يلي:
-أصل المعرفة إلهي، ومصدرها القرآن الكريم؛ يقابلها في السياسة قانون إلهي مرهون تطبيقه بحكم سياسي إسلامي يضمن منع الخطأ في التطبيق.
-ما لم يكن مصدره القرآن في المعرفة، فأحاديث النبي مصدر له؛ يقابله في السياسة أن النبي هو مصدر السلطات كلها.
-ما لم ينص عليه القرآن والسُنَّة النبوية، فمعرفة الإمام -ذات الإلهام القدسي- هي المتمم لهما. ويقابله في السياسة أن وارث سلطات النبي هو المعصوم من آل بيت الرسول.
-ما لم ينص عليه القرآن و السُنَّة النبوية، و ما لم يقله الإمام المعصوم، فللفقيه-نائب الإمام- حق الاجتهاد فيه. يقابله في السياسة أن الفقيه هو وارث سلطات الإمام في الدين والدنيا؛ وما يميزهما عن بعضهما هو بعض الخصوصيات الشخصية و الملكات الذاتية للإمام، ولكنهما يتساويان بصلاحيات ممارسة السلطات الدينية-السياسية.
-يتولَّى الفقيه المجتهد، كما في النظرية الشيعية الإثني عشرية، في عصر غيبة الإمام، شؤون الدين فقط.أما بعد انتشار نظرية ولاية الفقيه فأصبح من صلاحيات الفقيه أن يتولى شؤون الدين والدنيا معاً طالما بقي الإمام غائباً.
اتفق التياران الشيعيان الإثنا عشريان-المحافظ والمجدد-على التراتبية المعرفية بمصدريها (الكتاب والسنة)، و اتفقا على وجوب أن يخلف الإمام المعصوم النبي في قيادة الدولة الإسلامية -دينياً ودنيوياً- لأسباب نقل المعرفة ذات المصدر الإلهي وتطبيق الشريعة الإلهية من دون أي خطأ؛ و لكنهما افترقا، لاحقاً بعد أن طال غياب الإمام المعصوم، بالمضمون: فاستقر أحدهما على الاعتقاد التقليدي بأنه لا يجوز لغير المعصوم، بعد ظهوره، أن يحكم الدولة الإسلامية. أما التيار المجدد فأجاز ولاية الفقيه، على الرغم من أنه ليس معصوماً، طالما بقي الإمام غائباً.
يعمل كل من التيارين لاستلام السلطة السياسية، لكن لكل منهما طريقه المختلف عن الآخر.فالتيار المحافظ يريده طريقاً مثالياً غيبياً إلى حد الاستحالة؛ أما التيار المجدد فيريده واقعياً وعملياً ليخرج العقيدة الشيعية من الطريق المستحيل، لكنه في الوقت الذي حاول فيه الخروج من نفق الاستحالة، من دون أن يعترف باستحالتها مباشرة بل مداورة، يقع أسير طريق وعر وصعب، إذ وقع في تناقض مع نظرية المعرفة الشيعية التقليدية أولاً، وأوقع الفكر الشيعي في استحالة جديدة ثانياً. فكيف حصل ذلك ؟
للخروج من مأزق الغيبة وانتظار ظهور الإمام، لم يكن أمام التيار القائل بولاية الفقيه إلا أن يسلك مسلك التوفيق والتبرير؛ ولهذا وضع للفقيه الوالي شرائط وسلطات وصلاحيات تكاد لا تضع فروقاً بينه وبين الإمام المعصوم.
قد يكون واضعو هذه الشرائط فعلوا ذلك منفعلين بصفات النموذج المثالي للحاكم الإسلامي و هو الإمام المعصوم من آل بيت الرسول. و قد يكونون قد فعلوا ذلك تبريراً لانقلابهم على نظرية الانتظار، إذ عليهم أن لا يأتوا بنموذج للحاكم يقل شأناً عن الحاكم المنتظر في محاولة منهم لكي لا يبتعدوا كثيراً عن النظرية الأم التي تشترط وجود إمام معصوم لا يخطئ.
ولكي تبرر ذاتها، ولكي لا تُظهِر نفسها أنها ابتعدت عن جوهر العقيدة الشيعية، أغرقت نظرية ولاية الفقيه نفسها في إضفاء صفات على الوالي الفقيه، وإعطائه صلاحيات وتحميله مسؤوليات مطلقة يعجز عن حملها إمام معصوم. ولهذا فإن ما جاءت نظرية ولاية الفقيه لتتجاوزه، وقعت في محاذيره؛ وقد تكون المحاذير أشد وقعاً، فقد حاولت أن تنزل من الغيبية إلى أرض الواقع، فإذا بها تعمل على الارتفاع بالواقع إلى مستوى الغيبية المستحيلة.
تبدأ صلاحيات الفقيه باستلام الزعامة العليا، التي تستمد قوتها المعرفية والسياسية من الله تعالى؛ فأمام هذه الصلاحيات الإلهية لا خيار أمام عامة الشعب سوى إطاعة أوامره. أما علم الفقيه، الذي عليه أن يجمع شؤون الدين والدنيا، فلن يكون أقل سعة من اتساع هذه الشؤون؛ وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل لبشر أن يكون جامعاً لهذه الشرائط؟
إذا صحَّ ووُجِدَ من يمتلك تلك الشرائط من آل بيت الرسول-كما يعتقد الشيعة-لكنه لم يتسنَّ لأحد منهم أن يصل إلى استلام السلطة السياسية على الرغم من أن سلسلة الأئمة استمرت، قبل غياب آخرهم، أكثر من قرنين و نصف القرن من الزمن. و لأنه لم يصل أحد منهم لولاية أمر المسلمين، وهذا يعني أن نظرية الشيعة في وجوب الإمامة للمعصوم لم تخضع للتجربة، ولهذا فلن نستطيع أن نحكم على أنها واقعية أم غير واقعية.
وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن بعض هؤلاء الأئمة قد احتلَّ موقعاً مهماً في الفقه؛ فهذا جعفر الصادق، الإمام السادس في السلسلة الإثني عشرية، و على الرغم من أنه كان أستاذاً لمعظم أصحاب المذاهب السُنِّيَّة، فلم يحز الفقه الجعفري على إجماعهم، بل قام كل منهم بتأسيس مذهب إسلامي سني يتناقض مع المذهب الجعفري بأكثر من وجه، ويأتي على رأسها جميعاً مسألة النظر إلى خليفة الرسول.
فإذا كان الآخرون منعوا الأئمة من آل بيت الرسول من الوصول إلى موقع الخلافة، وهم بما يمثِّلون من نسب شريف و علم واسع، بالإضافة إلى تميزهم بالعصمة -كما يعتقد الشيعة- فهل يعترف المسلمون، اليوم، لأحد من عامة فقهاء الشيعة أن يتولى السلطة السياسية بمثل الشرائط و الصفات التي وضعها أصحاب نظرية ولاية الفقيه، وبالكاد يبلغ هؤلاء الفقهاء بعض المستوى الذي بلغه الأئمة من آل بيت الرسول.
إذا لم تنل نظرية ولاية الفقيه إجماع المسلمين فلن يكتب لها النجاح على المدى الطويل، فكيف بالأحرى وأنها لم تنل إجماع الشيعة الإثني عشرية نفسها ؟
وحتى لا يستوقفنا البحث طويلاً أمام الجانب السياسي لنظرية المعرفة عند الشيعة الإثني عشرية، و هو الجانب الحديث فيها، و الذي يبدو أنه استمرار لحالة الخلاف التاريخي منذ نشأة الشيعة حتى اليوم؛ و حيث إن نظرية المعرفة الشيعية لها جانبان: ديني وسياسي؛ ولها وجهتان: وجهة خارجية وأخرى داخلية؛ فلنلق الضوء على أسس الصراع الخارجي بين الشيعة و غيرهم من المذاهب الإسلامية؛ وكذلك على أسس الصراع بين شتى الفرق الشيعية من منظار الأسس العامة للمعرفة لدى هذه المذاهب والفرق.
تستند العقيدة الشيعية في المعرفة إلى كتاب الله و سُنَّة رسوله، و إلى المعرفة الإلهامية القدسية للأئمة المعصومين يتوارثها بعضهم عن البعض الآخر، و قدسيتها أنهم أخذوها عن جدهم رسول الله، الذي تلقاها، بدوره، بواسطة جبريل بوحي من الله تعالى.ومعرفة الإمام متميزة بالعصمة، وولايته على المسلمين جاءت بنص من الله ووصية من الرسول.
من هنا ينطلق أساس الخلاف بين الفرق الإسلامية حول الأصول المعرفية والأصول السياسية، وهو خلاف مدعَّم بالجدل الفقهي، كان بعضه مستنداً إلى نصوص متفق عليها كنصوص، ومختلف عليها تأويلاً و تفسيراً، سواء كانت نصوصاً من القرآن، أو أحاديث وروايات منسوبة إلى الرسول؛ و كان بعضها الآخر مستنداً إلى نصوص يقبلها طرف ويرفضها الطرف الآخر. ويبرِّر كل طرف حججه بالضرورة والمصلحة الإسلامية، وقد يصل اتهام البعض للبعض الآخر إلى حدود التكفير؛ وتجري أحكام التكفير والإلغاء استناداً إلى مُسلَّمات دينية مستقاة من النصوص الواردة في القرآن والسُنَّة.
و في قلب هذا الصراع كان يقف الشيعة طرفاً أساسياً يستلُّون-كما يستل غيرهم-سلاح النص الديني.ولم يقف الخلاف عند حدود فريقين، بل كانت الفرقية متشعبَّة بشكل واضح و لافت للنظر؛ و تسللت الفرقية حتى إلى داخل أسوار التيارات المذهبية المتجانسة؛ فهذا تيار التشيع، الذي ينهل المتشيعون لآل البيت من منهله الواحد، يتشرذم ويتشتت.
ومن هنا، لو كانت النصوص واضحة، على الرغم من أنها ذات مصدر إلهي،كما يحسب المسلمون، لما عرف التشيع تعددية و تشرذماً؛ فهذه الزيدية والإسماعيلية والإمامية وعشرات الفرق الشيعية غيرها هي ذات أساس معرفي واحد قائم على وجوب إمامة آل بيت الرسول، وقد نشأت هذه الفرق في أثناء حياة الأئمة أنفسهم، ولم يتدخل-إلى حدود ما وصل من مصادر- أحد من هؤلاء الأئمة إلى حسم الجدل القائم بين الفرق الشيعية؛ فكان الانشقاق يحصل بين الأخوين من أب واحد وأم واحدة، أو بين العم وابن أخيه… فعن الخلاف الذي حصل بين محمد الباقر -الإمام الخامس عند الشيعة الإثني عشرية- وبين أخيه زيد، وكلاهما ولدان لزين العابدين، فنشأت عن هذا الخلاف الفرقة الزيدية([30]).
وعلى قاعدة الخلاف بين أصحاب اسماعيل، و أصحاب موسى الكاظم، ابنا جعفر الصادق، الذي أوصى لابنه موسى الكاظم بعد موت ابنه اسماعيل، تأسست الفرقة الإسماعيلية ([31]).
لم يكن النص واضحاً في استخلاف الأئمة عند الشيعة و إلا لم يكن الخلاف ليقع بينهم، فتتعدد فرقهم. ونحسب أن الخلاف، حتى بين الأخوة، لم يكن لأسباب دينية خالصة، بل قد تكون وراءه أسباب سياسية أو فكرية أو شخصية أو عدم وضوح في النص -على الأقل غياب وحدة الرؤية في طريقة الاستخلاف عند الأئمة أنفسهم- وهذا يمكن استجلاؤه ببحث مخصص لتاريخ و عقائد مختلف الفرق الشيعية. و إلى أن يحصل ما نتمنى سوف تبقى أسئلة في النفس ليس لها توضيحات تفي بالغرض المطلوب.
ففي الصراع الساخن الذي كان دائراً بين شتى المذاهب الإسلامية، أو بينها و بين السلطات الإسلامية السياسية، و الذي كان حاداً و عنيفاً ودموياً، اندفع الشيعة إلى ابتكار مباديء سياسية تتناسب مع حدة الصراع و عنفه، و كانت تسبغ عليها شرعية دينية بالنص و التأويل. فكان من جملة تلك المباديء، التي وضعها جعفر الصادق، مبدأ (التقية). ولقد اختلف أئمة الشيعة حول شرعية هذا المذهب أو لا شرعيته، فهل هذا المبدأ سياسي أم ديني ؟ هل هو مرحلي أم استراتيجي ؟ متى يأخذ الشيعي بهذا المذهب و متى يتخلى عن ممارسته ؟ هل هو مسلَّمة دينية يصلح تطبيقه في كل زمان وكل مكان ؟
عدَّ الفكر الشيعي الإمامة مسألة أساسية طبعت اتجاهات الشيعة السياسية بمميزات خاصة سواء على صعيد صراعهم مع الآخرين أو على صعيد منطلقاتهم الفكرية. وحتى إنه لو لم تشكل هذه المنطلقات نظريات متكاملة متفق على كامل أسسها بين شتى الفرق الشيعية، فإن ا لنظر إليها من زاوية معتقداتهم في مسألة الإمامة يعطيها أهميتها و موقعها، وتأتي إشكالية مبدأ التقية في صلب هذا الاهتمام.
كانت الزيدية من الفرق التي عدَّت هذا المذهب لا شرعياً. وكانت الأكثر اعتدالاً- بالنسبة إلى مواقفها من صحابة الرسول-بين الفرق الشيعية، فهم قد ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة، سواء كانوا من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين. وأقروا بشرعية خلافة أبي بكر و عمر، وإن كان علي-حسب اعتقادهم-أفضل منهما.ولم يقروا سياسة محمد الباقر، و ابنه جعفر الصادق، بالاكتفاء بالإمامة الروحية من دون إعلان الثورة. و قالت الجارودية، إحدى الفرق الزيدية: «من ادعى منهم الإمامة و هو قاعد في بيته مرخي ستره عليه فهو كافر مشرك؛ وكل من اتبعه على ذلك، وكل من قال بإمامته»([32]). و قال زيد بن علي: «ليس الإمام منا من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من أشهر سيفه»([33]).
أما الشيعة الإثني عشرية فعدَّت التقية أنها مسلَّمة دينية قال بها جعفر الصادق- ابن أخ زيد-واستناداً لمبدأ طاعة الإمام أصبحت جماهير الشيعة ملزمة بالتقيد بها.
فالتقية هي، إذاّ، مبدأ ديني، وتتضمن ضرورة الإلزام حتى لو كان الدافع إليها سياسياً -أمنياً، وهو الاحتماء من الخصوم؛ فكان من أهم تأثيراتها فصل الدين عن الدولة. ولهذا حسب عدد من الفقهاء المعاصرين أن مبدأ التقية يصب في مصلحة الحاكم الجائر، بسبب ابتعاد رجال الدين الشيعة عن التفكير في إقامة حكم إسلامي انتظاراً لظهور الإمام المهدي، كما و يصب في مصلحة الاستعمار الأجنبي؛ لهذا السبب دعوا تلميحاً لمحاربة التقية، وكان الخميني هو رائد هذا الاتجاه؛ و كانت دوافع هذا الاتجاه هي إزالة عوائق النص من على طريق فقهاء الشيعة لإحداث ثورة هدفها استلام السلطة في إيران.
فسواء كانت الدوافع للاعتقاد بمبدأ التقية سياسية أم دينية، فهو مبدأ جدير بالمناقشة لما يتضمن من أهمية في مجريات الاتجاهات السياسية عند الشيعة، و لما له من دوافع الرفض الشيعي الدائم لأية سلطة سياسية غير سلطة الإمام المعصوم.
فإلى من آمن بها كمبدأ ديني على قاعدة(من لا تقية له لا دين له)، نسأل: هل كان هذا الاعتقاد محدداً بظرف ومكان معيينين ؟ وهل يمكن تجاوزه بعد أن يصبح طريق الثورة سالكاً وشروط نجاحها مضمونة، أم أن إلغاءها مرهون بظهور المهدي المنتظر لأنه من غير المشروع-دينياً-عند الشيعة أن يقوموا بأية ثورة قبل الظهور ؟
من هنا نحسب أن هناك تلازماً وثيقاً-عند التيار الشيعي المحافظ-بين مبدأ التقية وبين مبدأ الظهور.لكن هذا الأمر لم يكن واضحاً منذ أن وضع جعفر الصادق هذا المبدأ، لأنه عندما وضعه لم يحدد ظروف إلغائه، بل جاءت صيغته مطلقة غير مقيدة بأية شروط، ويتغير الأمر فيما لو قيل: ( من لا تقية له لا دين له إلا إذا…). فهل في هذا الغموض ما يدفعنا إلى الافتراض التالي: إن إلغاء مبدأ التقية يتم بزوال الظروف التي فرضته ؟ ولكن ما هي تلك الظروف ؟
إن ضروب المحن التي تعرَّض لها الشيعة هي التي فرضت القول بالتقية؛ لكن لم تبدو أية نهاية لهذا الصراع منذ ألف أربعماية سنة تقريباً. ولم يكن الصراع يجري، في كل زمان ومكان، بالحدة و العنف ذاتهما، فكان يخف تارة و يعنف تارة أخرى. فإلغاء مبدأ التقية-كما نحسب- مرهون بتوفير الظرف الملائم لاستلام السلطة السياسية، وهذا الظرف الملائم لن يكون ملائماً إلا قياساً إلى نظرية المعرفة الشيعية، وهذه بدورها لم تبق واحدة منذ عصر جعفر الصادق وصولاً إلى العصر الذي اختفى فيه الإمام الثاني عشر.
ففي عصر الصادق كان العائق ملموساً ومرتبطاً بإمكانية إسقاط النظام الظالم السارق لحق آل بيت في الخلافة؛ أما في عصر ما بعد غياب آخر الأئمة في السلسلة الإثني عشرية فأصبح مرتبطاً بالغيب الذي لا يعلم إلا الله متى يضع حداً للغيبة ويسمح بالظهور.وهذا ما سوف يعيق الحركة السياسية إلى أجل غير منظور عند التيار الإثني عشري المحافظ. أما عند التيار المجدد-القائل بولاية الفقيه-فمرهون بتوفر الظروف المناسبة للثورة.
فإذا كانت الفرقة الزيدية قد هاجمت القول بمبدأ التقية وقامت بثورتها ضد الأمويين في الوقت الذي لم تكن فيه إشكالية الغيبة و الظهور قد بدأت في الفكر الإثني عشري، فها هو التيار المجدد في الوقت الراهن يهاجم مبدأ التقية لكنه مكبًّل اليدين من جراء وجود إشكالية الغيبة والظهور.
ففي الحالتين: انتظار نضوج الظروف المناسبة للثورة، أو انتظار ظهور الإمام الغائب، ستبقي حالة الرفض الشيعية لكل نظام إسلامي سياسي أو غير إسلامي قائمة؛ وحالة الرفض تلك ستُبقي على مبدأ التقية أسلوباً من أساليب المواجهة السلبية السياسية المستندة إلى أساس ديني مدعَّمٍ بالنص الإسلامي.
وسواء التجأ الشيعة الإثني عشرية إلى الخلاص من هذا المبدأ، بإلغائه، أم استمروا بتثبيته، فالنتائج واحدة، لأنه في اتِّباع إحدى الوسيلتين نكون كمن ينقل الصراع من الأسلوب الصامت إلى الأسلوب الصاخب، و العكس صحيح أيضاً. فليست المشكلة في إلغاء هذا المبدأ أو ذاك من المبادئ المذهبية عند شتى الفرق والمذاهب الإسلامية، لأن المشكلة المذهبية ليست محصورة عند هذا المذهب أو ذاك بمفرده، و إنما المطلوب - كما نحسب- هو النظر الشامل في كل البنى المذهبية الإسلامية على حد سواء؛ و تأتي المضامين الفكرية المذهبية على رأس الأولويات في النقد والمراجعة.
________________________________________
([1]) المنتظري: دراسات في ولاية الفقيه (ج1): الدار الإسلامية للطباعة: بيروت: 1988: ط2: ص421.
([2]) م . ن : ص 422.
([3]) الخميـني: م . س : ص 42.
([4]) م . ن : ص 31-32.
([5]) م . ن : ص 137.
([6]) م . ن : ص 50.
([7]) م . ن : ص 35.
([8]) المنتظري: م . س : ص 423.
([9]) الخمـيني : م . س : ص 35.
([10]) م . ن : ص 54.
([11]) المنتظري: م . س : ص 423.
([12]) م . ن: ص404-405. راجع، أيضاً: الخميني: م. س: ص61.
([13]) م . ن : ص 408.
([14]) م . ن : ص 420.
([15]) الخمــيني: م . س : ص 50.
([16]) م . ن : ص 51.
([17]) م . ن : ص 51.
([18]) المظفر، محمد رضا: م . س : ص 69.
([19]) الخمــيني:م . س : ص 51.
([20]) م . ن : ص 151.
([21]) م . ن : ص 60.
([22]) م . ن : ص 60.
([23]) م . ن : ص 55.
([24]) م . ن : ص 60.
([25]) م . ن : ص 38.
([26]) م . ن : ص 39.
* حسن طباطبائي قمي هو من العلماء الشيعة البارزين في إيران؛ وقد اتخذ سلسلة من المواقف المعارضة للخميني؛ وفُرِضَت عليه الإقامة الجبرية في منزله في مشهد. وفي أول تشرين الأول/أوكتوبر1987، أصدر هذه الفتوى باللغتين الفارسية والعربية.
([27]) قمـي، حسن طباطبائي: «نص الفتوى التي أغضبت الخميني»: مجلة الوطن العربي: باريس: العدد (43-569): تاريخ8/1/1988.
([28]) أركـون، محمـد:م . س : ص 184.
([29]) وات، مونتغمري: م . س : ص 150-151.
([30]) اعتقدت الزيدية أن الإمامة تكون لمن أشهر سيفه في وجه البغي والظلم كما فعل زيد، وقُتِل في أثناء قيامه بالثورة على الأمويين في العام 122هـ؛ أما أخوه محمد الباقر فلم يخرج للمعركة.
([31]) اعتقدت الفرقة الإسماعيلية أن الإمامة تكون في الولد الأكبر لحعفر الصادق وهو اسماعيل ولابن اسماعيل من بعد وفاته؛ ولما توفي اسماعيل قبل والده جعفر الصادق أوصى والده بالإمامة، من بعده، لابنه موسى الكاظم.
([32]) الليثي، سميرة مختار: جهـاد الشيعـة: دار الجيل: بيروت: 1978: ط2: ص93.
([33]) المازندراني ، محمد بن علي(ت سنة 588هـ=1192م):مناقب آل أبي طالب:نقلاً عن: إيبش، يوسف: الإمام والإمامة عند الشيعة: دار الحمراء:بيروت:1990:ط1:ص63.