نظرة من قرب على "الليبرالوية"
نقاش مع الزميل طارق مع الاعتذار مقدما عن بعض الفذلكة اللغوية
ليس مهماً أن نصف الليبرالى بما هو ، يمكننا أن نصفه بما ليس هو فنقول : الليبرالى ليس مؤدلجاً وليس ثورياً .
ليس مؤدلجاً : لا يملك "نظرية" مُحكمة التكوين ومكتملة الأركان لا ينقص سوى إسقاطها على المجتمع كتلك التى يملكها الشيوعى أو الإسلاموى مثلاً ، وعوضاً عن ذلك يملك الليبرالى بعض المثاليات العامة وبعص الحساسيات والميول المزاجية ، وحتى هذه المثاليات تبقى فى خانة الترجيحات ولا تصل ابداً إلى مستوى الإيمان المطلق ، فالليبرالى "يؤمن" بالديمقراطية مثلاً ولكنه غالباً يؤمن بها كوسيلة لتحسين الحياة أثبتت نجاحها فى قيادة بعض المجتمعات إلى التقدم ، ولكنها (الديمقراطية) ليست أقنوماً مقدساً وليست خشبة خلاص ستحيل ظلام ليلنا نوراً ساطعة بين عشية وضحاها ، الديمقراطية جيدة لأنها افضل من غيرها ولكنها تبقى منتجاً بشرياً فيه كل ما فى البشر من أوجه قصور وعيوب ولأنها كذلك فهى قابلة للتجزئة ، فهناك ربع ديمقراطية وثلث ديمقراطية ونصف ديمقراطية و 50 جراما ديمقراطية لكن لا يوجد ابداً ديمقراطية كاملة فالكمال ليس من صفات البشر كما هو معروف .
ليس ثورياً : طبعاُ ، فثورة تحدث فى عدة ساعات أو عدة أيام يمكن لها أن تنتهى إلى أسلمة المجتمع وتطبيق الشريعة أو تأميم الممتلكات الخاصة وتنصيب نظاماً شيوعياً مثلاً ، لكن أى ثورة تلك التى تستطيع أن تفرض على المجتمع قيم الحرية والمساواة والعدالة واحترام الحريات الفردية بما فيها حريات الفكر والتعبير والعقيدة ؟؟؟ وحتى لو أزالت الثورة نظاماً استبداديا يبقى ما بعد إزالة النظام غير مضمون فى أحسن الأحوال ومفتوح على أوضاع أسوأ من الاستبداد المندحر فى أسوأها . المزاج الليبرالى بطبعه وبتعريفه إصلاحي تدريجى متنبه لظروف وطاقة المجتمع وهو أبعد ما يكون عن روح المجازفة والرهان على المجهول . فخطوات صغيرة نحو الأمام أفضل وأكثر أمانا من قفزة لا نعرف إلى أين تقودنا .
والليبرالوى هو بالضبط بالضبط ماليس هو الليبرالى : الليبرالوى مؤدلج وثورى
مؤدلج : اختطف بعض الطروحات الليبرالية ونزعها من طابعها الترجيحي النسبى ليحولها إلى مطلقات إيمانية تشبه مطلقات الدين ، فلم تعد الديمقراطية وسيلة لتحسين الحياة بل عقيدة خلاص وهى بصفتها تلك لم تعد قابلة للتجزئة مثلها مثل العقائد فهى عند هؤلاء القوم كل متكامل إما أن تأخذه كله أو تتركه كله ، ولن تجد ليبرالوياً يطالب بخطوة جزئية كإلغاء حالة الطوارىء فى بعض البلدان العربية أو تحسين إجراءات الانتخابات التشريعية أو تعديل نص قانونى أو دستورى هنا أو هناك ، كلا وألف كلا فإما الديمقراطية كاملة غير منقوصة وحالاً وفوراً وإلا فلا ، وينطبق ذلك على الحريات لن تجدهم يطالبون بإلغاء قانون محدد معروف نصه يرونه معرقلاً لحرية التعبير مثلاً ، كلا والف كلا فإما الحرية كاملة غير منقوصة وإلا فلا ، والمرأة عندهم قابعة فى جحر مظلم تنتظر من يمد لها يده .
وهل فينا من يعترض على الديمقراطية والحريات "كاملة غير منقوصة " ؟؟ ابداً ، لكن الليبرالى يعرف أن الأمر مرهون فى النهاية بمجتمع له ظروف ولديه طاقة يجب أن تكون الحركة فى إطاريهما وبما يسمحان به دون مجازفة هى دائما خطرة .
ثورى : طالما تحولت مفاهيم الليبرالية إلى عقائد فهى بالنتيجة ستبحث لنفسها عن طريق ثورى وهو الطريق الأثير عند أهل العقائد ، وشان كل أصحاب العقائد لا يلتفت الليبرالويون كثيراً لتفاصيل احوال المجتمع الواحد ولا للفروق بين المجتمعات ، فلا فرق عندهم بين اليمن القبلى ومصر الزراعية ، ولا السعودية "المسلمة" وسوريا التعددية ولا المغرب المستقر والجزائر المضطربة ، فالعقائد فى كل الأحوال "صالحة لكل زمان ومكان" .
ويكون تعريفى لليبرالوى : هو مثقف رومانسى أدلج الليبرالية وثوّرها .
تعريف اخر : هو ليبرالى حديث عهد بالليبرالية ويلزمه مزيد من المعرفة لينضج .
تعريف ثالث : هو مثقف مفتون باللييبرالية ولكنه غير مستوعب لها .
ومعنا مقالة لليبرالوى نموذجى ، لنتوقف مع فقرات كاشفة منها :
اقتباس:يُطلق بعض النقاد والمفكرين على العصر العربي الحالي، بأنه كعصر القرون الوسطى المظلمة.
العصور الوسطى ؟؟
هل يقصد العصور الوسطى الأوربية الشهيرة والتى كف أهلها عن وصفها بالـ "المظلمة" ؟؟
لا ، الرجل يقصد عصور وسطى عربية ، أهوه :
اقتباس:وهل حقاً يعيش العرب الآن في ظلام كظلام القرون الوسطى، رغم مظاهر المدنية العربية التي تتشبه بالمدنية الغربية – رغم احتجاج ومعارضة المؤسسات الدينية على ذلك - من حيث استخدام الطائرات والسيارات.....
أم أن العرب أخذوا من الغرب فقط كل ما يمكن أن يُستهلك ويُستعمل وهو المأكول، وتركوا لهم العقل وحُسن الإدارة والحرية والديمقراطية وهو المذموم.
هل سمع أحد احتجاج "المؤسسات الدينية" على استخدام الطائرة والسيارة والانترنت ؟؟
أنا لم اسمع ، لكن نَسب أكبر قدر من الشرور للمجتمع هو ديدن اصحاب عقائد الخلاص
وفى الواقع العرب أخذوا من الغرب أكثر بكثير من "كل ما يستهلك ويستعمل وهو المأكول" ، أخذوا المدرسة والجامعة والمطبعة والسنما والمسرح والموسيقى والرواية والطب والهندسة والزراعة وغيره وحتى الاستبداد أخذوه من الغرب .
اقتباس:في السياسة كان الحاكم في القرون الوسطى هو الحاكم المطلق ، صاحب الحق الالهي، لا يحاسب ولا يعاقب. فلم نشهد في التاريخ العربي كله منذ ظهر الإسلام حتى اليوم وما قبل الإسلام، أن جرت محاكمة لحاكم عربي أساء استخدام السلطة، ونهب المال العام، واستبد، وطغى ما عدا الحاكم المطلق صدام حسين، الذي تجري محاكمته الآن في العراق، بعد أن خرج العراق من ظلام القرون الوسطى الى أنوار العصر الحديث،
تأمل العبارة الحمراء : "خرج العراق من ظلام القرون الوسطى إلى أنوار العصر الحديث"
يا الهي فى فترة شهر واحد هى الفترة التى استغرقها إزالة نظام صدام حسين انتقل العراق من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة مرة واحدة وللأبد . أنه الخلاص الذى جاء ، النور الذى دحر الظلمة وقلب الأمور من حال إلى حال فى لمح البصر ، فى أسابيع معدودة قفز العراقيون القفزة العظمى .
طبعا واضح أن هذا كلام فارغ فلا العراق كان يعيش فى القرون الوسطى ولو هو انتقل إلى "أنوار العصر الحديث" ، أضف إلى ذلك أن وضع العراق الآن إن كان له اى تأثير على نظم الاستبداد العربية فهو تأثير "إيجابي" للغاية فبعض هذه النظم بالفعل بدا يقول للأمريكان وغيرهم : ألم نقل لكم أن شعوبنا ليست جاهزة للديمقراطية ، ها هو الدليل أمامكم فى العراق!!
[QUOTE]في تاريخ القرون الوسطى المظلمة – وهنا القرون الوسطى لا تعني التوسط الزمني ولكن الوضع الظلامي السائد في أي عصر- قرأنا، أنه عندما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة قال المؤرخ السيوطي في (تأريخ الخلفاء ص219، 246 ) أن يزيد "أتى بأربعين شيخاً شهدوا له أن ليس على الخلفاء حساب ولا عذاب" .
وفي القرون الوسطى المظلمة الجديدة – أي في عصر العرب الحديث – سمعنا علانيةً، وعلى شاشة التلفزيون في 1976 الشيخ محمد متولي الشعرواي – وكان وزيراً للأوقاف – يقف في مجلس الشعب المصري مخاطباً الرئيس السادات بقوله:
"والله لو قُدر لي أن اقول لك إنك لا تُسئل عمّا تفعل، لقلتها لك".
فى هذه الفقرة الإنشائية (وتكملتها فى نص المقال) يربط شاكر بين استبداد نظام الخلافة القديم ونظم الاستبداد العربية الحالية على اعتبار أن الثانية امتداد للأولى ، وهذا تصور سطحى متعجل فى تقديرى ولكنه يليق بليبرالوى ضليع ، ربما نظرة أعمق للأوضاع تكشف لنا مثلاً أن نظام صدام حسين اخذ عن الستالينية أو عن نظام شاوشيسكو فى رومانيا أكثر بكثير مما أخد من يزيد ابن معاوية وكذلك الأمر مع باقى الاستبدادات العربية ، هى استبدادات حديثة وليست قروسطية ولا ننسى أن هذه النظم هى نفسها ـ وللأسف الشديد ـ رافعة التحديث الأهم فى مجتمعاتها ، لا بل إن بعض النظم العربية يجازف بالصدام مع مجتمعه من أجل فرض تحديث ما على المجتمع ، وهذا ليس مدحاً فى هذه النظم ولكنه أقرار بواقع ، واقع على قدر من التعقيد يلزمه نظرة متأنية وليس كلاما سبهللة فارغ مثل هذا الذى كتبه ويكتبه شاكر وإخوانه .
اقتباس:والعراق وحده الآن بما فعل منذ التاسع من نيسان 2003 إلى الآن وبمحاكمته لصدام الذي ظهر كراعي الأغنام، هو الذي قفز على الخطوط الحمراء والسوداء والخضراء، ونطَّ على الحبال، واجتاز العوائق والسدود، وعبر الحدود من ظلام القرون الوسطى السياسي إلى أنوار العصر الحديث.
يا راجل اتكسف على دمك :D
اقتباس:في الحالة الاجتماعية، لم يكن للمرأة العربية في القرون الوسطى المظلمة صوت ولا خبر ولا دور.
كانت ماكينة نشطة للخَلَف والعَلَف فقط.
قضية المرأة مثل الديمقراطية هى قضية ليبرالية اختطفها الليبرالويون ولكنهم طبقوا عليها نفس النهج الخلاصى ، فالمرأة هى جزء من واقع المجتمع الحالك الظلمة ، والأثنان ـ المرأة والمجتمع ـ ينتظران النور ، ينتظرة لحظة الانعتاق ليقفزا معاُ إلى "أنوار العصر الحديث" . والمرأة مثلها مثل المجتمع مجرد رمز يتخبط فى الظلام انتظاراً للفجر الموعود .
اقتباس:ففي 11/6/2004 ألقى إمام الحرم المكي الشيخ سعود الشريم خطبة الجمعة، قال فيها تعليقاً على الحوار الوطني الدائر الآن في السعودية لاعطاء المرأة جزءاً من حقوقها العامة:
"أصبحت قضية المرأة الشغل الشاغل للكثيرين والحديث....الخ".
وهناك سعوديون كثيرون وسعوديات كثيرات قالوا وقلن كلاماً مختلفاً وما زالوا يقولون ويقلن ، فلماذا اصطياد كلمة الشيخ حصراً ؟ هل من العيب أن يشير الكاتب إلى أصوات نسائية (ورجالية) شجاعة تتبنى قضايا المرأة فى العالم العربى وهو يتحدث عن هذه القضايا ؟؟ إذا كان ليبرالويا فلن تكون الإشارة إلى أى بارقة أمل أو شىء إيجابى فى البلدان العربية عيباً فقط بل ستكون "حراماً" بل من "الكبائر" ، فالأنبياء والرسل لا يمدحون شيئاً فى المجتمعات المرسلين إليها وإلا فما قيمة رسالتهم ، لابد أن يكون المجتمع "جاهليا" مظلماً حالك الظلمة ليحق عليه أمر الرسالة . والليبرالويون ليسوا إصلاحيين ينشدون دفع الواقع خطوة أو أكثر نحو الأمام ، بل أنبياء ومبشرين اصحاب رسالات .
اقتباس:فلا يوجد في كافة الحضارات، ولا في كافة الأديان، ولا في كافة الثقافات، من احتقر المرأة كما احتقرها العرب - ولا نقول المسلمين - في القرون الوسطى المظلمة، وكما احتقروها الآن في القرون الوسطى المظلمة الجديدة.
انظر إلى هذا التعميم الفارغ ، والتعميمات (وغالبها فارغ) هو من سمات الليبرالويين المؤكدة ، فالتخصيص يحتاج لتفاصيل والتفاصيل تكشف فروق واختلافات وتعقيدات ، وهم لا يحبون هذه الأمور فالكفر ملة واحدة والسلام وكلما كان المجتمع كتلة صماء مظلمة تلخصها عدة أحكام تعميمية كان أكثر ملائمة للـ"رسالة" ، ثم يورد شاكر بعض الاقتباسات من كتب التراث بطريقة نصية مدرسية بالغة الرداءة .
وبقية المقالة لا تستحق حتى القراءة (لكن لابد من قراءتها لنحكم بأنها لا تستحق القراءة)
هذا هو المنحى العام لليبرالويين ، يطرحون قضايا هامة جداً من حيث المبدأ ولا نختلف ابداً معهم فى أهميتها ولكن رعونتهم واستخفافهم وتواضع خلفياتهم الفكرية يحول هذه القضايا الهامة إلى عدة شعارات فارغة ، فجميعهم يثرثرون كثيراً عن الديمقراطية والحرية والمرأة ، ولكن لا احد فيهم ـ حسب علمى ـ قد اضاف فكرة جديدة لمعارفنا وثقافتنا الخاصة بهذه الأمور ، وقديماً قال أحدهم أن المواضيع التافهة قد تصير عظيمة على أيدي العظماء والعكس صحيح .
أرجو أن أكون قد اقتربت بعض الشىء من "الصنف" .
تحياتى (f)