في الدفاع عن النقاب: أنا طائفي!
نبيل فياض - كلنا شركاء
22/ 07/ 2010
http://all4syria.info/content/view/29636/70/
ليست " عودة الابن الضال " الذي اكتشف بعد سلسلة طويلة من الإحباطات والإنكسارات والهزائم أن الخروج من الجلد يُعرّي وأن من يستفز طائفته ويهاجمها، مهما صفّق له " طائفيو " القبائل الأخرى، لا يمكن أن يفيد أو يدفع نحو مجتمع مدني بلا طوائف؛ بل لقد أثبتت التجربة الشخصيّة التي عشتها بين الإثني عشريين بين لبنان وسوريّا، أن الطوائف الأخرى تريد استخدام واحدنا كي يشتم طائفته لحساب متطرفي تلك الطوائف؛ لتنمية الغرائز الطائفيّة عند رموز الطوائف الأخرى التي تأخذ موقفاً غير منطقي في طائفيته من انتماء الآخرين.
سنوات طويلة مضت على خروجي من كل أصناف الطوائف. كان نوعاً من الخداع الذاتي الأغبى حين يفكّر واحدنا أن الهجوم على الانتماء الذاتي يمكن أن يخرج الآخرين من قواقعهم. أذكر مرّة، وكنت في مطرانيّة الروم الأرثوذكس في حمص عند المطران الصديق ألكسي عبد الكريم، جاءه رمز من أهم وجوه الشيوعيّة السوريّة: أراد تعميد أولاده. كانت الجملة-الكارثة التي استعملها الرفيق الشيوعي الأرثوذكسي إياه: أريد هويّة لأولادي. من حقّه أن يبحث عن هوية أرثوذكسيّة لأولاده؛ لكن ليس من حقّه أن يلعب بعقول الناس عبر ادعاء علمانيّة كاذبة مغلفّة بسلوفان ماركسي.
في الصراع الذي حدث في التسعينات بين حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين بسبب بعض آراء للأول تتناقض مع ما يقوله الإثنا عشريون، اتصل بي أصدقاء وأقارب للطرفين، وطلبوا مني الدخول في المعركة مع هذا الفريق أو ذاك. ووصلت القصة إلى تقديم الفريقين لمعلومات صالحة للنشر، يمكن وصفها بالخادشة للحياء. ورفضت الدخول في المعركة. أذكر تماماً أن شيخاً يميل إلى أحد الطرفين، ذكر لي أن الشيخ فلان قبض من رفيق الحريري مبلغ خمسين مليون دولار لغايات كذا وكذا. وكان حديثنا في بيتي في غرفة قريبة من الشارع. مرّ فجأة شخص إثنا عشري يقول إنه صديق؛ سمع الكلام. وكانت ثورته على الشيخ عارمة: الرجل ليس منّا! قال الشخص الذي يقول إنه صديق! رد الشيخ: لكن هذا الانسان ( يقصدني أنا ) خدم الشيعة الإثني عشرية كما لم يخدمها أحد قبله. رد الآخر: يظل سنيّاً!!
مع غير الاٌثني عشريين الكوارث لا تنتهي. الربط بين الطائفيّة والانتماء الوطني جعل واحدنا بحاجة دائمة لأن يقدّم وثيقة حسن سيرة وسلوك كي يصدّقوه. وكل ما حاربنا لأجله؛ لأجل مجتمع بلا طوائف؛ لأجل وطن بلا قبائل – ينهيه بين ليلة وضحاها أي حديث عن ممارسات بعينها في أجواء من تلك المسماة بالرسميّة! لقد أنهى شاب لتوه خدمة رسمية وجاء يحكي لي عن تجربته. تألمت حتى البكاء. تمنيت فقط لو أن القدر لم يرم بي في هذا البلد...!! حتى في البحث والعمل الثقافي، الهوية الطائفية تحدد إمكانية أن تصبح من رموز البلد الثقافية ( حتى وإن كنت نكرة هائلة ) أو تظل منكراً في وطنك ( حتى وإن اعترف بك العالم )!
أنا طائفي ولا أخجل:
الكل يقولون إنهم غير طائفيين، ويتصرفون طائفيّاً. الكل يدعون الانتماء الوطني ولا يعيشون غير الانتماء الطائفي في أقذر صوره. هذا الوطني الغيور يحارب ابنته لأنها فكّرت بالزواج خارج الطائفة؛ وهذا المثقف التقدمي يضرب أخته لأنها أحبت من خارج الملّة. من هنا، نحن طائفيّون. إذا كانت التقدميّة والوطنية على شاكلة ما يتحفنا به البعثيون من سلوك عملي، نحن رجعيون وطائفيّون حتى النخاع!! من هذا المنظور أقول بلا تردد: أنا أكتب أولاً للسنّة!! يقرأ لي غير السنّة؟؟ الأمر لا يعنيني كثيراً!! السنّة – للأسف – تعرّضوا، خاصة في الآونة الأخيرة بفعل المال الخليجي والعقل المصري، إلى أكبر عملية خطف حضاري عرفها العالم. لقد خطفهم الجهل والتخلف وبالتالي الفقر والإرهاب. وبما أن انتمائي الإنساني إلى هذه الطائفة لا يخالجه شك، أشعر أني نبيها الحي؛ أني الشخص الذي طلب منه الإله أن يخرجها من العتمة إلى النور؛ أن يهرب بها من هذه الجاهلية المتكلسة.
الدول تريد تجهيل السنة: لأن الجاهل أسهل حكماً من العالم. لكن الدول التي تريد من السنة أن يقبعوا في غياهب الجهل، تحاسبهم بأفظع أنواع العقوبات إن هم تجاوزوا الجهل إلى التطرّف وبالتالي الإرهاب. الجهل يخدم الحكام، لكن الإرهاب يرهبهم. في السعودية كان مسموحاً للوهابيّة سيئة الصيت أن تنشر جهلها وقاذوراتها على كل الأرصفة، لكن الحكام لا يمكن أن يسمحوا للوهابيين أن يجنحوا إلى الإرهاب. وبين الجهل والإرهاب خيط رفيع لا يمكن لأحد أن يراه.
هل جينات السنّة غير جينات باقي طوائف المنطقة؟ هل أن قدرهم " جينياً " أن يكونوا إرهابيين ومتخلفين وفي قاع المدينة حضاريّاً؟ لكن التاريخ يخبرنا أن سنّة المنطقة كانوا في غالبيتهم من غير المسلمين؛ بل إن كثيراً من مناطق سوريا ولبنان تضم عوائل وأسر منقسمة على نفسها بين سنّة وغير سنّة. فلماذا الطرف السني من عائلة بعينها متخلّف فقير، والطرف غير السني العكس؟ لوبي ده فيغا يقول: أنا أكون أنا وظروفي. الظروف يمكن أن تجعل من كيني سوداني الأصل، كأوباما، رئيساً لأمريكا؛ الظروف يمكن أن تجعل من سوري اسمه ( المستعار ) كريستوف لوكسنبورغ أهم باحث ألماني في علوم القرآن. لوكسنبورغ، لو عبس في وجهه القدر وبقي في سوريا، لانتهى في إحدى القرى النائية ( الباحث لا يستطيع مجاملة المسئولين كي لا يحتقر وجهه في المرآة )، يكتب مقالات لأناس بعيدين، وكتباً لن يسمح بها البعثيون. أعرف من تجربتي الشخصية هنا، المستمرة منذ أحد عشر عاماً، أنه لو أرادت الدولة أن تخلق ظروفاً يتطور فيها التفكير السني نحو الانعتاق من سلاسل الماضي، لكانت النتائج رائعة. وكل من عملت عليه هنا، أعطى نتيجة أكثر إيجابيّاً من الذي توقعته.
الإنسان كتلة من الإرادات التي تحتاج إلى وسائل تعبّر بها عن ذواتها. أهم الإرادات التي تحدّث عنها العلماء هي إرادة القوة وإرادة الجنس وإرادة التفكير. التوازن بين الإرادات هو الذي يجعل الشخص متوازناً. مرحلة التنشئة الأولى هي التي تحدد عموماً مستقبل الفرد فكريّاً. وما يتشربه المرء من أفكار ومعتقدات في تلك المرحلة يترسّخ في دواخله إلى درجة أن عكس ذلك هو عملية-صيرورة ليس من السهل إنجاحها. فما هو وضع الفرد السني في مرحلة التنشئة الأولى تلك؟
البيئة قمعيّة عموماً، لا أثر فيها لروح العلم أو منهج المنطق؛ العقلية فيها ذكوريّة-أبويّة، تختصر فيها الأنوثة وتداس الطفولة؛ روح المجتمع الخرافة، التي تستند إلى كم هائل من النقل المعادي للعقل. في المنطقة حيث أعمل وأعيش، وكلها من المسلمين السنة، لا شيء يمكن أن يفرغ فيه المرء طاقاته الفكرية غير المسجد. والمسجد تسيطر عليه النفاقية حيال الدولة والأصولية المعرفيّة. لذلك لا مناص أمام المرء، إلا من رحم ربّك، إلا أن يكون منافقاً-أصولياً. منذ نعومة أظفارهم، لا يجد الأطفال مكاناً يحتمون به من قيظ الصحراء وخطر الطريق غير المسجد: لا ناد، لا منتزه، لا حدائق أطفال. وحتى حين قمت بمبادرة شخصية بوضع بعض ألعاب أطفال في قرية بدوية قريبة، لم أجد من يمد لي يد العون؛ بل لقد قطعوا الماء عن المكان، الذي كنت قد زرعت فيه مئات الأشجار وأوصلت إليها أنابيب الري بالتنقيط. فمات الشجر وأجهض المشروع قبل أن يرى النور.
لا أحد يحب مواجهة الحقيقة لأنها قاتلة. المسئولون يضعون الأسود على زجاج سياراتهم كي لا يروا الزيف العضال. سوريا تحترق: والكارثة أن من يطالب بإطفاء النار يتهم بأنه يوهن من عزم الأمة. الطائفة السنية على شفا الهاوية. إن أخطر عدو للسنة ولسوريا في النهاية هو التخلف الاجتماعي، الذي تحمل وزره الدولة أولاً وأخيراً. السنة، بسبب تخلفهم الاجتماعي عموماً، هم أكثر الطوائف السورية نمواً ديموغرافياً، وبالتالي أقلها ازدهاراً اقتصاديّاً. الفقر يخلق الإرهاب. وإن كانت الدولة لا ترى مظاهر الإرهاب غير المعلنة حتى الآن، فنحن نشمها ونعرفها. المشايخ، الذين صاروا أكثر باطنية من أكثر الطوائف باطنيّة، يدعون إلى مزيد من الإنجاب عند السنة: من جهة عملاً بالحديث النبوي، ومن جهة أخرى للحفاظ على الغالبية " الساحقة " ( أفضّل: المسحوقة ). الدولة لا تريد بديلاً للمشايخ. والدولة تعرف أن أكبر عدو لسوريا، بكافة طوائفها، هو الانفجار الديموغرافي. هل يمكن لأية دولة في العالم، بما فيها اليابان وألمانيا، تأمين فرص عمل لأكثر من نصف مليون شخص يرمون في سوق العمل سنويّاً؟ البطالة المتفشيّة، خاصة بين السنة الذين يتكاثرون كالأرانب، المترافقة مع مظاهر الغنى السريع التي تتفجّر هنا وهناك عند شرائح بعينها: كل هذا يخلق نوعاً من الحقد الداخلي الدفين الذي لم يتطور إلى فعل إرهاب فقط بسبب الظرف. وتأجيل الموت لا يمنعه. الحل الأمني؟ يزيد الأمر سوءاً. الحل المعرفي؟ غير ممكن لأن الدولة تعتمد على البعثيين، الذين تزداد قناعتي رسوخاً أنهم – أتحدث هنا عن مناطقنا – إذا ما ارتدوا طواق بيضاء وجلابيب قصيرة، يمكن إرسالهم للحرب مع طالبان في أفغانستان!
المنقبات؟
ماذا يتوقعون من السنة في بيئة محبطة كهذه؟ ماذا يتوقعون من السنة في غياب كامل للوعي وسيطرة كاملة لرجال الدين التقليديين؟ ماذا يتوقعون من السنة إن كان محظراً على علمانييهم أن يحاضروا ومسموحاً لمتطرفيهم أن يدافعوا عن النقاب من على أهم المنابر الإعلاميّة العربيّة؟ الكوكي – لست ضده – يذهب إلى قطر ليحرج بلداً بأكمله من منافق مصري، في حين لا أستطيع شخصياً أن أستخرج جواز سفر، كي أسافر إلى المنبر ذاته لتقديم صورة أخرى للسنة السوريين!! هل الدولة موضوعيّة أو حياديّة؟؟ لا أدري! لا أحد مسموح له أن يعمل غير المتطرفين السنة وأخوتهم البعثيين، ومع ذلك يتساءل المسئولون عن سبب انتشار التطرّف!! كتب التطرّف موجودة حتى في الاستراحات بين دمشق وحلب، وكتبنا النقدية يطاردها الأمن السياسي في كل مكان: ومع ذلك يتساءلون عن سبب انتشار التطرّف!!
من الطبيعي أن تتحجب نساء سوريا السنيات؛ ومن الطبيعي أكثر أن ينتشر النقاب، الغريب عن البيئة السورية. هذا نوع من معارضة طائفية-سياسية؛ هذا نوع من تعبير عن انتماء، وقت ما عاد الانتماء الوطني يقنع أحداً. " الوطن ليس لنا " – العبارة التي أسمعها على الدوام! نعم! النقاب هو التعبير الأمثل عن الثقافة التي فرضت على سوريا منذ عقود. النقاب معلول وليس علة. وقبل أن تحاربوا المعلول، تساءلوا عمن وضع العلة!
هل كل المنقبات مقتنعات بالنقاب؟ هل يمكن التعامل مع الجامعية القادمة من دوما بالسوية ذاتها التي نتعامل بها مع الجامعية القادمة من صافيتا أو السلميّة؟؟ إذا كان المجتمع الذكري يسحق المرأة بالنقاب ( الدولة تحتقر الأنوثة عبر أعرافها: هل نذكر مثلاً رفض إعطاء الجنسية السورية لأولاد السوريات المتزوجات من غير سوري؟ أو ما يسمى بجرائم الشرف؟ زواج المسلمة من غير المسلم؟ )، فالتعليم، إن كان حقيقياً، يمكن أن يساهم في تخفيف وطأة السحق! هل كل المنقبات إرهابيات ورافضات للآخر؟؟ هل غير المنقبات خاليات بالكامل من جرثومة الطائفية وعدم قبول الرأي المخالف؟ هل التطرّف الديني محتكر للسنة؟؟
لا أمل – هذا هو الرأي الأخير! لا أحد يريد التغيير: لا أحد من مصلحته التغيير! لكن هذا المستنقع الذي يبدو هادئاً على السطح، سيتحول يوماً إلى تسونامي بكتيريا تأكل الأخضر واليابس... ألا قد بلغت!