أحمد عصمت

http://esmat72.blogspot.com/2012/03/blog-post_09.html

دين الجيش

أبدع الخيال السياسي والجراءة التوسعية وربط النوازع الشخصية بالطموحات القومية لمحمد على باشا منذ توليه حكم مصر بالاراده الشعبية في 1805 لانتزاع حكم مصر من الأستانه .. ضم الحجاز والسودان .. رتب الزعامة الدينية .. أزاح خصومه السياسيين من على وجه البسيطة .. باعتماده لمدة 20 عام على أذرع عسكرية غير نظامية تقوم بإعمال حربية لا تتعدى أساليب حروب العصابات .. ولكنه أدرك أيضا أن مناطحة الكبار لن تأتي إلا بانشاء جيش لمصر .. بدء ذلك فعليا في تسويق وتأطير وتفعيل والسعي نحو ضم أبناء العائلات من المصريين تحت إمرة هذا الكيان المعاصر بدلا من الأرناؤوط والألبان والسودانين وغيرهم.. أنشأ المدرسة الحربية في 1820 .. وحتى شهر يونيو من عام 1824، أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين، يتجاوز عددهم 25 ألف ضابط وجندي ..وانطلق من بعدها .. فأخمد الجيش المصري ثورة اليونان بالنيابة عن الامبراطورية العثمانية الخرقاء.. ضم الشام .. قرعت حوافر جياده دروب الأناضول ..
ما الفارق أذن الذي أحدثته العسكرية النظامية المبنية بلَبٍنَاتْ الوطن؟
تعداد الجيش المصري الأن يمثل 0.5 % من التعداد السكاني .. موزع على حدود المدن الكبرى من شمال القطر لجنوبه.. يستقبل دفعات من المجندين والمتطوعين وطلبة الكليات العسكرية سنويا .. يقضى منهم المجندين عامين في المتوسط. يختلط به المتعلم بالأمي .. الحضري بالريفي .. الصالح بالطالح .. الفقير بالغني .. أفراد في نفس العمر .. في فترة التجنيد.. يتم انتقاءهم طبقا لمعايير عدة .. نقاء صحيفة الحالة الجنائية المرادفة للصلاحية للحياة العسكرية.

بينما يختلف ذلك كلية في انتقاء طلبة الكليات العسكرية الخمسة .. الحربية والبحرية والجوية و الفنية العسكرية والدفاع الجوي..بالاضافة للمعهد الفني للقوات المسلحة حيث يستمر الطالب بالحياة العسكرية منذ التحاقه وحتى احالته للتقاعد بعد خمسة عشر سنة بحد أدنى في المتوسط... انتقاء طالب من كل ثمانين متقدم للالتحاق بالقوات المسلحة عمليه اقصائيه كالانتخاب الطبيعي .. البقاء للأصلح ..من الاختبارات الرياضية ووصلا لاختبارات التقييم النفسية.. ولكن .. ذلك على المستوى الطالب كفرد..

تفرض منظومة تقاليد القوات المسلحة محددات أخرى على عملية الانتقاء هذه ..مثال فرض حد أدنى لنسبة قبول للأقباط .. ونسب قبول للمحافظات النائية .. نسب قبول لأبناء العائلات البدوية .. والنوبية .. تحدد الحد الأدنى والأقصى للحالة المادية لذوي الطالب .. تبحث في تاريخ استقراره الأسري .. محددات تستحضر وتقدس وتحافظ على مقومات التماسك الاجتماعي للكيان المؤسسي .. "ت. م. ا. س. ك" .. خمسة حروف لكن قيمتهم مسألة حياة أو موت لوطن..

نرى هؤلاء الطلبة في عطلة نهاية الاسبوع يملأون محطات القطارات معتدين بأنفسهم ..يسابقون الزمن لقضاء ساعات من الاستقلال عن كلياتهم التي يقيمون بها طول فترة دراستهم يفعلون ويتفاعلون مع نمط حياة مختلف بالكلية عن حياتهم المدنية.. اهم ما يسعى نظام التعليم العسكري هو تنقية الطالب من الأنانية البغيضة .. تعزيز الأنانية المنتجة .. تربيته على الجَلَدْ .. زرع الاحساس بالمسئولية فيه .. خلق عقيدة الولاء للوطن وجوهرها التضحية بالنفس في سبيله..

حتى الآن تبدو الامور مبهجة .. حُلًلْ ورُتًبْ .. ولكن الامر ليس بتلك الانسيابية.. الكليات العسكرية بضغوطها وبرنامجها التعليمي والتدريبي تضع الطلبة في بوتقة واحدة .. تنتقل فيها الافكار أفقيا بينهم .. حتى تكاد تجزم-عزيزي القارئ- أن آلًة ما طَبَعَت كلا منهم بشخصية موازية موحدة لشخصية الطالب الاصلية التي صقل ونشأ عليها من صغره.

وعلى ذلك تكمن أهمية انتقاء ضباط جيش مصر بطريقة تضمن ان تلك الشخصية الناتجة عن الجمع بين جوهر انساني مختلف وهيئة ظاهرية موحدة تنتج شخصيات متزنة ومتسقة مع نفسها .. شخصية تجمع بين النزاهة الذاتية والكفاءة الوظيفية .. شخصية تجمع بين أضداد.. الحرية والمسئولية .. شخصية تستوعب حتمية التعامل مع التركيب القيادي والانفتاح على اتخاذ القرار.. والأهم شخصية يشكلها الانتماء..

الانتماء هو"النزعة التي تدفع الفرد للدخول في إطار اجتماعي فكري معين بما يقتضيه هذا من التزام بمعايير وقواعد هذا الإطار وبنصرته والدفاع عنه في مقابل غيره من الأطر الفكرية الأخرى(1). دراسه أخرى خلصت لأن أكثر دوائر الانتماء أهمية في حياة الشباب المصري هي بالترتيب: الأسرة والأصدقاء، ثم الدين والمؤسسات الدينية .. الانتماء لمنطقة السكن، والانتماء للمجتمع المحلي ومتأخرا يأتي المجتمع القومي في درجة أقل من سابقاتها (2).

أين يقع الانتماء المؤسسي اذن .. كيف لمنظومة التعليم العسكرية المصرية أن تعدل أسطر برنامج المنطق البشري .. كيف يرقى الانتماء المؤسسي المرادف للانتماء الوطني القابع في قاع العقل الباطن..
المعادلة مركبة وبسيطة في آن .. تكمن بساطتها في أنها تتم بشكل جمعي عن طريق وضع ضغط بدني وذهني وعقلي ونفسي متساوي القيمة على كل الطلبة طوال فترة دراستهم هذا الضغط أكبر من تحمل أغلبهم على المستوى الفردي .. ولانفصال الطالب عن الكيان الأسري القادم منه .. تنتقل الأريحية بين الطلبة وبعضهم البعض .. تتقوى وشائج الزمالة .. تنشأ عائلة ودائرة أصدقاء وجيران جدد .. ينتمون جميعا لمؤسسة واحدة .. يزحف الانتماء المؤسسي تدريجيا بديلا محليا لغيره .. يحتل فيما غَلُبْ محل الانتماء الأسري والجغرافي والطبقي و... الأيدولوجي.

فيفترض ان طالبا التحق بالقوات المسلحة وهذا الطالب نشأ وتربى في أسرة تنتهج يمين الوسط الديني وخاصة تلك الأسر التي تتعامل مع الأمر في اطار مؤسسي .. أو من أسره الي اقصي اليسار تؤمن بأفكار العدالة الاجتماعية ... وسيجد نفسه نقطة اتصال بين ضفتين ومطالب بتبني أفكار جديده "موحدة" المرجعية المختلفة عن التي نشأ عليها .. ومن هذا التباين تنشأ بوادئ التصدعات.

المرجعية القبلية كحال ليبيا الموحدة أو اليمن الموحدة .. المرجعية الدينية كحال الهند وباكستان الموحدتين .. المرجعية العرقية كحال نيجيريا ورواندا .. المرجعية الاقتصادية كحال الجزائر .. المرجعية الجغرافيه كحال أذربيجان .. المرجعية الشرعيه الطائفية كحال العراق وسوريا .. أنتجت جيوش تحوي من أسباب التداعي الذاتي أكثر من أسباب البقاء موحدة .. وبالتالي تفتت دولها تحت أقل ضغط ..وفي المقابل لم يتفكك الجيش المصري في حرب 1967 .. تماسكه العضوي الذاتي أبقى عليه وعلينا.

في هذا السياق تحديدا .. فالاجابة عن بالأسئلة التالية حتمية:

· ما هو "دين" الجيش .. ؟
· ما هي أيدولوجية "أفراد الجيش" ..
· هل يجب أن يُدَيٌن الجيش .. أو يحزب سياسيا .. أو عرقيا.. ؟
· هل يتمتع الجيش المصري حاليا بمقومات الاستقطاب؟
· ما هو ضمان الجيش لعدم الانقلاب على الشرعية؟
· ما هي ضمانات الشرعية لعدم انقلابها على بعضها؟
· ما هي ضمانات الشرعية لعدم الانقلاب على الجيش؟

الأصول أن لا يدين "الجيش" بأي دين على الاطلاق يلتحق به الأقباط بنفس نسبة تمثيلهم العددية .. الفرق مهول بين الجيش المُدَيَّنْ -المتحزب دينيا - والجيش الذي يحافظ أفراده على شعائر دينهم .. إلحاق افراد بالقوات المسلحة .. خاصة الضباط وضباط الصف بمعيار أيدولوجي يزرع بذور التصدع .. يحمل كلانا نفس السلاح بينما يأتمر كلاً مِنْا بمرجعيته.

تحزب القوات المسلحة داخليا لها نتائج إنشاطرية باهرة على الاوطان.. منذ اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات يحصن الجيش المصري نفسه باجراءين متلازمين .. اقصاء من يتغلغل فيه ويختلط ولاؤه الفكري بالمهني .. وفي نفس الوقت يؤطر للوسطية الدينية المؤسَسَه على الآيه الكريمة " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا" .. ليست مصر كلها صوفيين ولا سلفيين ولا اخوان مسلمين ولا أقباط .. نَسْج القوات المسلحة من قماشة الوطن هي ضمانة الجيش لعدم الانقلاب على الشرعية ..

تتعارك المؤسسات الشرعية في الدول الديموقراطيه .. لكن توازن السلطات الثلاثة واستقلالها .. احترام الحرية الفردية .. احترام حقوق باقي شركاء الوطن من غير الأغلبية .. تداول السلطة .. حق الملكية الفكرية .. يحمي تلك المؤسسات الرئاسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية من انقلابها على بعضها ..

التجانس والتوافق والموائمة وانعدام الأدلجة ومساواة التمثيل النسبي للمصريين تمنح المؤسسه العسكرية تماسكها وبالتبعية شرعيتها السياديه في حماية الأمن القومي .. وهو واجب الجيش بالطبيعة وباقي مؤسسات الدولة بالضرورة .. أي عبث في التركيبة الانتقائية لأفراد القوات المسلحة هي ببساطة :"الانقلاب على الجيش ..! ".. وعندها يصبح الجيش أداة لأي مما سبق .. أداة تحت صلاحيات مطلقة في يد رئيس الدولة .. أداه مكشوفة الظهر في يد المجلس التشريعي .. أداة استدعاء في يد سلطة قضائية غير مستقلة ..

"الجيش والشعب.. حاجة واحدة"

@Esmat__


1 نجلاء عبد الحميد راتب، الانتماء الاجتماعي للشباب المصري : دراسة سوسيولوجية في حقبة الانفتاح، مركز المحروسة للنشر، القاهرة، 1999 ص 57.
2 هاني عياد (تحرير)، الإنسان المصري وتحديات المستقبل، الهيئة القبطية للخدمات الاجتماعية، القاهرة، 2007 ص 37.