غادرنا كما يغادر الرجال العظام، في لحظة سواد تحيط بالقضية التي نذر لها نفسه، رحل صاحب الفكرة والنظرية والتطبيق والأمل، حالماً طاهراً كما الاقحوانة، كما زهرة الحنون وسنديانة الجبل وزيتونة السهول والوديان، غادرنا الحكيم لتطوى صفحة ناصعة من تاريخ الثورة الفلسطينية والعربية والأممية، وبرحيله، لم يتبق لنا سوى الأمل الذي زرعه في نفوسنا، وظلت الفكرة التي أوصى بها الى رجالات الثورة هي البوصلة التي تحدد المسار نحو هذا الأمل، البعيد والصعب، ولكنه الممكن? رحل نبي الثورة وقائدها، عملاقاً شامخاً، وقبل كل شيء إنساناً نبيلاً طاهراً، عصياً على أن تفقده السياسة طهارته وأصالته، إذ لم يكن سياسياً بقدر ما كان إنساناً حقيقياً، لذلك صنع مجداً هائلاً ميّزه عن القادة العظام الآخرين، ودون أن تلوثه أدران السلطة بموبقاتها، وظل قادراً على الاحتفاظ بالمعادلة الصعبة، انسانية كبيرة وصلابة شديدة، في المحن والصعوبات والعوائق، مخلصاً لفكرة أطلقها لتلتف من حولها جماهير واسعة، استطاعت أن تحبه وأن تعشقه حتى في لحظات الاختلاف العديدة? تركنا الحكيم، وترك في عقل وقلب كل من اقترب منه ذكرى عطرة تظل محل اعتزاز وفخر على مر الزمان، فحضور الحكيم حضور للطهارة والصدق والتمسك بالقناعات والمواقف، وأنا واحد من هؤلاء الذين رمتهم الأقدار الحميدة في طريق هذا الإنسان النبيل العظيم، عملت معه كمتابع للشؤون الإعلامية وأعمال السكرتاريا الخاصة به، وقفت أثناءها على إمكانية أن يتحلى الإنسان بصفة القداسة المقصورة على قلة من البشر، وغالبت نفسي كثيراً في تحدٍ داخلي بين ما تعلمته واقتنعت به حول أن البشر بشر، والأنبياء أنبياء، وكثيراً ما خنت نفسي لأصل إلى قناعة متجددة بأن الإنسان يمكن أن يقترب كثيراً من درجة القداسة? في أول لقاء لي مع الحكيم، كنت مع مجموعة مقاتلة في أحراش جرش بالأردن، وكانت زيارته الأولى ?للقاعدة? بالنسبة لي بعد أيام قليلة من الجبهة الشعبية، وكان يسأل كل مقاتل ونحن نجلس من حوله، عن أسباب انتمائه للجبهة واختيارها هي بالذات، وكذلك عن أحوال العمل بالقاعدة والاحتياجات العامة والمتطلبات الخاصة بكل مقاتل، أحد المقاتلين، قال إنه لم يكن يعرف أنه انما وصل الى قاعدة تابعة للجبهة الشعبية، هو سوري، وصل للالتحاق بالثورة، قال الحكيم معلقاً، ها أنت بيننا الآن، وفي اللحظة التي تقرر فيها أن الأمر لا يناسبك فالرفاق سيدلونك ويوصلونك إلى أي تنظيم تختاره? عندما وصلني الدور في الحديث، لم أتحدث كثيراً، بل طالبت بتزويد القاعدة بالكتب، حيث إن بعض المجلات والكتب القليلة قد قرأناها عدة مرات، حينها التفت إليّ الرفيق أحمد دحبور، الذي كان برفقته ويحمل دفتراً يسجل فيه كل الملاحظات، مشيراً إليه بتزويد القاعدة بمزيد من الكتب، وان يتم الحصول على كتب عديدة، من أجل القواعد الأخرى، وأشار الي الحكيم، بأن الرفيق أحمد ­ الذي أصبح فيما بعد عضواً في اللجنة المركزية للجبهة ­ سيزودك بكتاب جديد خلال أيام قليلة، وبالفعل، بعد يومين تقريباً، أعطاني الرفيق أحمد كتاباً اسمه ?ضد دوهرينغ? هذا الكتاب المليء بالحواشي والمراجع، قرأته عدة مرات من دون أن استوعب منه سطراً واحداً، وعندما التقيت بأحمد بعد أسابيع، قلت له عن عدم استيعابي للكتاب الذي أعطاني إياه، بادر بعد أيام قليلة بإرسال كتاب جديد اسمه ?المادية التاريخية? الذي كان معداً للتدريس، وكان سهلاً مقارنة مع الكتاب الأول? في الأيام الأولى لعملي مع الدكتور الحكيم أبو ميساء، في بيروت، استفزتني طريقته في الالتزام بقواعد اللغة العربية وتمسكه الحازم والقاطع بأدق قواعد اللغة العربية، وكان هناك اجتماع أسبوعي يعقده مع رئيس تحرير مجلة ?الهدف? كل أربعاء على ما أذكر، حينها، كان رئيس التحرير هو بسام أبو شريف، لمناقشة العدد الماضي من المجلة، وافكار للعدد القادم من ?الهدف? المجلة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان الحكيم يقرأ المجلة من ?الجلدة للجلدة? وملاحظاته، عدا السياسية منها، كانت دائماً على الأخطاء المطبعية واللغوية، محيطاً الأخطاء العديدة بقلمه الأحمر الجاف، مشيراً على بسام أبو شريف بأن الوعود المستمرة بوضع نهاية لهذه الأخطاء، لم تثمر، لحظات الغضب القليلة التي كانت ترتسم على وجه الحكيم، تتعلق بالغالب على قواعد اللغة العربية والأخطاء المطبعية، وكان عند كتابة ملاحظات لي على ما أقدمه له من أوراق يكتب اسمي ?هانيء? بالهمزة على الياء، باعتبارها هي الأصح من الناحية اللغوية?? بعدما عملت في مجلة ?الهدف? ظل يطلب مني بعض ?الخدمات? كأن ألخص له كتاباً أو أتابع مسألة لصحافي أو كاتب، كان مهتماً أثناء الحرب العراقية على الكويت بأسعار النفط، وكنت أرسل له كل صبيحة يوم، انخفاض أسعار النفط، التي استقيها من نشرة الإذاعة البريطانية بي بي سي، وعندما التقي به، كان يشير الى أن النفط هو جوهر الصراع الآن بين الولايات المتحدة والمنظومة العربية? الحكيم، المتشدد من الناحية السياسية والتنظيمية، لم يكن في الحياة اليومية بعيداً عن أعمال السياسة والتنظيم يطلق على المقربين منه رفيق بل ?يابا? وكثيرون منحهم الحكيم هذا التبني الأخلاقي والإنساني والذي يشير الى مدى عظمة هذا الإنسان الذي ما زال حياً في عقول وقلوب كل من اقترب منه ولو عن بعد، الحكيم، ظاهرة بحد ذاتها، تتجسد في ثورة عملاقة استمرارها حتى اليوم هو دليل على صحة الفكرة وعظمة التجربة???

عن "الأيام" الفلسطينية

لفكره الطاهر

:redrose: