معنى الإنقلاب على التنوير كما نعيشه راهناً
كرم الحلو الحياة - 16/11/07//
جوهر التنوير الذي دشَّنه العقل الأوروبي في العصر الحديث هو نقد الوصاية الخارجية على الإنسان أياً تكن جهتها، باعتبار الكائن البشري دون سواه معيار القيمة والحق والحقيقة، ومصدر السلطات والقوانين الشرعية، فأُحلّ الشعب محل الرعية، وحقه في حكم نفسه بنفسه محل الحق الإلهي. ومع هذه الرؤية الجديدة للعالم أُزيحت هالات السحر والشعوذة والتنجيم وبدا العالم محكوماً بقوانين طبيعية صارمة، فلم يعد من وجود للجن والشياطين، وجاءت صيحة كانط المعبِّرة: تجاسر أيها الإنسان على استخدام عقلك بنفسك، فهذا هو التنوير الذي لا يتطلَّب غير الحرية في الاستخدام العلني للعقل في كل الميادين.
كان لهذا المشروع التنويري الغربي أصداؤه في الفكر العربي الحديث فنادى بطرس وسليم البستاني وأحمد فارس الشدياق وفرنسيس المراش وفرح أنطون وشبلي الشميّل ثم أنطون سعادة وأمين الريحاني ومارون عبود بفصل السياسي عن الديني والاحتكام الى العقل بوصفه المرجعية الأولى والأخيرة في العامل المادي وفي سائر الشؤون الاجتماعية والسياسية والإنسانية.
لكن العالم العربي آخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن يبدو وكأنه يتوجه في غير اتجاه التنوير، أو كأنه لم يستوعب بعد تجاربه ومقولاته ودروسه، حيث تُعاد الأولوية للديني على السياسي، والغيبي على العقلاني، والوهمي والخرافي على العلمي الوضعي، والرؤية السحرية للكون والمجتمع والسياسة على الرؤية العلمية التاريخية التطورية، ما يشكِّل في حد ذاته محنة حقيقية لفكر التنوير العربي وهزيمة فعلية لأحلام التنويريين العرب الذين تصوروا إمكانية انخراط العرب ذات يوم في ثورة الحداثة.
هل أدلّ على هذه المحنة مما يجري الآن في سائر أنحاء العالم العربي، وفي لبنان بالذات أحد أهم مراكز التنوير الطليعية العربية، حيث بات الاحتكام الى المرجعيات الطائفية في الأمور السياسية والاجتماعية والمدنية أمراً بديهياً ومألوفاً تكاد تتلاشى إزاءه كل المرجعيات الحداثية الدستورية والديموقراطية والعلمانية.
أليس من المفارقة أنه في بلد بطرس البستاني صاحب «نفير سورية» و «الجنان» اللتين يعود تاريخ إصدارهما الى العامين 1860 و1870، وفي بلد جرجي زيدان وشبلي الشميِّل ويعقوب صرُّوف وفرح أنطون وعشرات الجامعات التي يعود تاريخ بعضها الى أواسط القرن التاسع عشر، فضلاً عن مئات آلاف الجامعيين، طلبة وخريجين، أليس من المفارقة أن تخصِّص إحدى أكبر القنوات التلفزيونية في هذا البلد ساعتين كاملتين لمنجِّم يتلو تنبؤاته السياسية والاجتماعية في كل ما يخصّ مصير الأفراد والجماعات والزعماء السياسيين، بينما يقف إزاءه مستوضحاً مستفسراً واحدٌ من أهم مقدِّمي البرامج التلفزيونية في لبنان، ثم تتناقل نشرات الأخبار والصحف وأحاديث العامة، بل والخاصة، في اليوم التالي أقوال هذا المنجم وتنبؤاته كما لو أنها كانت «اكتشافات علمية باهرة» أو «اختراعات» تُدرجنا في قائمة المبدعين لإنجازات هذه العصر والمؤسسين لحداثته؟!
وهل أدل على محنة التنوير في العالم العربي ما تتناقله الأبحاث الميدانية والدراسات الاجتماعية عن القهر والعنف المتنوعي الأشكال إزاء المرأة في مصر بلد رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وطه حسين، حيث يتم الارتكاس عن كل الإنجازات التي كانت المرأة قد حققتها في مراحل سابقة، الى ما كانت عليه في الأزمنة الظلامية. فقد ذكر الأكاديمي السعودي متروك الفالح في كتابه «المجتمع والديموقراطية والدولة في البلدان العربية» (2002)، أنه لم يكن في القاهرة عام 1972 – 1973 محجَّبات باستثناء القادمات للتوّ من الأرياف والمهاجرات حديثاً، بينما لاحظ في زيارته للقاهرة عام 2000 كثرة المحجَّبات في جميع الأحياء، حتى الراقية، ومنهن على نحو كلّي، مقدِّراً أخيراً عدد المحجبات في مصر، ذلك العام، بأكثر من عشرة ملايين محجَّبة؟
وهل أدل على محنة التنوير من إقبال القراء العرب، على قلتهم، على كتب الفلك والسحر والشعوذة والتنجيم التي تتصدَّر قائمة المبيعات في معارض الكتب العربية، بينما لا يتجاوز مبيع أي كتاب إبداعي أو علمي أو ثقافي، مهما علت أهميته، آلاف النسخ في عالم عربي تجاوز عدد سكانه الثلاثمئة مليون وعدد جامعييه عشرات الملايين؟
وهل أدل على محنة التنوير في العالم العربي من أحكام التكفير التي تطارد التنويريين العرب في كل مكان، إرهاباً وقتلاً ونفياً، فتصدر لوائح بأسمائهم، ويضطرون الى هجرة أوطانهم خوفاً على رقابهم، وكي يكون في إمكانهم التعبير عن أفكارهم بحرية دون خشية على حياتهم؟ وهل أدل عليها كذلك من تصدُّر مرشحي الجماعات الأصولية المتطرفة المعادية لفكر التنوير وقيمه ومبادئه، قوائم الفائزين، سواء في الانتخابات النيابية أو النقابية أو البلدية في غير قطر عربي؟
فصل المقال في رأينا في هذا الانقلاب أن التنوير في عالمنا العربي بقي نخبوياً دونما سند سوسيولوجي يدعمه ويجذِّره في ثقافة المجتمع والناس ويمنحه المشروعية الشعبية والجماهيرية، فاستمر نبتاً غريباً في تربة غير تربته وأرض غير أرضه. فقد أخذنا من الديموقراطية آليتها الانتخابية دون العقل الليبرالي الذي أنتجها والقيم التنويرية العلمانية التي ترفدها والمتمثِّلة في المواطنية وحقوق الإنسان، وأخذنا من الاشتراكية توحُّش الستالينية وتكلّسها العقائدي دون المضمون الليبرالي والإنساني الذي هو جوهر الاشتراكية، وفهمنا من العلمانية الإلحاد دون أفق الحرية الذي رنت إليه والذي لا يتناقض مع الخلفية الإنسانية للأديان، وأغرقنا مجتمعاتنا بكل منتجات الحداثة ومبتكراتها دون أن نلج الى قلب الحداثة وروحها، فظلّت هذه جسماً دخيلاً وبضاعة مستوردة لم يألفها عقلنا ما قبل الحداثي، حتى بات الانفصام الثقافي الملمح الأبرز لثقافتنا العربية المعاصرة، نقرأ ماركس وأنغلز وفورباخ وسارتر وفوكو ودريدا وبرتراند راسل، ونتكلم بالماركسية والوجودية والليبرالية وما بعد الحداثة، ووراء ذلك كله تظل تقبع آمنة ثابتة في مواقعها الحصينة روح القبيلة وعقلية البداوة، كأن الذي تحدث عنه ابن الرومي قبل أكثر من ألف عام لا يزال واقعياً، إذ قال ناقداً الوجه الزائف لـ»حداثويي» عصره: «فيهم لكنة النبيط ولكن خلفها جاهلية الأعراب».
هنا بالذات مكمن الإشكال الكبير في ثقافتنا العربية المعاصرة التي وصفها عبد الله العروي بـ»الثقافة المفارقة». نعيش في عصر العولمة بكل تجلياته غير المسبوقة في الاقتصاد والتقنية والإعلام والاتصال، ونفكِّر بذهنية العصور السالفة وعقلية البداوة والقبلية. لهذا ظلت أنظمتنا التي رفعت رايات الثورة والتقدم والعصرنة، الشديدة الهشاشة، لأن الأرضية التي كانت تقف عليها بقيت هي ذاتها، على تخلُّفها وقبليتها وماضويتها. ومن هنا ليس غريباً أن نحتكم من جديد الى أمراء الطوائف واباطرتها لحل مشاكلنا السياسية، وحتى اختيار حكامنا ورؤسائنا، وأن ننتظر من المنجّمين أن يقرأوا لنا مستقبلنا الشخصي والاجتماعي والسياسي.
كاتب لبناني
http://www.daralhayat.com/opinion/ideas/11...5153/story.html